الخميس، يونيو 2

هواجس مشروعة


هواجس مشروعة
اياد نصار

* نشرت في القسم الثقافي بجريدة الدستور الأردنية بتاريخ 23/5/2011

تشكل الأحداث الكبرى معالم بارزة ليس لصناعة التاريخ وحسب، ولكن لتجديد الفكر، وإلهام الشعوب وتفجير طاقاتها، وتثبيت حتمية التغيير، وولادة الابداع، وانطلاق الاقلام، وتصبح منابع لا تنضب من القوة الفكرية والمعنوية، كالمرجل الذي يغلي فيخرج منه البخار الذي يحرك القاطرة. هكذا هي الأحداث الكبرى كالحروب والنكبات والثورات والمواقف التي تحرك الوجدان الشعبي بمعانيها ورمزيتها، كما تصبح أهرامات للذكرى وفواصل كبرى للمبدعين، يُؤرخ بها تاريخُ الادب بفضل دورها الحاسم في التعبير عن روح المرحلة، وما تحمله من نذر التغيير القادمة. والاحداث الاخيرة التي تعصف بمنطقتنا ينبغي أن تكون الباعث الاساس على ولادة أعمال عظيمة في قادم الايام والسنين في مختلف المجالات الابداعية والفكرية. وأرجو أن تكون الآمال الكبيرة المعقودة عليها في محلها.


ويبدو للمراقب من بعيد أن الانسان العربي يصنع الان تاريخه بيده، ويعيد رسم مستقبله ومستقبل الوطن العربي. بيد أن الصورة لغاية الان ليست مدعاة للتفاؤل، والمؤشرات التي نطمح اليها في بناء عالم أفضل ليست نهضوية أو تقدمية، فمخاطر التدمير الداخلي والفتن الطائفية وتفاقم المشكلات الاقتصادية الطاحنة والانفصال والانقسام وانكفاء العرب أمام القوى الاقليمية تلقي بظلالها على المشهد العربي برمته. وربما تتغير الانظمة والقيادات، وتنقلب الاحوال على نحو جذري، ويبقى الفساد وسوء الادارة متغلغلين في المجتمع العربي لأن بواعثهما متأصلة ومترسخة وبادية في كل جوانب حياتنا كثقافة الاستبداد، وعقلية المؤامرة، واستسهال النقد والتدمير، وغياب روح المبادرة، وتراجع احترام التفكير الحر القائم على النقد والنقض والتفلسف، وعدم اخضاع المسلمات للمساءلة، وتراجع المنهج العلمي في دراسة وتحليل الظواهر، وهيمنة الرؤى الماضوية المنغلقة، دون القدرة على تقديم نموذج حداثي يأخذ الانسان الى آماد أبعد من التطور الفكري والعلمي.

ربما لن يبقى الصمت عنوان المجتمع العربي بعد اليوم ، كما صوره الاديب الجزائري محمد ديب في الجزء الاول «الدار الكبيرة» من ثلاثيته المعروفة: «الصمت يدور ثم يدور كرحى طاحون. البيت الضخم أخرس لا ينطق». لكن صدى الصخب والعنف الذي نسمعه لا يبدو أنه يحمل مشروعاً فكرياً نهضوياً يستند الى منظومة جديدة من القيم والافكار الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية. لست متشائماً، ولكن النذر تبعث على القلق. الاحداث الكبرى تنطلق في الاساس من رؤى فكرية ناضجة اختمرت تحت الرماد، فحركت معها الثورات والشعوب، وهو ما لا أراه ضمن المشهد.

وما يخيفني أن هذا الجيل الذي يعرف كيف يوظف وسائل الاتصال المعاصرة في حشد القوى للتعبير عن الثورة والرفض والمطالبة بالتغيير، ويمتلك حماساً منقطع النظير، يفتقد الى الاهتمام بالمضمون الفكري لتاريخه ورموزه من المبدعين والمفكرين الرواد ودعاة التغيير والتنوير، مثلما يفتقد الى رؤى منهجية قادرة على تقديم حلول لمشكلات العرب المزمنة في التخلف وغياب مشاركة المرأة والفقر والامية وتباطؤ التنمية والتباين الطبقي الحاد وغياب سلطة القوانين وضعف مفهوم المواطنة.

فما الذي حصل حتى انكفأ الوهج ولم نعد نرى الا نزراً يسيراً من ذلك التفاعل الفكري. وما جدوى التغيير إن لم يستند الى إطار متقدم من الوعي الذي يحمل وعوداً بنهضة حقيقية؟ أخشى أن تضيع جهود هولاء الشباب المفعمين بالامل في التغيير وتتحول الى مجرد مرحلة إعلامية صاخبة دون مضمون. فكري ناضج فتخبو سريعاً. وأكاد أشاهد مظاهر من المواقف المتعصبة الانفعالية ذات النظرة الأحادية التي لا تطيق الاختلاف معها ما يعزز الهاجس من أن تؤول الامور الى مجرد تغيير قناع الاستبداد بآخر.

إن النهضة الفكرية التي مر بها المجتمع العربي بعد الاستقلال بريادة العديد من المبدعين والمفكرين ذوي الاراء التحررية التنويرية قد انكفأت هذه الايام لصالح موجة مد ماضوية، باسم التمسك بالاصالة. إن مشكلاتنا الاساسية ليست في انهيار القيم السلوكية أو الاخلاقية التي تتبدل مع تطور المجتمع بشكل حتمي، بل في غياب الحرية، وتغييب احترام حق الانسان في الحياة الكريمة، واضطهاد المرأة باسم الثوابت والعادات، والتعصب الفكري الذي لا يرى العالم الا بعين واحدة.

فهل تعيد الاحداث الاخيرة الينا الأمل بعودة الوعي والنشاط الفكري والفلسفي؟ لا أقصد النشاط على صعيد اهتمام الدوائر الاكاديمية أو اهتمام المثقفين في هيئة دراسات تبقى حكراً على طبقة الانتجلسنيا. نريد أن يتحول هذا الزخم السياسي والحراك الاحتجاجي الى نهضة عربية حقيقية على مستوى الفرد العادي، حتى لا يتكرر ذلك الموقف المحزن الساخر حينما لم يكن هناك أمام حدث عظيم مثل حملة نابليون بونابرت على مصر ضمن سياق فترة تاريخية مهمة في أواخر القرن الثامن عشر من طاقة فكرية سوى عبد الرحمن الجبرتي الذي برغم انتباهه لأهميتها التاريخية لم يعطها حقها، بينما كان الكتاب الآخرون منغمسون بالشروح والفهارس وتحقيق التحقيق! وكي لا يتكرر ذلك الجدب الابداعي والفكري حينما لم يكتب من وحي حملات أوروبا على الشرق سوى أسامة بن منقذ في «الاعتبار»!

رابط المقالة بصحيفة الدستور
 
رابط الصفحة الكاملة
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق