الجمعة، يونيو 3

عرار ..الآن أكثر من أي وقت مضى


عــرار.. الآن أكثـر من أي وقـت مـضى

اياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي بجريدة الدستور الأردنية بتاريخ 27/5/2011

إنه لمن معاني التاريخ الرمزية التي تحمل دلالات مهمة أن تصادف ذكرى ميلاد شاعر الاردن مصطفى وهبي التل "عرار" ذكرى الاستقلال، فقد ولد الاثنان في الخامس والعشرين من آيار. كان عرار صوت الحق الجريء الذي يرفض التبعية للاجنبي ويدعو الى تحرر الانسان من جور السلطة ويقف لها ناقدا قوياً بالمرصاد. فكان ضمير الاستقلال الذي تحقق قبل رحيله بأربع سنوات. وفي ظل الاجواء القومية التحررية في مطلع القرن الماضي التي شهدت حركة الوطنيين من أبناء بلاد الشام في الاردن وسورية وفلسطين امتداداً الى الحجاز عاش عرار وترعرع، فكانت له مواقف عروبية منذ ريعان شبابه. ولو عاش "عرار" هذه الايام التي تشهد ثورة الانسان العربي على الظلم والقمع والاستبداد وتبديد ثروات الامة واحتكار السلطة والفساد والارتهان للاجنبي في سبيل تأمين مصالح الطبقة الحاكمة لكان صوت ضمير الانسان العربي الرائد المدافع عن حق الحياة والتعبير في مواجهة انهمار الرصاص. ربما الان أكثر من ذي قبل نحتاج الى أن نتذكر عرار وشعره ومواقفه، لأن عرار كان الصوت الجريء في وقت كان الصمت هو لغة الاشياء والمواقف، وكان الشاعر الحر في وقت عزت فيه الاقلام عن الوقوف بوجه الظلم، وكان السبّاق في فهم حقيقة المؤامرات التي تحاك ضد الارض والانسان والتحذير من خطر الاعداء، في وقت لم يكن هناك وعي بخفايا ما يجري من مخططات ودسائس تحيكها القوى الكبرى ضد العرب. لم يكن عرار شاعراً عادياً كأي شاعر. كان مختلفاً في كل شيء. كان شاعراً مفكراً جريئاً وصاحب نبوءة سبق عصره، مثلما كان حراً متمرداً في اسلوب حياته الذي اختاره لنفسه.

عاش عرار في فترة تعد الاصعب من فترات تاريخ العرب الحديث الذي شهد بطش الدولة العثمانية في أواخر عهدها بعد أن حولتها الحروب والروح الاستبدادية الى رجل مريض، كما شهد هجمة الاستعمار إبان الحرب العالمية الاولى وافتضاح مخططات سايس بيكو وتقسيم الوطن العربي غنائم بين الدول الاوروبية، كما عاش المراحل المبكرة من القضية الفلسطينية وثورات الشعب الفلسطيني الذي أدرك المخطط الذي كان يهدف الى الاستيلاء على الأرض والسماح للمهاجرين الصهاينة بتأسيس وطن لهم على أنقاض شعب آخر.

عرف عرار النفي مبكراً وهو في بداية العشرينيات عندما كان طالباً في دمشق، كما عرف الفصل من الوظيفة والاعتقال والسجن بسبب مواقفه الوطنية التي عبر عنها في شعره وفي مواقفه التي رويت عنه. ولهذا تظل ذكرى عرار حية في ضمير الاردنيين، وخاصة هذه الايام التي يشهد الاردن والعالم العربي برمته حركة احتجاجية تعبر عن صحوة ضمير طال انتظارها وعن انتفاضة كرامة وحرية، لأنه كان حال لسانهم الصادق في رفض الجور والاستغلال، كما كان شعره مرآة حياة الناس والمجتمع الذي يعكس الأجواء العامة التي عاشها الانسان في تلك الفترة ما بين انتشار الامية والفقر والمرض وتركة العهد العثماني الثقيل في الاستبداد والبيروقراطية واحتكار السطة، ومن ثم وطأة الانتداب وجبروته والاحساس المبكر بالمخاطر الكبرى وتقسيم الاوطان وضياع فلسطين.

يفيض شعر عرار بالهم الوطني ويفضح المؤامرات السياسية واشكال النفاق والتسلط ويقف الى جانب الفقراء والمهمشين والمنبوذين، ورغم ما أتيح له من فرص للوصول الى مناصب ادارية كان يمكن في ضوء تعليمه ودراسته للمحاماة وعمله في السلك الحكومي أن تحقق له مكانة شخصية عالية ونفوذا يطمح اليه كثيرون:

ورأيت كيف الصدق يذهب من يقول به ضحية
ونظرت أحلاس الوظائف سادة بين البرية
أيقنت أن الألمعية في ازدراء الألمعية
وحللت عقلي من عقال الهاجسين بحسن نية

إلا أنه انحاز الى جانب قناعاته ومبادئه فكان ضمير الاردن، الذي عبر، في وقت مبكر من تاريخه عن الانتماء اليه والى ترابه والى بقاعه الجميلة التي ارتبط اسمه باسمها. كما يمتاز شعره بفهم نوازع النفس البشرية التي تسقط أمام المادة والجاه والخوف من السلطة أو تسعى الى تحقيق منفعة آنية على حساب التمسك بالمبادىء الذي يورث معظم الاحيان الالم والجوع والحرمان:

هذي الوظيفـة، ان كانـت وجائبهـا، وقفاً عليكـم، فعنهـا الله يغنينـي
فالعزل والنفيّ، حبـاً بالقيـام بـه أسمى بعينـيّ مـن نصبـي وتعيينـي
يا شرّ من منيت هـذي البـلاد بهـم، ايذاؤكـم فقـراء النـاس يؤذينـي
(فبلطوا البحر) غيظا من معاملتـي وبالجحيـم، إن استطعتـم فزجونـي
فما أنا راجع عـن كيـد طغمتكـم حفظا لحق (الطفـارى) والمساكيـن

عرف عرار كل صنوف النكران والاضطهاد، من الطرد من الوظيفة الى النفي الى السجن الى تشويه سمعته وصورته فلم يتراجع ولم يهن:

لو أني أرأس الوزراء أو قاض كمولانا
لألغيت العقاب ولم أدع للنفي إمكانا
فمن سجن الى منفى لآخر شط ابوانا
فهات الكأس مترعة من الصهباء ألوانا

ارتبط شعر عرار في ذهني ومنذ أن وعيت على الدنيا بمواقفه السياسية الرافضة لمخططات قوى الانتداب البريطاني ووعد بلفور الذي وضع حجر الاساس لتهويد فلسطين في أكبر تجسيد تاريخي لمعاني الظلم وسرقة مقدرات الشعوب وأحلامها تمهيداً لإقامة كيان غاصب:

يا رب إن بلفور أنفذ وعده
كم مسلم يبقى وكم نصراني
وكيان مسجد قريتي من ذا الذي
يبقى عليه إذا أزيل كياني
وكنيسة العذراء أين مكانها
سيكون إن بعث اليهود مكاني

في هذه الأبيات تتجلى رؤية عرار التي تستشرف المستقبل وادراكه المبكر لمعنى ضياع الوطن، وتجسد ايمانه بقيمة الوحدة الوطنية، "فلا حد يباعدنا ولا دين يفرقنا" كما كنا صغاراً ننشد.

ومن ناحية أخرى، يجسد عرار في شعره نموذجاً للشاعر الرومانتيكي الثائر. هرب الرومانتيكيون من المدن ومشكلاتها واكتظاظها ونفاقها وضجيجها وعلاقاتها التي اتسمت بالزيف الى الريف حيث الحرية والانطلاق والبحث عن الذات في معبد الجمال الطبيعي، وحيث الريح الشاردة تبعث في خيالهم أماني التحرر من الالم وحيث البلابل تثير فيهم الشجن والرغبة في التحليق فوق جحيم المكان الانساني الى عوالم أرحب من الحرية، هكذا فعل شيللي وجون كيتس واللورد بايرون وصامويل كولريدج ووردزورث وهكذا فعل أبو القاسم الشابي واحمد زكي أبو شادي وجبران خليل جبران وعلى محمود طه، لكنهم مثل عرار، لم ينسلخوا من صورة الشقاء الانساني، ولم يغب عن بالهم صور استعباد الشعوب وقهرها، فالتحق بايرون بالمقاومة اليونانية، وكتب شيللي "ثورة الاسلام"، وغنى ابو القاسم الشابي للشعب كي يعلن الثورة، وظل يدعوه للانتفاض حتى درجة السخرية، وحتى كاد يصاب بالاحباط من صمت البشر المطبق على الضيم. وهذا عرار يقول بكل مرارة ساخراً:

سيمت بلادي ضروب الخسف وانتهكت حظائري واستباح الذئب قطعاني
وراض قومي على الاذعان رائضهم على احتمال الأذى من كل انسانِ
فاستمرأوا الضيم واستخذى سراتهم فهاكهم يا أخي عبدان عبدانِ

وربما نحتاج الان أكثر من أي وقت مضى أن نتذكر عرار في ظل امتداد المعاناة وانتشار الفساد، فقد وقف مبكراً ضد كل المرابين والمنافقين وطالبي رضا السلطة كي يفوزوا بمغانم من قوت الشعب. يقول ساخراً ممن يعرف معنى الضيم ويسكت عليه:

ماذا أصاب بني أبيك؟ أما لهم فينا بقية؟
صمتاً فإن العي في بعض المواقف شاعرية
وتحامق الضعف الهضيم نهاية في العبقرية

وهكذا ثار عرار على واقعه البائس وعلى كل القيم الاجتماعية التقليدية، واختار لنفسه أن يعيش حراً يجسد الحرية في شعره ومواقفه وحتى صعلكته وتمتعه بلذة الحياة، لكنه بقي ملتصقاً بمعاني الكبرياء والكرامة. وككل الشعراء الرومانتيكيين، وجد عرار نفسه ومبتغاه في الطبيعة، ليس لمجرد جمالها الساحر أو مشاهدها الخلابة، بل لأنها تربطه بوطنه الذي غنى له وتغنى به، ولأنه يرى فيها صورة الوطن كما يتمناه، فقد صارت البديل الموضوعي لوطن مفقود.. لوطن شوهت وجهه السياسة والانتهازية وخطط الأعداء، وربما لم يغن شاعر لجبال الاردن ووديانه وتلاله وقراه كما فعل عرار:

يا مي جلعاد الأشم كعهده
ما زال يربض جاثما في مكانه
والغور ما انفكت غدائر نبته
وزهوره تحنو على غدرانه
وسماء اربد ما يزال سحابه
يسقي سهول الحصن من هتانه

في معظم قصائده، يربط عرار جمال الارض بالحب والمرأة وقيمة الوطن وتاريخه وكريم الخصال التي يألفها ابن الارض في الريف والبادية:

يا أخت (رم) وكيف (رم) وكيف حال "بني عطية"؟
هل ما تزال هضابهم شما وديرتهم عذية؟
سقيا لعهدك والحياة كما نؤملها رضية
وتلاع وادي اليتم ضاحكة وتربته غنية
وسفوح (شيحان) الأغن بكل يانعة سخية

الطبيعة في شعر عرار هي فردوسه المفقود ووطنه الذي نبذه وهي مدينته الفاضلة التي لا فرق فيها بين العبد والسيد أو الغني والفقير، ومثلما هرب الرومانتيكيون الى الطبيعة فقد هرب عرار الى حياة الخرابيش التي وجد فيها عدالة ومساواة حقيقية بلا ادعاء أو زيف:

بين الخرابيش لا حرص ولا طمع
ولا احتراب على فلس ودينـار
ولا هيــام بألقـاب وأوسمــة
ولا ارتفاع ولا خفض بأقـدار
بين الخرابيش لا عبد ولا أمة
ولا أرقاء في أزياء أحرار

يعبر شعر عرار عن معظم مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الاردن، فكأنه سجل تاريخي أدبي يعطي صورة نابضة مفعمة بكل الالوان والاصوات والظلال لنمط حياة الناس ومشكلاتهم وقضاياهم وآمالهم على اختلاف مستوياتهم، في تلك الفترة من تاريخ الاردن. لا بل إن شعره يوثق حتى اللغة الشعبية الاردنية التي يوظفها في شعره بشكل جميل، ومن هنا يكتسب ديوانه "عشيات وادي اليابس" أهمية كبرى في كونه لا يلخص سيرة حياة الشاعر ومواقفه ولكن يعد سفراً للحياة في الاردن في النصف الاول من القرن العشرين بفضل قصائده التي تعرج على كل قضية تهم الناس، مثلما يمور بقصائد الحب والوجدانيات والالم والشكوى وحب الارض الذي برى الشاعر فصار عاشقاً يكابد الوجد.

وبقدر ما كان يتبدى البعد العروبي القومي في شعره، فقد كان الاخاء والحب الانساني الذي يتسامى فوق اختلاف العقيدة. وفي أكثر من قصيدة ومناسبة عبر عرار عن ايمانه بالانسان العربي الذي يستند الى تاريخ مشترك عريق، بل هو أعرق تاريخاً من ميلاد الاديان السماوية:

إنجيل عيسى أو كتاب محمد سيان عندي فـ العروبة محتدي
إن كان عيسى للسلام يقودني فكـذاك أحمد للسعادة مرشدي

في ذكرى ميلاد عرار نتذكر شاعراً ارتبط اسمه وشعره بعزة النفس الأبية في أجواء من الحرية والتمرد ونتواصل مع تاريخ طويل من الصعلكة العربية المشرفة كصعلكة عروة بن الورد وشيبوب وعرار بن شأس الأسدي الذي تسمى تيمناً به وبقوله:

أردتِ عراراً بالهوان ومن يرد ... عراراً لعمري بالهوان فقد ظلم

رابط المقالة بجريدة الدستور

رابط الصفحة الكاملة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق