الأحد، أغسطس 31

الصياد وعصافير الليل


الصياد وعصافير الليل

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

خطواتٌ رشيقة تقفز فوق مربعات تحاذرُ أن تلامس خطوطها! خطوط طباشيرية بيضاء مرسومة فوق الساحة أمام البيت. عشرة مربعات موزعة على صفين. تلاحق النظرات حركة خطواتها. ما تزال الشمس كبيرةً في الأفق بعد العصر. السماء صافية إلاّ من بعضِ الغيوم الشاردة نحو الشرق. الجو معتدل وفيه نسمة هواء منعشة. ليس مألوفاً في هذا الوقت من أواخر شهر آب. كانت الاسابيعُ الماضية حارةً لا تطاق من الرطوبة.

بدأتْ الدراسة منذ أيامٍ قليلة. ما يزالُ الاولادُ يلعبون الكرةَ في وسطِ الشارع. تمرُّ سيارةٌ مسرعةٌ. يطلق سائقها صوتَ بوقِها المجنون. لا يأبهُ لها الاولاد. تقترب السيارةُ أكثر. يزيد صوتُ زعيقِها المزعج. يبتعدُ الاولادُ قليلاً بتثاقلٍ وعناد. ينطلق صوت السائق صائحاً يهذرُ ويشتم. يعود الأولاد للعبِ مرةً أخرى . يضعون حجارةً على جانبي الشارع. هذه هي المرمى! تمر سيارةٌ أخرى. ينطلق الصوت العالي يصمّ الآذان. يبتعد الأولاد قليلا بصلفٍ وهم يحدّقون في السائق. يُخرج أحدُ الاولاد لسانَه وراء السيارة! يلوّح آخر برجله ضارباً الهواء خلفها! جمعٌ قليل من البنات يلعبن على الرصيف أمام البناية ذات الحجر الوردي والأعمدة التي تنتصب على جانبي المدخل والاقواس.

تمتليء الحديقة العامة كل يوم بعد العصر. يمر بعض الاولاد الاشقياء مسرعين من بين الناس فوق ممرات الحديقة المبلطة بدراجاتهم الصغيرة فيضطرب السائرون! نساءٌ كثيراتٌ يجلسن على المقاعد. تستمر أحاديثهن المكرورة كل يوم حتى يحلَّ الليلُ! لا مكان يذهبن اليه غير هذه الحديقة! صارت الحديقة شاهداً على حكاياتهن. هي ذات الحكايات وإن اختلفت التفاصيل والاسماء! صورٌ متشابهةٌ من نكد العيش بلا أمل.

غسل سالم يديه وخرج من البوفيه. ذهب للمكتب مباشرة. كانت فايزة تجلس على الحاجز. رنّ الهاتف. أجابت بصوتها الناعم: آلو.. الشرق للنقل. أمامها لوحة المفاتيح وعليها بعض الاضواء الحمراء الصغيرة. ضغطتْ على أحد الازرار ثم وضعت السماعة مكانها. عادت تقرأ في كتيّبٍ صغير في يدها. توقف سالم عندها. اتكأ على الحاجز. رد السلام وابتسم. نظرت إليه بنصف إبتسامة. تلبس فايزة قميصاً أحمر وبنطالاً من الكتان القاسي كالجينز وتضع حجاباً على رأسها. تبرز مقدمة شعرها الكثيف والطويل ، ويلمع أحمر الشفاه على شفتيها وقد طلت أظافرها بلون بني.
- هل وصل المعلم فرج؟
- إنه بالداخل. لقد سأل عنك
- كنت أتغدى. وصلت منذ قليل. كنت ميتاً من الجوع.
لم تنبس فايزة بكلمة. بقيت عيناها على الكتاب.
- هل ذهبتِ للغداء؟
- نعم، زمااااااان! ومطّتها بدلع.
- ماذا تغديت؟ يجب أن تنتبهي لوزنك؟ أين ذهبت أيام الرشاقة؟!
تطلعت فيه بنظرات شَزِرَة وعيونٍ مستغربة. لم تعلق. ابتسمت قليلاً وعادت تقرأ في الكتاب. على غلافه صورة نارٌ مشتعلة وأهوالٌ وأفاعٍ ذات أشكال غريبة. ولكن لم يكن يبدو عليها الخوف.
- متى وصل؟
- حضرت وكان بالمكتب
- ماذا تقرأين في يدك؟
رفعت له غلاف الكتاب ليقرأ العنوان.
- ما الذي حصل؟
- هداني الله وعقلت! قالتها وضحكت ضحكة خجلى كتمتها بين شفتيها!

كانت الساعة فوق الحائط تشير إلى الخامسة. غرفة واسعة فيها مكتب إلى اليسار تجلس عليه فايزة وأمامها مقسم هاتفي، وحول المكتب بعض الكراسي. فايزة محظية لدى المدير. مكتبها أكبر من الجميع. الكل يخشى سطوة لسانه إلا هي. لم يسمعه أحد ذات يوم يصيح فيها إذا تأخرت مثل الآخرين. تعمل فايزة موظفة إستقبال وعاملة مقسم وسكرتيرة في آن معاً! تحب سماع الموسيقى، ولا يفارق المسجل مكتبها. ينبعث صوت الأغاني من جانبها، وعندما يسافر فرج ، يرتفع الصوت أعلى من المعتاد! بعد أن تزوجت العام الماضي فقد لاحظ عليها الموظفون تغيراً. أصبحت تقلل من تعليقاتها وتكتم ضحكاتها! ولكن مساحيق التجميل والزينة والخواتم وعقود الذهب إزدادت!

إلى اليمين باب كُتبت عليه لوحة بخط يدٍ غير منتظم "قسم المالية والمحاسبة". وإلى اليسار مدخل غرفة شؤون العاملين. وفي الامام هناك مكتب الحركة. مكاتب الموظفين مزدحمة بالكراسي والخزائن وقد اهترت حوافها وأصبحت باهتةً من كثرة الاستعمال، وأجهزتهم قديمة بالية. وفي نهاية الممر إلى اليسار باب خشبي لمكتب واسع. مكتب وثير فاخر ملأه فرج بكل أدوات الرفاهية والفخامة واللوحات الفنية المستنسخة الرخيصة! لا يرى الزوار الذين يحرص على إستقبالهم من المدخل الاخر لمكتبه سوى الصورة المشرقة!

ورث فرج الشركة عن أبيه ، واستطاع باسم المحافظة على اسم العائلة وإرثها أن يستولي على حصص أخواته في الشركة! دفع لهن مبالغ لقاء التنازل عنها. لم يكن أحد يعرف أوضاعها المالية الحقيقية إلا هو. فقبلت البنات بيع حصصهن على مضض. عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة! وفرج ماهر في اصطياد العصافير! يعشق فرج النساء. ضبطه أبوه ذات يوم مع سكرتيرته في مكتبه بعد انتهاء الدوام فطردهما. لكنه أعاده في الاسبوع التالي. ليس هناك أحد غيره. الابن الوحيد المدلل بين ثلاث أخوات.

كانت أحلام فرج في الثراء والتوسع أكبر من أن تحملها الشجرة! أخذ يستدين من البنوك وفي ذهنه أحلام طفرة اقتصادية ستستمر، ولكن الحلم تحول سريعاً إلى كابوس. ركود وأزمات اقتصادية. لم تعد أعماله مثل السابق. بدأ يحس بضغوط عليه لسداد الديون. فكر في مخرج من الازمة. استطاع بفضل علاقاته أن يقنع بعض أصدقائه بالانضمام اليه. فضخّوا أموالاً كان بأمس الحاجة اليها.

تقفز غادة فوق المربعات الطباشيرية بخطواتها السريعة. رسمتها مع صديقاتها على أرض الساحة أمام البناية التي تسكن فيها. غادة ذات الأحد عشر ربيعاً في الصف السادس. تنزل كل يوم بعد العصر مع صديقاتها من بنات الساكنين الآخرين ليلعبن الحجلة. وعندما يتعبن من القفز، يجلسن على طرف الدرج الرخامي العريض عند مدخل البناية ليحكين القصص وأخبار المسلسلات! بدأت الدراسة قبل أيام. ما يزال أمامهن متسعٌ من الوقت للعب. غادة ذكية ومجتهدة وتعتمد على نفسها. أمها ربةُ بيت وأبوها دائماً في العمل لا يعود الاّ في وقت متأخر. وأحياناً يسافر بشاحنته لعدة أيام ينقل خلالها البضائع. لقد اعتادت أمينة سفره الدائم في سبيل لقمة العيش. يعمل زوجها في هذه المهنة قبل أن تتزوجه.

حل الظلام شيئاً فشيئاً فبدأت الحركة تخف في الشارع. عادت غادة للبيت. أخذت أمها تؤنبها على تأخرها. أصبحت عصبيةً لا تطيق سماعَ كلمة. وترد بكلام فيه ندية،كأنما تدافع عن حريتها الطفولية. صارت تتمرد في الايام الاخيرة. يشعر سالم بالغيرة من تصرفاتها! لم يعرف هو نفسه مثل هذه التصرفات. كان يخنع ويسكت بسهولة. الرد على الكبار لم يكن في قاموسه. وإن وقعت في لحظة طيش، كان يأتي الاعتذار وتقبيل اليد فوراً! يحسدها سالم بداخله، ويضحك من جرأتها. ولكنه يجد صعوبة في التأقلم بسرعة، فبدأت مشاكل المراهقة تفرض حضورها. يلين أحياناً كي تمر العاصفة ولكنها لا تمر، بل تتحول إلى إعصار!

دق سالم باب مكتب فرج بهدوء وارتباك ودخل يمشيء ببطء. لا يعرف لماذا سأل عنه في غيابه. فهو يعرف أنه كان في رحلة إلى أبو ظبي وإلى مسقط. نقل شحنة من الزجاج في شاحنة طويلة في رحلة إستغرقت بضعة أيام. لقد إعتاد السفر وصار خبيراً بالطرق الخارجية ومحطات الصحراء والاستراحات. انتبه فرج إلى صوت الباب ولمحَ وجهَ سالم. نادي عليه فدخل وأغلق الباب خلفه. يعمل سالم في الشركة منذ فترة طويلة تقارب الاربعة عشر عاماً. عمل بها عندما كان الحاج علي أبو فرج مديرها. كان فرج يتردد على المؤسسة كثيراً قبل أن يصبح مديراً فيها أثناء حياة والده. أرسله أبوه ليدرس الطب في أمريكا، ولكنه عاد بعد عدة سنوات بذاكرة تمتليء بقصص النساء! لاحظ الموظفون الفرق بينه وبين والده. لم تنفع معه الدراسة ولا الاساليب الحديثة! فرج يحب السلطة وفرض الاوامر وإظهار مكانته بين الاخرين. لا يتورّع عن رفع صوته على الموظفين. لا يستثني أحداً منهم الا فايزة!

نشأت بينه وبين سالم معرفةٌ قوية. زاره فرج في بيته وتعرف إلى زوجته وأولاده. وبرغم الزيارات الا أن جليد الرسميات والمقامات لم يذب تماماً. ولكنه يُؤْثِره على باقي العاملين الاخرين. يخصه بمعاملته ويعطيه بعض الصلاحيات في مراقبة السائقين الاخرين! يصارحه أحياناً بأفكاره وطموحاته ومشاريعه. ولا يوصي أحداً من السائقين أن يحضر له سجائر وعطوراً وأجهزة مهربة إلاّ هو. غير أن فرج لا يفتأ يذكّره بين حين وحين بأنه هو المدير وأنه عامل عنده.

استفسر فرج من سالم عن رحلته الاخيرة. شعر أن ذلك مقدماتٌ لموضوعٍ آخرَ ليس أكثر. فهو يسافر كثيراً ويغيب أياماً عديدة، وليس من عادته أن يناديه كي يسأله عنها. لم يستعجل سالم الامر، فلا بدّ في النهاية أن يفاتحه بالموضوع الذي يدور في رأسه. فتح الباب فجأة وأطل رأس شاب. قال فرج: أدخل أسامة. دخل ببطء وسلّم عليهما وجلس. يعرفه سالم جيداً. صبي مدلل ناعم لا يعرف غير الملابس الصارخة الالوان! ولكنه ذكي يهوى الكمبيوتر إلى حد الهوس. كلما رآه سالم يزداد إحساسُه بأنه ينتمي لعالم آخر غير عالم أسامة!

توقف فرج عن الكلام وأخذ يسأل أسامة عن استعداده للمدرسة فهذه السنة الاخيرة. شعر سالم أنه ربما لا يرغب في الحديث عن الموضوع بحضور أسامة، فبقي ساكتاً. عرف أن فرج سيتكلم في الوقت المناسب ولا داعي للالحاح! بعد قليل خرج أسامة من المكتب. قال فرج: أريد أن أتحدث معك بموضوع مهم. هذا موضوع بيني وبينك ولا أريد أحداً أن يعرف به. صَدقَ حدسُ سالم. إلتفت اليه بانتباه. بدأ فرج الحديث عن علاقتهما الوطيدة ومكانة سالم عنده، وعند والده من قبل. وأخذ يعدد مناقبه في الصداقة والمال والناس! فرح سالم في أعماقه لسماع هذه الكلمات. كان سالم يحاول اصطناع الهدوء كي يبدو متواضعاً. ولكن حديث فرج بدأ يتحول إلى جانب آخر. لم يستطع سالم أن يحدد تماماً ماذا يريد فرج. كان يستطرد في عباراته وهو يتحدث عن موقف ما خطر له تلك اللحظة. أخذ فرج يتحدث عن البيت والاسرة والسعادة. ولكن حديثه كان مفتعلاً مرتبكاً. استشف سالم من كلماته حديثاً عن الزواج. بدأ فرج يقترب أكثر من صلب الموضوع. اختلطت مشاعر سالم. لم يعرف لماذا اختاره هو ليتحدث عن هذا الموضوع. بدأ يشرد في تفكيره. هل سيقدم فرج على الزواج مرة أخرى ويريد أن يمهد له الفكرة؟ أم يريده أن يمشي معه في مشروع زواجٍ ثانٍ؟ ظنّ في داخل نفسه أنه ربما يريد أن يستمزج رأيه في الموضوع.

صار حديث فرج أكثر وضوحاً قليلاً. أحس سالم بفرح في أعماقه ولكنه فرح مشوش مضطرب. سيكون شيئاً رائعاً أن يفكر بمصاهرته. لم يكن يحلم بهذا الشيء من قبل. أحس بسعادة غامضة بداخله. لا تعجبه بعض سلوكيات أسامة، ولكنه شاب غني في مقتبل العمر ويكفي أنه ابن مدير الشركة. ولكن غادة ما تزال صغيرة. ليست في سن الزواج. لم يفكر أبداً بالموضوع من قبل. انتهز سالم لحظة صمت من بين كلمات فرج. قال إن الامر فاجأه كثيراً. وأخذ يشيد بصفات اسامة أمام والده.. محض مجاملات! الحقيقة مرة أحياناً ولا يقدر على قولها! أضاف سالم أن ابنته ما تزال صغيرة للتفكير بهذا الموضوع. شعر فرج بالارتباك قليلاً من سوء الفهم. ولكنه ظن أن سالم معه حق حين ربط الامر بأسامة! قد يبدو الامر مستهجناً، لكن هناك الكثيرون مثله. تجاسر على التوضيح بجرأة غير معهودة. صعق سالم ولكنه تملص منه ووعده بالتفكير بالامر.

بعد يومين جاء دور سالم ومصطفى في السفر مرة أخرى. سيذهب سالم هذه المرة إلى بنغازي ، ومصطفى الى الاسكندرية. حمولتهما من أواني الخزف. جهّزوا شاحنة سالم بكل شيء وانطلق. كانت الساعة السادسة صباحاً. بعد ساعة سيجهّزون شاحنة مصطفى وسينطلق وراءه. الجو لطيف والطريق مليئة بالشاحنات. لقد اعتاد هذه الرحلة منذ عدة سنوات ، ولكنها طويلة ومتعبة. يلتقي بسائقين آخرين على الطريق وفي الاستراحات. صارت الطريق عالمهم ، ولقاءاتهم تبعث الأنس في وحشة الطريق.

الطريق مزدحمة على غير العادة أمام مصطفى. من بعيد ظهرت سيارات كثيرة. كان عدد من الناس واقفين على طرف الشارع. الشارع يميل منحدراً نحو منعطف إلى اليمين ثم إلى اليسار. والرصيف ترابي منحدر مع سفح الجبل الذي برزت فيه صخور وأشجار برية نبتت بين شقوق الصخور. وفي الأسفل قاع صخري باتجاه المكان الذي تجمهر فيه بعض الناس. عدد من رجال الشرطة يحيطون بالمكان. وقف يستطلع الامر. هاجس قفز الى رأسه. نزل وأخذ يدفع بيديه حتى وصل إلى الرصيف المنحدر. رأى شاحنة سالم وقد انقلبت واستقرت في قاع الوادي. عدد من رجال الانقاذ حول الشاحنة. ما زال غيرَ مصدّق. سأل الشرطة بانفعال واضح عما حصل للسائق. قالوا إنه كان ينزف كثيراً وفي غيبوبة فاضطروا إلى احضار مروحية لانتشاله من قاع الوادي. قال أحد رجال الشرطة إنهم وجدوا بعض زجاجات مشروب تحت الكرسي وفي ثلاجة الشاحنة.
* اللوحة أعلاه للفنان البريطاني المعاصر جون كراكستون

هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف1:17 ص

    السلام عليكم استاذ/اياد
    كل سنة وانت طيب بمناسبة حلول شهر رمضان الكريم اعاده الله عليك بالخير واليمن والبركات.
    استفزتنى كثيراً هذه القصةوهذا لايمنع انها جميلة جداً لانها واقعية جداً جداً
    (اعتقد ان فرج اراد ان يتزوج زوجة سالم)!
    اتمنالك كل شئ جميل وسعيد فى الشهر الكريم.
    (صوماً مقبولاً وافطاراً شهياً)
    (امال)

    ردحذف