الجمعة، مارس 14

ابن زيدون: قصة حب أندلسية


بقلم: اياد نصار
لم تكن قصة حب عادية كباقي القصص، ولكن قصة حب عنيفة مؤثرة امتزج فيها الوفاء بالعتاب والاخلاص بالهجران والتحول بالنأي والصد والاقتراب بالاغتراب وحالات الحب المختلفة بمكائد السياسة. كانت قصة حب تفجرت مواهبها في بيئة ثقافية غنية التقى فيها الشرق بالغرب والقديم بالجديد وقوة السلطة برقيق الشعر، وتفجرت المشاعر في ارض حالمة بجمالها وفنونها وتطورها الفكري والعمراني فكانت تجسيدا لدور المرأة الجديد في الادب العربي. في تلك البيئة الشاعرية التي عرفت التحولات والتحالفات وانقسام الدول والطوائف برزت مرحلة فريدة في الادب العربي، فبرغم الانقسامات والاضطرابات السياسية ومحاولات الاستيلاء على الحكم المتكررة والاغتيالات وبرغم التهديدات الخارجية المتوالية، فقد ولدت حاضنة ثقافية فكرية علمية ادبية اتسمت بالنشاط والازدهار. وكان الامراء والخلفاء يشجعون الشعر والادب والغناء والفن بأنواعه، وساهمت الطبيعة الجميلة باجوائها الساحرة في ازدهار عصر الاندلس الثقافي.

في هذه البيئة وفي هذه الاجواء التقى الشاعر ابن زيدون الاندلسي بالاميرة الشاعرة ولادة بنت المستكفي في النصف الاول من القرن الحادي عشر والتي كانت قد اقامت صالونا ادبيا لشعراء وادباء عصرها، وكتبت قصائد اخترقت فيها القيم الاجتماعية السائدة فكتبت الغزل في عشاقها واستخدمت لغة جريئة في العشق ووصف لقاءات الحب الحميمة. احبها ابن زيدون وأحبته وقامت بينهما علاقة قوية تفجرت على شكل قصائد رائعة، وتبادلا الحب الجارف العنيف. غير ان مكائد السياسة التي اتهم بها ابن زيدون بذريعة مشاركته في التآمر وتبدل نظرة الولاة منه وضعت حدا لطموحات ابن زيدون، كما أن ولادة تحولت عنه لانها احست انه لم يحسن التعامل معها كأميرة وقيل انه عشق جاريتها، فانصرفت عنه الى احد خصومه الشاعر ابن عبدوس الاندلسي.

واضطرت الاحوال السياسية ابن زيدون الذي كان في يوم من الايام وزيرا أن يزج به في السجن في قرطبة، وفشلت كل محاولاته في استرحام قلب امير قرطبة كي يخرجه من السجن، فهرب من قرطبة الى اشبيلية، وقد استطاع ان يصل مكانة مرموقة لدى أميرها، لكن حبه بقي يعاوده وحنينه الى ولادة بقي يعذبه من حين لآخر. واستمر يستعطف رضاها وحبها. كتب ابن زيدون اجمل القصائد وهو بعيد عن ولادة حبه الاول وعن قرطبة المدينة التي أحبها و شهدت تحقيق بعض طموحاته السياسية ووصوله الى مناصب عليا. بقي ابن زيدون مستمرا على حبه الى ولادة، وارسل اليها اروع القصائد التي عرفها الشعر العربي، ولكن ولادة امعنت في صدها وهجرانها حتى احترق قلبه اسى وحزنا من فراقها، ولكنه بقي على وفاء حبه لها يؤكده مرارا وتكرارا في قصائده، ولم يتغير قلبه او يتحول ورغم ما لاقاه منها من صد وتحول فقد بقي على حبه وولائه لها.

ومن قصائده الجميلة التي تصور معاناته وتشوقه الى لقاء ولادة هذه الابيات المشهورة:

ودع الصبر مُحِب ودعـــك
ذائعٌ من سرِّه ما استـودعك

يقرعُ السن على أن لم يكــــن
زاد في تلك الخطى إذ شيَّعك

يا أخــا البـدر سنــــــاءً وسنــا
حفـــــظ الله زمـانــاً أطلعـــك

إن يطــل بعـــــدك ليلـــــــي
فلكم بت أشكـو قصر الليل معـك

كتب ابن زيدون الكثير من القصائد في حب ولادة وبرغم مشاعر الاسى والحزن على البعد عنها وصدها له، الا انه لا يخفي احتفاؤه الواضح فيها بجمال الطبيعة الاندلسية بسحرها الخلاب. وفي هذه القصيدة بذل ابن زيدون كل جهد ممكن في اظهار حبه الراسخ لولادة ووفاءه واستمرار اعتبارها مصدر الهامه والاشادة بحفظه عهدها وبقائه على رابطة الحب التي جمعته بها يستمد منها الوفاء والامل رغم ما ناله منها.

أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيْلاً مِنْ تَدانِيْنا ------------ وَنَابَ عَنْ طِيْبِ لُقْيَانَا تَجَافِيْنَا
ألا وقد حانَ صُبح البَيْنِ صَبَّحنا -------------- حِينٌ فقام بنا للحِين ناعِينا
مَن مُبلغ المُبْلِسينا بانتزاحِهم ------------- حُزنًا مع الدهر لا يَبلى ويُبلينا
أن الزمان الذي ما زال يُضحكنا ------------- أنسًا بقربهم قد عاد يُبكينا
غِيظَ العِدى من تساقينا الهوى فدعوا -------- بأن نَغُصَّ فقال الدهر آمينا
فانحلَّ ما كان معقودًا بأنفسنا ------------ وانبتَّ ما كان موصولاً بأيدينا
لم نعتقد بعدكم إلا الوفاءَ لكم ----------------- رأيًا ولم نتقلد غيرَه دينا
ما حقنا أن تُقروا عينَ ذي حسد ---------- بنا، ولا أن تسروا كاشحًا فينا
كنا نرى اليأس تُسلينا عوارضُه ------------ وقد يئسنا فما لليأس يُغرينا
بِنتم وبنا فما ابتلت جوانحُنا ---------------- شوقًا إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين تُناجيكم ضمائرُنا ------------- يَقضي علينا الأسى لولا تأسِّينا
حالت لفقدكم أيامنا فَغَدَتْ ---------------- سُودًا وكانت بكم بيضًا ليالينا
إذ جانب العيش طَلْقٌ من تألُّفنا --------- وموردُ اللهو صافٍ من تصافينا
وإذ هَصَرْنا غُصون الوصل دانية ----------- قطوفُها فجنينا منه ما شِينا
ليسقِ عهدكم عهد السرور فما -------------- كنتم لأرواحنا إلا رياحينا
لا تحسبوا نَأْيكم عنا يُغيِّرنا --------------- أن طالما غيَّر النأي المحبينا
والله ما طلبت أهواؤنا بدلاً ------------- منكم ولا انصرفت عنكم أمانينا
يا ساريَ البرقِ غادِ القصرَ فاسق به -- من كان صِرفَ الهوى والود يَسقينا
واسأل هناك هل عنَّي تذكرنا ---------------- إلفًا، تذكره أمسى يُعنِّينا
ويا نسيمَ الصِّبا بلغ تحيتنا ------------- من لو على البعد حيًّا كان يُحيينا
فهل أرى الدهر يَقصينا مُساعَفةً ------------- منه ولم يكن غِبًّا تقاضينا
ربيب ملك كأن الله أنشأه -------------- مسكًا وقدَّر إنشاء الورى طينا
أو صاغه ورِقًا محضًا وتَوَّجَه --------- مِن ناصع التبر إبداعًا وتحسينا
إذا تَأَوَّد آدته رفاهيَة ------------------- تُومُ العُقُود وأَدْمَته البُرى لِينا
كانت له الشمسُ ظِئْرًا في أَكِلَّتِه ------------- بل ما تَجَلَّى لها إلا أحايينا
كأنما أثبتت في صحن وجنته ------------ زُهْرُ الكواكب تعويذًا وتزيينا
ما ضَرَّ أن لم نكن أكفاءَه شرفًا ----------- وفي المودة كافٍ من تَكَافينا
يا روضةً طالما أجْنَتْ لَوَاحِظَنا ------- وردًا أجلاه الصبا غَضًّا ونَسْرينا
ويا حياةً تَمَلَّيْنا بزهرتها ------------------ مُنًى ضُرُوبًا ولذَّاتٍ أفانِينا
ويا نعيمًا خَطَرْنا من غَضَارته --------- في وَشْي نُعمى سَحَبْنا ذَيْلَه حِينا
لسنا نُسَمِّيك إجلالاً وتَكْرِمَة ------------ وقدرك المعتلى عن ذاك يُغنينا
إذا انفردتِ وما شُورِكْتِ في صفةٍ ------ فحسبنا الوصف إيضاحًا وتَبيينا
يا جنةَ الخلد أُبدلنا بسَلْسِلها ------------ والكوثر العذب زَقُّومًا وغِسلينا
كأننا لم نَبِت والوصل ثالثنا --------- والسعد قد غَضَّ من أجفان واشينا
سِرَّانِ في خاطرِ الظَّلْماء يَكتُمُنا --------- حتى يكاد لسان الصبح يُفشينا
لا غَرْو فِي أن ذكرنا الحزن حِينَ نَهَتْ -- عنه النُّهَى وتَركْنا الصبر ناسِينا
إذا قرأنا الأسى يومَ النَّوى سُوَرًا ---------- مكتوبة وأخذنا الصبر تَلْقِينا
أمَّا هواكِ فلم نعدل بمنهله ------------- شِرْبًا وإن كان يروينا فيُظمينا
لم نَجْفُ أفق جمال أنت كوكبه ----------- سالين عنه ولم نهجره قالينا
ولا اختيارًا تجنبناه عن كَثَبٍ ------------ لكن عدتنا على كره عوادينا
نأسى عليك إذا حُثَّت مُشَعْشَعة------------ فينا الشَّمُول وغنَّانا مُغَنِّينا
لا أَكْؤُسُ الراحِ تُبدى من شمائلنا ------ سِيمَا ارتياحٍ ولا الأوتارُ تُلهينا
دُومِي على العهد، ما دُمْنا، مُحَافِظةً ---- فالحُرُّ مَنْ دان إنصافًا كما دِينَا
فما اسْتَعَضْنا خليلاً مِنك يَحْبسنا --------- ولا استفدنا حبيبًا عنك يُثْنينا
ولو صَبَا نَحْوَنا من عُلْوِ مَطْلَعِه ----- بدرُ الدُّجَى لم يكن حاشاكِ يُصْبِينا
أَوْلِي وفاءً وإن لم تَبْذُلِي صِلَةً ----------- فالطيفُ يُقْنِعُنا والذِّكْرُ يَكْفِينا
وفي الجوابِ متاعٌ لو شفعتِ به ------ بِيْضَ الأيادي التي ما زلْتِ تُولِينا
عليكِ مِني سلامُ اللهِ ما بَقِيَتْ -------------- صَبَابةٌ منكِ نُخْفِيها فَتُخفينا

ويبقى ابن زيدون الشاعر العاشق المعذب والسياسي الذي دفع ثمن حبه وتبقى ولادة الاميرة الفاتنة التي علمت كل العشاق كيف تنتصر لذاتها. هل كانت قسوة ام حبا لا يهادن؟ هل كانت مؤامرة سياسية أم صراعا بين العاشقين للفوز بقلب الاميرة؟ وتبقى الاجابة طي التكهنات ولكنها كانت قصة حب اندلسية ذات نكهة خاصة!
ايـاد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق