الجمعة، أكتوبر 8

شجرة الحياة

شجرة الحياة
اياد نصار

*نشرت في الملحق الثقافي بجريدة الرأي الاردنية بتاريخ 8/10/2010

تبقى صورتها وهي تلفظ أنفاسها تلح على خياله برغم السنوات التي مضت. مرّت أحداث كثيرة، لكنها تعلقت بذاكرته دون غيرها. امّحت تفاصيل تلك الايام وتغير المكان، وهي لم تتغير. تلاشت وخزة الالم في القلب، وظلت نكهة الحزن باقية في الذاكرة. نكهة غريبة تسكن في التلافيف من غير أن يجد لها تفسيراً.


في نهاية الممر الحجري المرصوف شجيرة لوز صغيرة. تقف وحيدة صامتة في حوض ترابي صغير بجانب السور الاسمنتي. وُضعت حولها بعض الاحجار، لتحفظ الماء حول ساقها. ليس هناك من شجيرة غيرها في كل الساحة الطويلة. ساحة ترابية تملؤها الحصى والحجارة وبعض قطع الصخور. نبتت الحشائش بين الصخور، وتمددت فوق أرضها الصلبة التي تأكل الاقدام بقسوتها.

كثيرة هي المرات التي تحول فيها لعبهم الى مشهد حزين. كانوا يتحلقون حول المصاب وقد سال الدم من يديه وركبتيه.. وانكشط الجلد وامتلأ الجرح بالتراب. منظر قاسٍ، لكنهم اعتادوا عليه. يتوقفون قليلاً لاسعافه بما تبقي في جيوبهم من محارم، ثم لا يلبثون أن يعودوا للعب وينسوا كل شيء. ولكن الندوب مثل الذكريات المرة تبقى للابد.

تلح صورة الشجيرة وهي تموت على خياله. تعلّق كريم بها في الاشهر الماضية كثيراً. يرى فيها شبهاً من أمه التي رحلت قبل أن يعرف معنى الموت.. يرن جرس الفسحة.. يخرج الى الساحة.. يركض اليها باشتياق.. يجلس بجانبها قبل أن يسبقه الاخرون. يأتي إسماعيل وأمجد ويجلسان الى جانبه. لا يطيلان المكوث.. دقائق معدودة ثم يذهبان. يبقى جالساً بجانبها وحده، يطيل النظر الى أوراقها.. لا يعرف لماذا تعلق بها.

الريح عاصفة خارج غرفته الصغيرة، والغيوم كثيفة رمادية، تملأ السماء كآبة وإحساساً بالوحدة. تتفتت الغيوم شاردة نحو الشرق. جاءت بوادر الخريف مبكرة هذه السنة. إصفرّت أوراق الدالية، وسقطت عند مدخل غرفته. يستعجل الغروبُ توديعَ النهار ليحل مكانه! يجلس كريم في غرفته الصغيرة في زاوية الشرفة المطلة على الوادي. ليست غرفة بمعنى الكلمة، بل زاوية أو قفص أو كشك مثل كشك الخفير، يسميها الخيمة! ولكنها مثل صومعة يعتكف فيها بعيداً عن هدير الدنيا وقصص الحياة المكرورة! نادراً ما تأتي قصة لا تندرج تحت عناوينها الرتيبة التي سئم منها: الولادة.. الموت.. الزواج.. الطلاق.. السفر.. العودة!

بيت قديم في حي شعبي مكتظ بصناديق الحياة الاسمنتية. وفي خيمته مكتبه الحديدي القديم وعليه كتبه في الكلية، وأمامه طاقة تطل على الشارع البعيد في الاسفل. علّق على الحائط بجانبه صورتها بالابيض والاسود. نبش الماضي كثيراً من غير جدوى. ماتت معها الحقيقة بهدوء منذ سنوات طويلة. ينقبض قلبه حزناً من التفكير بموتها. الى جانبه كومة عالية من الكراسي الحديدية الصغيرة. في النهار يضعونها جنباً الى جنب في خط واحد على طول الشرفة الطويلة، وفي الليل يرتبونها فوق بعضها في غرفته! حلّ المساء والسيارات كالسيل، تنوء بأجساد منهكة متعبة عائدة من غرب المدينة الى شرقها.

إزدادت كآبة الغروب، والغيوم ما تزال تشرد نحو الشرق. ينظر كريم من طاقة غرفته، ويسمع السيارات المكدودة وهي تطلق زوامير أبواقها المحمومة.. البيت هاديء لغاية الان. لم يعد أبوه بعد. يعود كل يوم من الورشة مع حلول العتمة. هاديء وفي عينيه حزن قديم، لكنه يثور من غير سبب. يخشى كريم ثورته المجنونة وصوته الفظ. يذكّره أبوه بالمعلم علوان. يشبهه كثيراً. لم تمحَ صورته من خياله برغم السنين. مضت ساعة وهو يقرأ الصفحة ذاتها في الكتاب أمامه ولا يفهم منها شيئاً.

يسرح في دفاتر الذكريات. تلح صورة شجيرة اللوز على أفكاره. قطع صوت غطاء الشباك الحديد بالاسفل ذكرياته، خرج من غرفته. رأى "حنين" تغلق غطاء الشباك. كانت تنظر الى الشارع من غير أن تراه. بقي واقفاً ينظر اليها. لمحته. ضحكت وأغلقت الشباك، فماتت بوادر إبتسامة على وجهه. التفت بنظره، رأى أخته على باب الشرفة تراقبه. شعر بخجلٍ، فدخل الى غرفته بسرعة وأغلق الباب خلفه!

عاد لشروده من جديد. يحس أن الرائحة ستخنقه. يجلس المعلم علوان على طرف مقعده وهو يختبرهم واحداً بعد الاخر على السبورة، وينفث السجائر كالمدخنة. صوته خشن وغليظ، ويلبس نظارت سميكة توحي بالبرود وغياب الرأفة من قلبه. يدخن نوعاً رخيصاً يسبب لهم صداعاً. لكنهم يتحمّلونه صامتين. يخشى الكل سطوته. بعد فترة نسي التلاميذ إسمه وصاروا يعرفونه باسم "ابو ريحة"! يعد كريم الدقائق في انتظار أن يرن الجرس. مر الوقت متثاقلاً كعادته! كانت أطول حصة في حياته! فكر في الشجرة الصغيرة. شعر بالاطمئنان وهو يجلس الى جانبها. عندما يعود للبيت في نهاية كل يوم، يحس أنه ترك جزءاً منه لديها.

لم يعد يسمع صوت الشباك. مرت أيام عديدة لم يرَ فيها "حنين". يخرج من غرفته وينظر الى شباكها، لكنه مغلق طيلة الوقت. جاء والدها الى بيتهم الاسبوع الماضي. حمل كريم الصينية وقدم الشاي. أخرج أبوها مغلفاً من جيب معطفه وناوله لأبيه: "يشرفني حضوركم حفلة إبنتي". إهتزت الصينية في يده وكادت أن تقع. أحس بطعم حامض في صدره. إضطرب قلبه من ألم ناعم سرى في جسده. خرج الى غرفته ودمعة خرساء تتكون في عينيه. إنتابته مشاعر مختلطة. فتح درج مكتبه وتناول مفكرته. أمسك القلم بأصابع مرتعشة. فرّغ حزنه في كلمات ذكرياته مرة أخرى.

في ذلك اليوم الذي استوطن ذاكرته جاء المعلم علوان ومعه بعض الادوات والدوارق وعصاه الغليظة الملساء التي لا تفارقه. شرح لهم عن تجربة عملية للكشف عن الاحماض والقواعد. شرح عن سائل شفاف ظنوه ماءً. أثار إستغراب كريم.. صافٍ كالماء ولكنه حارق يذيب الاشياء. كان كريم شارداً في خضم تساؤلاته.. كيف يمكن أن تبدو الاشياء صافية هادئة وفي داخلها نار حارقة؟ هكذا يبدو أبوه دائماً. إنتهى المعلم علوان من التجربة. نادى على عبدالجبار وناوله الدورق، كي يتخلص مما فيه بلهجة آمرة:

- إياك أن تحرق نفسك.

توقف كريم عن الكتابة. نظر الى الشارع. لمح الشباك المغلق. تحركت غصة خامدة في الحلق. بقي يفكر في الحمض ولم يستطع أن ينسى سيرته بسهولة! كان متلهفاً للخروج، منتظراً أن يدق الجرس. مرت الدقائق طويلة مملة، وهو يكاد يختنق من الجو الثقيل. رن الجرس أخيراً. خرج مسرعاً في الممر الطويل.. نزل الدرج قفزاً حتى وصل الساحة. ركض الى شجيرته الصغيرة. جلس بجانبها.. صدمه منظرها.. كانت المنطقة حول ساقها تغلي وتفور بالفقاعات. أخذ ينظر اليها وهي تموت. انفجر في أعماقه غضب ممزوج بالحزن والألم. تذكر أمه التي غابت عن عينيه قبل أن يكمل سنواته الثلاث. كان على وشك البكاء. أحس حنقاً يتفجر بداخله. بحث عن عبدالجبار طيلة الفسحة حتى وجده. أمسك به من عنقه. رأى الخوف على وجهه من الغضب الذي يقدح شرراً في عينيه كمن ينتظر لحظة الاعدام. وفي لحظة كانت يده الاخرى تطيح به الارض بكل قوة، وبقايا الطعام تتناثر من فمه، والدم يسيل من أنفه.

رابط الصفحة بجريدة الرأي

رابط الصفحة الكاملة (يرجى الانتظار ريثما يتم تحميل الصفحة)




هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف11:36 م

    لما أوشكت أن أجتث جذورك فأغرسها في روحي ..أودع الاخرون فيك أرقهم المحموم يا دعتي ...فمن أين لي برحم ثالث يا امي ؟؟؟

    كانت القصةفي أعلى درجات الصدق , كل ملامحها جميلة , مفجرة للانسانية في دلالات تتطلع الى الوعي الداخلي بحرارة
    كان يجب على الكثيرين مم قرأت لهم أن يسدو للغة خدمة العمق في الطرح, والانسانية في غزو المشاعر , حتى يكبل ابداعهم داخلي ..اما قصتك هذه فقد فعلت هذا بها
    تحياتي
    ب _- فاطمة الجزائر

    ردحذف