الأحد، فبراير 17

القلب الواشي


قصة ادجار ألان بو

ترجمة ايـاد نصـار


صحيح! عصبي حتى العظم بشكل مروع. كنت كذلك ولم أزل. ولكن لماذا ستزعم أنني مجنون؟ لقد صقل المرض حواسي. لم يدمرها ولم يجعلها بليدة، وفوق ذلك كله كانت حاسة السمع لدي حادة. سمعت كل الاشياء في السماء والارض.. سمعت أشياء كثيرة في الجحيم، فكيف اذن أكون مجنونا؟!


أرهف السمع! وراقب كيف أستطيع أن أخبرك القصة كلها بهدوء وصحة معافاة تدل على سلامة عقلي:


من المستحيل القول كيف دخلت الفكرة الى رأسي لاول مرة، لكنني تخيلتها ذات يوم. لقد طاردتني ليل نهار. لم يكن ثمة دافع، ولم يكن ثمة انفعال. لقد أحببت الرجل العجوز.. لم يخطيء معي ابدا.. لم يوجه لي اهانة في حياتي على الاطلاق، ولم تكن لدي رغبة في أمواله. اعتقد انها كانت عينه! نعم، انها هي! احدى عينيه كانت تشبه عين نسر. كانت عينا زرقاء شاحبة تعلو بصرها غشاوة. كان الدم يتجمد في عروقي كلما وقعت علي.. و شيئا فشيئا قررت أن أسلب الرجل العجوز حياته .. وأخلص نفسي من العين الى الابد.


هذه هي النقطة الاساسية الان. أنت تحسبني مجنونا. المجانين لا يعرفون شيئا. كان عليك أن تراني.. أن ترى كيف تصرفت بحكمة وروية، وأقدمت على العمل بحذر وبعد نظر، وقدرة فائقة على الاخفاء.


لم أكن لطيفا مع الرجل العجوز من قبل مثلما كنت كذلك طوال الاسبوع الاخير قبل أن اقتله. في ذات ليلة في حوالي منتصف الليل، كنت أدير مزلاج بابه، وافتحه بهدوء بالغ!


وعنذئذ عندما أتيح لراسي فتحة كافية، أشعلت مصباحا خافتا لا يتسلل منه أي شعاع للخارج، وصرت أتلصص برأسي.. أووه. كنت ستضحك بالتأكيد لو رايتني وانا أتلصص للداخل ببراعة..حركته بأناة شديدة، كي لا أزعج نوم الرجل العجوز. كانت تستغرقني ساعة كاملة لادخل رأسي كله في الفتحة حتى أستطيع أن أراه وهو مستلق على فراشه! هل يمكن أن يكون المجنون حكيما هكذا؟! ومن ثم عندما يصير رأسي داخل الغرفة، كنت أزيد ضوء المصباح بحذر، بحذر شديد لا سيما حين تبدأ ابرة المصباح بصريرها.


كنت أزيد ضوء المصباح بالقدر الذي يسمح لشعاع يتيم واهن أن يقع على عين النسر فقط.. وفعلت ذلك سبع ليال طوال. كل ليلة عند انتصافها. لكنني كنت أجد العين دائما مغمضة. وهكذا كان من المستحيل أن تقوم بالعمل! لانه لم يكن الرجل العجوز هو الذي يثيرني، لكن عينه الشريرة. وفي كل صباح عندما يطلع النهار كنت أذهب بجرأة الى حجرته،وأتكلم معه بشجاعة.. أناديه باسمه بنغمة ودية من أعماق القلب، اسائله كيف قضى الليل.


لذلك فأنت ترى انه كان عليه ان يكون رجلا عميق التفكير كثيرا ليتوقع مني كل ليلة عند الساعة الثانية عشرة أن اختلس النظر اليه وهو نائم. في الليلة الثامنة كنت أكثر حذرا من المعتاد في فتح الباب. كان عقرب الدقائق في ساعتي يتحرك بسرعة لم أعهدها منه من قبل! لم اكن اشعر قبل تلك الليلة بمدى قدراتي.. ومدى ذكائي الخارق. بصعوبة استطعت أن احتوي شعوري بالنصر.. تفكيري أنني كنت هناك، أفتح الباب قليلا قليلا، وهو يحلم حتى بصنيعي .. بمآثري السرية.. أو أفكاري. ضحكت تماما للفكرة، وربما سمعني لانه تحرك فجأة في فراشه فجأة كما لو أنه جفل من شيء ما.. ربما تظن أنني ترددت حينها..لكن لا.


كانت غرفته في ظلام دامس.. غارقة في السواد اذ كانت مصاريع الابواب محكمة الاغلاق خشية اللصوص. ولذلك عرفت أنه لن يتمكن من رؤية شق الباب.. وبقيت أدفعه بثبات. أدخلت رأسي وكنت على وشك اشعال المصباح عندما انزلق ابهامي على علبة المصباح القصديرية. انتفض الرجل العجوز في الفراش، ووثب عاليا يصيح: من هناك؟ بقيت هادئا في مكاني، ولم أنبس ببنت شفة. ساعة كاملة انقضت وانا متجمد في محلي لم احرك عضلة. وفي أثناء ذلك لم اسمعه يستلقي على السرير مرة أخرى. كان ما يزال جالسا في السرير يصغي السمع مثلما فعلت أنا.. وهكذا ليلة بعد ليلة يظل يصغي الى الموت وهو يراقب الجدار. وعندها سمعت أنينا واهيا .. أدركت أنه أنين الذعر القاتل. لم يكن أنينا من ألم أو أسى..أوه ..كلا! كان صوتا خفيضا مخنوقا كالذي يخرج من أعماق النفس عندما تمتليء رعبا.. أدركت الصوت جيدا، فكثيرا من الامسيات عند منتصف الليل تماما، عندما ينام العالم، كان يخرج مثله من صدري عميقا بصداه المفزع وذعره الذي يذهلني. أقول أنني أدركته جيدا، أدركت بماذا شعر الرجل العجوز، فشعرت بالشفقة عليه رغم أنني ضحكت لذلك من أعماق قلبي. وعرفت أنه بقي مستيقظا منذ أن سمع الجلبة الخافتة الاولى حين وثب في الفراش وسيطرت عليه مخاوفه منذ ذلك الحين.. حاول أن يتخيلها أوهاما بلا سبب..لكنه لم يستطع. كان يقول لنفسه: ليس هناك شيء غير الريح في المدخنة، انه مجرد فأر يعدو على أرض الغرفة، أو حشرة صرار الليل قد اصدرت سقسقة واحدة. نعم كان يحاول أن يريح نفسه من هذه الافتراضات لكن دون جدوى. عبثا يحاول لأن الموت يدنو منه، وقد وقف بشموخ أمامه بظله الاسود وهو يطوق الضحية، فكان تأثير الحداد المحزن للظل غير المرئي هو الذي جعله يشعر بذلك مع أنه لم ير أو يسمع ما ينم عن وجودي داخل الغرفة.


ولما طال انتظاري كثيرا، ونفد صبري دون أمل بأن يعود للنوم ثانية، فقد عزمت أن أرفع ذبالة المصباح قليلا..قليلا. وبالفعل حركتها.. لا تتصور كيف لمستها خلسة .. مجرد لمسة، بالكاد سمحت لشعاع ضئيل معتم مثل خيط العنكبوت ان ينطلق من شق المشكاة ويسقط على عينه عين النسر!


كانت مفتوحة .. واسعة..عريضة جعلتني أكثر غضبا واهتياجا. كلما حدقت فيها أكثر رأيتها متميزة تماما.. زرقاء يعوزها البريق وفوقها حجاب بشع ارتعدت له فرائصي حتى النخاع. ولم أستطع أن أرى شيئا اخر من ملامح وجه الرجل العجوز أو شخصيته فانا قد وجهت بصيص النور غريزيا بلا شعور مني بدقة الى تلك البقعة اللعينة.


والان.. ألم أخبرك بما تعتقده خطأ بالجنون، وهو في الحقيقة حواس مرهفة فوق العادة. اقول لك لقد تناهى الى سمعي صوت سريع خفيض واهن مثل دقات ساعة وضعت في كومة من القطن. أنا أعرف ذلك الصوت جيدا.. كان صوت ضربات قلب الرجل العجوز.. لقد أثارت غضبي بشدة مثل طبل يقرع يحث الجندي على اظهار الشجاعة. لكني حتى تلك اللحظة أحجمت عن عمل شيء، وبقيت هادئا. أخذت أتنفس بصعوبة وأنا أحمل المصباح في سكون عميق. حاولت ما وسعني الجهد أن أبقي الشعاع ثابتا فوق عينه.. واثناء ذلك ازداد ايقاع القلب الشيطاني.. صار أسرع وأسرع..أعلى واعلى.. لا بد أن فزع الرجل العجوز قد بلغ حده الاقصى! أخذ يعلو أكثر، أقول لقد اصبح يعلو أكثر من ذي قبل كل لحظة. هل تصغي الي جيدا؟


بقيت برهة ساكنا لم أفعل شيئا، لكن الخفقان أخذ يعلو أكثر فاكثر! ظننت أن القلب قد انفجر.. لقد حانت ساعة الرجل العجوز! صرخت صرخة عالية وأنا أشعل المصباح للنهاية، وقفزت الى داخل الغرفة.. صاح صيحة واحدة.. واحدة فقط وفي لحظة سحبته الى الارض.. ووضعت الفراش الثقيل فوقه .. هنيهة .. ثم ابتسمت بابتهاج وأنا أجد صنيعي قد تم لهذا الحد. لكن، لبضع دقائق استمر القلب في دقاته بصوت مكتوم.. لم يثرني على أية حال.. فهو لن يسمع عبر الجدار خارج العرفة..وأخيرا توقف.. لقد مات الرجل العجوز. رفعت الغطاء وفحصت الجثة. نعم انه مثل قطعة من الحجر.. ميت تماما.


وضعت يدي فوق قلبه لعدة دقائق، ولم يكن ثمة نبض بالحياة. كان يتمدد جثة بلا حراك. لن تزعجني عينه بعد ذلك. اذا كنت ما تزال تحسبني مجنونا، فستبقى على اعتقادك هذا حال أن اصف التدابير الحكيمة التي اتخذتها لاخفاء الجثة.


كان الليل قد أوشك على اخر لحظات الوداع، فعملت بعجلة، ولكن في صمت. قبل كل شيء قطعت اوصال الجثة.. قطعت الرأس واليدين والرجلين، ثم خلعت ثلاثة ألواح خشبية من أرضية الغرفة، ووضعت كل شيء تحت قطع الخشب، وأعدت الالواح الى مكانها بذكاء عجيب وبراعة نادرة، فلا تستطيع عين بشرية ولا حتى عينه أن تلاحظ شيئا.. لم يكن هناك شيء بحاجة الى تنظيف.. لا توجد بقعة أيا كان نوعها.. لا نقطة دم البتة. لقد كنت حذرا جدا.. حوض الغسيل تكفل بكل شيء.


عندما انتهيت من هذه الاعمال كانت الساعة تشير الى الرابعة صباحا، وما تزال الدنيا مظلمة مثل منتصف الليل. وما ان دق الرقاص معلنا عن الساعة حتى سمعت طرقا على الباب الخارجي المطل على الشارع. ذهبت لافتح بقلب مبتهج خال من الهموم.. ولماذا أخاف الان؟


دخل ثلاثة رجال. قدموا أنفسهم برقة بالغة.. كانوا رجال شرطة. فقد سمع أحد الجيران أثناء الليل صرخة.. وهناك اشتباه بأن عنفا قد حصل، اذ قدمت شكوى الى مركز الشرطة.. وهم. اي رجال الشرطة قد كلفوا بالبحث عن الاسباب. ابتسمت.. ولماذا علي أن اخاف؟ رحبت بالسادة.. أخبرتهم ان الصرخة صدرت مني في حلم مزعج انتابني، وأشرت الى ان الرجل العجوز غائب عن البلاد.. ثم تجولت مع زواري في ارجاء المنزل.. دعوتهم ان يبحثوا كما يشاؤون وقلت: فتشوا جيدا.. أخذتهم أخيرا الى غرفته، أريتهم كنوزه وأمواله باطمئنان وثقة.. لم أكن مضطربا، وبحماس من ثقتي العالية أحضرت لهم كراسي ووضعتها داخل الغرفة ورجوتهم أن يستريحوا من عناء العمل وارهاق الوظيفة، بينما وضعت لنفسي بجرأة جامحة من نصري العظيم مقعدا فوق المكان الذي ترقد فيه الضحية رقدتها الابدية تماما.


كان رجال الشرطة مقتنعين راضين.. لقد أقنعهم سلوكي.. كان هادئا .. متحررا من القلق والارتباك على نحو فريد. فقد جلسوا بينما رحت أجيب بمرح ورشاقة. تحدثوا عن اشياء وتساءلوا من غير تكلف عن اشياء مالوفة.. فجأة بدأت اشعر بالوهن يدب في جسمي الذي تحول شاحبا، وتمنيت لو أنهم يغادرون. أخذ الالم يثور في راسي، وتخيلت طنينا يملأ أذني.. لكنهم ما زالوا جالسين يثرثرون.. أصبح الطنين أشد وقعا في اسماعي.. استمر وصار أكثر وضوحا.. أخذت أتحدث بحرية اكبر لاخلص نفسي من هذا الشعور.. لكنه استمر وازداد حدة.. حتى اكتشفت أخيرا أن الطنين لم يكن داخل أذني!


لا شك ان الضعف قد نال مني الان كثيرا، ودب الشحوب في أوصالي، ورغم هذا فقد تحدثت بطلاقة، وبصوت قوي. لكن الصوت المزعج ما يزال في ازدياد.. وماذا استطيع ان افعل؟ كان صوتا سريعا خافتا .. أعلى من صوت دقات الساعة في غياهب القطن. لهثت لاسترد أنفاسي المقطوعة، ولحسن حظي فان رجال الشرطة لم يسمعوا الصوت. أخذت أتحدث بسرعة اكبر ولهجة متقدة متفجرة.. لكن الضجيج راح يزداد باطراد. نهضت اجادل وأناقش باشياء تافهة بصوت عال وايماءات منفعلة، لكن الضجيج ازداد.. لماذا لا يريدون أن يذهبوا من هنا؟


وقمت أذرع ارض الغرفة جيئة وذهابا بخطوات متثاقلة، وقد اثارتني نظرات الرجال واشعلت في نا رالغضب الشديد.. لكن الضجيج استمر في ازدياده.. يا الهي! ماذا استطيع ان افعل؟


أخذت أرغي وأزبد.. أهذي واشتم.. لوحت بالمقعد الذي كنت أجلس عليه ورحت اصر به صريرا عاليا فوق الواح الخشب، لكن الضجيج ارتفع فوق كل ذلك. اصبح أعلى واعلى! والرجال ما زالوا يثرثرون في مواضيع شتى وبتسمون.


أمن الممكن انهم لم يسمعوا شيئا؟ يا الهي .. كلا كلا! لقد سمعوا! لقد شكوا! لقد عرفوا! اتخذوا من فزعي هزوا وسخرية! هكذا اعتقدت وهكذا اعتقد لحد الان. ومهما يكن من أمر، فان اي شيء هو افضل من هذا الصراع العنيف.. اي شيء يمكن احتماله غير هذه السخرية! لا استطيع ان اطيق ضحكاتكم الزائفة المرائية اكثر من ذلك! اشعر بأن علي أن اصرخ حتى الهستيريا أو أموت.. ها قد رجع الصوت مرة أخرى.. يعلو .. يعلو .. يعلو..! صرخت: أيها الرجال كفاكم تخفيا وخداعا! اني أقر بجريمتي. انتزعوا الالواح الخشبية ها هنا! انها دقات قلبه اللعين!

هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف7:02 م

    Great translation of one of my favorite stories for Edgar Allan Poe. The irrational fear which evokes the dark side, and eventually leads to a horrible act.... The fear that can consume us to the point that we become a victim to the madness which we initially hope to elude

    ردحذف