السبت، أكتوبر 11

طموح القصة القصيرة


طموح القصة القصيرة

بقلم الروائي الامريكي: ستيفن ملهاوزر
ترجمة: اياد نصار

نشر الروائي والقاص الامريكي ستيفن ملهاوزر هذه المقالة يوم الخامس من شهر أكتوبر في القسم الأدبي من صحيفة نيويورك تايمز بعنوان طموح القصة القصيرة. فاز ملهاوزر بجائزة بوليتزر للفن القصصي في عام 1997 عن روايته مارتن دريسلر. ولد في مدينة نيويورك عام 1943 ونشأ في ولاية كونيتكت، وتخرج من جامعة كولومبيا عام 1965. عرف من خلال روايته الاولى التي صدرت عام 1972 بعنوان إدوين ملهاوس. ولكن شهرته تحققت بعد فوزه بجائزة بوليتزر. اصدر روايته الثانية بعنوان " صورة الرومانسي" في عام 1977 . كما أصدر مجموعته القصصية الاولى بعنوان " تحت اقواس بيني" عام 1986. أصدر عدداً من الروايات والمجموعات القصصية كان أخرها مجموعته المسماة "ضحك خطير: ثلاث عشرة قصة" . أسلوبه قريب من أسلوب إدغار الان بو وبورجيس في تناول مواضيع الغموض والفنتازيا.

القصة القصيرة كم هي متواضعة في مشيها! وكم هي مهذبة في سلوكها! تجلس هناك بهدوء مسبلة العينين كما لو أنها لا تريد أن يراها أحد. واذا استطاعت لسبب ما أن تجذب إنتباهك، فإنها تبادر للقول بسرعة بصوت منخفض شجاع يقلل من شأن الذات ويعرف كل احتمالات الخيبة: "أنا لست برواية كما تعلم. ولست حتى بواحدة قصيرة، فإذا كان ذلك ما تبحث عنه، فإنك لا تريدني". نادراً ما يطغى شكل ما من أشكال الادب على غيره. ونحن نعلم، ونهز رؤوسنا موافقين بأنه في أمريكا الحجم هو القوة. الرواية هي وول-مارت، وشخصية (هَلْك) المخيف، وطائرة جامبو الادب الكبيرة! إن شهية الرواية ليس لها حدود- تريد أن تفترس العالم. فماذا بقي للقصة القصيرة المسكينة لتفعله؟ تستطيع أن تقلّم أعشاب حديقتها، وأن تمارس التأمل، وتسقي أصيص الزهور على حافة النافذة. وتستطيع أن تأخذ دورة في الكتابة الابداعية غير القصصية. تستطيع أن تفعل ما تريد طالما أنها لا تنسى مكانتها، طالما بقيت جالسة وادعة بعيداً عن الطريق! تصيح الرواية: هوو ها! هأنذا قد جئت! فتهرب القصة بحثاً عن مخبأ. تشتري الرواية الارض، وتقطع الاشجار وتقيم المجمعات السكنية العالية. وتتعثر القصة القصيرة فوق أرض البستان، وتعصر ذاتها تحت السياج!

بالطبع هناك فضائل للصغر. لا تستطيع حتى الرواية أن تعطي مثلها. الاشياء الكبيرة تميل لأن تكون غير متقنة الصنع ، خرقاء، خامة. أما الصغر فهو عالم الاناقة والمجد. إنه كذلك عالم السعي نحو الكمال. الرواية متعبة تستنفد الطاقة بطبيعتها، ولكن العالم لا حدود لاستنفاذه، ولهذا فإن الرواية، مثلها مثل ذلك العبد الفاوستي، لا يمكن أن تحقق رغبتها. ولكن على طرف نقيض فإن القصة القصيرة إنتقائية بجوهرها. واذا ما استبعدنا تقريباً كل شيء، يمكنها أن تعطي شكلا مثالياً لما تبقى. كما يحق للقصة القصيرة أن تدعي أحقيتها بنوع من الاكتمال بينما يجانب ذلك الرواية. وبعد القيام بالفعل الاولي لعملية الاستثناء الجذري، يمكنها أن تشتمل على الكثير من القليل الذي بقي! وعندما تتذكر الرواية القصة القصيرة، اذا تذكرتها، تشعر بالسرور في أن تكون كريمة معها. تقول: "أنا معجبة بك" وتضع يداً ثقيلة كبيرة فوق قلبها، " بلا مزاح. أنت جداً-- أنت جداً-- جداً جميلة! جداً متحضرة وراقية! وذكية أيضاً". وبالكاد تستطيع الرواية أن تتوقف عن الحديث. ولكن في نهاية المطاف، ما هو الفرق الذي ستصنعه كلماتها؟ انه ليس الا مجرد حديث! ما يهم الرواية هو الاتساع والقوة. في أعماق قلبها فإنها تزدري القصة القصيرة مما يجعل أي اثر لكلامها ضئيلا للغاية. وليس هناك من فائدة منها لالتزام القصة القصيرة وتزمتها وكبتها لذاتها ورفضها لكل الملذات. الرواية تريد الاشياء. تريد الارض. تريد العالم بأجمعه. السعي نحو الكمال هو عزاء الذين لا يملكون شيئاً آخر.

والكثير يمكن أن يقال عن القصة القصيرة. متواضعة في مظاهرها، فخورة على نحو خجول بفضائلها الصغيرة، لديها توق تافه مقارنة بخصمها الجسور. ترضى بأن تجلس في الخلف وتدع الرواية تأخذ العالم الكبير. غير أن السؤال هو، هل ذلك الموقف المتواضع، اذا لم أخطيء الظن، مبالغ فيه؟ تلك النظرات الخجولة للبعيد هل فيها مسحة من خداع؟ هل يمكن أن تتجرأ القصة القصيرة في أن يكون لها طموح بذاتها؟ واذا كان ذلك صحيحاً، فإنها لن تعلن عنه صراحة بسبب نزعتها القوية لحماية ذاتها، وهي عادة قديمة من السرية فرضها عليها القمع. في عالم تحكمه روايات مغرورة، فقد تعلم الصغر أن يشق طريقه بحذر. يجب علينا أن نحدس سرها. أتخيل أن القصة القصيرة تحتضن أمنية. أتخيل أن القصة القصيرة تقول للرواية: بامكانك أن تأخذي كل شيء - كل شيء، وكل ما أطلبه هو حبة رمل واحدة. وعندها وبحركة لا أبالية، ضاحكة ومزدرية تستجيب الرواية للأمنية.

ولكن حبة الرمل تلك هي طريق الخروج للقصة القصيرة، وهي خلاصها. وأنا أخذ هنا إشارة من وليم بليك:" لكي ترى العالم في حبة رمل". فكر بهذه المقولة: العالم في حبة رمل، اي أن ذلك يعني أن كل جزء من العالم مهما كان صغيراً يحتوي العالم بأجمعه فيه. أو يمكننا أن نقولها بطريقة أخرى: اذا ركزت اهتمامك على جزء غير مهم ظاهرياً، فستجد عمقاً بداخله، ليس أقل من العالم ذاته. في حبة الرمل تلك يستلقي هناك الشاطيء الذي يحتوي على حبة الرمل. في حبة الرمل تلك يوجد هناك المحيط الذي يندفع نحو الشاطيء، والسفينة التي تبحر في المحيط، والشمس التي تشرق على السفينة، والرياح النجمية، وملعقة في كانساس، بنية الكون. وهناك طموح القصة القصيرة، ذلك الطموح الفظيع الذي يقبع خلف تواضعها المخادع: أن يمثّل ويجسّد العالم كله. تؤمن القصة القصيرة بالتحولات، وتؤمن بالقوى الخفية. أما الرواية فتحب رؤية الاشياء بالنظرة السطحية. ليس لديها صبر على حبات الرمل المنفردة التي تلمع بينما يكون من الصعب رؤيتها. الرواية تريد أن تكتسح كل شيء في عناقها الجبار: شواطيء، جبال، قارات. لكنها لا يمكن أن تنجح، لأن العالم أوسع من رواية. العالم يبتعد بعيداً عند كل نقطة. الرواية تقفز بلا كلل من مكان الى آخر، ودائما جائعة، وغير راضية وتخشى دوماً أن تصل الى نهاية، لأنها عندما تتوقف تكون منهكة ولكنها تفتقد الطمأنينة، فقد تجاوزها العالم. القصة القصيرة تركز على حبة الرمل على اساس قناعتها الراسخة بأن هناك- هناك في راحة اليد يقع العالم كله. وتسعى لمعرفة حبة الرمل تلك بذات الطريقة التي يسعى فيها محب الى معرفة وجه حبيبته. إنها تبحث عن اللحظة التي تكشف فيها حبة الرمل عن طبيعتها. في تلك اللحظة من التوسع الغامض عندما تنفجر زهرة كونية هائلة من البذرة الكونية المصغرة، تشعر القصة القصيرة بقوتها. تصبح أكبر من ذاتها. تصبح أكبر من الرواية. تصبح كبيرة بقدر اتساع الكون. وهناك تكمن فظاظة القصة القصيرة وعدوانها السري. وطريقتها هي الالهام والوحي. إن صغرها يصبح أداة قوتها. وتضربها كتلة الرواية الهائلة باعتبارها صورة الضعف الذي يثير الضحك. وتعتذر القصة القصيرة عن لا شيء. تتباهى بقصرها، بل لربما تريد أن تصبح صغيرة أكثر. تود أن تصبح كلمة واحدة. واذا استطاعت ان تجد تلك الكلمة، واذا استطاعت أن تنطق ذلك المقطع، فسيشتعل الكون كله حينها ويزأر. ذاك هو طموح القصة القصيرة الغاضب، إنه ايمانها العميق بعظمة صغرها!


* اللوحة أعلاه للفنان الايراني الامريكي المعاصر فريدون رسولي بعنوان اهتزازات الفرح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق