السبت، يناير 29

لغة الدم في الثقافة العربية


لغة الدم في الثقافة العربية


اياد نصار

"يكره الانسان الظلم خشية أن يكون من ضحاياه، وليس لأنه يترفع عن فكرة اقترافه" أفلاطون، كتاب الجمهورية

ما زال الادباء والفنانون والكتاب والرسامون والمسرحيون والمفكرون والصحفيون ودعاة النهضة والتنوير والتغيير في العالم العربي، ونحن في مستهل القرن الحادي والعشرين، يتعرضون لصورٍ شتى من الاضطهاد الفكري، الذي تمارسه جهات عديدة، كالحكومات والجماعات الايدولوجية، والاحزاب، والمؤسسات، والهيئات الاجتماعية ذات الطبيعة القبلية أو التقليدية المحافظة، وبعض منظمات المجتمع المدني، والافراد. ولا يبدو من خلال الاطلاع على جوانب عديدة من تجارب المبدعين في ثقافات أخرى، ومقارنتها بتجارب مبدعينا المغمسة بآلام ومرارة المنع والحظر والمصادرة والقمع والاعتقال والسجن والغرامات الباهظة ـ وفي بعض الحالات التهديد بالموت أو النفي اللذين بلغا ذروة في مرحلة سابقة وخصوصاً في النصف الثاني من القرن العشرين ـ أن هناك انفراجاً حقيقياً، ليس على صعيد علاقة السلطة بالمثقف، بل وحتى على صعيد قبول الانسان العربي للابداع الذي يختلف مع آرائه، وقناعاته، ومعتقداته الدينية والايدولوجية، وتوجهاته، وذوقه، واعتباراته الجمعية التي تفرض عليه إطاراً، لا يستطيع الخروج عنه.

ولا يبدو، أن هناك أملاً كبيراً في إحترام حق الانسان العربي في الابداع الحر، أو حتى في مجرد السماح بتوظيفٍ فنيٍّ لبعض المفردات أو الصور أو المعاني ذات الطبيعة الدينية على أساس إحترام حق الابداع، والدفاع عنه انطلاقاً من الايمان بحرية التفكير والتعبير.

وما تعرض له الشاعر الفلسطيني موسى حوامدة عبر محاكمات متتالية حركتها ضده جهات مختلفة في الاردن عندما أصدر ديوانه "شجري أعلى" في العام 1999 ليس إلا مجرد حالة من مئات الحالات في الوطن العربي التي لم تتوقف حتى هذه اللحظة، ولم تكن آخرها محاكمة الشاعر الاردني اسلام سمحان للسبب ذاته، عندما أصدر ديوانه الاول "برشاقة ظل" في العام 2008. فما بالك اذا كان هذا الابداع يتناول تاريخ شخصيات تاريخية أو دينية أو سياسية اكتبست في الذاكرة الشعبية صفة تكاد تقترب من القداسة، وتحرّم الاقتراب منها بغير التمجيد، ناهيك عن الابداع الذي يتأمل في جوهر القيم والمباديء والافكار والموروثات، فيطرح من حولها اسئلة النقد أو الرفض أو الشك في صدقيتها، أو في أقلها التمحيص بصحة روايتها.

والصورة أكثر قتاماً عندما نتحدث عن حق الابداع في إطار من التفكير الحر الذي يتعارض مع بعض المسلمات الاجتماعية والدينية والفكرية المختلفة. ما يزال الانسان العربي مضبوعاً بالخوف من فتح الابواب أمام حرية الفكر والنقض والتساؤل والتفلسف، فتراه يبرر ويبارك ممارسة الاضطهاد بإسم حماية الثوابت والمقدسات تارة، وبإسم حماية الذوق والمجتمع الذي نصب نفسه وصياً عليه تارة أخرى، وتارة ثالثة بإسم الخوف على مصير البشر إن هم أطلقوا لعقولهم العنان في التأمل، والتفكير، والنقد، والتساؤل، والشك، وغير ذلك من نشاطات ذهنية، تهدف الى بناء منظومة فكرية جديدة، أو ممارسة الرغبة في التطوير والتغيير.

ويكاد لا يتوقف الاضطهاد بصوره وأشكاله المختلفة عند فن معين دون آخر. روايات يتم منعها ومصادرتها كل يوم. بل إن السخرية في الامر أن بعضها تمضي عليها سنوات وهي على رفوف المكتبات وبين أيدي الناس بكل أمن وسلام، الى أن يأتي شخص أو جهة ما، وتثير زوبعة حولها، فإذا بها تصبح في عداد المواد "شديدة الخطورة" ومتهمة وراء القضبان! دواوين شعر أو قصائد بعينها تدار حولها سجالات بهدف التحريض والضغط لمنعها ومصادرتها ومحاكمة شعرائها! وتنقلب الامور دائماً من مجرد اعتراض على عمل ابداعي الى خلق رأي عام رافض يمارس التهديد والوعيد! وتشتعل النار الهائجة لتأكل الاخضر واليابس، وتفرض ألواناً من التخويف الفكري لمجرد وشايات، أو تناول فج غير متخصص أو ناضج لبعض الاعمال اعتماداً على قراءات سطحية للاعمال! ولا يكاد يخلو مجال أدبي أو فكري أو فلسفي أو فني أو صحفي أو سينمائي أو غيره من مجالات الانتاج الابداعي من صور قديمة أو حديثة لممارسة الاضطهاد بحق مؤلفيها.

ويبدو أن الاضطهاد الفكري للمبدعين الذين يقدمون أعمالا جديدة تحرك المياه الراكدة له جذور عميقة ضاربة في تاريخ الثقافة العربية، وراسخة في الوجدان الشعبي. بل أزعم أن كثيراً من صور الاضطهاد كانت تلقى تأييدا شعبياً واسعاً. ولا يثير ذلك إستغرابي، ما دام يرتكز على مبررات راسخة تاريخياً تدعي الحقيقة وتمارس الوصاية، وتستحلّ توظيف الدين لصالح ممارساتها بحق المخالفين والمعارضين، بادعاء أنها تهدف لحماية الانسان والمجتمع وصون الاخلاق! كما تقوم في أساسها على قبول تهميش الفكر والابداع، لأنه لا شيء يعلو في نظر من يتنطع لذلك على مهماتهم السماوية التي يمارسونها. فلا يبقى أمام المبدع سوى الصمت أو التمجيد! ولكن هناك دائما من يرفض أن يسير مع التيار ورغبات السلطة أو الجماعات المتنفذة. وليس هذا بجديد. فقد عرف تاريخ الثقافة العربية نماذج تاريخية شكلت حافزاً لدعاة التغيير لتمثل تجاربهم.

هناك نماذج عديدة كثيرة مؤلمة الى حد السخرية من حجم القهر الذي مثلته في الذاكرة العربية، ليس في العصور الحديثة، وإنما كذلك في العصور السابقة. هناك نماذج كثيرة حريّة بالبحث لاكتشاف أسبابها الحقيقية وظروفها، لنتعرف على نوازع الفكر العربي التي ما تزال تدفعه بقوة لممارسة الاضطهاد، وتغري جماعات ومؤسسات وأفراد بمزيد من التطرف ورفض أي خروج مهما كان صغيراً عن النسق العام. ويبدو لي أن جذور المشكلة راسخة في الذاكرة الجمعية العربية. والسؤال الذي يبقى يتردد هو: هل نجحت اساليب الاضطهاد وأسبابها المعلنة في لجم الابداع وتدجين الفكر؟ أم حولت القتيل الى مشروع خالد من السقوط المشرِّف، ومن رفض القمع بكافة اشكاله؟ أم أظهرت تهافت الاسباب التي كان يُتذرّع بها، أو حتى تهافت فكر من كان ينظر الى هذه الاسباب على أنها خطر مصيري! هناك العشرات من النماذج التي تؤكد أن تاريخاً طويلا من الاضطهاد الفكري قد تحول الى عملاق ليس من السهل التخلص منه، ويجري توظيف هذا العملاق من قبل بعض الجهات والجماعات لفرض أجندات عامة على المجتمع بأكمله، مستغلة الصورة التي يتم تصويرها بها على أنها تقود جيوش الفضيلة وكتائب الاخلاق ونبذ من يفكر باعلان التمرد عليها!

تكاد تكون صور الاضطهاد التاريخية الماضية نسخة عن النماذج المعاصرة، باستثناء بعض التفاصيل. وأعتقد أن النماذج المعاصرة لكثرتها، تحتاج الى جهد هائل لتوثيقها ودراستها، وتلمّس بواعث الاضطهاد وأسبابه التي كانت تنطلق من مواقف تدعي الحكمة والحقيقة الواحدة! إن دراسة الاسباب مهمة لأنها تتيح لنا فهم نوازع الاضطهاد وبواعثه وسلوكياته التي لا تعرف غير لغة الدم القاني لغة للحوار!

وما يزال الحلاج الحالة الاغرب والاكثر إيلاماً وقسوة ووحشية في سفر الاضطهاد الفكري عبر التاريخ العربي. وما زال يُضرب مثلاً في عسف السلطة التي تستطيع تأويل كلام أي كان، وأن تلبسه الاتهام التي تريد ليكون دليل القضاء عليه. إبتدأت محنته طويلاً قبل قتله حينما لم يفهموا جوهر تجربته الصوفية الروحية، أو يسبروا عمق لغته المثقلة بالمعاني والابعاد التي تنفذ بعيداً في فهم بواطن الامور وتحليلها، وحينما نظروا اليها ظاهرياً في كلامه الذي لم يألفوه من قبل، وتصرفاته التي صدمتهم. إبتدأت محنته طويلاً قبل أن يُسجن، ويُجلد، وتُقطع يداه ورجلاه، ويشوّه، ويصلب على الخشب، وتُقطع رأسه، وتُحرق جثته.

كان الحلاج قمة التعبير عن الصوفية في أفعاله وأقواله في مجتمع لم يتقبل هذه النظرات والمعاني الروحية في وصف الذات الالهية وإقامة نوع من الاتصال أو الارتباط في علاقة الانسان بالله، على نحو ينطوي على تمجيد لله وتكريم للانسان، ولكن المؤسسة الدينية صورت الامر للعقل العربي على أنه تصغير للذات الالهية والحاق ما لا يليق بها، علاوة على اتهام هذه المفاهيم باعتبارها أفكارا شرقية الاصل دخلت الدين نتيجة اختلاط العرب بالشعوب الاخرى، فكانت تهمته المتوقعة، في محاكمة إتخذت جانب العداء منه مسبقاً، هي الزندقة والردة. كانت نتيجة المحاكمة مقررة مسبقاً. وقيل أنه في بداية انشغاله بالصوفية، سمعه الجنيد يتكلم فغضب منه وإحتدّ عليه، وقال له ما يفيد الاستغراب من أي مصير سينتظره:" أية خشبة سوف تفسدها" وهى إشارةٌ مبكرة، حول مصير الحلاج مقتولاً مصلوباً على خشبة! ويبدو أن نهاية الحلاج المأسوية، كانت محتومة قبل أن تقع بسنوات طويلة!

ومأساة الحلاج لم تكن مع العقل العربي في رفضه للاختلاف معه، مدفوعاً بسلطة رجال الدين وحده، بل كانت مع لغة الخطاب المكرّس والمصنوعة ضمن الاطر المحددة لها. لم تكن اللغة ذات السمة الدينية السائدة ترضي طموحه، ولم تكن قادرة على نقل عمق التجربة الصوفية وأجواءها ومعانيها، فكان لا بد من لغة جديدة تصف الحالات الصوفية وتفردها، في إطار من المصطلحات والكلمات الجديدة التي تبلغ مراميهم وتجسد طبيعة العلاقة المتفردة المتميزة التي يشعرون أنها تربطهم بالذات الالهية. لكن الحلاج انتقل بلغته الى مستويات أعلى من الفهم.

ملأ الحلاج الدنيا وشغل الناس. وربما شغل الناس بعد موته أكثر مما شغلهم في حياته. رأى بعض الناس فيه زنديقاً ومهرطقاً وشعوبياً أراد أن يزرع في أذهان الناس شكوكاً وتجاوزات خطيرة من تأثير الفلسفة الاشراقية. ويرى فيه البعض الآخر الفرصة الذهبية التي أتيحت للفكر الفلسفي والديني أن يتطور نحو آفاق جديدة من التأمل والبحث والتأويل، والتجديد المطلوب للفكر الذي ينشغل بمصير الانسان والكون.

كانت مفردات الحلول والاتحاد الي أوردها الحلاج في شعره غير مرة سبباً رئيساً في محاكمته وإحلال دمه. كانت فلسفته وصوفيته تجدان معارضة شديدة من كثير من فقهاء المسلمين الذين رفضوا فكرة أن روح الله تحل في البشر وتتحد بها، أو أن الانسان عندما يموت تعود روحه لتتحد في الروح الكلية، وأعتبروا ذلك منافياً ومناقضاً للوحدانية والالوهية. وقد لعب القضاة دورا كبيرا في تحريض الخليفة على الامر بقتله بحجة أن أراءه قد شاعت ووصلت الى مسامع الناس، وربما تؤدي الى الفتنة! وهكذا جاء قرار المقتدر بإعدامه! وفي اللحظات العصيبة الاخيرة فقد تجلت له الافكار التي يؤمن بها، وأعطته صموداً أمام جلاديه، ولكنه صمود لم ينطلق من عدائية أو كراهية، بل بقي يحب من يستعدون لاعدامه، "وهؤلاء عبادكَ قد اجتمعوا لقتلي تعصباً لدينكَ، وتقرُباً إليْكَ، فاغفر لهم! فإنكَ لَو كشفتَ لهمْ ما كشفتَ لي لما فعلوا ما فعلوا ولَوْ سَتَرْتَ عنِي ما سترْتَ عنهم، لما لَقيتُ ما لَقيت".

وأما النموذج الثاني فهو بشار بن برد، الشاعر العباسي ذو الاصل الفارسي الذي جلب عليه السخط وشكّك بولائه. إن تصويره عبر التراث بأنه الشاعر الماجن يتفق مع الصورة التي أرادت السلطة ومؤرخيها تقديمه فيها. لكنه كان صاحب مُثلٍ أخلاقية رفيعة لا تنسجم مع صورته تلك. نتذكره في أبياته التي وضعت أسساً واقعية لمعنى صداقة حقيقية في جانبها الانساني الذي يعتوره الصواب والخطأ، والذي يدرك تبدل مزاج الانسان وطبائعه فيعرف كيف يتقبلها ويتعايش معها. كان بشار المتمرد الذي يمثل صورة قاسية لجذور الاضطهاد في التراث العربي. ورغم أنه وُلد كفيفاً، إلا أن ذلك لم يمنعه من أن يصبح بارعاً موهوباً في الشعر، وقاسياً في هجاء خصومه. ويبدو أن الاتهام بالزندقة من قبل خصوم متشددين أسرف في هجائهم كانت مجرد حجة لاسكات صوته، والتقت مع رغبة السلطة في الانتقام منه نتيجة هجائه للخليفة المهدي. وأعتقد أنهما السببان الاساسيان لقتله في عصر لم يعرف غير استلال السيوف وقطع رقاب المخالفين.

أعتقد أنه قد حيك حول بشار الكثير من الاساطير والاتهامات التي يسهل قبولها في الذهن الشعبي دون تمحيص بدوافع الكره لأصله الفارسي. كما ساهم كونه مسيحياً في تقبل فكرة أن من كانوا يحاربون بشار كانوا يظنون أنه هز صورة الاسلام وأشاع البلبلة، فلا بد من القمع والتطرف الديني لمن تسول نفسه التفلسف.

كان بشار متبرماً غاضباً متشائماً من حياته، وكان موقفه الوجودي وشعوره بالضيق واللوعة سبباً آخر لاحساسه بالمرارة التي تعبر عن ذاتها في كثير من الاحيان بالهجاء. لكنه كان صاحب ذائقة رفيعة ونفس تعرف معاني الحب في غزلياته الجميلة. مات وهو يئن والدم يسيل من جسمه تحت عذاب السوط! وقيل أن جسمه رُمي بعد الضرب بالسوط في سفينة الى أن مات. فهل تغيرت الامور كثيرا؟ أم أن الذهن الشعبي ما يزال لا يؤمن بامكانية قبول المناوئين من دون أن يمارس العنف ضدهم؟

نشرت في مجلة جسد اللبنانية ، العدد الثامن، خريف-شتاء 2011

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق