الاثنين، فبراير 4

قلادة فريدة

قـلادة فريـدة
اياد نصار
انه فارس الشعر حين يذكر الشعراء، وحكميهم حين تذكر التجربة الانسانية التي تصقل الانسان وتجعل منه حكيما. كان وما زال مالىء الدنيا وشاغل الناس. لم يعرف التاريخ العربي شاعرا في حكمته وفهمه لدواخل النفس البشرية التي صاغها اشعارا صارت حديث الالسن وجرت مجرى الامثال. ولم يترك شاردة أو واردة في معرض الحكم التي تمثل قمة النضج الانساني والفهم العميق لنوازع الخير والشر وكل الهموم والالام والامال التي تصيب الانسان الا وأوردها في شعره. وأكثر ما يثير الاعجاب اعتداده بنفسه وشموخه وكبريائه، وحتى وهو في قمة غضبه فهو في قمة عطائه وتألقه ، ولم تزده محاولات حساده الا أنفة أمام من يكيدون له. كانت مطامحه وقوة عبارته وذكائه وقدرته على تأليف الشعر لا تقنع بما دون النجوم. في هذه القصيدة التي تعد من أبدع وأجمل ما قال أبو الطيب المتنبي شعرا، وتظل دائما من أروع ما كتبه الشعراء العرب قديما، فقد وضع المتنبي فيها كل فنه في اللغة والخيال وكل ضروب الشعر وانتقل فيها بشكل مؤثر من موضوع لاخر ما بين الذاتي والعام وما بين الاحساس بالظلم والجفاء وبين الاحساس بالعبقرية التي لا يهدأ لها بال. اكتسبت أغلب أبيات هذه القصيدة شهرة ذائعة لجمالها وبراعتها.

اخترت هذه القلادة الفريدة من نظم ابي الطيب المتنبي للتذوق والتأمل:

وَاحَرّ قَلْباهُ ممّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ
وَمَنْ بجِسْمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ

ما لي أُكَتِّمُ حُبّاً قَدْ بَرَى جَسَدي
وَتَدّعي حُبّ سَيفِ الدّوْلةِ الأُمَمُ
إنْ كَانَ يَجْمَعُنَا حُبٌّ لِغُرّتِهِ
فَلَيْتَ أنّا بِقَدْرِ الحُبّ نَقْتَسِمُ

قد زُرْتُهُ وَسُيُوفُ الهِنْدِ مُغْمَدَةٌ
وَقد نَظَرْتُ إلَيْهِ وَالسّيُوفُ دَمُ

فكانَ أحْسَنَ خَلقِ الله كُلّهِمِ
وَكانَ أحسنَ ما في الأحسَنِ الشّيَمُ

فَوْتُ العَدُوّ الذي يَمّمْتَهُ ظَفَرٌ
في طَيّهِ أسَفٌ في طَيّهِ نِعَمُ

قد نابَ عنكَ شديدُ الخوْفِ وَاصْطنعتْ
لَكَ المَهابَةُ ما لا تَصْنَعُ البُهَمُ

ألزَمْتَ نَفْسَكَ شَيْئاً لَيسَ يَلزَمُها
أنْ لا يُوارِيَهُمْ أرْضٌ وَلا عَلَمُ

أكُلّمَا رُمْتَ جَيْشاً فانْثَنَى هَرَباً
تَصَرّفَتْ بِكَ في آثَارِهِ الهِمَمُ

عَلَيْكَ هَزْمُهُمُ في كلّ مُعْتَرَكٍ
وَمَا عَلَيْكَ بهِمْ عارٌ إذا انهَزَمُوا

أمَا تَرَى ظَفَراً حُلْواً سِوَى ظَفَرٍ
تَصافَحَتْ فيهِ بِيضُ الهِنْدِ وَاللِّممُ

يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي
فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ

أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً
أن تحسَبَ الشّحمَ فيمن شحمهُ وَرَمُ

وَمَا انْتِفَاعُ أخي الدّنْيَا بِنَاظِرِهِ
إذا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الأنْوارُ وَالظُّلَمُ

سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا
بأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ

أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي
وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ

أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا
وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ

وَجاهِلٍ مَدّهُ في جَهْلِهِ ضَحِكي
حَتى أتَتْه يَدٌ فَرّاسَةٌ وَفَمُ

إذا رَأيْتَ نُيُوبَ اللّيْثِ بارِزَةً
فَلا تَظُنّنّ أنّ اللّيْثَ يَبْتَسِمُ

وَمُهْجَةٍ مُهْجَتي من هَمّ صَاحِبها
أدرَكْتُهَا بجَوَادٍ ظَهْرُه حَرَمُ

رِجلاهُ في الرّكضِ رِجلٌ وَاليدانِ يَدٌ
وَفِعْلُهُ مَا تُريدُ الكَفُّ وَالقَدَمُ

وَمُرْهَفٍ سرْتُ بينَ الجَحْفَلَينِ بهِ
حتى ضرَبْتُ وَمَوْجُ المَوْتِ يَلْتَطِمُ


الخَيْلُ وَاللّيْلُ وَالبَيْداءُ تَعرِفُني
وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَمُ

صَحِبْتُ في الفَلَواتِ الوَحشَ منفَرِداً
حتى تَعَجّبَ مني القُورُ وَالأكَمُ

يَا مَنْ يَعِزّ عَلَيْنَا أنْ نُفَارِقَهُمْ
وِجدانُنا كُلَّ شيءٍ بَعدَكمْ عَدَمُ

مَا كانَ أخلَقَنَا مِنكُمْ بتَكرِمَةٍ
لَوْ أنّ أمْرَكُمُ مِن أمرِنَا أمَمُ

إنْ كانَ سَرّكُمُ ما قالَ حاسِدُنَا
فَمَا لجُرْحٍ إذا أرْضاكُمُ ألَمُ

وَبَيْنَنَا لَوْ رَعَيْتُمْ ذاكَ مَعرِفَةٌ
إنّ المَعارِفَ في أهْلِ النُّهَى ذِمَمُ

كم تَطْلُبُونَ لَنَا عَيْباً فيُعجِزُكمْ
وَيَكْرَهُ الله ما تَأتُونَ وَالكَرَمُ

ما أبعدَ العَيبَ والنّقصانَ منْ شرَفي
أنَا الثّرَيّا وَذانِ الشّيبُ وَالهَرَمُ

لَيْتَ الغَمَامَ الذي عندي صَواعِقُهُ
يُزيلُهُنّ إلى مَنْ عِنْدَهُ الدِّيَمُ

أرَى النّوَى يَقتَضيني كلَّ مَرْحَلَةٍ
لا تَسْتَقِلّ بها الوَخّادَةُ الرُّسُمُ

لَئِنْ تَرَكْنَ ضُمَيراً عَنْ مَيامِنِنا
لَيَحْدُثَنّ لمَنْ وَدّعْتُهُمْ نَدَمُ

إذا تَرَحّلْتَ عن قَوْمٍ وَقَد قَدَرُوا
أنْ لا تُفارِقَهُمْ فالرّاحِلونَ هُمُ

شَرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بِهِ
وَشَرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ

وَشَرُّ ما قَنّصَتْهُ رَاحَتي قَنَصٌ
شُهْبُ البُزاةِ سَواءٌ فيهِ والرَّخَمُ

بأيّ لَفْظٍ تَقُولُ الشّعْرَ زِعْنِفَةٌ
تَجُوزُ عِندَكَ لا عُرْبٌ وَلا عَجَمُ

هَذا عِتابُكَ إلاّ أنّهُ مِقَةٌ
قد ضُمّنَ الدُّرَّ إلاّ أنّهُ كَلِمُ

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق