الاثنين، سبتمبر 11

الزلزال في الادب العربي الحديث

 

على هامش الزلزال الذي وقع في المغرب بتاريخ 9/9/2023

 

الزلزال في الادب العربي الحديث



بقلم اياد نصار

بالرغم من هول الفجائع التي يعاني منها الانسان جراء الزلزال حينما يضرب على حين غرة ، وبالرغم من صور الموت المأساوية التي تتكرر تحت أنقاض وبقايا المباني التي انهارت فوق ساكنيها ، أو تحت كتل الحجر الضخمة التي تحبس أنفاس من بقي منهم على قيد الحياة تحتها يئن في انتظار مرير لعل أحدا يسمع استغاثته الخفيضة فيهب لانقاذه ، وبالرغم من المعاناة التي تأسر العالم حينما تبدأ صور الضحايا وآلام الكارثة وأوجاع الموت والرحيل والتشرد تتبدى للعيان ثم لا تلبث أعداد القتلى والمصابين تتصاعد في ازدياد مخيف، بالرغم من هذا كله، إلا أن الزلزال كظاهرة تراجيدية قاسية رافقت الانسان منذ فجر التاريخ والعمران البشري لا يحظى بانتشار واسع في الادب العربي سواء في الشعر أو الرواية أو المسرح، فقليلة هي الاعمال التي تتناول الزلزال كموضوع رئيسي في العمل الادبي.

 

لا بد من التأكيد أن هناك روايات أو أعمال أدبية معاصرة تتناول تأثير الزلزال على حياة الانسان في الوطن العربي ، إنما قليلة للغاية وليست بحجم الكارثة التي ما تلبث أن تنمحي من ذاكرة الناس حتى تطل برأسها البشع مرة أخرى. لا بل إن هناك اشعاراً ونصوصأ في كتب متفرقة من التراث حول الزلازل.

 

والغريب أنه بالرغم من آثاره الانسانية والاجتماعية والاقتصادية  الفظيعة ، إلا أنه لا يحضر كثيرا في الادب. لربما مرد ذلك أنه ظاهرة قليلة الحدوث. ولربما يعود ذلك الى غياب وسائل نقل المعرفة السريعة ومحدودية انتشار الاخبار وخاصة في الزمن القديم، ففي أماكن كثيرة من العالم يؤرخ الناس أحيانا بزلزال حدث هنا او هناك قبل مئات او عشرات السنين.

 

وقد حاولت في هذا البحث الاشارة الى بعض الاعمال الادبية في الادب العربي وخاصة المعاصر التي تناولت الزلزال كظاهرة طبيعية كارثية  على اعتبار أنه حدث رئيس في الحبكة يخلف الكثير من الاثار والتغيرات في حياة الشخوص بل وفي المجتمع ككل ، فلم أجد لا القليل. هناك أدباء كتبوا عن زلازل من نوع آخر ، كالزلزال الذي اصاب الوطن العربي بعد الربيع العربي ، أو كتبوا عن زلزال الشعر الحر في العصر الحديث ، او كتبوا عن زلازل مجازية كزلزال القلب عند العشق أو زلازل مجازية أخرى كالثورة الصناعية او زلزال المنطقة العربية بعد نكبة فلسطين او بعد نكسة حزيران. إن معظم الاعمال الادبية العربية المعاصرة التي تناولت الزلزال هي من هذا النوع المجازي الذي يجسد انهيارا معنويا أو تغييرا جذريا كأنما يطيح بالبنى القائمة في المجتمع أو يحدث إنكسارا نفسياً أو صدمة فكرية.

 

لعل اول ما يرد الى الذهن عند الحديث عن الزلزال في الرواية هي رواية الروائي الجزائري الكبير الراحل الطاهر وطار "الزلزال" وقد نشرها عام 1974 بعد أقل من عقد على استقلال الجزائر ، وطرح فيها الزلزال الذي أصاب القيم والمفاهيم التقليدية المتوارثة والتي بدأ زلزال التغيير بعد الاستقلال يطيح بها فلم تعد قادرة على البقاء. تجري أحداث الرواية في مدينة قسنطينة الجزائرية المعروفة في الشرق الجزائري بمدينة الجسور لوقوعها على طرفي شاهق صخري أقيمت فوقه جسور المدينة الشهيرة. بطل الرواية إذا صح لنا أن نقول عنه بطل. شيخ يدعى "بو لرواح" الذي يمتلك مساحات شاسعة من الاراضي الفلاحية في سهول المدينة ، وقد سمع أن الحكومة بصدد سن قانون يسمح بالاستيلاء على الاراضي الزراعية وإعادة توزيعها على المزارعين والفلاحين ، فعاد الى قسنطينة رغم أنه وحيد ليس له أبناء يرثونه، إلا أنه أخذ يبحث عن أقارب له لعله يسجل الاراضي باسمائهم في إجراء شكلي يستطيع به أن يحتال على القانون ويكون بإمكانه استرداد الارض. ويرى بو الارواح أن هولاء الفقراء الذين تركوا الارياف بعد الاستقلال ونزحوا الى المدن ليسوا سوى أفاقين، ويتحسر في الرواية على التغيير الذي اصاب وجه المدينة وحال سكانها من الباشوات والاعيان بعد الاستقلال مقارنة بما كانت عليه خلال الاستعمار ويعتبر ذلك هو الزلزال الحقيقي الذي اصاب البلاد. وهو لا يتقبل فكرة الاشتراكية التي تبنتها الدولة بعد الاستقلال فـبالنسبة له المدينة تغيّرت كما لو أنّ زلزالا هزّها وجعل عاليها سافلها .

يردد بو الارواح باستمرار كلما شاهد ظاهرة استغربها "إنّ زلزلة الساعة شيء عظيم..." ويتمنى لو أن زلزالا يطيح بهولاء الفقراء الذي يطمعون بالاستيلاء على أراضيه وأمواله، و يسمّيهم بالأفاقين فتقوم قيامتهم فلا يبقى فيها إلا أمثاله من الأعيان والاغنياء ، "يا سيدي راشد ... اقض على الحكومة و على الفقــراء و العمــال و الطلبة و النقابيين ، أعد بعث أمة جديدة ، ليس فيها سوى نحن ، السادة و الأشراف".

وكتب الاديب الاسلامي في مصر مصطفى محمود مسرحية بعنوان  "الزلزال" ونشرها عام 1963 عندما صدر قرار من الرئيس عبد الناصر بإيقاف مصطفى محمود عن الكتابة في الصحافة. تعبر الشخصيات في أحاديثها الساخرة عن التغير القاتم الذي تحولت معه الاحلام الى أوهام والحقائق الى كوابيس.

يقول أحد شخوص المسرحية: "مفيش حد عارف الحقيقة .. يبقى أعيش في الوهم أحسن .. حتى الوهم مش لاقيه .. مفيش حد بيهنينى عليه .. كل ما أخلق لنفسي وهم ألاقي اللي يصحيني منه و يقول لى اصحى .. اصحى .. أنت موهوم .. و أنت مالك يا أخي .. ما تسيبني في حالي .. لا ازاي .. إصحي .. إصحي .. أنت موهوم .. طيب فين الحقيقة .. مفيش حقيقة .. أنا تعبت .. عاوز أنام .. عاوز أحلم .. أحلم .. حلم طويل ما أصحاش منه."

كما أصدر الروائي المصري احمد السعيد مراد  رواية "الزلزال" وبطلها شاب مصري يتيم فقير هو خالد علوان كان يبيع الفاكهة في شوارع العريش ليؤمن قوت امه وإخوته الاربعة ، ووجد نفسه في خضم حرب مخابراتية عاتية بين عدة أجهزة تستهدف الجماعات المسلحة في غزة.

كل هذه النماذج وغيرها تتناول مفهوم الزلزال بمعناه التراجيدي المجازي في كناية عن زلزال أصاب واقع المجتمع وقيمه ما يقطع الصلة بين الماضي والحاضر وينبي بحجم الخراب الذي حل بيننا نتيجة انهيار القيم.

ومن النماذج القليلة التي تناولت الزلزال بمفهومه الحقيقي، الرواية التي أصدرها الروائي القطري أحمد جعفر عبد الملك. وحتى عندما تناولت روايته كارثة زلزال تركيا الاخير، لم يكتف بذلك بل بدأ الرواية بزلزال مجازي من نوع آخر وهو السرطان الذي دمر حياة البطل وزوجته. اصدر عبد الملك روايته "زلزال حنان"  هذا العام 2023 . وتتناول الرواية الزلزال الذي اصاب حياة مراقب المطبوعات بعد أن أصيبت زوجته بالسرطان وتوفيت به، ثم يأتي الزلزال الثاني في حياته  حينما وقع زلزال تركيا فدمر حياته تماما حيث فقد ابنه وابنته وسائقه ودخل هو في حالة غيبوبة دائمة.

أما الرواية التي تناولت الزلزال الحقيقي كحدث مفاجيء مأساوي بأجوائه الدراماتيكية وأبرزت ما ترك في نفس البطل من تداعيات مختلطة من الافكار والذكريات ومشاعر الخوف والقلق والترقب فهي رواية "رائحة الكلب" للروائي الجزائري جيلالي خلاْص. يجسد الراوي في مفتتح الرواية الاحساس الذي ألم بالبطل الذي استفاق على هزة الزلزال: "أحس في لوعة بقوة غريبة ترفع جسده عاليا ثم تهوي به بلا هوادة ، لكن بدل أن تطوح به في المتاهة المرعبة التي اقتلع قلبه ظلامها الدامس ، دوحت به إلى أن أيقظته فجأة مرتاعاً ".

تضع الرواية القاريء في أجواء القلق والخوف منذ البداية حيث تنهار البناية وينحبس البطل تحت الأنقاض، وعندها يبدأ تيار الذكريات والوعي بالواقع، ولهذا الامر قيمة رمزية عالية، فقد استفاق البطل من الحلم والدفء في عز الليل على واقعة الزلزال، كأنما هي لحظة الشعور باليقظة وضياع الحلم أو الوهم القصير. وهو حبيس الانقاض والظلام موزع الافكار، يباغته السؤال الاهم: ماذا بعد؟ كأنما في ذلك اسقاط على الوضع العام في الجزائر:"لا شيء يمكن رؤيته، لا بصيص نور يتسرب ولو من ثقبة صغيرة في مكان ما، من فوق، من تحت، يسارا أو يمينا عند الظهر أو إلى الأمام، ولا أمل في التحرك فيداه لا تتلمسان إلا جدرانا خراسانية صلبة تحيط به، وتأسره وتقف سدودا منيعة في جميع الجهات الحصار، السجن، الظلام، وهذا الضيق المسيطر عليه فعلا لا في الموضع فحسب وإنّما حتى في الأعماق ثم ماذا بعد ؟"

 

*لوحة ما بعد الزلزال للرسامة الانجليزية الفرنسية صوفي أندرسون (1823- 1903)


الجمعة، يونيو 16

يالو .. هاجس الحرب والمكان والبحث عن الوطن الضائع

 



يالو .. هاجس الحرب والمكان والبحث عن الوطن الضائع

قراءة في رواية (يالو) للروائي اللبناني الياس خوري


بقلم اياد نصار


"أنا لا أكتب من أجلي، بل من أجله وأجل أمه. أريد أن يعود إلي من أجل أمه المسكينة، وعلينا أن نجد لها حلاً لأنها سوف تكون بطلة القصة. أنا لا أحب القصص التي يكون أبطالها رجالاً. بطلة قصتي سوف تكون غابي، بكونيتها وشعرها الطويل الذي يتذهب أمام البحر وعشيقها الخيّاط، ووالدها الكوهنو، وابنها الذي ضيع حياته... سنة كاملة لم أكتب خلالها سوى صفحة... أريد نهاية سعيدة للقصة... أريد نهاية أخرى، أحاول أن أتخيل النهاية المختلفة، لكن خيالي لا يساعدني. أنا لا أملك خيالاً كافياً كي أجد نهاية لغابي تليق بقصة حبها. وإذا لم أجد نهاية القصة فكيف أكتب"..

 

قد يكون هذا الاقتباس أجمل نص في رواية يالو فهو يلخص مأساة بطل الحكاية ومعاناة شخصياتها والنهايات البائسة الحزينة التي تتشابك وتتقاطع مع الماضي والحاضر.. إنها رواية الحرب التي قلبت كل القيم الانسانية وجاءت بالخراب بكل بشاعته. لفت انتباهي عنوان رواية (يالو) للروائي اللبناني المعروف الياس خوري وانتابني فضول كبير لأن يالو تعني لي الكثير غير ما تعنيه الى الياس خوري،  ولأن اسم يالو يختصر تاريخ شعب كامل من المعاناة والنضال ويرمز بالنسبة لي الى أرض الميعاد الفلسطينية التي ترتبط في الذاكرة بالطفولة والجمال والعراقة والحنين والتشرد وارتباط الانسان بالارض المفقودة والتعبير عن الهوية. واذا كانت يالو الفلسطينية تعكس المفارقة بين حطام الارض المسلوبة، والحجارة المهدمة، والانسان الذي يتعلق بذكريات المكان كتعويض عن المكان، حتى صارت هي الوطن الذي يحمله في قلبه مثلما يحمله في حقائب سفره ، فإن يالو اللبنانية هي رواية الحرب بكل آثامها وصورها البشعة وممارساتها اللاأخلاقية وهي التعبير عن كل فظائع الحرب الاهلية وامتهان كرامة الانسان حيث تنجب الحرب مجرميها الصغار والكبار معاً.

 

وفي البدء لا بد من الاشارة الى أن روايات الياس خوري العديدة قد فرضت لها حضوراً بارزاً، ليس في المشهد الروائي العربي، ولكن على الساحة العالمية، حيث ترجمت رواياته الى العديد من اللغات، وكتبت عنها كبريات الصحف في العالم. غير أنه يجدر بالذكر أن خوري قد أفرد الكثير من أعماله للحديث عن الانسان الفلسطيني، وعن المعاناة الفلسطينية، التي تمثلت في النكبة وحياة المنافي والمخيمات البائسة التي شوهت العلاقات الانسانية، ومن أشهر رواياته، وربما الاشهر على الاطلاق، التي تناولت جوانب عدة من معاناة النكبة الفسطينية هي "باب الشمس" التي أصدرها عام 1998، وكذلك ثلاثية "أولاد الغيتو" التي بدأها عام 2016 ، وهي أولاد الغيتو -آدم، وأولاد الغيتو – نجمة البحر وبشكل خاص الجزء الثالث المسمى "رجل يشبهني".

 

بين يالو الرواية اللبنانية وبين يالو القرية الفلسطينية الكثير من صور الحرب، والضياع، والتشرد، والعذاب، وقدرة الانسان على ارتكاب الشر ضد الانسان، وفظائع الانسان في الاستيلاء على حق الاخرين في الحياة والكرامة، والاستلاب، وهاجس المكان المرتبط بواقع المعاناة والمأساة، ولكن بينهما خيط رفيع لا يكاد يبين من الحنين الى الزمن الماضي، والامل في العودة الى الوطن الضائع، الذي لا تخبو جذوته في أعماق النفس، والذي استحال الى ذكريات لذيذة توجع القلب.

 

تجري أحداث رواية يالو في عام 1993، وتنقل صورة وطن ورث حربا طويلة دامية مؤلمة، فانتشر الخراب في كل مناحي الحياة، وجاءت الرواية مثقلة بمشاهد العنف، والخطايا، والاستغلال، والكراهية، والسرقة، والتعذيب.

 

تدور أحداث الرواية خلال الحرب اللبنانية في الفترة ما بين نهاية السبعينات وأوائل التسعينات، في بيروت، وفي باريس، وفي ضيعة بلونة، في جبل لبنان، ثم في غرفة التحقيق والسجن. بطلها شاب سرياني الاصل يدعى يالو أو دانيال وهو وحيد أمه التي تدعي غابي، ولم ير أباه الذي هاجر الى السويد وهو لم يزل في بطن أمه. جده كردي يسمى غبريال هابيل ابيض. وتوظيف الاسم هابيل والاسم أبيض كجزء من اسم يالو يرمز الى براءة ونقاء الاصل والجذور، فهابيل ضحية شرور قابيل، وهي الصورة الاولى في التاريخ لتحولات الشعور بين الاخوة من الخير الى الشر والحقد، وهي ذات الصورة التي تجسدها الرواية لتحولات الشعور بين أبناء الوطن الواحد الذين فرقتهم الحرب.

 

كان يالو خطاطا موهوبا ينم عن الكثير من تباشير الامل والفن، غير أن كل هذه الجوانب الانسانية قد اختفت منذ وقت مبكر بعد أن شارك في الحرب الاهلية بالتحاقه بميليشا القوات اللبنانية في عام 1979. وبعد عشر سنوات يقرر يالو الانسحاب من الحرب لأنه كما يقول "زهقت منها، كنت في البداية مثل جميع الشباب، أريد أن أدافع عن لبنان، وبعد ذلك اكتشفت أنني أحارب فقراء مثلي وأنني سوف أبقى غريبًا مهما فعلت. لأن الإنسان غريب في هذا العالم." لعل هذا يذكرنا ببطل قصيدة شادي التي غنتها السيدة فيروز، فشادي الذي عرف وعاش اللعب واللهو البريء على الثلج اختطفته الحرب. وعند التأمل في الكلمات نكتشف أن شادي هو لبنان الجميل البريء قبل الحرب الاهلية:


ناس ضد ناس علقوا بهالدني
وصار القتال يقرب على التلال
والدني دني

وعلقت على اطراف الوادي
شادي ركض يتفرج
خفت وصرت انده له
وينك رايح يا شادي
انده له وما يسمعني
ويبعد يبعد بالوادي
ومن يومتها ما عدت شفته
ضاع شادي

 

يهرب يالو وصديقه أنطوان الى باريس، بعد أن سرقا أموال الثكنة التي خدما بها، وبعد أن أيقنا أن الحرب ليست حربهما! وباريس هي رمز الحرية، واكتشاف الذات، والبحث عن أعماق الذات الانسانية العامرة بالفنون والانشغالات الحضارية، ولكنها تصبح بالنسبة لهما أرض الافلاس المالي والاخلاقي، والضياع، والتشرد. وتبقى أخلاق الحرب التي دمرت النفوس، وجعلتها خواء حاضرة فيهما، فيسرق طوني صديقه يالو، ويختفي عن الانظار، ويتركه ليعيش مشرداً جائعاً يكاد يموت من البرد في شتاء باريس، فيقيم في محطة المترو في حي مونتنبراس.

 

وفي باريس يتعرف عليه وينقذه من التشرد المحامي وتاجر السلاح اللبناني ميشال سلوم او الخواجة ميشال، الذي يعرف جده الكوهنو أفرام أبيض، فيعطف عليه، ويعيده معه الى لبنان، ويعينه حارساً على بيته في ضيعة بلّونة، القرية الجبلية التي تقع في وسط حرش من شجر الصنوبر. فيقم علاقة جنسية مع زوجته مدام رندة. وفي حرش بلونة، يشاهد يالو صورا كثيرة على تفكك العلاقات الاجتماعية في لبنان، حيث يصبح الحرش ملاذاً لكل الـمحبين والباحثين عن إقامة علاقات جنسية محرمة. وصار كل يوم يرى صور الممارسات الجنسية السرية، التي تجري في السيارات في الحرش. وتتبدل شخصية يالو من مجرد المراقبة إلى استراق النظر، إلى ممارسة الابتزاز والاستحواذ على النساء في تلك السيارات بقوة السلاح. وتظهر أخلاق الحرب مرة أخرى في تصرفات الرجال العاشقين في السيارات، الذين يقدمون النساء المرافقات معهم ليالو نظير أن يتركهم وحال سبيلهم. وصار هو يمارس الجنس مع تلك النسوة.

ولكن يالو وقع في حب واحدة منهن اسمها شيرين ، واستمرت العلاقة عدة اشهر، كان يأخذها فيها الى أرقى المطاعم والكافيهات، حيث ينفق الكثير من الاموال عليها، غير أن شيرين كانت خلال هذه الفترة تعيش تحت وطأة صراع داخلي بين الحب وبين الخوف من يالو لتصرفاته العدوانية الشريرة. إلى أن قررت أن تشتكي عليه للشرطة بتهمة السرقة والاغتصاب. وهنا تأخذ الرواية منحنى آخر فيصبح الجلاد ضحية التعذيب الجسدي والنفسي الذي يخضع للتحقيق والاستجواب بشكل متواصل بدا له أنه بلا نهاية، مما يجعله يفقد صوابه مستعدا لأي اعتراف يريده المحقق كي يخرج من السجن.

 

يعيش البطل حالة من الاغتراب النفسي بعد تجربة الحرب والقتل العبثي، فيلجأ الى الانتقام كرد على فقدان العدالة والاحساس بعدائية المكان، ومن المفارقة انه تنقل بين لبنان وفرنسا ولكنه أحس في كل مرة أن المكان غريب عنه كأنما هو في عزلة سجن كبير، قبل ان ينتقل الى السجن الصغير، ويظل طيلة الرواية يعاني من هواجس المكان كأنما تمثل رحلته البحث بلا طائل عن الاستقرار النفسي أو "الوطن المفقود".

 

ولكن قضيته لدى الشرطة أصبحت أخطر وأشد. فلم تعد المسألة ابتزاز النساء والاغتصاب والاعتداء الجسدي، ولكن جريمة أمنية سياسية إذ يتهم بأنه عضو في خلية متفجرات اسرائيلية تعمل في لبنان. وفي السجن يقاسي كل انواع التعذيب لكي يعترف. ويجبر على كتابة اعترافاته، عدة مرات حتى تتماشى مع رغبة الـمحقق، حتى كاد ينفجر من تكرار الطلب. ففي كل مرة يتحدث عن علاقاته الجنسية والسرقات البسيطة التي كان يقوم بها، ويكشف اسماء النساء اللاتي مارس معهن. وكان لا يصدق كيف أنه يقبع في السجن  لقاء جرائم سرقة تافهة ومن يسرقون البلد خارجه، ولكنه لـم يعترف بتهمة الانضمام إلى الخلية الاسرائيلية إلا بعد أن أخضع لعقوبات غاية في القسوة. وهكذا انتزع منه اعتراف تحت التعذيب.

وفي النهاية، قرر أن يعترف أمام المحقق ليتخلص من شدة العذاب والمعاناة، "أؤكد لك يا سيدي القاضي أنني صرت إنسانًا آخر. أعرف قصتي لأنني كتبتها، وسوف أكتبها من جديد إذا أردتم". وهنا تحدث الصاعقة الكبرى، حينما يرفض الـمحقق اعترافاته، ويعتبرها سخيفة ولا داعي لها لأن أجهزة الأمن ألقت القبض على اعضاء الخلية. ينهار يالو معنوياً وجسدياً. ويُترك قابعا منسياً في السجن على جريمة السرقة واغتصاب النساء!

 

تتحرك كل شخوص الرواية في فضاءات سوداوية تمثل صور الحرب المختلفة: القتل، السرقة، الاغتصاب، العزلة، تعاطي الـمخدرات، التعذيب بطرق وحشية، الاعتداء الجنسي، الحب الكاذب، العلاقات غير الشرعية، الهروب، والاغتراب عن المجتمع. يقول الراوي "حكاية يالو يا سيدي، اسمها الحرب".

 

يالو الفلسطينية هي اسم ورمز وتجسيد لمأساة الحرب.. إنها ضحية الحرب. ويالو اللبنانية هو اسم ورمز وتجسيد للجاني الذي تحوله الحرب الى مجرم صغير يستبيح كل شيء، لأنه يرى الكبار يستبيحون الوطن ويسرقونه من غير أن يراهم خلف قضبان السجن. وهكذا يصبح الجلاد ضحية في الوقت ذاته. رواية الياس خوري هي الوثيقة الانسانية على إدانة كل صور الحرب السوداء التي ينبعث من بين ركامها آهات العذاب والام الضحايا التي لا تجد من يخفف عنها او يمنحها أملا مثلما تصبح النهاية العبثية للضحية والمجرم معاً، فلا خلاص لهما فقد أفسدت الحرب كل القيم النبيلة.

الثلاثاء، مايو 9

أشهر مترجمي الرواية العربية المعاصرة


أشهر مترجمي الرواية العربية المعاصرة
اياد نصار

* نشرت في جريدة الرأي الأردنية بتاريخ 29/4/2011

ثمة طفرة واسعة في ترجمة الأعمال الأدبية العربية، غير أن الرواية تستأثر بنصيب الأسد في هذا المجال. وعلى سبيل الدلالة، ترجمت أعمال نجيب محفوظ إلى أكثر من ثماني وعشرين لغة وصدرت بأكثر من أربعمائة طبعة. وربما كان العامل الأهم في ازدهار الرواية العربية هو اتساع حركة الترجمة التي كانت المفتاح إلى بروز مشاريع الجوائز والتفرغ الإبداعي والدعم الأكاديمي الجامعي ودعم النشر.


وثمة أسئلة تثار هنا، حول المعيار الذي يجعل من رواية عربية ما مرشحة للترجمة إلى لغة أجنبية؟ وهل هو معيار أدبي صرف؟ أم شهرة الرواية في بيئتها؟ ومن صاحب القرار في الاختيار؟ يشير المترجم ريموند ستوك إلى أن "هناك القليل حالياً من السرد الروائي العربي العظيم الذي لم تتح له الترجمة أو الانتشار". وفي ظل هذه الكثرة من مترجمي الأدب العربي الحديث، وأمام شهية البحث عن أعمال للترجمة، فإن هناك فرصة أمام الروائيين، خصوصا في الأردن، لاختراق الحدود، وانتشار ترجمة رواياتهم عالميا، ويتطلب الأمر إقامة صلات مع المترجمين. إن إقامة بعضهم في بلدان عربية، حفزتهم لترجمة أعمال من تلك البلدان، مثلما هي حال أنطوني كالدربانك الذي يقيم في السعودية. وهي دعوة للجامعة الأردنية، وبالتنسيق مع رابطة الكتاب الأردنيين، إلى التعاقد مع مترجمين للإقامة في الأردن والعمل في الجامعة ضمن مشروع لترجمة الأدب الأردني بعد أن اقترح الروائي العربي بهاء طاهر إنشاء صندوق لهذه الغاية، وتبرع بقيمة جائزة ملتقى السرد العربي - دورة مؤنس الرزاز، لهذه الغاية.

تاليا تعريف بأشهر مترجمي الرواية العربية المعاصرة..

* أنطوني كالدربانك (Anthony Calderbank): درس العربية والفارسية في جامعة مانشستر، وعاش في القاهرة خلال الفترة 1982-1987 حيث عمل مدرساً. انتقل إلى جامعة سالفورد البريطانية ليدرّس اللغة العربية والترجمة، وعاد إلى القاهرة العام 1990 ليعمل في تدريس الإنجليزية والأدب المقارن بالجامعة الأميركية. يعمل في المجلس الثقافي البريطاني في الرياض بالسعودية منذ العام 2000.

بدأ في أوائل التسعينات بترجمة القصص القصيرة. وأخذ في الآونة الأخيرة يترجم قصصاً لمجلة "بانيبال" المتخصصة بنشر الأدب العربي الحديث في بريطانيا، حيث ترجم قصصاً للكاتب الفلسطيني علاء حليحل، وترجم للسعودي يوسف المحيميد مجموعة "لا مكان لعاشق في هذه المدينة". أما على صعيد الرواية، فقد ترجم "رادوبيس" لنجيب محفوظ و"الباذنجانة الزرقاء" و"الخيمة" و"نقرات الظباء" لميرال الطحاوي، و"ذات" لصنع الله إبراهيم، و"ذئاب الهلال" و"فخاخ الرائحة" ليوسف المحيميد، و"غزل القمر" للنوبي حجاج حسن أدول.

وعن مشاكل الترجمة، يرى أن لغة الطحاوي في "الخيمة" شعرية، ولها ارتباطات بشكل غير مباشر بالعربية الكلاسيكية. كما واجه مشكلة عند ترجمة "الباذنجانة الزرقاء"، هي أن البطلة، ورغم أنها تروي قصة حدثت قبل خمسة عقود، إلا أنها ترويها بصيغة المستقبل، والبطلة نفسها تبقى بلا اسم في الرواية. ويحتار في بعض الأحيان أي المفردات يستخدم من بين المترادفات، ما يضطره إلى محاورة الروائي واستطلاع مقاصده.

ويقول كالدربانك إن روايات صنع الله إبراهيم سهلة الترجمة، لأنها عن أناس من الطبقة المتوسطة في القاهرة التي عرفها من قرب، بينما وجد صعوبة في التعرف على المجتمع السعودي رغم قدرته على التحدث بالعربية بطلاقة. ولهذا وجد صعوبة في تقبل فكرة أن البطلة المثقفة في رواية "القارورة" لا تعرف ما مهنة زوجها الحقيقية.

في لقاء مع صحيفة "الأهرام الأسبوعي" العام 2000، ذكر كالدربانك أن طبيعة اللغة تجعل من الترجمة أحياناً مدعاة للإحباط، فهناك كلمات في النصوص العامية تمثل مشكلة في الترجمة كما في رواية "الخيمة" للطحاوي، لأن معناها يصبح مختلفاً عن المعنى المباشر في الفصيحة.

* كاثرين كوبهام (Catherine Cobham): تعد من أهم مترجمات الأدب العربي إلى الإنجليزية. تدرّس اللغة والأدب في قسم اللغة العربية بجامعة سانت أندروز بأسكوتلندا. ترجمت عددا كبيرا من أعمال كتاب عرب، مثل يوسف إدريس، ونجيب محفوظ، وفؤاد التكرلي، ومحمد زفزاف، وحنان الشيخ، وإدوار الخراط. وترجمت كتاب أدونيس "الشعرية العربية". كما نشرت مقالات نقدية حول الأعمال التي ترجمتها. تهتم كوبهام بدراسة تطور السرد في العراق من العشرينات إلى الثمانينات.

سئلت الروائية اللبنانية حنان الشيخ في العام 2009 في مقابلة حول ترجمة كتبها إلى الإنجليزية: هل تخشين أن يضيع أي شيء خلال الترجمة؟ وهل من الصعب أن تثقي بأحد وتسلميه كلماتك؟ فقالت إنها لا تقلق أبداً عندما تترجم قصصها إلى الإنجليزية لأنها تشارك في الترجمة، وأضافت أنها محظوظة بكاثرين كوبهام التي ترجمت معظم كتبها. وبرّرت ذلك لأن كوبهام نفسها تترجم مثل روائية، ولديها إحساس بالنص. ومن الأعمال التي ترجمتها: "الحرافيش" لنجيب محفوظ، و"حلقات النحاس الناعمة" ليوسف إدريس، و"مذكرات طبيبة" لنوال السعداوي، و"بوصلة من أجل عباد الشمس" لليانة بدر، و"الرجع البعيد" لفؤاد التكرلي، وروايات عدة لحنان الشيخ هي "أكنس الشمس عن الأسطحة"، و"نساء من الرمال والصبر"، و"أحزان بيروت"، و"إنها لندن يا عزيزي".

* كريستينا فيليبس (Christina Phillips): عاشت ودَرَست في الأردن ومصر. تحمل شهادة الدكتوراه في الأدب العربي الحديث، وتتابع أبحاثها حول السرد العربي الحديث والأدب المقارن في كلية الدراسات الشرقية والإفريقية في جامعة إكستر بإنجلترا حيث تحاضر. ترجمت رواية "حديث الصباح والمساء" لنجيب محفوظ. وفي مقالة نقدية حول رواية نجيب محفوظ "المرايا"، قالت: "إن محفوظ يعطي الرواية العربية المظهر الذي يوحي أنها تستمد جذورها من التراث العربي، متحدياً النظرة السائدة التي تقول إن جذور الرواية العربية تعود إلى الأدب الأوروبي، وهي جانب من تأثير الغرب في الثقافة والفن العربيين".

ومن ترجماتها الأخرى "عراقي في باريس" لصمويل شمعون، بالاشتراك مع آخرين، و"صالون التجميل للبجع" لحنان الشيخ، و"مثل صيف لن يتكرر" لمحمد برادة "، و"شاربا مردخاي وقطط زوجته وقصص أخرى" لمحمود شقير، بالاشتراك مع آخرين.

* دينيس جونسون ديفيز (Denys Johnson-Davies): يعد المترجم الأشهر من العربية إلى الإنجليزية، والأطول خدمة للأدب العربي، حيث أمضى ما يزيد على ستة عقود وهو يمارس الترجمة، ولذلك يطلق عليه "شيخ المترجمين الأجانب". وأطلق عليه إدوارد سعيد لقب "المترجم الأبرز لزماننا". بدأ دينيس، مشواره مع الأدب العربي بترجمة مجموعة قصصية لمحمود تيمور العام 1946. ترجم ما يزيد على ثلاثين رواية لنجيب محفوظ والطيب صالح وتوفيق الحكيم ويحيى حقي وزكريا تامر وسلوى بكر ومحمد البساطي وغيرهم. وترجم أيضاً مجموعات شعرية، وأصدر كتباً تضم قصصاً للأطفال تستند إلى التراث العربي.

درس دينيس، إنجليزي الأصل، المولود في فانكوفر بكندا العام 1922، اللغات الشرقية في جامعة كامبردج العام 1938. ومن طريف الأمور أنه نجح بالمركز الأول في الفارسية، والثالث في العربية، ورسب في العبرية! وأثناء عمله في التدريس بجامعة القاهرة خلال الفترة 1945- 1949، تعرف إلى عدد من الكتاب المعروفين الذين ترجم لهم في ما بعد. وعندما انتقل إلى بيروت، تعرف إلى كتاب آخرين مثل توفيق الصايغ وغسان كنفاني وبدر شاكر السياب وبلند الحيدري ويوسف الخال، كما كان صديقاً مقرّباً من جبرا إبراهيم جبرا. لم يعتمد دينيس على الترجمات كمصدر يعتاش منه، بل عمل في وظائف عدة أخذته إلى دول مختلفة مثل إسبانيا وفرنسا ودبي وأبو ظبي ولبنان وقطر والمغرب، واستقر منذ منتصف السبعينات في القاهرة.

نال جائزة الشيخ زايد للكتاب عن شخصية العام الثقافية. وأصدر العام 2009 كتاباً يضم مختارات قصصية مترجمة لكتّاب من الإمارات تحت عنوان "في صحراء خصبة: كتابات حديثة من الإمارات العربية المتحدة".

كان دينيس من أوائل مترجمي نجيب محفوظ، وذلك في كتابه "قصص عربية معاصرة" الصادر عن جامعة أكسفورد، بوصف محفوظ النموذج الوحيد المتوفر آنذاك من الأدب العربي الحديث! وأشار إلى الصعوبات التي واجهها في نشر هذا الكتاب: "كانت السنة 1967، ولم تكن السنة المناسبة لتقديم كتاب عن القصة العربية، وقد رفضت العديد من دور النشر مراجعة الكتاب. كما زاد الأمر سوءاً أن أياً من الحكومات والمؤسسات العربية لم تشترِ ولو نسخة واحدة من الكتاب".

يجد دينيس نفسه في ترجمة القصص القصيرة أكثر من الروايات، ويميل إلى الأعمال المغرقة في المحلية سواء بلغتها أو بأجوائها، ولهذا يفضل ترجمة أعمال محمد البساطي، وسعيد الكفراوي، وغسان كنفاني. قدم دينيس عددا من الروائيات العربيات مثل لطيفة الزيات وليلى بعلبكي وحنان الشيخ وبثينة الناصري وعالية ممدوح.

* إليوت كولا (Elliott Colla): أستاذ مشارك في اللغة العربية والدراسات الإسلامية في جامعة جورجتاون الأميركية، وأستاذ زائر في جامعة القاهرة. عمل في تدريس الآداب العربية والإنجليزية الحديثة في دائرة الادب المقارن بجامعة براون، وأدار مركز دراسات الشرق الأوسط في الجامعة 2005-2006.

ترجم عدداً من الروايات من ضمنها "التبر" لإبراهيم الكوني عام 2008. وحل في المركز الثاني لجائزة الترجمة الأدبية المسماة "سيف غباش" التي تمنحها مجلة "بانيبال" للعام 2009 عن ترجمة "التبر". ومن ترجماته الأخرى: "تحت خط الفقر" مجموعة قصصية للروائي للنوبي إدريس علي، ورواية "مالك الحزين" لإبراهيم أصلان.

وتحت عنوان "ترويض مثقف"، كتب كولا مقالة بعد الثورة المصرية يذكر فيها أن جابر عصفور حوّل المجلس الاعلى للثقافة في مصر إلى خلية نحل وقاد الكثير من المشاريع، وفي عهده كان هناك طفرة في الترجمات، لكنه في الوقت الذي قام فيه بكل هذه المبادرات، بقي صامتاً أمام عدم التزام الدولة بتطبيق القانون، والتعدي على الحريات، واضطهاد المعارضين، وإنه "خلال رئاسته للمجلس الأعلى، صار اسم إدوارد سعيد على كل لسان، لكن ذلك لم يدفعه أن يقول الحقيقة للسلطة".

* همفري ديفيز (Humphrey Davies): من أشهر مترجمي الأدب العربي، ويعيش في القاهرة منذ خمسة وثلاثين عاماً. حصل على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية من جامعة كامبردج، وشهادة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا. لقيت ترجمته لرواية علاء الأسواني "عمارة يعقوبيان" العام 2004 نجاحاً منقطع النظير في بريطانيا والولايات المتحدة، ويؤكد أن العالم أخذ يهتم بالأدب العربي بشكل متزايد بعد الحادي عشر من أيلول 2001.

نال جائزة "بانيبال" العام 2006 عن ترجمته لرواية "باب الشمس" لإلياس خوري، وفاز بها مرة ثانية عن ترجمة رواية "يالو" للكاتب نفسه العام 2010. ومن ترجماته "واحة الغروب" لبهاء طاهر، و"نيران صديقة" لعلاء الأسواني، و"متون الأهرام" لجمال الغيطاني، و"سحر أسود" لحمدي الجزار، ومجموعة قصصية "حكايات من ديروط" لمحمد مستجاب.

ذكر ديفيز أن ترجمة "باب الشمس" استغرقته ثمانية أسابيع من العمل المتفرغ العام 2004 في الإسكندرية، وكان المؤلف في زيارة قصيرة للمدينة فأتيح لديفنز أن يمضي معه جلسة امتدت تسع ساعات للإجابة عم تساؤلاته. ويشير إلى أنه كان محظوظاً إذ اتصل عملياً بمعظم المؤلفين الذين ترجم لهم، ويضيف مازحاً: "عندي أسئلة للموتى منهم أيضاً، سأسألهم عندما ألتقي بهم"!

وعن الأسباب التي تدفعه لترجمة عمل دون غيره، يقول: "أنا أترجم الكتب التي أحبها فقط". ويؤكد أن أحداً لا يقرأ النص بحذافيره ويقف عند كل رمز مطبوع مثل المترجم. ومن طرائف الأمور التي واجهته في ترجمة "واحة الغروب" لبهاء طاهر، ما كتبه طاهر من أن المرأة في واحة سيوة العام 1896 كانت تلبس صدرية، فاعترض ديفيز على ذلك باعتبار أن هذه القطعة لم تكن قد ظهرت للوجود بعد، وإن ظهرت فمن غير المعقول أنها وصلت المكان، فأقنع الكاتب بتغييرها!

* جوناثان رايت (Jonathan Wright): درس العربية والتركية والتاريخ الإسلامي في جامعة أكسفورد، وعاش فترة طويلة في مصر والسودان ولبنان وتونس ودول الخليج العربي، وذلك خلال فترة عمله صحفياً مع وكالة رويترز منذ العام 1980. تعرض في الثمانينات حينما كان يعمل في بيروت إلى الاختطاف، لكنه تمكن من الهرب.

مضى على رايت أكثر من ثلاثين عاماً وهو يمارس الترجمة، أنجز الكثير من الأعمال التي لم ينشرها عبر السنوات، لكن أهم ترجماته هي رواية "تاكسي" للروائي المصري خالد الخميسي، ونشرت العام 2008.

صرّح رايت خلال ندوة عقدتها الجامعة الأميركية بالقاهرة للحديث حول تجربته في الترجمة أنه لم يكن يفكر بالترجمة الأدبية، إلا حينما وقعت بين يديه صدفة رواية "تاكسي". وأشار إلى أنه فكّر بترجمة حوارات سائقي السيارات بلهجة "كوكني" الإنجليزية العامية، لكنه أقلع عن ذلك لأنها ليست مفهومة للقارئ الأميركي. كما ذكر أن توظيف الإشارات الدينية كان مشكلة بحد ذاته بالنسبة للقارئ الغربي. ويضرب مثلاً عبارة "إن شاء الله" التي يترجمها بعبارة "أنا آمل"، لأن الإشارات الدينية تعطي انطباعاً للقارئ الغربي بأن النص يحمل رسائل دينية. ويعتقد أن أكثر شيء يحتاجه مترجم العربية ليس طلاقته بالعربية، بل "كيف تستخدم اللغة الإنجليزية".

وفي معرض حديثه خلال ندوة أقيمت حول الترجمة من العربية والقواميس خلال آذار 2010، تساءل رايت إن كان يجب على المترجم أن يستخدم قاموساً، لأن مدلولات الكلمات وارتباطاتها الثقافية والاجتماعية والتاريخية تختلف من لغة إلى أخرى عند الحديث عن الكلمة نفسها في اللغتين، بحسب ما ترتبط به في ذهن القارئ.

* مارلين بووث (Marilyn Booth): مترجمة وأستاذة جامعية في الأدب العربي الحديث وتاريخ الشرق الأوسط، ورئيسة كرسي العراق للدراسات العربية والإسلامية في كلية الآداب واللغات في جامعة إدنبرة بأسكوتلندا. نالت درجة الدكتوراه في الأدب العربي الحديث من جامعة أكسفورد العام 1985، كما مارست التدريس في الجامعة الأميركية في القاهرة.

ترجمت العديد من الأعمال الروائية والقصصية من الأدب العربي، ومن ضمنها رواية "المحبوبات" لعالية ممدوح، و"أهل الهوى"، و"حارث المياه" لهدى بركات، ومجموعة قصصية "أطفال الماء" لابتهال سالم، ورواية "أوراق نرجس" لسمية رمضان، ورواية "الباب المفتوح" للطيفة الزيات، ومجموعة قصصية "الجهات الأربع" لسحر توفيق. نالت مارلين جائزة مطبعة جامعة أركنسو للترجمة العربية، وجائزة رابطة معلمي العربية في أميركا. كما نشرت العديد من المقالات حول أعمال روائية عربية مثل "بنات الرياض" لرجاء الصانع.

* نانسي روبرتس (Nancy Roberts): مترجمة وأكاديمية. حصلت على الماجستير من جامعة إنديانا في برنامج الدراسات الإسلامية والشرق أوسطية، وتم اعتمادها مترجمة للغة العربية من جانب جمعية المترجمين الأميركيين. بدأت عملها العام 1994 مدرسة للغة الإنجليزية في جامعة آل البيت في الأردن، وبعدها بخمس سنوات قررت أن تتفرغ للترجمة. أول عمل مهم قامت بترجمته هو رواية غادة السمان "بيروت 75" وفازت عنه بجائزة الترجمة من جامعة أركنسو العام 1995. كما ترجمت لغادة السمان أيضاً "كوابيس بيروت" 1997، و"ليلة المليار" 2005. ومن ترجماتها الأخرى كتابان للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي "فقه السيرة النبوية" 2001، و"المرأة بين طغيان النظام الغربي ولطائف التشريع الرباني" 2003.

تتوزع اهتمامات روبرتس في الترجمة على طيف واسع من المواضيع ما بين الأدب العربي الحديث والقديم والصحة العامة والقانون والأحداث الراهنة والعلاقات الإسلامية المسيحية والفكر الإسلامي والتاريخ. ومن ترجماتها: روايات "السراب"، و"الحب تحت المطر" لنجيب محفوظ، و"الرجل من بشمور"، لسلوى بكر، و"الخالدية" لمحمد البساطي.

* ريموند ستوك (Raymond Stock): مترجم أميركي يعمل أستاذا مساعدا للعربية والدراسات الشرق أوسطية بجامعة درو في نيويورك. أقام ستوك في القاهرة ثمانية عشر عاماً، وتنقل في دول الشرق الأوسط وأوروبا وإفريقيا. عمل ستوك قارئاً خبيراً لمنح الترجمة التي يمنحها برنامج المنح الوطنية للفنون، ومساعداً لغوياً مختصاً بلغات الشرق الأدنى وآسيا الوسطى في مكتبة الكونجرس بواشنطن.

ترجم ستوك خمسة من مؤلفات نجيب محفوظ، كان آخرها "أحلام فترة النقاهة" العام 2007. وكانت أول رواية ترجمها لمحفوظ هي "عبث الأقدار" وصدرت تحت عنوانها الأصلي الذي كان يفضّله محفوظ "حكمة خوفو". وترجم أيضاً قصص محفوظ الفرعونية في كتابه "أصوات من العالم الآخر".

يؤمن ستوك بأن عليه أن يخلق لدى القارئ إحساسا بالعمل وأجوائه، وفي الوقت نفسه الالتزام بدقة الترجمة. ويضيف أنه لا يحبذ التصرف الحر بالترجمة، إلا أنه يعترف أنه لم يستطع ذلك في ترجمة قصائد عزرا باوند الناقد وصديق تي إس إليوت.

* روجر مايكل آلان (Roger Michael Allan): مترجم بريطاني الأصل. يعمل أستاذا للغة العربية والأدب المقارن في جامعة بنسلفانيا منذ ما يزيد على أربعة عقود، وهو محرر الأدب العربي لموسوعة الآداب العالمية في القرن العشرين. نال درجة الدكتوراه في الأدب العربي الحديث من جامعة أكسفورد العام 1968، وكان أول طالب يحصل على الدكتوراه في هذا المجال في تاريخ الجامعة تحت إشراف د.محمد بدوي.

ومن بين الأعمال الكثيرة التي ترجمها: "السمان والخريف"، "الكرنك"، "خان الخليلي"، "المرايا"، "الباقي من الزمن ساعة"، "دنيا الله" (قصص) لنجيب محفوظ، "في عين الناظر" (قصص) ليوسف إدريس، "السفينة" و"البحث عن وليد مسعود" لجبرا إبراهيم جبرا، "النهايات" لعبد الرحمن منيف، رواية "العلاّمة" لبن سالم حميش ونالت جائزة الأطلس للترجمة، رواية "دنيا زاد" لمي التلمساني.

في مقابلة مع صحيفة "الأهرام الأسبوعي" العام 2006 قال إنه لا يترجم أي نص لأي مؤلف لم يقابله ولم يعرفه شخصياًً". لأن الهدف برأيه من معرفة المؤلف والالتقاء به هو استمرار متابعة الاتجاهات الأدبية بشكل عام في العالم العربي، وفي القطر الذي ينتمي إليه بشكل خاص، وهو يضع اللوم في عدم انتشار الأدب العربي على الملحقين الثقافيين العرب في عواصم العالم الذين يبدون غير مؤهلين أو غير مستعدين لنشر الترجمة.

ذكرت حنان الشيخ في أثناء مقابلة معها خلال ندوة للمجلس الثقافي البريطاني حول ترجمة الأدب العربي، أنها أجرت خلال عملية الترجمة تعديلات عدة على نصها العربي، وذكرت أن تلك التغييرات كانت تتم أحياناً بطلب الناشر أو المترجم، مثل تعديل النهاية أو تغييرها. ويذكر روجر أن كتاب "حكاياتي شرح يطول" لحنان الشيخ لا يشتمل على أسماء، بل تستخدم المؤلفة الوصف بدل الاسم، فأحد أشقائها يدعى "عاشق الناي"، والآخر يدعى "أخي السوداوي". ولكن حينما تم إرسال الترجمة إلى لندن، اعترض الناشر لأن تكرار استخدام لقب وصفي بدلاً من الاسم يجعل العمل مملاً.

* وليم هتشِنز (William Hutchins): مترجم أميركي غزير الإنتاج. حصل على الدكتوراه في لغات الشرق الأدنى من جامعة شيكاغو العام 1971. يعمل أستاذاً للفلسفة والأديان في جامعة أبلاشيان الحكومية بولاية نورث كارولينا. فاز بمنحة الترجمة للعام 2005 من مكتب المنح الأميركي لترجمة الفنون الأدبية لقاء ترجمة رواية ابراهيم الكوني "البحث عن المكان الضائع"، التي ترجمت ونشرت تحت اسم "حجب سيث السبعة".

ترجم ثلاثية محفوظ ("قصر الشوق" و"السكرية" و"بين القصرين")، إضافة إلى "القاهرة الجديدة". كما ترجم روايتي "أنوبيس" و"الدمية" لإبراهيم الكوني، و"القلعة الخامسة" و"آخر الملائكة" لفاضل العزاوي، و"مراحل إسماعيل" لعبد الخالق الركابي، و"فوت علينا بكرة واللي بعده" لمحمد سلماوي، و"بصرياثا: صورة مدينة" لمحمد خضير، و"دار الباشا" للتونسي حسن نصر، و"عودة الروح" لتوفيق الحكيم، بالإضافة إلى عدد من مسرحياته، كما ترجم للكويتية فاطمة العلي مجموعة قصصية "تاء مربوطة"، وللعراقية دنى غالي رواية "عندما تستيقظ الرائحة"، وترجم أيضا للروائي اليمني وجدي الأهدل، وللإماراتي ثاني السويدي.

في لقاء نشر العام 2008 يقول هتشنز: "لكي أنجز الترجمة على نحو صحيح، يجب علي أن أفهم تاريخ المنطقة وثقافتها بالإضافة إلى لغتها". لكنه في الوقت نفسه يرفض مبدأ "أن بعض الأفكار والآراء والتجارب لا يمكن ترجمتها". يسعى هتشنز إلى ترجمة روايات لكتاب بحرانيين، مثل "التماثيل" لعبد الله خليفة، وقد ذكر خلال زيارته لجامعة البحرين العام 2010 أن الترجمة الأدبية "تصنع نوعاً من الحوار بين الشرق والغرب، وتوفر التقارب بينهما".

رابط المقالة بصحيفة الرأي

رابط الصفحة الكاملة



الجمعة، يناير 24

مناورة!



مناورة!


قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

قبل يومين التقطت ذاكرتي ذاك اليوم الذي مرَّ ولم نعبأْ به. كان في بالي منذُ بدايةِ الصيف ولكنّ زحمةَ الايام كفيلةٌ بأن تنسي المرءَ حتى تاريخَ ميلاده! أهلكنا الصيفُ بموجاتِه المتلاحقة ، فصرت أحلم بذلك اليوم بشوقٍ كلما داهمنا الحرُّ بحضوره الثقيل. صرتُ مثلَ كائناتِ الارض التي تستشعرُ البردَ والمطرَ قبل أوانه فتبني لها بيوتاً تختبيء فيها، أو مثلَ الشجر الذي يبدّلُ لونَ أوراقه مع تغيّرِ الفصول. منذ الصباح تهب الريحُ الباردةُ العليلةُ ، والغيوم البيضاء المنخفضة تمرُّ في السماء بلا توقف. منذ شهورٍ لم أرها بمثل هذا التشكيل. ارتاحت نفسي وهي تعبر الاعتدال الخريفي. شعرت أنني قد نجوت هذه السنة!
كان صيفاً يخنق التماسيح في بِرَكِها الخضراء. في المساء هبت نسمةٌ معطرةٌ بروائح الشجر وأزهارِ الياسمين الممتدةِ على السور حوالي المبنى وتسللت إلى طاولتي من نافذة الغرفة. ارتشفتُ من كوب الشاي السيلاني الاحمر الصافي وأنا أتلذّذ بطعمه. كان يوماً طويلاً جفت فيه الروح من العطش. فأحسستُ أن العشبَ عاد يملأُ شقوقَ الارض العطشى بعد موسم الجفاف.جلستُ أنتظرُها. كانت شاشةُ الكمبيوتر شاحبةً بيضاء لا حياة فيها. تشاغلتُ بقراءة الصحيفة. عناوينها باهتةٌ. لا شيء فيها غيرُ الخراب والموت والحروب التي لم تنتهِ منذ أن وُلدتْ الديناصورات!
فجأة إلتمعَ لونُ رسالتها الاحمر يضيء بأسفل الشاشة. نبتتْ ورقةٌ خضراءُ كالبرعم على غصنٍ يابس. تهللت أساريري. لقد جاءتْ اليومَ مبكرةً على غير عادتها. فتحتُ صفحةَ رسالتها وقرأتُ بلونِ خطها الوردي: مساء الخير!
كتبتُ: مساء الفل. أهلاً بكِ
- شكراً.. هذا لحسن ضيافتك لي في عقر دارك!
- هذا غزوٌ مثل اقتحام طروادة بالحصان الخشبي، ولكن يحمل في أحشائه فارسةً مهيبة!
- التشبيهات التاريخية تغريني..
- التاريخ منجمُ فكرنا الذي يغرينا بالتعلّق به!
- أخاف أن نتحدثَ عن نيرون لاحقاً!
- "نيرون مات ولم تمت روما"
إبتسمتْ وكتبتْ: روما. آه.. للمدن سحرٌ غريب.. تعيشنا.. تشهدُنا بكل تفاصيلنا.
توقّفتْ قليلاً ثم سألتْ: هل تناولت شيئاً؟
أجبتُ وأنا أبحثُ عن الحروف أمامي: الان يعود الدماغ للعمل كالمعتاد وخاصة على رشفات شاي كالياقوتِ اللامعِ تحت الضوء.
- آه.. كدت أموت من الجوع قبل قليل مثلك.
- تفضلي إحتسي معي الشاي! ماذا أكلتِ؟
همهمت ببعض الاصوات ثم قالت: أمممم وهي تمطها بأنوثة. ثم قالت: سجّلْ عندَكحساء فريكة ، سلطة روسية صنعتها بيدي! وصينية من الكبد وأشياء أخرى لم أحفل بها ولا أريد أن أتذكرها!
تدخلت وقلت: من لا يحبُ الكبد لا يعرفُ لذةَ الاكل ولا يعرف لذّةَ الحب!
أحسستُ بنظراتِ استغرابٍ في عيونها دون أن أراها. قالت وداد: هل ما زلتَ تهذي من الجوع؟! كتبتُ لها: رماه كيوبِد بسهمِه فَوُلِد الحبُ من دمائه التي تقطر قانيةً دافئة! ولاكَهُ البشر من هوسِ الجوع والانتقام!

جو جميل للسهر. أحملق في شرابِ التفاح المثلج وقطراتُ الماء المتكثفة تسيل على جوانبه على أنغام موسيقى أندلسية طواها التاريخ ولكنها تعلقتْ بالقلب والذاكرة. تعزف وداد على قيثارتها الصغيرة كلماتٍ تغمر القلبَ بأسرارٍ صوفية. صوتها جميل. شعرتُ كأنما نظرت في عيوني وقالت: هل كلمات أغنيتي حلوة؟
- تعويذةُ سحر.
- لك مذاقٌ متعالٍ .. شامخٌ.. يحدس ما خلف النكهات.. يشمُّ الروائحَ بقلبٍ مرهف.
توقفتُ قليلاً لا أدري ما أكتب، ثم هلّتْ الفكرة فأسرعتُ إثرَها: تنهمرُ الكلمات من قارورة عطرك على راحة يدي فأشمها فأنتشي بها. كتبتْ لي: بل أنا وجدتك في عطري .. في لوحتي.. تخضبني بلون الحياة وبرائحة الربيع الذي لم أعشه بعد.
- لا تحسبي أنني أستطيع محوك من دفاتري. أنتِ لوحةٌ كالموناليزا. كلما نظرت اليها تزداد غموضاً ساحراً.
- وحدك دافنشي. يحق لك أن ترسم شيئاً ما على رقعتي كي أشتهر بك. أخاف أن أفقد في لحظة قدرتي على مجاراتك. بدأت ألهث وجئت اليك أبحث عن ذاتي.. أخاف أن أفقد إيماني بكل شيء.. سوى باللحظات العابرة.
- سنبحر معاً تارة في بحر من الهدوء والصفاء وتارة في بحر من الصخب والامواج العاتية حتى تصل السفينة إلى جزيرة الكنز. نحن لسنا قراصنة بل بحارة نبحث عن اللؤلؤ الدفين.- في خلايا جسدي شيء حزين. أتوجس لكل انفراجة في الفرح فأغترب أكثر.قلت: إن أجملَ ألحاننا تفيض دائماً بالأسى. لن نضعَ نهايةً حزينة في بداية قصة جميلة. ولن نرسم قصوراً للأمير والأميرة. قصة متمردة لا تعرف أين ستذهب، تحملها الامواج إلى جزيرة بعيدة.
- لم تقل لي رأيك بهند؟
إستجمعت أفكاري وأخذت أكتب لها: هند امرأة ينتظرها مستقبل لامع في الكتابة إذا عملت بجد على نفسها. لديها لغة تعبيرية خاصة بها ، وذات مفردات ثرية لا ينضب جمال صورها التي تبدعها. بل أتعجب كيف تسيل كلماتها الملهمة بعفوية على السطور. بارعةٌ إلى حد الجنون في الوصف والتصوير. وأضفت: هند فتاة ليست من هذا الزمان! لا أريد لها أن تضيع موهبتها بين فراغات العمر الرمادية.
- ماذا قالتْ لكَ؟
- وعدتني أن تستمر بالكتابة. يجب أن تشجعيها لكي تبدع. تبدو لي مثل طفلة معجزة
كنا نسمع أغنيةً معاً بينما كانت هي تكتب كلماتها:
"وأمسح وجهي بشعرك الملتاع
وأولد في راحتيكي
جنيناً وأنمو وأنمو وأكبر"
قلت لها: راحتيكِ. فردّت علي وقالت: حسناً راحتيكِ! فالنساء يُجِدن الكسر.
- لم يكسرْ قلبَ الرجال مثلُ النساء ولكنهن يجبرنه مرة أخرى.
- وقلب المرأه لا يكسره سوى الرجل. إذاً هما متعادلان؟
- متعادلان في دورة الكسر والجبر والتكامل والتفاضل بالصفات. وأضفتُ بتسرّعٍ: أنا صنف نادر يعترف ويقرُّ بسرعة ويتقبلُ الهزيمةَ بسهولة!
ضحكتْ وقالت: لا عليك من المناورة! في كثير من الأحيان لا يكون هنالك فرقٌ كبير بين الفوز والهزيمة.
- في مسائل الحب كما في مسائل الحرب قد لا يكون الفرق كبيراً حينما يسقط ضحايا على كلا الجبهتين، وتسيل أنهار من الدماء في خوذات الجنود فتملأها، وتتمرغ البنادقُ في الطين وتتدلى الاجسادُ على سواتر الرمل.
بقيت صامتة تراقب المواقف والكلمات.
قلتُ بصوتٍ عالٍ وأنا أطبع حروفها: هل نكسب الحب إذا خسرنا من نحب في لحظات غرور وكبرياء زائف؟ وهل نخسرُ الحبَّ إذا كسبنا حبيباً يدمي القلب بصدّه اللعوب؟
قالت: قد نتسامى على آلامه وقد يغرقُنا في دوامة مرارته ، ولكننا ندمنُ تعاطيه!
شربتُ من كأس عصير التفاح المثلج قليلاً وكتبت:
- وماذا يفيد الانسان لو كسب العالم كله وخسر من يحب؟!
- قد نخسر ذاتنا سخية على أعتاب مذبح الحب لأجل أن نكسب حبيباً.
تأملتُ كلماتِها .. نظرتُ في لوحة المفاتيح وأخذتُ أكتب:

- أريد أن نتحرر من خوف متأصلٍ فينا. لا أريد أن نذبح ذاتنا على مذبح الرغبة ولا نحنطها على هيكل الرزانة الفرعونية.
- واخجلتاه حينما نضحك نخجل. وعندما نحب نخجل. وعندما نموت نخجل من دموع أمهاتنا!
تساءلتُ قائلاً: هل هذه مناورةٌ في الحب أم في الخجل؟! فقالت: ربما الاثنين.قلتُ: سنقيمُ رقصةً حول النار مثل عشاق غجريين يحملون قيثارة للحياة ويغنون للفرح والحزن معاً.قالت: سأغدو قيثارتك .. قطعني وتراً وتراً.. أعلني مقطوعتك الاخيرة.ضحكتُ وقلت لها: اشتقت لرؤية تلك الطفلة ذات الشعر الأشقر!

أرتني ذات يوم صورتها وهي صغيرة. طفلة شقراء في غاية الجمال. لا أدري كيف تبادر إلى ذهني ساعتها أسطورة. كتبت لها: قالوا كانت تسير في طرقات البلدة فلقيتها حورية خرجت للتو من البحر فاختطفتها. لم يعد الناس يرونها في الطرقات. بحثوا عنها في كل مكان. لم يجدوها. وجدوا خطاً أزرق على الجدران كتبته أناملها الرقيقة. وفي ذات يوم بعد سنين طوال ولدت في الحي شاعرةٌ متصوفة تشبهها. تكتب قصائدها بحزن ملائكي على جدران غرفتها الزرقاء. تقضي ليلها تعزف أنغاماً شفيفة كرذاذ المطر أو كرائحة غليون من فم فيلسوف ذي لحية كثيفة أو كورقة ريحان تملأ الشرفات الصباحية في تموز.
قالت: أكملْ أغنيتَك. سأرحل بعدها وأعود للبحر.
- مكانك هنا. سنعيش معاً كل خربشات القلم وصلواته.عندما إنتهت الاغنية، هربتْ إلى غرفتها الزرقاء. انتظرتُ قليلاً، لكنها لم تعد. قمت أنظر من نافذة غرفتي. الياسمينة تملأ الساحة بالاسفل. هبت نسائم هواء باردة. قررت أن أعانق الضيف الاثيري الذي انتظرته طويلاً. نزلت سريعاً وأخذت أمشي في الشارع وأنظر للنجوم تتلألأ في صفحة سوداء. يشع القمر الرخامي في أقاصي اللوحة الليلية صوفية وإلهاماً. في الجو هبة ريح رقيقة ورائحة النباتات تملأ الأنف. تغفو الاوراق والورود في الاحواض على جانبي الطريق. عرفت ساعتها كم من موناليزا حولنا ولا نراها!

* اللوحة أعلاه بعنوان "حب متجمد" للفنان الفرنسي المعاصر جان بول أفيس

الجمعة، ديسمبر 11

حتى لا تصير المستحيلات أربعة

قبل أن تضيع تدمر الرابعة

اياد نصار 

  
        














تقوم نهضة المجتمعات على عدة رافعات اساسية كبرى لا بد منها لاي شعب ليحقق تقدماً ورقيّاً في اسلوب حياته من احترام لحقوق ابنائه ، وتوفير مستوى متقدم من الرخاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي ، وبناء قاعدة علمية وصناعية متطورة ، والوصول الى شكل ديمقراطي من اشكال الحكم والمشاركة الجماعية في الاطر السياسية والعامة ، واقامة دولة متطورة عمادها السلم والامن والنشاطات المستندة الى شفافية وعدالة ورغبة حقيقية في أن تكون جزءا من حضارة عالمية تعيش زمانها وتحدياتها ، وليس اسيرة امجاد سالفة لا ينفع معها استمرار الحنين.

ولو كان ينفع البكاء بين يدي التاريخ وحده لعادت الحضارة اليونانية واليونان اليوم في اشد أزماتها الاقتصادية والاجتماعية وسيطرة التيار التقليدي الذي لم يبق لليونان العظيمة سوى الاثار والتاريخ، ولو كان ينفع أن نظل نتأمل ونتدبر ونقرأ سير الاوائل لعادت حضارة روما وعادت أنظمة وفتوحات وجيوش وعمائر وابداعات روما، وايطاليا اليوم تعاني من أزمات اقتصادية وتراجع دورها السياسي وحضورها في الميادين الدولية، ولو كان ينفع أن نظل نعيش بعقلية القمقم وذهنية الاعتزال فلا نقرأ من التاريخ سوى تطورات قرن او قرنين مضيا من سالف التاريخ ، ونظل نترحم على اولئك الذين عاشوها في مكة والمدينة والكوفة والبصرة ، وننسى قرونا قبلها وبعدها من حركة التاريخ والتطورات المتلاحقة، لعادت حضارة الاندلس! ولو كانت المسألة أن نعيش بعقلية الاجداد ونرفض أن نتأقلم مع شكل الحياة في عصرنا ونظل نستحضر سير القدماء، لعادت الحضارة الفرعونية ونحن نرى ما تمر به مصر الطيبة مصر أم الدنيا من تحديات وأزمات وانقسامات وتراجع كبير في دورها اقليميا وعالميا بينما تستحضر تاريخها القديم. ولكن هذه الاسس لا تتحقق بين ليلة وضحاها. لا بد من قيام تيار فكري واسع وحركة شعبية كبيرة تؤمن بها وبضرورتها لأي تغيير تقدمي حقيقي نحو المستقبل. وهذه مجرد وقفة اولية في عجالة مع بعض هذه الروافع التي أثبت تاريخ الانسان أنها وراء كل نهضة حضارية حققتها الامم.

الايمان بقيمة النقد والشك والمراجعة دون خوف او  اتهام او تكفير او تخوين. فنقد الافكار والاساليب والمعتقدات والثوابت يعني الاحتكام الى العقل ، والاقرار بضرورة التغيير والمواكبة ، واحترام حرية التفكير وممارسة المراجعة ، بحيث يتعود الناس على أهمية التفكير والنظر دون عقلية الخرافة والتقديس الى كل الاشياء ، والايمان بأن جدوى ما ينفع هو ان كان ما يزال لهذه الافكار والنظريات والفلسفات والاديان والعادات والتقاليد قيمة صالحة او مؤثرة أو نفع يدفع بالمجتمع للامام ، وعدم الاحساس بالخوف والجزع عند القول انها يجب ان تخضع للنقد والبحث والدعوة الى تغييرها او تصحيحها او تطويرها. إن سطوة التيار الذي خلت له الساحة أو أخليت له والذي يرفع شعار صك غفران لكل مواطن لكي يثبت طهارته من أي نية أو شبهة نية للزندقة ، وخاصة التي ترفع صولجان التخويف من العاقبة والبوار والهلاك ، وتعد الناس بأحلام وردية في العالم الاخرى عائق كبير يحول دون قبول أهمية النقد والمراجعة والتغيير.

أما الثاني فهو مراجعة كل ما يتعلق بالمرأة من أنظمة وقوانين ونصوص واحكام دينية او مدنية بغض النظر ، وتطويرها لاعطاء المجال لاحترام قيمة كبرى وهي الاقرار بمكانة المرأة وقيمتها وحقها في الوصول الى كل المجالات التي يقوم بها الرجل على قاعدة مختلفان ولكن متساويان وشريكان. يجب مراجعة كل التشريعات والقوانين والتعليمات والانظمة واللوائح والخروج من سطوة اصحاب الصوت العالي سواء أكانوا متدينين او محافظين، أكانوا رجعيين أو تقدميين زائفين من اصحاب الافكار الشوفينية الذين يريدون اقامة مجتمع تقدمي عماده عبادة الافراد. لنشق عصا الطاعة امام الخوف الكبير والارهاب الفكري والضغط النفسي وتجييش المشاعر ضد كل من يخرج عن الاطار الديني التقليدي او الاطار الاجتماعي البالي بحجج واهية يعني ظاهرها الحفاظ على المجتمعات ويخفي باطنها ابشع صور الاضطهاد والحرمان ، وأنا ارى انه لا خراب ولا دمار ولا تفكك ولا تفسخ ولا اختراق للمجتمعات العربية اكثر مما نراه من استباحة مطلقة للحدود والفضاء وتدمير ممنهج لكل مقومات الحياة.

ممارسة احترام الفنون والادب والعلوم الانسانية بشتى صورها واشكالها وانماطها كالرسم والتصوير والموسيقى والمسرح والتمثيل والسينما وفنون الادب والابداع المختلفة ومجالات الاعلام والصحافة والتواصل واعطاء المكانة اللائقة لعلوم النفس والاجتماع والفلسفة ، وعدم محاربة حرية التعبير بذرائع مختلفة يدل ظاهرها ان الهدف منها حماية المجتمع او احترام الدين او الالتزام بأحكامه ويعني باطنها استمرار القمع وعقلية الخوف وهيمنة رجال الدين وسطوة الفكر السائد الذي اوصلنا للخراب. فلا قيمة أسمى من حرية التعبير والابداع ، ولا لذة فكرية أكبر من متابعة ما حققته العلوم الانسانية ونظرياتها المختلفة من سجالات وجدل فكري أسهم في انجاز نقلة حضارية لبعض المجتمعات لايمانها بأن كل أنماط السلوك والتفكير قابلة للتعديل والتطوير والتهذيب بعيدا عن التربية التقليدية القائمة على التخويف والتلقين والصمت في حضرة الشيخ!

ولا يقل عما سبق احترام ثقافات الشعوب الاخرى واديانها ومعتقداتها واساليب حياتها وتاريخها من مبدأ حقيقي ممارسة لا شعارا زائفا نراه يرفع ويسقط عند اول اختبار. التسامح واحترام الاخر يبدأ من احترام كل الطوائف والاديان والملل والفلسفات طالما أن هناك من يؤمن بها. طالما بقيت النظرة أنني انا صاحب الحق وغيري على باطل، وطالما بقيت النظرة أننا خير أمة وغيرنا على ضلال. واذا ظلت النظرة اننا مجتمعات محافظة وغيرنا مجتمعات تعيش الانحلال وخاصة الاخلاقي ، فسنظل أسرى ثقافة انعزالية تقسيمية طائفية لا ترى في الاخر الا الشر الذي يحل قتله ، ولا بد من تعزيز كراهيته ومحاربته والنظر اليه بمنظار الشك والخوف وعدم التعاون معه ، وهكذا نظل نعيش في ازدواجية صارخة فنحن نعتمد عليه في كل شيء لتطوير الجانب المادي من حياتنا ، ونشبعه شتما حينما نخلو الى انفسنا. ونبقى نعيش الوهم أننا امة معصومة وينتظرها الانقاذ وغيرها ينتظرها الوبال وسوء العذاب.

ولا يتوقف الامر عند الادعاء باحترام الاخر ونحن نرى ان كل النصوص التي تتلى على مسامعنا ليل نهار تكفر الاخر وأنا استغرب من بعض المؤسسات الدينية التي تدعي أنها تؤمن بهذا وتؤكد أن الدين يدعو لذلك وكل ادبياتها وخطاباتها ومواعظها وكتبها ودورها ورجالها ونساؤها يصيحون ليل نهار أن من يبتغي غير تلك الطريق فقد خرج عن الصواب! صور التناقض بين القول والفعل ، وحتى بين القول والقول لا تعد ولا تحصى ، لأننا نعيش في ثنائية وازدواجية منذ قرون، حتى بلغ السيل الزبى ، فلم نعد قادرين على أن نوفق بين عقلية انا وما عداي فهو ضلال وبين رؤية الاخر يتفوق. فكيف يتفوق الاخر طالما هو على ضلال؟

وامام هذه المعضلة لا يجد شيوخنا غير اسلوب اللجوء الى عقلية المؤامرة ، وليس لديهم من تبرير سوى أنهم نالوا النعيم في الدنيا ونحن سنناله في الاخرة! فزاد مستوى الكراهية للاخر حتى صار عقدة يظهر في صور غريبة عجيبة مثل قتل ابرياء في زوايا بعيدة من اصقاع العالم ، لمجرد انهم من الاخر بغض النظر عن اي اعتبار اخر! وليس غريبا أن توجت هذه الافكار والسلوكيات بظهور تيارات الارهاب  فهي وإن كانت تصدم بعضنا أحيانا ، ولكن كان من الطبيعي أن تظهر، فالحقد على الاخر سواء من نفس الدين او اللغة او الطائفة او الجغرافيا في تصاعد منذ عقود في كل مكان ، وهو الذي ما فتئنا نزرعه منذ مئة عام او يزيد ، وها نحن نحصد ما زرعناه. فقدنا مدينة نمرود الاشورية، وفقدنا مدينة الحضر الاثرية في العراق، وخسرنا تدمر في سورية، فهل نخسر أخرى رابعة؟ كيف سيكون شكل العالم بدون جرش أو البتراء أو بعلبك أو الاهرامات أو قرطاج؟ كيف سيكون شكل العالم العربي لو دمروا تراث ابن رشد وابي العلاء والمتنبي وابن عربي والفارابي والحلاج وزرياب وابن خلدون ومحمود درويش وطه حسين ، وكيف سيكون لو أحرقوا فن فيروز؟ وهل يرضى أهل مصر الطيبين أن يستيقظوا ذات يوم ولا يجدوا أم كلثوم الا في متحف اللوفر هذا إن بقي اللوفر ولم تصله اليد السوداء؟

اللوحة أعلاه بريشة الرسام توماس كول عام 1836 بعنوان دمار الامبراطورية ويظهر فيها قيام برابرة قبائل الوندال بتدمير روما