الجمعة، نوفمبر 6

نخلة الواشنطونيا


"نخلة الواشنطونيا" لعواد علي..

كوابيس بغداد وفشل محاولات الخلاص الذاتي

بقلم: اياد نصار

يشكل عنوان رواية "نخلة الواشنطونيا" للروائي والناقد المسرحي العراقي عواد علي التي صدرت مؤخراً عن دار فضاءات في عمان كما في روايته الاولى "حليب المارينز" التي صدرت العام الماضي أهمية رمزية كبيرة ترتبط بالحالة العراقية. وإذا كانت نخلة واشنطونيا يمكن أن تصادفها في شوارع أية عاصمة عربية أو أجنبية، فإنها في الرواية ليست مجرد نخلة. تشغل نخلة الواشنطونيا بال البطل (كمال) مثلما تشغل بال الراوي وبعض الشخصيات الرئيسة الاخرى على امتداد الرواية، ويمكن النظر اليها تخيليّاً على أنها إحدى "الشخصيات" أو العناصر المهمة في الرواية.


يتردد وصف نخلة الواشنطونيا في الرواية باستمرار منذ البداية وحتى النهاية حسب الحالات النفسية للشخصيات الي تنظر اليها وخاصة كمال الاستاذ الجامعي العلماني ذي العلاقات النسائية المتعددة، و(راهبة) الارملة الخمسينية الصابئية المندائية صاحبة صالون الشعر للسيدات الذي تحول الى بقالة للمواد التموينية تحت تهديد الجماعات الدينية المسلحة، و(ألماس) الارملة الثلاثينية التي قتل زوجها الذي كان يعمل مع شركة بلاك ووتر الامريكية وعشيقة كمال التي تتأمل الزواج منه، و(فيفيان) الارملة المسيحية التي قتل زوجها لأنه كان يبيع الخمور.


لشجرة الواشنطونيا في الرواية قيمة رمزية دلالية في غاية الاهمية تشير الى الاحتلال الامريكي للعراق وتتبدى في الوصف المتغير للنخلة على لسان الشخصيات أو الراوي بما يعكس حالة الشخصيات النفسية في حواراتها ومذكراتها وكوابيسها وتطورات الاحداث على أرض الواقع. تمر نخلة الواشنطونيا بتحولات في نظر الاخرين مثلما تمر الشخصيات ذاتها بتحولات تحت وطأة أزمات الحرب المأساوية، وتتحول النخلة في الرواية من رمز للقوة والاستعلاء الى رمز بشع غريب في تعبير رمزي عن التحول في النظرة الى الاحتلال الامريكي في العراق من الاحساس بالضعف أمام صدمة القوة الى الاصرار على المواجهة وانطلاق المقاومة. يبرز هذا المقطع المهم كيف ظهرت النخلة الغريبة فجأة في شوارع بغداد وكيف أحس الناس تجاها، مستمداً من الايحاء الواضح في الاسم المرتبط بواشنطن عمقاً رمزياً أكبر يعبر عن الاحتلال، وعن ردة الفعل العراقية:


"أطل ذات صباح الى الشارع من نافذة شقته، فذهله وجود نخلة ضخمة غريبة على الرصيف، تحمل سعفاتٍ مروحية ً داكنة الخضرة، وتتدلى أوراقها على شكل خيوط كبيرة، ولها ساق طويلة غليظة عند القاعدة ومنتفخة من الوسط، وثمارها كروية صغيرة سوداء.
- من الذي اقتلع نخلة الكناري وغرس محلها هذه النخلة البشعة؟ سأل الصيدليَ، الذي كادت النخلة تغطي واجهة صيدليته، فأجابه:
- لا أدري، بالأمس لم تكن موجودةً.
- وهل تعرف أي نوع من النخيل هي؟
- اسمها نخلة الواشنطونيا.




إنها ذلك الغريب والهجين -كما تصفها الرواية - الذي يصبح مرادفاً للمحتل والويلات التي جاءت معه ولهذا فهي تبقى غريبة في شوارع بغداد. وتتعزز أهمية الرمز في الرواية فيما يجري للشجرة من أحداث تبدأ باستنفار بعض شبان الحي الذين سكبوا عليها نفطاً وأضرموا فيها النار ولكنها لم تحترق بل بقيت تقف بخيلاء، ولكن يستمر رفضها ومقاومتها حتى تنتهي بقطعها واجتثاثها بعد تفجيرها وحرقها، ولكن تتم زراعة شجرة واشنطونيا أخرى مكانها من قبل جنود المارينز وهكذا تكثر وتزداد في شوارع بغداد مما يزيد من أهميتها الرمزية.

ذكرت نخلة الواشنطونيا في سبعة عشر موضعاً في الرواية التي تتألف من 14 فصلا قصيراً، بدءاً من صفحة 26 وانتهاء بالصفحة قبل الاخيرة 169. حين ذكرت أول مرة كانت في نظر كمال صورة لشيء غريب بشع ظهر على المشهد فجأة، ولكنها "منتصبة بخيلاء تهز سعفاتها اللامعة وكأنها تسخر ممن حاول إفناءها" في إشارة الى غطرسة القوة التي تهزأ بردة الفعل. بل تصبح في نظر كمال نقيضه المفقود الذي يشعره بالعار والعجز حيث يقارن بين "ضعفه المخجل وقدرتها على التحدي، واصرارها على البقاء". يصفها كمال بأنها شجرة مشؤومة حيث انهالت الكوارث على العراق منذ أن غرسوها. يبدأ كمال يزدريها، كما يبول على سياجها كلب مارٌ من الشارع، وتصبح غبراء الوجه كسعلاة مصابة بالوهن يتجمهر حولها الاطفال ويرجمون تاجها بالحصى. ثم تنتشر في كل شوارع بغداد لتستبدل أشجار النخيل الاخرى. ولكن كمال يرى لافتة معلقة عليها تقول: "ارفعوا هذه القمامة وأعيدوا لنا نخلتنا".
أما في نظر ألماس فقد صارت الشجرة عملاقة وبدأت تتحول الى ما يشبه ناطحة سحاب. ولكن هذه الناطحة في سماء حالكة تغطي كل أسطح البنايات والمنازل على امتداد البصر بما يوحي بانتشار الظلم والفوضى وهيمنة القوة وما أفرزته من مآسٍ. وتقول ألماس عنها لراهبة: "ربما تكون شجرة سامة. إنها تجثم على صدور الناس وتخنقهم". كما يرى كمال في أحد كوابيسه نسرين موثقة بجذع النخلة، والامريكان يطفئون سجائرهم في بدنها، بينما يتردد صدى الالم والصراخ في الفضاء. ورغم أن كمال يراها لآخر مرة وقد قُطع تاجها وتدلى على جذعها مثل رأس مذبوح، الا أنها تبقى مصدر هواجسه وكوابيسه، الى درجة أنه يرى في كابوسه الاخير نفسه معصوب العينين، موثقاً بحبل سميك الى جذع نخلة الواشنطونيا، تلامس كتفه كتف ألماس، وقد أحاط بهما حشد من المارينز المدججين ببنادق أل أم 16 ... وبعد لحظات وجّه اثنان منهم رشقات رصاصٍ متتالية صوب النخلة".

تجري أحداث الرواية في بغداد ما بين الشتاء الدموي والصيف الملتهب من عام 2006 وقد مضى على الاحتلال ثلاث سنوات وهو الصيف الذي تصفه الرواية بأنه "حدث ما يشبه القيامة في بغداد.. أصابت تفجيرات رهيبة قلب المدينة وأطرافها.. تفجيرات ذات دافع انتقامي أعمى. سالت دماء كثيرة من أجساد غضة ويافعة ومنهكة.. أجساد من كل الشرائح والطوائف: في الاسواق والشوارع والمساجد والحسينيات والاحياء المكتظة بالسكان. وفي اليوم التالي ظهرت ردة الفعل، هستيريا طائفية لا تقل عماءً: مداهمة منازل، قطع رقاب، حفلات شوي أجساد حية، تهديدات وتحذيرات..."، ولكن الزمن في الرواية متعدد ومتشعب.

تفتح نوافذ الزمن المتعدد في الرواية من خلال أحاديث وذكريات وتداعيات ومذكرات الشخصيات ويعود أحياناً في لمحات سريعة الى الفترة في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين بالحديث عن الزهاوي ورشيد القندرجي والحكم الملكي في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي بالحديث عن حي نجيب باشا الذي تحول بعد فيضان دجلة وانكسار السدة الترابية الى حي الكسرة، مع التركيز على العراق في فترة صدام حسين منذ ما يسميه الراوي ترهات وحماقات النظام وما تلاها من أحداث مأساوية مثل سقوط بغداد وحتى عام 2006. بل إن كمال يعترض على مصطلح سقوط بغداد بقوله: "يقولون إن بغداد سقطت. لماذا يختزلونها الى تمثال"؟ في إشارة الى إسقاط تماثيل صدام عقب دخول المارينز بغداد، فيجاوبه صديقه (سلام الياسري): "هو اختزلها قبلهم".

بطل الرواية كمال ترزي وهو أستاذ جامعي عربي أصله من كركوك ويدرّس اللغة الاسبانية، وقد سبق له أن عاش فترة في اسبانيا وزار قرية الشاعر الاسباني لوركا وهو واسع الاطلاع على الثقافة الاسبانية التي تظهر في مذكراته والكتب التي يقتنيها ويقرأها ويستشهد بها الراوي في كثير من الاحيان وفي الموسيقى التي يعشقها وفي الحفلات التي يحضرها وحتى الأكلات التي يصنعها لعشيقاته. يعيش كمال في بغداد ويمر بكل الكوابيس والاحداث الرهيبة التي مرت بها بغداد، ولكنه يرفض الهجرة لأنه يعتقد أن الغربة ذلٌّ للانسان. ولكنه يبدأ في الشك في صحة موقفه عندما رأى ما حل بصديقته نسرين التي تحولت الى بائعة هوى في اللاذقية ودمشق. قال فيما يبدو نادماً على قراره: "لماذا لم أرافقها؟ ألم يكن بإمكاني أن أسافر أنا وإياها بعد سنة أو سنتين على بدء الاحتلال؟ ما الذي كنت آمله منه أن يمنحنا؟ يا لي من أحمق.. لقد اضعت امرأةً أعدتُ تكوينها بيديّ مثلما أعاد هيجنز تكوين بائعة الزهور أليزا في مسرحية برنادشو".

تعيش كل شخصيات الرواية أزمات نفسية واجتماعية ودينية، وتدل تصرفات كمال كما هي تصرفات ساكيني البناية الاخرين من النساء الارامل على أنهم يبحثون عن حلول فردية للخلاص من أزمات الحرب وويلاتها فيصبحون ضحايا الخوف والذعر والغربة والتطرف العبثي.

يبدو واضحاً توجهات كمال السياسية التي تحمّل الاحتلال الامريكي وممارسات النظام السابق كل آثام ما جرى، بينما تسعى لإظهار أن المقاومة هي عراقية وليست تابعة لقوى اقليمية مثل ايران ويبدو ذلك واضحاً من حديثه مع (راهبة) جارته الأرملة المندائية، فحين تقول راهبة: "رأيتهم قبل مجيئك يقفون هناك على مقربة من النخلة، وقد شبهتهم بايرانيين يقفون في السوق"، فإنه يقول لها: "هولاء ليس لهم يد في تفجيرها".

تتناول الرواية تأثير الحروب والسياسات التي شهدها العراق وتدخلات القوى الخارجية على الانسان العراقي بغض النظر عن أصله أو طائفته الذي ينعكس في صورة القلق والخوف والضياع والغربة وانتفاء الاحساس بجدوى القيم الوطنية، كما تطرح تفكك النسيج الوطني والاجتماعي والديني والثقافي. كما تتناول غياب الاستقرار النفسي لأبطالها وغرقهم في وطأة الكوابيس والاحلام المنهارة والبحث عن الجنس لأجل استعادة الحب المفقود والطمأنينة حيث لا يعود هناك قيمة جمعية للحياة يتعلق بها الانسان سوى الرغبات الذاتية، مثلما تبرز سخرية أبطالها من القيم الدينية والتقليدية المحافظة عندما يرون حوادث القتل والانتقام والخطف تحت شعار الدين.
تطرح الرواية مسألة الاحساس بعودة العراق للوراء وتخلفه في ظل هذه الاجواء على صعيد حقوق المرأة والتسامح الديني حيث تضطر فيفيان المسيحية الى ارتداء الحجاب خوف الانتقام من المليشيات في حين تتذكر هي وكمال أبياتاً من شعر الزهاوي في القرن التاسع عشر وفيها دعوته للمرأة للتحرر والسفور. وقبلها كان كمال قد كتب في مذكراته حواراً جرى بينه وبين سلام الياسري حول الاغاني العراقية القديمة لرشيد القندرجي والاغاني الحديثة التي يبدو كأنها ارتدت للوراء، فيقول: "أي ارتداد هذا؟ من ما بعد الحداثة الى الكلاسيكية؟"

يعاني كمال من حالة غريبة تنتابه طوال الرواية وهي انتصاب عضوه كلما سمع صوت انفجار، ولهذا يتعرض لعدة مواقف محرجة عندما يقع انفجار سيارة أو قذيفة أو صاروخ وخاصة عندما يكون في زيارة لإحدى جاراته أو أصدقائه. تستمر معه هذه الحالة التي قال له الطبيب أن أسبابها نفسية وتسبب له أرقاً. يبدو البعدان الرمزي والنفسي واضحاً في أن ويلات الحرب والاحتلال الجاثم تثير لدى الانسان غريزة التمسك بالحياة، والمقاومة وتصبح ردة الفعل متجهة أكثر نحو اشباع الذات في غياب القيم الدينية والاخلاقية وسقوطها بفضل النموذج العبثي تحت ضربات الطائفيين الذين يفرغون هذه القيم من محتواها الانساني. وهكذا يصبح الجنس والمحافظة على الحياة واشباع الذات المقهورة المحرومة هو الاكثر تحركاً وتجاوباً مع التحدي. ولهذا نرى في نهاية الرواية كمال حيث لم يعد عضوه ينتصب رغم الانفجار في دلالة مزدوجة على النهاية: نجاح الاحتلال في تعزيز وجوده كأنه شيء طبيعي والقضاء على مبدأ الرفض لوجوده، وفي الوقت ذاته سقوط كمال ضحية معبراً عن الاستكانة وفقدان الرجولة وتراجع غريزة التحدي والبقاء حيث يتعرض للخطف على أيدي جنود الاحتلال بعد أن وشى به الشيخ العلاّسي.

تعتمد الرواية على أسلوب السرد بضمير الغائب، ولكن هناك بالاضافة الى المذكرات والرسائل التي يرويها أصحابها، فصلان مهمان في الرواية يرويهما كمال وألماس بضمير المتكلم تحت عنوان (ما لا يعرفه الراوي) يكشف كل منهما فيه عن مرحلة سابقة من صباه ومراهقته. وتظهر في هذين الفصلين إشكالية الدين مبكراً لكل واحد منهما. فكمال يعثر على صندوق مغلق يثير فضوله ليكتشف فيما بعد على إثر قيامه بكسره أنه يحتوي "ألواح حضرة بهاء الله" وهو الكتاب المقدس عند البهائيين ويقع تحت تأثير اندهاشه أول الامر من نصوصه ومضامينه، لكنه يستغرب علاقة والده به، ليكتشف أن أباه وجدّه وكل عائلته كانوا بهائيين ولكن أباه اضطر للتحول الى الاسلام ليتزوج من امرأة مسلمة في كركوك. ومع الخشية من رعب المليشيات يقوم الاب بحرق الكتاب في الاتون. كما تتعرض ألماس الى موقف مواجهة وجدال حول معتقد الانسان ودوره في حياته مع زوج خالتها الخوري الذي يرفض وبشدة زواجها من ابنه ساندر اذا لم تتحول للمسيحية رغم الحب الشديد الذي يجمعهما، وتحاول بكل ما أوتيت من منطق أن تقنعه بجدوى الحب والزواج برغم اختلاف الدين، إلاّ أنه يرفض باصرار، وعندما تكشف له سر ممارستهما الجنس فانه يتوعدهما بالويل والثبور وطردهما مما يؤدي الى افتراقهما وموت الحب. واضح هنا توظيف مبدأ المفارقة في تقديم موقفين متشابهين متضادين ليعكس التراجع في حرية المعتقد والتسامح في أربعينيات وثلاثينيات القرن الماضي مقارنة بما يجري الآن، وتأكيد فكرة أن الامور عادت للوراء.

تعتمد الرواية على تقنية كتابة الرواية داخل الرواية، فكمال يكتب رواية هي أشبه ما يكون بكتابة المذكرات تختلط فيها الوقائع بالخيال ولكننا نكتشف كلما تقدمت الرواية أن أحداث رواية كمال هي جزء من ماضيه وحاضره، كما يفكر صديقه الفلسطيني جهاد البشير والذي يعرض عليه كمال أن يحميه في شقته على إثر الاضطهاد الذي تعرض له الفلسطينيون في بغداد في خضم العنف الطائفي فيما يسميه شاتيلا بغداد أن يكتب مشروع رواية هي أشبه ما تكون رواية كابوس يرى فيه أنه يقيم علاقة جنسية مع تسيبي ليفني كتعويض له عن القهر وفقدان الكرامة الذي يشعر به تجاه أفعالها القبيحة التي يخفيها جمال وجهها، من أجل إذلالها والانتقام منها في الخيال اذا لم يكن ذلك ممكناً في الواقع! كما يكتب صديقهما الحميم سلام الياسري الذي اغتالته عصابات القتل الطائفي مدونته وفيها يحكي عن فتاة رائعة يحبها اسمها غزالة يخطفها منه جنرال عسكري ويجعلها جارية له! ولكن سلام متعلق بها لأنه تذكره بغزالة في ديوان الاغاني الغجرية للوركا الشاعر الاسباني الذي قتل خلال الحرب الاهلية. ومن المفارقات أن سلام يقتل أيضا خلال الحرب الطائفية في العراق. كما تكتب نسرين رسائل الى كمال من مكان غربتها تروي له فيها معاناتها وإذلالها في سبيل لقمة العيش.

تمتاز لغة السرد في الرواية بالانسيابية والسلاسة والشعرية من خلال لغة بسيطة سهلة بعيدة عن الفلسفات الفكرية والحوارات التجريدية المغرقة في تأويلات الفكر والمطلق، ولكنها في الوقت ذاته مثقلة بالمعاني والاشارات والرموز ونقل ظلال نفسية تتمثل في الغوص في عالم الشخصيات الجواني لنقل معاناتها وأحزانها المكبوتة وأحلامها المقتولة التي تحولها إلى شخصيات بائسة يرثى لها. تنجح الرواية بلغة مشحونة في إظهار أزمات شخصياتها مما يمكن معه تصنيفها بالرواية النفسية أو السيكولوجية رغم زخم الاحداث فيها ولكن ما يجري في العالم الداخلي من كوابيس وأفكار سوداء وخوف وأمنيات لا تتحقق والتعبير عنها أهم من أحداثها الخارجية. 
يبدو واضحاً في الرواية تأثير القضية الفلسطينية والبعد القومي الذي يغلب على تفكير بعض الشخصيات وخاصة كمال وصديقه سلام الياسري برغم انهماكهما ومعاناتهما من مأساة الواقع العراقي، لكأنما تؤكد الرواية الارتباط بين القضيتين العراقية والفلسطينية. فسلام يشعر بالتشاؤم لأنه سافر الى اسبانيا يوم الخامس من حزيران الموافق لذكرى النكسة، كما أن كمال وسلام قد عاشا ودرسا مع صديقهما الفلسطيني جهاد البشير الذي أصبح من أعز أصدقائهما وتقاسما معه كل شيء. كما يبدي كمال تعاطفاً حقيقيا مع صديقه جهاد حين يتعرض للاضهاد ويتفاعل كثيراً مع فكرته حول الشروع في رواية حول تسيبي ليفني.

توظف الرواية الجنس وتبرزه كأحد افرازات الاحتلال الامريكي لبغداد وكأحد طرق التعبير عن العواطف المكبوتة في ظل الخوف بصورة مفرطة للغاية حتى يكاد لا يوجد فصل في الرواية دون ذكر أو اشارة أو تصوير لقاء جنسي. بل إن الاغرب من ذلك أن الرواية فيها حوالي خمس عشرة شخصية نسائية ما بين شخصية رئيسة مثل نسرين أو راهبة أو ألماس أو أنثى عابرة في الرواية مثل تلك المرأة التي يذكرها جهاد البشير لأنها باعته زجاجة من العرق وتنام معه ليلة مقابل عشرة الاف دينار.. لا يوجد ولا إمرأة واحدة في الرواية لا تمارس الجنس كعشيقة أو بائعة هوى حتى فيفيان العجوز الارملة المسيحية توحي كلمات كمال أنها على علاقة ببنيامين الخوري!


يلاحظ أن هناك تسارعاً في إقحام الشخصيات في الجزء الاول حيث تم تقديم سبع عشرة شخصية في الصفحات التسع الاولى. كما نلاحظ أن الراوي يسرع وتيرة السرد في الفصل الاخير المكون من خمس صفحات. ففيه يرحل زهراب هاكوبيان وزوجته الى أرمينيا، كما يرحل جهاد الفلسطيني الى مخيمات الحدود بعد أن يترك رسالة قصيرة لكمال دون أن يودعه، مثلما تتصل زهراء من إسبانيا بكمال لتخبره عن فشل محاولاتها في التوسط للحصول على عمل له في السفارة العراقية في مدريد مما يعني انتهاء علاقته بها، كما اختفت ألماس التي كان مقرراً أن يتزوج بها كمال، ويتعرض كمال نفسه للاختطاف على أيدي جنود المارينز أمام مدخل البناية في نهاية مفتوحة على التأويلات إن كان ذلك مجرد اختطاف أم اغتيال كما تقول الجملة الاخيرة: "التفت بسرعة الى يمينه والى يساره فإذا بالكفّين اللتين تمسكان به هما لكائنين يفوقانه طولاً، يرتديان بزتين مرقطتين شبيهتين بجلد أفعى..."

وفي الختام، فقد نجحت الرواية في تناول شفيف وذكي لأبعاد متعددة لويلات الحرب بما يترك للقاريء إدراك أزمات أبطالها النفسية والحياتية والتعاطف معها بأسلوب بعيد عن التقريرية أو الرثائية وتقديم شخصيات متنوعة تعكس الواقع الفيسفسائي للمجتمع العراقي بتعدد أصوله ودياناته وثقافاته والتي حولت الحرب حياتها الى كوابيس متواصلة وحولتها هي الى ضحايا مذعورة خائفة تبحث عن الخلاص الذاتي. ولعل رسالة جهاد البشير قبل رحيله عن بغداد تلخص فشل حلول الخلاص الذاتي: "لقد ايقنت تماما أن القوة تصنع الحق كما يقول شكسبير. " كل الامكنة هنا تنطوي اليوم على غدر متخفٍ تباغتنا به في كل لحظة عشوائية لترسلنا الى الموت على غفلة من تدابيرنا وتوقعاتنا".

* نشرت المقالة في الملحق الثقافي لجريدة الدستور الاردنية يوم الجمعة بتاريخ 6/11/2009
يرجى الضغط على الرابط التالي لقراءة المقال في الصحيفة:
الدستور الثقافي

كما يمكنك تحميل صورة الصفحة المنشورة على الرابط التالي:
صورة الصفحة الكاملة



هناك تعليقان (2):

  1. العزيز الكاتب اياد نصار

    كما نجحت رواية الكاتب الكبير عواد علي في التعبير بعمق فني هائل لرؤيته الذاتية فيما يتعلق بقضايا العراق المعاصرة، فإن مقالك قد نجح بالمقابل ومن خلال جهد مميز في تقليب الطبقة السطحية الظاهرة للرواية كي يتسنى للمتلقي الدخول بملكة يقظة نحو عمق ما ترمي إليه الرواية... في الحقيقة إن من يقيم في دول النخيل ويلتقط بعض مشاهد لا تنتمي لهذا الموروث الشعبي العريض فانه أول ما يلفت النظر هو تلك النخلة المائزة والتي تنتشر على الأرصفة بوقع متعالٍ قليلا لا يحمل أي هوية تنتمي لذلك الموروث، لتبدو جميلة لكنها غريبة وهجينة، الكاتب الكبير عواد علي والذي اعجبتُ كثيرا بمداخلاته الشفهية في ملتقى القصة القصيرة في عمان هذا الصيف، قد كان يتوج خلاصة ابداعه في تلك الرواية بتلك التسمية" نخلة الواشنطونيا" والتي لها مدلول كما قلت لك لا يعرفه إلا من عاش في دول النخيل.

    تحياتي لك

    ناصر الريماوي

    http://nafaba.maktoobblog.com/
    nafaba@gmail.com

    ردحذف
  2. الصديق القاص المبدع ناصر الريماوي
    تسعدني متابعتك الدائمة للمقالات والمواضيع، وتنم تعليقاتك عن فهم عميق وتذوق راق لمضمون الاعمال وعناصر بنائها الفني وأساليبها التعبيرية المختلفة بصفتك أديبا ومبدعاً. لقد سعدت كثيرا بقراءتك الواعية للمقالة واقتدارك الادبي والفكري في تلمس مختلف الجوانب والابعاد الرمزية والنفسية في الرواية والتي هدفت مقالتي الى ابرازها والتركيز عليها ومدى ملائمتها للجوانب الهامة التي عكسها العنوان. أتمنى أن يستمر التواصل بيننا. وسيكون لي قريباً جولة نقدية مع جاليريا. طاب مساؤك أيها الصديق الجميل

    ردحذف