الثلاثاء، أبريل 29

من الادب المغربي الحديث






محمد زفزاف: كتابات من قاع المدينة

بقلم اياد نصار

ارتبط اسمه بأدب المهمشين على حافة المجتمع وبقصص وروايات الفقراء والمظلومين والمنسيين في قاع المدينة. أعتبره أحد أهم ثلاثة أعلام في عالم القصة والرواية والشعر في المغرب في العصر الحديث. فمن ينسى محمد شكري الذي ابدع رواية الخبز الحافي وارتبط اسمه بمدينة طنجة، والشاعر المبدع محمد بنيس الذي ارتبط اسمه ببيت الشعر في المغرب، ومحمد زفزاف الذي كان نبض الشارع وصوت المشردين والمسحوقين والمهمشين في الدار البيضاء. كان عبق التاريخ والعرق والبساطة ورائحة التبغ والملابس المعلقة على الحبال وتراث الاحياء الشعبية. كان بيته مفتوحا لكل الادباء الشباب يشاركهم في أكله وسجائره. ارتبط اسمه بالاحياء والزنقات التي عاش بها مثل زنقة ابن منير التي تشهد على المعاناة والفقر التي عاشهما وبرغم ذلك بقي وفيا لأدبه ومبادئه وارتباطه بالناس. وسجل كل هذه الاماكن في أغلب رواياته وقصصه القصيرة، وبأغلب مقاهي المدينة حيث يلتقى بكتابها وصحفييها وشعرائها. وقد ارتبطت صورته بلحيته الكثة واسلوب حياته المتحرر.
ولد في مدينة سوق الاربعاء الغرب باقليم القنيطرة بالمغرب في عام 1945. وعاش صباه فيها ثم انتقل الى المدينة التي أحبها ونقل مشاهد أحيائها وحاراتها ودروبها وأهلها ومظاهر المعاناة فيها لاولئك الذين التصق بهم من البسطاء والفقراء والمهمشين في قاع المدينة وبقي مخلصا لهذا الحب والانتماء حتى وفاته في 13 يوليو 2001 . وكما هي عادة المجتمع العربي الذي يتنكر للمبدعين والادباء الذين أفنوا حياتهم في عشقه وتبني قضاياه وتسجيل تراثه ومظاهر الحياة فيه، فلم ينل محمد زفزاف اية جائزة او تكريم في حياته. بينما صار محط الاهتمام بعد وفاته! فقد عاش كما ذكرت رفيق العذاب والفقر ومعاناة المرض بصمت وكرامة، ولكن ولأننا نبقى نصر على أن لا كرامة لمبدع في وطنه الا بعد مماته! فقد تم تاسيس جائزة محمد زفزاف للرواية العربية تمنح كل ثلاث سنوات على هامش مهرجان اصيلة الثقافي وقد منحت الجائزة في دورتها الاولى للاديب السوداني الكبير الطيب صالح، وفي دورتها الثانية منحت للاديب الليبي ابراهيم الكوني. كما تم تأسيس جائزة محمد زفزاف للقصة القصيرة للناشئين من قبل المكتب المركزي لنادي القصة بالمغرب بسلا وقد تم الاعلان قبل ايام عن انطلاق الدورة الخامسة لعام 2008 .
قال عنه الاديب المغربي احمد زيادي: ( محمد زفزاف صريح إلى درجة الإحراج، صادق إلى درجة الفضح، وأنه رجل المبدأ إلى درجة التهور). وبهذا فهو يشارك محمد شكري في صراحته الفاضحة المؤلمة وهو ينقل صور المكان ويجسد شخصياته في صراعهم الدائم لاجل البقاء. ورغم انه يختلف عن محمد شكري في أنه لم يكتب سيرة ذاتية، الا ان كل رواية وكل قصة من أعماله تكاد تكون جزءا أو فصلا من سيرة حياته، فالاماكن هي ذات الاماكن التي عاش فيها، والاحداث هي ذات الاحداث التي مر بها او كان شاهدا عليها! فرواياته وقصصه هي كلها سيرة حياة مدينة البيضاء بقدر ما هي سيرة حياته فيها. امتازت أعماله بلغة روائية موحية وقاسية وجريئة تكشف عن المسكوت عنه. وتعكس أعماله انماط التمرد الاجتماعي والتشرد والرفض والظلم والمشاهد الصادمة بقسوتها وبشاعتها وهو يضفي عليها لمسات من نقده الاجتماعي للقيم التي تغتال انسانية وكرامة الانسان، وفي ذات الوقت ترسم صور الشر الذي اغتال المجتمع براءة اصحابه وحولهم الى أناس يلجأون للعنف والشر للدفاع عن ذواتهم واستمرارها في بيئة تسحق انسانيتهم. ولا شك أنه هذه من أبرز ملامح هذه الرواية العربية المعاصرة عموماً. كما أذكر أنه لم يكتب محمد زفزاف طوال حياته الا بالعربية في مواجهة تيار الحداثة الغربية الفرنكفونية أمثال الطاهر بن جلون الذي ابدع أعمالا نالت شهرة بالفرنسية.
أتاحت له تجربته السياسية في بداية حياته في فترة الستينات والسبعينات عندما كان عضوا في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ان يكون قريبا من أفقر الاحياء في الدار البيضاء ليتلمس الفقر والمعاناة التي تحول الناس احيانا الى الجريمة والشر، وبرغم شهرة أعماله ومشاركاته في المهرجانات الدولية الا أنه بقي قريبا بل في خضم نبض المدينة وقاعها. وقد عمل محمد زفزاف بالتدريس في المدارس الاعدادية والثانوية قبل أن يترك التدريس ليتفرغ للكتابة. ولكن بسبب عدم وجود مصدر دائم ينفق منه، فقد عانى كثيرا من الفقر والحرمان والعيش في شقة صغيرة تعشش فيها الرطوبة في حي شعبي فقير.
ومن أعماله:
حوار في ليل متأخر: قصص، 1970.
المرأة والوردة: رواية، 1972.
أرصفة وجدران: رواية، 1974.
بيوت واطئة: قصص، 1977.
قبور في الماء: رواية، 1978.
الأقوى: قصص، 1978 ، وقد أعيد نشره ضمن برنامج كتاب في جريدة الذي اشرفت عليه ورعته اليونيسكو
الأفعى والبحر: رواية، 1979.
الشجرة المقدسة: قصص، 1980.
غجر في الغابة: قصص، 1982.
بيضة الديك: 1984.
محاولة عيش: رواية، 1985.
ملك الجن: قصص، 1988.
ملاك أبيض: قصص، 1988.
الثعلب الذي يظهر ويختفي، رواية، 1989.
العربة، 1993.
كما صدرت مجموعات كاملة لأعماله عن وزارة الشؤون الثقافية المغربية بالرباط، سنة 1999 م
وهذه مقتطفات من بعض رواياته. من رواية محاولة عيش:
"الله يهديك، النساء كثرن هذه الأيام، أصبحن يقبلن حتى على ذوي العاهات، المرأة اليوم تتلهى بواحد كيفيما كان، حتى يأتيهما الله بواحد أحسن منه. والمحاكم لم تخلق للزواج وإنما خلقت للطلاق أيضاً. ولكن كيف يستطيع ذلك البرهوش أن يتزوج؟ إنه أقوى من بغل، يستطيع أن يحبل نساء قبيلة بأكملها. وقالت واحدة: إذا كن حمقاوات وأقبلن عليه. وماله؟ إنه شاب ويشتغل. فكرة الزواج لم تتحدد في ذهن حميد بعد، لكنه حبذها سوف يفعل مثلما يفعل كل الناس، يتزوجون وينجبون، يحترمهم الجميع، بعد ذلك، يلزمه أن يغير من سلوكه. سوف يتحدث بطريقة خاصة مثلما يتحدث الرجال المتزوجون، وسوف يكف عن ارتكاب حماقات مثل تلك التي يرتكبها العزاب، بعض زملائه من بائعي الصحف الأكبر منه سناً متزوجون. لكن يبدو أنهم يعيشون مسحوقين، دائماً رؤوسهم مطرقة، يأكلون بامتعاض وتقزز، غير أن ثيابهم نظيفة، عكس العزاب الذين تظهر ثيابهم مسودة باستمرار بفعل احتكاك الجرائد يومياً بها".
ومن رواية الثعلب الذي يظهر ويختفي
"عندما استيقظت لم تكن لدي أية رغبة في الأكل إطلاقاً. كان الوقت وقت الغروب وأنا لا أحبه. إنه يذكرني بنهاية الكون. كل شيء يرقد لتستأنف المهزلة. المهزلة الكبرى العظيمة. السيرك الكبير حيث تجتمع الطبائع التي تكرر نفسها عبر التاريخ، الحب، الحقد، العدل، الظلم، النفاق، السرقة، المعاملة الحسنة المغلفة بنوايا خلفية قد تكون صادقة أولاً. والآن هو المساء مرة أخرى. كل شيء حدث اليوم لكني كنت غائباً عنه. وفي الواقع، حتى لو كانت مستيقظاً فإني في أغلب الأحيان أكون غائباً. كم من الأشياء تحصل لكنها تتكرر في هذا الزمن أو ذاك. هذا هو المساء وهذه نهاية أشياء بالنسبة لهم، وبداية أشياء بالنسبة لي. ولكن بدونهم، لن تكون هذه الأشياء هي أشيائي. فهم الذين يشعرونني بأنهم لي. إنها لعبة جميلة وقديمة. جزء من المهزلة الكبرى، جزء من المهلة، جزء من السيرك. وكان علي أن أتقمص دوراً في هذا السيرك. أنا لا أعرف الدب ولا أعرف الأسد ولا أعرف النمر. أعرف جيداً الحمار والبغل."
وقد اخترت القصتين القصيرتين التاليتين بعنوان "الحرف" و "السابع" على سبيل تقديم نماذج من أعماله:

الحرف ـــ قصة: محمَد زفزاف
استطاع الحرف أن يتخلص من أيدي حرس القوات المساعدة بسهولة، لأنهم كانوا مشغولين بهدم خيمته على الشاطئ. اختفى خلف كثبان الرمل. ولأنه لم يشكل أية خطورة، لم يهتموا به. المدينة صغيرة، ويمكن غداً أو بعد غد مشاهدة الحرف وهو يتجول أو منعزلاً في ركن من مقهى يدخن الكيف في تأمل.‏
قال الضابط:‏
-لا تهتموا كثيراً. سوف يأتي ويقدم نفسه إلينا غداً صباحاً أو هذه الليلة. هل نهتم بمخبول؟!‏
قال أحدهم وهو يرفس الباش بحذائه:‏
-أخشى أن يرتكب حماقات أخرى هذا المساء.‏
قال الضابط:‏
-كل ما يهمنا هو أننا نود أن نعرف من أين أتى بهذه الخيمة؟ من أين له الفلوس حتى يشتري مثلها؟‏
كان الحرف يرى قاماتهم في الظلام، وأحياناً يميز وجوه بعضهم عندما تنفضح تحت ضوء البطاريات، وفكر بأنه يستطيع أن يتغلب على اثنين منهم على الأقل لو تشاجر معهما، ولكنهم أكثر من اثنين. أخذ يمسح الزبد عن شفتيه ويلعن في الهواء، ورآهم يتكتلون لحمل الخيمة إلى السيارة.‏
كان الحرف معروفاً من طرف الجميع، ولا شك أن قصته مع حرس القوات المساعدة هذه الليلة، ستنتشر في المدينة الصغيرة. سيعرفها الكل، وتبدأ التكهنات كيف يستطيع الحرف أن ينتقم من هؤلاء الحرس. إن حماقاته كثيرة وشاذة، سواء في السجن أو في مستشفى الأمراض العقلية.‏
وعندما ركب الحرس السيارة قال الضابط:‏
-إنها خيمة غالية الثمن. لا يمكن أن يشتري مثلها حتى الباشا نفسه.‏
-هذا الأحمق المعتوه، لا ندري من أين أتى بها؟‏
كان الناس يعرفون من أين أتى بها، لقد ذهب مع هيبية فرنسية إلى تاغازوت. وكانت تدعي أنها التقت بأميرها. كانت تعتقد حقاً أنه أمير. بلحيته القصيرة وبشرته السمراء. وعندما عاد من تاغازوت، حمل معه هذه الخيمة ومعطف فرو، وهذا المعطف هو الذي كان يرتديه الحرف يومياً، رغم الحرارة الشديدة. وكان يرتدي أيضاً سروالاً مقصوصاً فوق الركبتين، بحيث تبدو ساقاه المشعرتان؛ وقدماه الحافيتان المتصلبتان. كل ذلك مع معطف للفرو مرتفع الثمن، والحرارة شديدة.‏
عندما رأى الحرف السيارة تتحرك، دك الرمل بقدميه وأراد أن يصيح. لكن الصوت أنحبس في حنجرته. ودس يده في جيب معطفه الفرو، وتحسس حزمة من الأوراق النقدية. ومشى نحو المكان الذي كانت الخيمة منصوبة فيه، وأخذ يذري الرمل كمن يبحث عن شيء. لكنه لم يعثر على ذلك الشيء. فجلس وأخذ يمضغ ريقه. وقف ثم جلس مرة أخرى ومد رجليه، وشعر بوخز تحت عجيزته، فوقف وتوجه نحو الأضواء القريبة. مر بالقرب من فندق "الجزر". وظهر له مركز الشرطة فاغراً فاه، فانسل إلى زقاق ضيق، فاراً بنفسه منهم. لو ألقوا عليه القبض لأشبعوه ضرباً ورفساً، وأبقوه أياماً في قبو مظلم يتغير زبائنه باستمرار إلا هو، لقد كانت له تجربة في ذلك المكان المظلم الذي يقضي فيه الزبائن حاجتهم أمامك وقد تدلت أعضاؤهم الجنسية. كان الحرف يقبض على حزمة الأوراق النقدية في جيبه بيد حديدية. وعندما رأى شبح أول إنسان في رأس الزقاق ارتجف ووقف في مكانه متصلباً، لكنه عندما عرف أن الأمر لا يتعلق بواحد منهم، مشى بثقة نحو المكان الذي خطر له تواً. كانت جل الحوانيت قد أغلقت أبوابها تقريباً. والقليل منها ما زالت مفتوحة، ضيقة الأبواب. وقد اصطفت كؤوس اللبن الرائب على جوانبها. مر بثلاثة أشخاص ملتفين في جلابيبهم، وسمع اسم "الحرف" يتردد على شفاههم، لكنه لم يعر أحدهم اهتماماً. كانوا يتحدثون عنه من غير شك. ووجد الحرف نفسه أخيراً أمام باب دار يعرفها جيداً ولكنه لا يزورها إلا قليلاً، طرق الباب وهو لا يزال يتحسس حزمة النقود في جيبه. طرق مرة أخرى ففتحت له امرأة عجوز على جبهتها وشم عمودي يقسمها إلى نصفين. قالت المرأة:‏
-الحرف، ماذا تريد؟ اذهب فتش عن مكان آخر يليق بك يا خانز.‏
لكنه لم يستمع إليها. بل دفع الباب بكل قوة وعنف.‏
-سأبيت هنا الليلة. لقد أخذوا خيمتي.‏
-من؟ البوليس؟ لا شك أنك عملتها يا خانز.‏
اجتاز باحة الدار وأصبح وسط الغرفة التي ينبعث منها الضوء. وقالت المرأة بصوت منخفض:‏
-لا ترفع صوتك. الجيران فوقك.‏
كانت ثلاث نساء ممددات. وأخذ يجيل النظر فيهن ليختار واحدة منهن. وعندما لحقت به المرأة قالت:‏
-أنا لا أمزح، أدفع النقود أولاً.‏
أخرج الحرف حزمة النقود وأراها للعجوز، فصرخت في النساء:‏
-ياه! أفقن فالحرف غني هذه الليلة.‏
وأرادت أن تخطف من يده حزمة النقود، غير أنه أعادها إلى جيبه بسرعة. وقال:‏
-أريد تلك.‏
-هي لك، هات النقود. سأعدها لك.‏
-إنها معدودة.‏
-هات يا خانز.‏
-الخانزة هي أمك.‏
وأعطاها ورقة نقدية فاختطفتها من يده وهي تقول:‏
-هل تكفي هذه يا مخبول؟ للشراب أم للنوم؟‏
دفع لها الحرف ورقة أخرى، إلا أنها أرادت أن تستزيد لكنه رفض. وجلس مجيلاً نظره في الغرفة، كانت مستطيلة، مطلية بطلاء يقترب من الأصفر الباهت. وعلى الجدران علقت بعض الصور لسيدنا علي والغول، ولحواء وهي تقدم التفاحة لآدم والأفعى بينهما وقد لوت جسدها حول جذع الشجرة، وكانت نافذة وحيدة صغيرة على شكل شبه منحرف قرب الباب، وقد اخترقها الضوء حتى انتهى وغاب في ظلام خفيف خارج الغرفة.‏
اقتربت إحدى النساء من الحرف:‏
-من التي تختار؟ أنا؟‏
-أريد تلك. أنت أكل جسدك الزهري، ما هذه الدمامل على شفتيك؟‏
-أنت أيضاً تفهم هذه الأمور يا أحمق؟!‏
-الحمقاء هي أمك. ابتعدي عني لا أريد خانزة مثلك.‏
فصاحت المرأة في العجوز:‏
-أمي طامو، هل جننت حتى تستقبلي في بيتك مثل هذا المخبول القذر؟‏
وقالت العجوز:‏
-أقرع وبفلوسه.‏
-يلعن بوها حياة.‏
-اسكتي أنت. إنه لا يريدك ومن حقه ذلك.‏
ودارت العجوز إلى الحرف وأخذت تلاطفه. بالغت في ملاطفتها له، فانتفخ الحرف مثل ديك يستعد لمعركة حقيقية أو معركة جنسية. وأرادت أن تجعل لملاطفتها ثمناً. فقالت وهي تحرك الحرف من كتفيه:‏
-نريد أن نسكر الليلة ونتعشى ونمرح. هات ثمن اللحم والخضر والفواكه والشراب هذه النقود ستأخذها القحبة.‏
-إنني لا أملك بنكاً.‏
أدخل يده في جيبه وأخرج ورقتين نقديتين، تناولتها العجوز مسرورة وهي تقول:‏
-أنت الآن رجل.‏
وللنساء:‏
-ألم أقل لكن أقرع وبفلوسه.‏
التفت الحرف إلى المرأة التي رغب فيها. اقترب منها ووضع كفه فوق كفها. لكنها أبدت بعض التمنع. سحبت يدها من تحت يده وهي تقول:‏
-هل تحبني حقاً؟‏
قال الحرف:‏
-أنا لم أرك قبل الليلة. كيف أستطيع أن أحبك؟!‏
-هل تحب هيبية إذن؟‏
-نعم. أحب كثيرات.‏
وقالت امرأة أخرى وهي ممددة فوق زريبة مهترئة:‏
-لقد أفسدت الهيبيات القذرات السوق علينا. سأذهب إلى الدار البيضاء لأصبح غسالة. وسأتزوج من عسكري.‏
-اسكتي يا فرتلانة، لا تعتقدي أنك ستجدين زوجاً بسهولة هناك. الفتيات كثيرات والرجال أصبحت أعينهم في السماء.‏
-كل زرع له كياله.‏
-إنك لست زرعاً. إنك حنظل.‏
-أقفلي فمك يا قحبة.‏
-القحبة هي أنت.‏
كانت العجوز قد غادرت الغرفة وقد التفت داخل حايك أبيض متسخ. أما الحرف فقد حاول أن يقفل فم المرأة التي بجانبه حتى لا تستمر في الشتم. ولكنها أبعدت شفتيها عن كفه، وقالت:‏
-قم اقض حاجتك، وابتعد عني أيها المخبول.‏
وأراد الحرف أن يرد عليها، لكن طرقات قوية على الباب أسكتتهم جميعاً. وتساءلت الأعين عمن يكون الطارق. وأخذت النساء في الاهتمام بأنفسهن. ربما يكون زبوناً جديداً، لكن الحرف وقف فجأة، وخرج إلى باحة الدار، وأخذ يجيل نظراته في كل مكان، استمرت الطرقات بخفة هذه المرة، فخرجت إحدى النساء الثلاث. وقبل أن تحاول فتح الباب، وضعت أذنها عليه لتستمع إلى الحديث الدائر في الخارج. كان من في الخارج قد أحس بأن شخصاً ما وراء الباب، فصرخ بصوت مرتفع:‏
-بوليس. افتحي يا قحبة!‏
صرخت المرأة صرخة مكتومة: "ناري!".‏
إذ ذاك أخذ الحرف يدور على نفسه. وتوجه بسرعة إلى صندوق كان موضوعاً قرب الحائط القصير. ثم قفز إلى الخارج بعيداً عن سيارة الشرطة. وسمع أصواتاً خلفه وهو يركض: "إنه الحرف. قف يا بغل! يا أحمق يا مخبول". ولم يكن يلتقط من هذه الكلمات إلا بعض الحروف. كان يركض ويركض، ولم يكن أحد يركض خلفه. وقال الضابط:‏
-لا تهتموا بذاك المعتوه. سنقبض عليه الليلة أو غداً صباحاً.‏
ثم دفعوا النساء بقوة داخل السيارة، إلى جانب نساء أخريات ورجال آخرين.‏
كما اخترت أيضا هذه القصة أيضا من قلمه:
السابع - قصة: محمد زفزاف
قالت نوارة:
- لابد أن نجلب جوقا في حفلة النساء تلك لأنه لا يمكن أن تحلو حفلة بدون طرب ورقص.
قال أحمد:
- لو طلبت مني الزوجة الأولى ذلك لما حققت لها هذه الرغبة، أنت تعرفين المكانة التي تحتلينها في قلبي.
نوارة تبلغ الثانية والعشرين، صغيرة الحجم، أنفها أقرب إلى أن يكون أفطس، غير أن ما يغطي على ذلك تورد وجنتيها ووجود ذلك الخال قرب الأنف عند الحنك الأيسر. جسدها لا يبدو ذا بال، لكنها عندما تتعرى تصبح امرأة حقيقية بين يدي الرجل، أي رجل، لذيذة شكل لا يمكن تصوره مثل فاكهة ناضجة في غير موسمها. لذلك قال أحمد:
- تعرفين أيضا أنني ألبي كل طلباتك. لكن جوقا من الرجال لا أتصوره بين مجموعة من النساء.
- وأنا أيضا لا أتصور جوقا من النساء بين مجموعة من النساء.
- سوف أحضر لك جوقا من العمي. كثير من الحفلات النسوية يحضرها جوق من العمي.
حك أحمد تحت إبطه. تفرس فيها بنظرات جد حادة. تأمل جسدها الصغير الحجم اللذيذ مثل فاكهة في غير موسمها، هذا الجسد الذي يغطيه زغب أصهب مثل زغب الخوخ. لا يمكن لجوق من الرجال أن يغني أمام امرأة مثل هذه، لكن لا بأس إذا كانوا عميا.
قالت نوارة:- هذا ولدنا الأول، ويجب أن يكون احتفالنا سابعه احتفالا يغلق أفواه النساء والرجال معا. وأنت تعرف أن الناس يتحدثون حتى عن الأشياء التي لم يروها ولم يسمعوا بها.
- إذا جلبنا جوقا من العمي فإنه لا يمكن لأحد أن يقول شيئا.
- كثير من الناس يقيمون حفلات يختلط فيها النساء بالرجال.
- أنا لست من أولئك الناس.
تظاهرت بالغضب، شعر هو بذلك لكنه لا يستطيع أن يفعل أكثر مما يفكر فيه. هذا قراره حتى ولو كان يموت من أجل زغب الخوخ. نوارة أرادت، وأحمد أراد، غير أن أحمد أراد ما لم ترده نوارة. ثم سُمعت الزغاريد والتصفيقات، ودخل جوق العمي متماسكين مثل عربات القطار، واصطفوا في مكان معين. احتكت أفخاذ بعضهم بأفخاذ بعض النساء، ومنهن من تجنبن ذلك ومنهن من رغبن في دفئه. هذا سابع سوف يغلق الأفواه: أفواه النساء وأفواه الرجال، خصوصا فم مينة زوجة عبد القادر، فم منانة وفاطمة الحسناوية وخدوج بنت الأصمك، ويغلق كابينة رحمة زوجة العربي الهيش. لذلك حاولت نوارة أن تبدو كما لو لم تخرج قط من حالة النفاس والولادة، حتى لا يقال بأنها ضعيفة وأنه ليس بمقدورها أن تنجب دزينة من الأطفال كما تنجب كل نساء البراريك. وعندما ارتفعت الزغاريد والتصفيقات زغردت هي الأخرى واضعة كفها فوق شفتيها العليا التي ظهر فوقها تقاطع خطوط حناء، في حين كانت اليد الأخرى تحضن الصبي فوق خذيها. وعندما زغردت أخرجت ثديها وحاولت أن تلمه عبثا للطفل الذي كان يحرك عبثا يديه شبه مغمض العينين.
وقالت رحمة زوجة العربي الهيش:- الله يحفظه لأمه وأبيه.
- لم أرد سوى أن أنبهك لأن لي تجربة في الأمر وأم لخمسة أبناء وبنات.
وقالت منانة التي التقطت الحديث رغم أنها كانت تصفق وترشف الشاي:-لم تقل لك غير الحق.
نهضت امرأة من أقصى البراكة وتخطت أقدام بعض النساء وتقدمت نحو الأعمى صاحب التعريجة الذي كان يغني بصوته المبحوح الذي نخره الكيف، وعلقت له بين طاقيته وجبهته ورقة من خمسة دراهم. اضطرب عف الأعمى وأوشكت كلمات الأغنية أن تضطرب في فمه كذلك، لكنه استعاد الإيقاع، بل رفع صوته أكث وأخذ يضرب على جلد التعريجة بحماس. فعلت نساء أخريات مثل المرأة الأولى، وفي نفس الوقت كن يزرن نوارة والصبي. نهضت امرأة فقيرة واقتربت منها وقدمت لها طوبة سكر:
- يا ابنتي يا نوارة اقبلي هذه الزرورة، في عهدنا لم نكن نقدم سوى السكر. عصركم تبدل، ما كنا نعرف الفلوس.
وتراجعت العجوز إلى مكانها. حتى لو كان معها ما كانت لتدمها كزرورة لأن الفلوس تفلس، ولذلك قيل الله يفلسك. ثم خبطت العجوز على فخذيها العجفاوين وقالت للتي تجلس بالقرب منها:
- إنها صغيرة ومسكينة، لكن تبدو أنها من النوع الذي يعيش له الأولاد. وقالت المرأة المتوسطة العمر التي كانت تجلس قربها:
- تقدمي إلى الوسط حتى نراك.
- لا أستطيع أن أرقص مع رجل.
- إنه مجرد أعمى، وفوق ذلك فهو عجوز.
- عيب أن تراقص امرأة رجلا.
- كل شيء عندكن عيب، نحن في الدوار نراقص الرجال.
- لا شك في ذلك، لأنك منصورية، المنصورية لا تخجل حتى من أولادها.
وقفت المنصورية وتخطت بعض الأفخاذ والأقدام والرؤوس، أصبحت قبالة الأعمى في الوسعة الصغيرة، مدت ذراعيها في الفضاء، وأخذت تدك الأرض بقدميها. زغردت بعض النساء مشجعات لها. ارتفع صوت الأعمى وازدادت ضربات أنامله على التعريجة قوة. كانت التعريجة تحت إبطه تكاد تختفي وراء ثوب قشابته، ومع ذلك كان يسمع له صوت حاد. الأعمى صاحب الكمنجة يساعده بترديده لازمة أغنية عن الحصاد والحب والمرأة التي لا تهتم به لأنه مجرد خماس. شعرت نوارة بالبول الساخن يتسرب إلى جسدها. اعتبرت ذلك طبيعيا فتحملته، أخذت تحرك هي الأخرى جسدها الواهن. لاحظت ذلك امرأة فقالت لها:
- لا تحاولي أن ترقصي، الحرارة شديدة. سوف تفسدين الوالدة إذا فعلت. زوجك ينتظر منك أولادا آخرين. تعالي اجلسي.
جلست نوارة عند الباب، واستمرت المنصورية في الرقص، والأعمى ينحني عند عجيزتها وقد أصابه نوع من الحال، يضرب بعنف على التعريجة وصوته المبحوح يخترق أخشاب البراكة. نهضت امرأة أخرى وأخذت ترقص وقد نزعت عن شعرها الأكرت منديلها المزوق، ألقت المنديل في حجر إحدى النساء، ظلت ترقص في مكانها. وقف أعمى آخر كان يضع نظارتين، وتوجه نحو الوسعة الصغيرة وسط البراكة. داس المكان كالتيس، أخذ يرقص مع المنصورية والأعمى صاحب التعريجة، ويردد لازمة الأغنية، لكن صوته كان شبيها بالعواء. نفس اللازمة كانت تردد من طرف أفواه أخرى، أفواه نساء يبرن ورجال لا يبصرون. وقالت امرأة توجد قرب الباب لنوارة:
- لا شك أن زوجك سيشرب زجاجتين من النبيذ هذه الليلة.
- لم يعد يشرب، ولكنه عوضه بالكيف. الكيف أرخص يا أختي.
- أهاه ! مثل زوجي ! لكن الكيف يجعل الرجال كسلاء ويفقدون فحولتهم.
- طبعا، إذا كانت المرأة لا تعرف كيف تستحلب الثور. أقصد إذا أنهكت. أما أنا فما أزال صغيرة وقادرة على استحلاب ثور عمره ثمانون سنة.
- هنيئا لك يا أختي. ثم إن سي أحمد يبدو رجلا فحلا. وهذا العزري الذي في أحضانك لا بد أنه سوف يشبهه.
- الله وحده يعلم بذلك.
أخذت تهدهد الصبي، وتنظر إلى وجهه المغطى بخرق، ثم قبلت الخرقة الملفوفة فوق رأسه وهي تقول:
- الفحل اليوم هو الذي يعرف القراءة، أتمنى أن يتعلم حتى يحصل على شهادات.
- معك حق. لكن إذا لم يطردوه من المدرسة. لقد طردوا كل أبنائي.
- شكيكو ! (وضربت عند خشب البراكة وتفلت في التراب).
قالت المرأة:- ألف شكيكو وشكيكو. لكنها الحكومة.
لم تسمعها نوارة لأن الزغاريد كانت تشق الفضاء، والأصوات تتعالى وتتحدث أو تتغنى ! وشعرت أنها حققت كل شيء. لقد أغلقت الأفواه. ينقص شيء: المشوي والضلعة ! لكن مازال الدهر طويلا عريضا. وفي المرة القادمة سوف يستمر السابع سبعة أيام وسبع ليال بكاملها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق