السبت، يناير 24

إمرأة في حفل توقيع!


إمرأة في حفل توقيع!

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

قالت أنها ستسافر الى المكسيك أو إندونيسيا لو اقتضى الامر. لم تستطع أن تخفي ألماً بدا واضحاً في نبرة صوتها المتهدج المتلعثم. كنا نصغي اليها تروي مأساتها بحزن وحسرة. لكنها لم تبك. بقيت متماسكة. أدركتُ أن قوتها الظاهرية تخفي ضعفا كامناً. في آواخر الاربعينات وتدخن بأناقة! شعرها قصير يصل الى كتفيها وذهبي مصبوغ لكن اللون الاسود والشيب الابيض يتموجان فيه كلوحة الوان تجريدية. ترتدي بلوزة قطنية بيضاء مخرمة عند الاردان وحول الرقبة وفتحة الصدر. أخبرتني في أول لقاء أنها تزوجت وهي صغيرة وضاعت زهرة شبابها في المطبخ! فاجأتنا بصراحتها الجريئة. قال لي أحدهم هامساً: "أوقفها. لا يليق بهذا المكان أن تتحدث بأمور خصوصية هكذا. ليس مكانها هنا". لكنني تظاهرت كأنني لم أسمع.

نجلس في مقهى مزدحم في وسط المدينة يلتقي فيه عادة الكتاب والفنانون. المقهى يعج بالرواد هذه الليلة. الاضواء الصفراء خافتة ودخان السجائر والاراجيل يتصاعد كحلقات تتبدد في الهواء. تملأ صور جيفارا الجدران وهناك رسوم بالابيض والاسود لفيروز ومارسيل خليفة. على طاولتنا صندوق خشبي مزخرف مغطى بلوح من الزجاج ، فيه ورود مجففة وعملات ورقية مختلفة من دول شتى للذكرى. في زاوية المقهى منصة جلس عليها عازف عود، ولكن الرواد مشغولون بأحاديثهم فلم يصغ اليه أحد. ينظرون اليه وهم يتطلعون في أرجاء المكان فتحس كأنهم مستغرقون في الاستماع!

قالت سمية بتأفف: "لا أستطيع العيش هنا. الحياة هنا صعبة ومليئة بالمشاكل. لقد تعودت على العمل والسفر. الكل هنا يحسب عليك خطواتك". جاء نادل ومعه فناجين قهوة وضعها أمامنا. على غير عادة هناك كأس طويلة مليئة بسائل أخضر كالعشب. وضعها أمام عامر. نظرت اليه. فهم مغزى نظراتي. قال: "ليمون بالنعناع. كم هو لذيذ. يتقنون صناعته في هذا المقهى". تناولت فنجان القهوة. رشفت قليلاً. كانت مرة كالعلقم. تلفّت أبحث عن نادل. كانوا مشغولين بتوزيع الطلبات. نظرت الى عامر وهو يحتسي ذلك الشراب المخضوضر. بلعت ريقي. لقد شربت خمسة فناجين قهوة منذ الصباح. وددت أن أطلب مثل شراب عامر. خفت أن يفسروا ذلك بالحسد أو الغيرة. رشفت مرة أخرى من القهوة على مضض وأنا أبحث عن النادل كي يستبدلها بأخرى. قال هادي وهو يقلب صفحات كتاب في يده: هل قرأت كتابه؟
- نعم ، لقد عشق الحانات فلا يكتب الا عنها ومنها!
- تخيلته مثل أبي نواس في حانة في بغداد
- يعرف حانات بغداد كلها واحدة واحدة! وكتب عنها
- يبدو أنه نقل معه حاناته الى عمان
- لقد وضع نسخاً من كتابه لدى الحانة التي يتردد عليها باستمرار. يزورها كل عدة أيام ليشرب بثمن ما يباع منها!
- يبدو أنه ما زال يحن الى حانات بغداد!
- لقد جاء الى عمان منذ عدة سنوات وبقي مقيماً فيها
- كم دمرت الحرب حياة الكثيرين
- إنه يخوض حروبه من قبل الاحتلال. متمرد فوضوي وصعلوك!

جمال مشغول مع سعيد في تحضير كلمة الافتتاح. بدأ المصورون والمحررون يتوافدون على المقهى. غلالات الابخرة والروائح ودخان السجائر تتصاعد وسط الأضواء الخافتة. فنان يضع رتوشه الاخيرة على لوحته أمام الجميع. أراد أن يقدمها ذكرى لعميد في حفل توقيع كتابه. في الزاوية جلس عازف العود يدوزن عوده وهو يضع قبعة سوداء على رأسه. بين حين وآخر يعلو صوت العود بألحان شرقية فيها مسحة حزن صوفية. يحتضن العود ويهز رأسه ويدندن.

ساد صمت قليلاً، قطعته متسائلاً: "هل يوجد عندكم مثل هذه المقاهي"؟ قالت بحسرة: "لم أر سوى المحلات. لم أعرف في حياتي سوى البيت والمحل. أشتغل من الفجر الى آخر الليل". عادت تبث مأساتها من جديد. التقينا المرة الماضية هنا. كانت تجلس مع جمال وتشكي له معاناتها كأنما تريد أن تبكي. قدمني جمال اليها. ولكننا سرعان ما إندمجنا في الحديث عن همومها.

"لم يكن قد مضى على وجودنا سوى أربع سنوات عندما وقعت الكارثة في نيويورك. ذهبنا بحجة السياحة وأقمنا هناك في بلدة بالقرب من شيكاجو. رزقت خلالها بولدين. كان شاكر يعمل لدى تاجر فلسطيني في أحد محلاته الكثيرة المنتشرة في الولايات. الحي مليء بالسود وبالمهاجرين من الشرق الاوسط. كنا نعتمد كثيراً على السود في التجارة. يشترون بكل ما يملكون كأنما يعيشون ليومهم. واذا لم يكن معهم يشترون بالدين"!

توقفتْ هنيهة لالتقاط أنفاسها ثم قالت بنبرة منكسرة حزينة: "عندما تزوجت شاكر كان يعمل مع أبيه في قطع الحجر الابيض والبناء. وعشنا في بيت أهله. تزوجته وأنا صغيرة. لم يسمحوا لي أهلي أن أكمل تعليمي. كان شاكر في منتصف العشرينات. لم نرزق بأطفال أول الامر. كان يعمل طوال النهار في قطع الحجر تحت أشعة الشمس الحارقة، وأنا كنت كالشغالة في البيت لدى أمه. لم اشعر أنني في بيتي. ذقت حياة مريرة لم أحس فيها بطعم السعادة. بدأ شاكر يفكر في الهجرة. أغلب أقاربه يعملون في أمريكا. كثيرون ذهبوا لا يملكون قوت يومهم والان صار لهم قصور. بدأ يشعر شاكر بالمفارقة. هولاء الذين كانوا يعملون معه بالحجر صار لديهم محلات وسيارات. صاروا حديث الناس في المجالس، وهو يرسف في الغبار حتى تشققت يداه ورجلاه".

رشفتْ من فنجان القهوة ثم تابعت: "ذهب أول الامر لوحده ، وأنا بقيت لوحدي هنا. عانيت الامرين. بكيت بصمت في كثير من الليالي. لم يكن أمامي سوى الصبر. علمتني تجربة أختى مع أبي معنى الخنوع بصمت ووفرت على نفسي المعاناة وبقيت صامتة أحترق من الداخل بانتظار السفر. بعد ستة أشهر إتصل بي شاكر وذهبت للسفارة وحصلت على تأشيرة، فتنفست الصعداء".

توقفتْ قليلاً ثم قالت: "عندما وطئت قدماي أمريكا رأيت عالما غريباً جديداً عليّ لم أر مثله من قبل. مدينة نظيفة خضراء، كل شيء فيها جميل. فرحت أول الامر كثيراً بالهروب من سجن بيت أهل زوجي! لكنني صرت حبيسة هنا. شاكر يخرج في الصباح ويعود عند الفجر وأنا أبقى وحيدة. قتلني الملل وأنا سجينة في البيت. ذقت معنى الوحدة بين أربعة جدران! لم أحس بمعاناة الغربة كما يدعون، فلم يكن هناك من أحن للعودة اليه سوى أمي التي ماتت بعد ثلاثة أشهر من وصولي الى هنا فجأة. بدأت أتعرف على بعض السيدات في الحي اللواتي كانت حالتهن مثلي. ووجدت الالوف مثلي سجينات الغربة! أخذت أعلم نفسي بنفسي وأقرأ كل ما تقع عليه يداي. عندما وصلت عرفت أن شاكر انفصل عن إبن عمه وأخذ يعمل في محلات أخرى. يحمل المهاجرون مشاكلهم ومتاعبهم وعاداتهم معهم أينما ذهبوا! عرفت أن المال هو كل شيء في النهاية. وأخيراً تمكن شاكر من فتح محل خاص به. كنت أساعده أحيانا فيه".

جاء عميد ومعه عدد من أصدقائه. سحب عميد كرسي وجلس بجانبي. قال لي إنهم حجزوا جواز سفره لأنهم وجدوه يسير مخموراً في الشارع! لم يكن غاضباً أو حتى متأثراً. فلا مكان سيسافر اليه بعد بغداد التي لم يعد يستطيع السفر اليها! وهو لن يبارح المدينة أصلاً! أخذ المصورون يلتقطون صوراً لعميد وهو يبتسم والسيجارة في فمه. بعد قليل كان يجلس الى طاولة ضيقة وكان سعيد وجمال يجلسان عن يمينه ويساره. ألقى جمال كلمة طويلة بصوت رتيب ضعيف بالكاد كنت أسمعه. بعد دقائق فقدت الاهتمام وسط الصوت وحركة الزوار والنادلين. إستمرت سمية تشكو. قالت إنها بحثت عن شاكر في الاردن فلم تجده. وستسافر الى إندونيسيا. لن يهرب منها أينما ذهب. وإذا لم تجده ستسافر الى المكسيك. حتماً سيكون هناك!

كانت سمية تتكلم بدون توقف. لم تعطني حتى فرصة للسؤال. لم تتوقف الا عندما جاء النادل. قالت: "كان شاكر متديناً يتردد على المسجد هناك وله بعض الاصدقاء فيه. وعندما وقعت كارثة البرجين في ايلول، فقد شكّت السلطات به. جاء رجال المباحث ذات يوم الى بيتنا واقتادوه معهم. إعتقلوه شهرين لم نكن نعرف خلالها عنه شيئاً ثم رحلوه على طائرة رغماً عن إرادته الى الاردن. كنت خائفة وشعرت بالضياع. إحترت ماذا أفعل. هل ألحق به وأترك كل شيء هنا؟ ومن سيسدد الديون التي حصلنا عليها لشراء المحل؟ وهل أعود مرة أخرى لبيت أهله الذي عانيت فيه الامرين؟ كنت محتارة مشتتة التفكير لا أدري ماذا أفعل؟ فقد كان تسفيره شيئاً غير متوقع؟ كنت أرتعد خوفاً وأقول لنفسي ماذا سأفعل هنا لوحدي؟ من سيدير المحل في غيابه ومن سيرعى الطفلين؟ لا أستطيع إدارة المحل فلا عهد لي من قبل بالتجارة ولغتي ضعيفة. كنت أفكر بالاولاد؟ وماذا سيحصل لهم اذا تركتهم لوحدهم؟ لم أكن أحب العودة. تساءلت بيني وبين نفسي كثيراً: "هل أترك كل شيء بنيته هنا يضيع؟ كنت خائفة من إدارة المحل لوحدي، ومرعوبة في أعماقي لأقصى حد. بقيت فترة وأنا مترددة. أخذت أداوم في المحل مكان شاكر لكنني كنت خائفة ولا أعرف كيف يشتري البضائع. إستأجرت مربية للاولاد وأخذت أرعى المحل وأتعلم يوما بعد آخر. كنت على اتصال مع شاكر دائماً أستعين به. حاول العودة عدة مرات ولكنه لم يستطع. سافر الى المكسيك وحاول التسلل الى أمريكا لكنهم قبضوا عليه على الحدود وأعادوه. ويوما بعد آخر بدأت تتكشف لنا الحقيقة المرة. لم يعد هناك أمل لشاكر بالعودة الى أمريكا. وصار يلح عليّ بالعودة. بعد هذه السنوات لم يكن سهلا علي أن أترك كل شيء تعبت لاجله. ثم حصلت بعدها على الاقامة. لم أكن أتخيل أن أعود للبيت في عمان بعد أن تعودت على العمل والسفر وأسلوب الحياة هناك.

نظرت في عيوني ولم تنتظر سؤالي وقالت: "كان الاختيار صعباً. كان شاكر يتصل بي كثيراً ويرجوني أن آخذ الاولاد وأعود. لاحظ ترددي فبدأت تدب المشاكل بيننا. كان يرجوني وأحيانا يتوسط لدى أهلي كي يتصلوا بي لاقناعي بالعودة لكنني رفضت. كان متضايقاً مما حصل ومن هذا الافتراق القسري، فصار يتعامل معي بلغة مختلفة وأسلوب متسلط آمر. لم تعجبني طريقة كلامه معي ، فلم أعره إهتماماً. أخذ يهددني بأن علي أن أعود وإلا سيخطف الاولاد ولن أراهم بعد ذلك. طالت الايام والحال بيننا على هذه الشاكلة. حتى عرفت ذات يوم أنه سافر الى أندونيسيا. أخبرني أنه ذهب لأجل التجارة، ولكنني عرفت فيما بعد من بعض القادمين أنه تزوج هناك. لم استغرب من ذلك فقد قلت إتصالاته بنا وبأولاده. ولم يعد يلح علي بالعودة. شعرت أن في الامر شيئاً ولكن لم أكن أظن أن تصل الأمور الى هذا الحد. بكيت أول الامر بيني وبين نفسي. ولكني حقدت عليه كثيراً. لقد طعنني في أعز شيء عندي. زاد إصراري على البقاء هنا. قررت أن أحرمه من رؤية الاولاد. ولكن حجم المسؤولية كان يقلقني .. بل يرعبني. تحملت مسؤولية المحل والبيت والاولاد لوحدي. ولكنني كنت على وشك الانهيار. صارت المصلحة تتراجع. وكثرت الديون".

رأيت عميد يمسك بالميكروفون. أخذت أصغي لكلماته. لاحظت علي سمية ذلك فتوقفت عن الحديث. كان عميد يبتسم وهو يتحدث عن نفسه وأسرته وعن كتابه. قال إنه لما تخرج من الجامعة فقد إبيضت عينا أبيه من الحزن حتى مات! كان يتمنى أن يدرس إبنه الهندسة لكنه درس الفلسفة! ثم لحقت به أمه بعده بسنة!

أخذ عميد يقرأ صفحات من كتابه الجديد ويبتسم وهو يقرأ بعض الكلمات. عدت أنظر الى سمية فوجدتها متأهبة للحديث مرة أخرى. قالت: "بعد أن تزوج شاكر إسودت الدنيا في عيني وشعرت باحتقار لكل جنس الرجال. صرت أكرههم وأرى الخيانة في عيونهم. لم أعد أثق بأي أحد منهم. لكنني لم أستطع الصمود في المحل لوحدي، وخشيت أن أفقد كل شيء. خشيت ألا أستطيع سداد الدين فانتهي بالسجن ويضيع أولادي مني. حتى دخل عندي ذات يوم رجل في بداية الثلاثينات من العمر. تحدثت معه مثل أي زبون آخر يدخل المحل. لكنه إستوقفني باسلوبه وكلماته. لم يكن مثل الاخرين. شعرت أنه ما زال جديداً على نمط الحياة وأساليبها هنا. سألته عن عمله فأخبرني أنه ما يزال حديث العهد في البلدة. قال لي إنه جاء الى أمريكا قبل ثلاثة أشهر وبقي يعمل سراً. صدق حدسي، فقد لمست أن المال لم يفسد طباعه بعد! أخذ يتردد على المحل بين حين وآخر حتى نشأت صداقة بيننا. أخبرته بقصتي وعرفت منه أنه ترك أسرة كبيرة فقيرة وجاء الى هنا ليساعدهم مادياً. تذكرت بدايتنا أنا وشاكر. بدأت أشعر أنه يتقرب مني. صار يبادرني ببعض الحركات كالمراهقين الصغار! بدأ قلبي يميل اليه. لكنني خفت من أن تتطور الامور بيننا. ماذا سيقول الناس فأنا ما زلت متزوجة من شاكر الذي هجرني وأحضر لي ضرة! ماذا سيقول الاولاد وقد بدأوا يدركون الاشياء من حولهم. لكن العاطفة ثارت في أعماقي من جديد. شعرت أن هناك من يهتم بي كإمرأة. وأحسست أنني بحاجة الى من يقف الى جانبي في إدارة المحل. عرضت على مجدي أن يعمل معي في المحل فوافق".

سمعت صوت تصفيق عال. إنتبهت حولي.. لقد فرغ عميد من قراءة نصوص من كتابه وقد تجمع بعض الناس حول طاولته كي يوقع لهم الكتاب. نهضت وذهبت الى نهاية المقهى وإشتريت كتابه وأسرعت به اليه كي يوقع لي عليه. عندما جاء دوري ضحك وقال: لقد غفرت لك! أعرف أنك لم تسمع ولا كلمة واحدة مما قلته! ولكني أدركت أنك تجلس بجانب إمرأة جميلة! لم تحول عينيك عنها طوال الوقت! عدت أحمل الكتاب فرحاً به. شاهدتني سمية فأمسكت به وأخذت تتصفح فيه. قلت: وماذا حصل لك مع مجدي؟ قالت : "كان حنوناً طيباً قوياً حمل عني كل شيء. لقد إرتحت له ورأيت حرصه علي وعلى المحل. حتى جاء يوم وأخبرني أنه يود الحديث معي بموضوع هام. خفت من كلماته. خشيت أن يكون البنك قد حجز على المحل! لكنه فاجأني حين عرض علي الزواج. إضطربت وصدمت أول الامر. ذهلت ولم اتوقع مثل هذا الامر. غير أنه أصر على طلبه. أخبرته أنني ما أزال متزوجة من رجل رحل ولن يعود. بقي يحاول معي. كنت خائفة ومترددة. خشيت نظرات الناس. ماذا سيقولون عني. تزوجت من رجل يصغرها بسنوات كثيرة. سيقولون لقد تركت أولادها وركضت خلف عامل لديها. زاد خوفي أكثر فرفضت. لكنه بقي يلح علي ويقنعني. كنت أعي بداخلي أنني أحتاج الى وجود رجل بجانبي. لكنني كيف أتزوج وأنا متزوجة من رجل تركني قبل سنوات وتزوج غيري! أخذني مجدي ذات يوم الى شيخ وقال إنه سيسمع قصتي وسيفتي ماذا أستطيع أن أعمل. فلما سمع قصتي أفتى لي بجواز الطلاق منه. فطلقت نفسي منه. فاتحت أولادي بالموضوع. رفضوا أول الامر ثم وافقوا عندما تأكدوا من رغبتي. وافقت على الزواج من مجدي. كان رجلاً طيباً لكنه كان متزمتاً قليل الكلام".

توقفتْ قليلاً لتشرب الماء. بدأ الاضطراب والحزن عليها أكثر من ذي قبل. قالت: "بعد فترة صرت أشعر بتغير من جانبه. لم يعد ذلك الانسان الطيب اللين المحب. صار شرساً يستخدم لغة جارحة أحياناً. لقد أحببته بشغف من أعماقي ووجدت أن حياتي صار لها معنى بوجوده. صرت أحتمل تصرفاته الغريبة معي أحيانا لأجل البيت والمحل. شعرت أنه ندم على زواجه. لم يكن يصرح بذلك لكن نظراته كانت كافية. كان يتحدث مع أهله، ولم يخبرهم أبداً ولا مرة عن زواجنا. عندما كنت أساله عن السبب، كان يقول لي أنه يود أن يخبرهم بذلك عندما يعود وجهاً لوجه. ولكن متى سيعود؟! إنه يقيم هنا بشكل غير شرعي وربما تمضي سنوات قبل أن يتمكن من العودة. صرت أشعر أنه ربما تزوجني لأغراض الاقامة. كانت صدمتي به أقوى من صدمتي بشاكر. لقد أحببته بشدة وحمل عني هموم المحل فترة لكنه صار يتغيب عن البيت أياماً. عندما تزوجنا لم يكن يملك من الدنيا شيئاً سوى ثيابه. عاد ذات ليلة متأخرا كثيراً. كنت أغلي من الشعور بالتجاهل والنكران وأنتظر رجوعه. وعندما دخل البيت لم أستطع الانتظار فأخذت أصرخ عليه وأعاتبه. صار يرد علي فاحتدم النقاش بيننا. ومن غير أن أدري فقدت أعصابي فقلت له: قبل أن نتزوج لم تكن أصلاً شيئاً. لقد صنعت منك رجلاً وزوجاً! كان للجملة رنة أخرى. لقد تكهرب الجو فوراً. أدركت ساعتها أنني قلت شيئاً من غير حسبان. لقد إكفهر وجه مجدي لكنه نظر الي بحنق وغضب وخرج من البيت. لم أعد أراه بعد ذلك. بقيت أسأل عنه فلم أجد له أثراً. خلال هذه الفترة إضطريت للعودة للمحل مرة أخرى فاكتشفت أنه كان يأخذ ايرادات المحل ولم يكن يدفع الاجرة حتى تراكمت علي".

نظرت الى عامر أمامي. كانت نظراته فيها شيء من الغضب. أظن أنني أدركت سبب ذلك. كان يلكزني من تحت الطاولة بقدمه! خفت أن أسالها عن النهاية فيغضب. لكنني بقيت في داخلي متشوقاً لأعرف ماذا حصل. ناديت على النادل لأدفع له الحساب. وبينما نحن ننتظر رجوعه بالباقي قلت لسمية هامساً: لن أخرج قبل أن أسمع النهاية. معك دقيقة واحدة! لكزني عامر بطرف يده لكزة قوية من تحت الطاولة! كدت اضحك ولكني تمالكت نفسي. قالت: "مرت سنتان كنت خلالها ألوم نفسي على ما قلته لمجدي، ولكنني كنت أراجع ذاتي فأحس أنه لم يتزوجني لذاتي بل لأجل محلي والاقامة. لقد وفرت له بيتاً وعملاً وكل شيء! وعندما أيقنت أنه لن يعود لي فقد ذهبت الى ذات الشيخ الذي أخذني اليه مجدي ذات يوم وطلقت نفسي منه"! نظرت الينا والاستغراب يملأ وجوهنا. نهضت وقالت: "هذه هي الحياة. وهذه بعض قصص الغربة التي لا تعرفون عنها شيئاً"!



* اللوحة أعلاه بعنوان فتاة تنظر الى المرآة للفنان الاسباني بابلو بيكاسو (1881 - 1973)


هناك 3 تعليقات:

  1. الي استاذي :
    في حديث للرسول صلى الله عليه وسلم بما معناه انه بيطلق تنبيه للرجال انهم متى حدث الزواج من امرأه فهي اصبحت اسيره او سجينة هذا الرباط المقدس و الزوج فبيحذرهم انهم يتعاملوا مع المرأه برفق و خوف من الله........لكن للاسف مجتمعنا و عادتنا السيئه و تقاليدنا الاسوء ما اخدش من الحديث غير ان النساء بالزواج بتصبح اسيره مع إن ربنا خلقها حره.......
    لكن علشان مجتمعنا ذكوري فهو شايفها مجرد عبده ما تصلحش غير للخدمه و بس و عاى فكره حتى في ظل تاريخنا المعاصر اكثر المثقفين و اللي على درايه بلأحوال هم ايضا بيعاملوا المرأه من منطلق الاضطهاد الخفي..و الكلام يطول شرحه في المجال ده.
    انما حضرتك يا استاذ لخصت معناة المرأه الشرقيه بنسبة 90% في قصة سميه.
    القصه رائعه و اتمنى ان تكتب المزيد عن نعناتنا لعل في احد بيعرف يقرأ و الاهم بيعرف يفهم.

    جٌمان

    ردحذف
  2. غير معرف11:10 م

    السلام عليكماستاذ/اياد
    مسكينة سمية كم اشفقت عليهاكانت تحترق فى صمت!!
    هى ضحية من ضحايا كثيرة موجودة فى مجتمعنا الشرقى والدليل من استياء عامر وهادى من تحدثها بهذه الطريقة وكأن ماحدث لها هو شئ عادى وعليها ان تتحمله ولا تتحدث عنه؟
    اليس للمراءة حق فى البوح بما دخلها كما تشاء عجبا!
    القصة جميلة وتفاعلت معها ورأيت فيها جزا من نفسى...
    على فكرة الموسيقى الهادئة جميلة جدا انت لك ذوق رائع فى اختياراتك
    الكسولة(امال)

    ردحذف
  3. سعيد بهذه القراءات الواعية للقصة من جمان وآمال التي تتلمس مراميها وقضاياها وتتعاطف مع أبطالها الذين يصبحون ضحايا للاخرين الذين يمارسون قمعهم وتهميشهم واستغلالهم مثلما يسلبهم المجتمع طموحهم في بناء ذاتهم وتحقيق حلمهم ويدفعهم لكي يعيشوا على الهامش متهمين مرفوضين مثلما يعيش عميد وسمية. وسعيد بهذا الادراك الواعي والتعاطف مع سمية التي تلخص قضية المرأة العربية بكل اخفقاتها وعذاباتها وإنجازاتها التي تواجه بالكثير من الرفض والادانة. هي كذلك إحدى صور المعاناة في الغربة التي تنطوي على ضريبة باهظة وخاصة للمرأة التي تأخذ منها الكثير وأحيانا تعطيها القليل وربما تحرمها كل شيء ولكنها مستعدة لدفعه في سبيل إثبات ذاتها. تعليقاتكما تسعدني كثيرا وتثبت لي أن هناك من يقرأ ويتفاعل ويحلل العمل بعين ناقدة تحمل رؤية للانسان والحياة

    ردحذف