الجمعة، أكتوبر 30

نوبل - مظلومون منسيون ومرشحون ملّوا الانتظار!



على هامش فوز هيرتا موللر بـ نوبل للادب


مظلومون منسيّون ومرشّحون ملّوا الانتظار

بقلم اياد نصار

ما بين سنة 1914 التي نشر فيها الأديب الإيرلندي الشهير جيمس جويس أول أعماله النثرية: الدبلنيون (سكان دبلن)، التي أصبحت من أبجديات القصة القصيرة في العالم، وسنة 1939 التي نشر فيها آخر أعماله: رواية يقظة فينيجان قبل وفاته بسنتين، منحت جائزة نوبل ثلاثا وعشرين مرة إلى العدد نفسه من الأدباء، ولم يكن جويس من بينهم.


يعد جويس من أهم الادباء الذين غيروا وجه القصة القصيرة والرواية على مستوى العالم، منذ نشر روايته صورة الفنان في شبابه العام 1916، التي أتبعها بروايته الضخمة عوليس العام 1922. ولا يذكر تاريخ الأدب والنقد اسما من أولئك الأدباء الثلاثة والعشرين الذين فازوا بالجائزة، مثلما يذكر جويس، ذلك أن أحدا منهم لم يؤثر فيه مثلما فعل هذا الأديب. وإذا جهد المرء في التذكر، فربما يعثر على عدد قليل من الأسماء التي نالت الجائزة، وما يزال لها حضور بشكل أو بآخر في زمننا الحاضر، من مثل: أناتول فرانس، وليم بتلر ييتس، جورج برناردشو، توماس مان، سنكلير لويس، لويجي بيرانديللو، يوجين أونيل، وبيرل باك. أما الباقون، فظلوا نكرات مغمورين.

جويس لم يكن وحده في ذلك، فقد نسي أديب فرنسا اللامع غزير الإنتاج ورائد الرواية النفسية الحديثة التي عدت إحدى أهم روايات القرن العشرين على الإطلاق مارسيل بروست، صاحب البحث عن الزمن الضائع الذي توفي العام 1922، بعد أن منحت الجائزة قبل وفاته عشرين مرة منذ العام 1901، وهي السنة التي أعلن فيها عن اسم الشاعر الفرنسي سولي برودوم بوصفه أول فائز بنوبل للأدب. والمرء لم يعد يتذكر من الأدباء الفائزين خلال تلك الفترة سوى ثلاثة: الشاعر الإنجليزي رديارد كبلنغ، والشاعر الهندي طاغور، والشاعر والروائي الفرنسي أناتول فرانس.


المنسيون من الجائزة والمظلومون بسببها كثر. كان الروائي الروسي ليو تولستوي المرشح الأوفر حظا للفوز بالجائزة في دورتها الأولى العام 1901، والثانية العام 1902، لكنها ذهبت في المرة الأولى بصورة مفاجئة إلى برودوم، وفي المرة الثانية إلى الألماني تيودور مومسن، وعندما بلغه ذلك قال: كان ذلك من حسن حظي، فلم أكن أعرف ماذا سأفعل بالنقود، ووفرت علي ذلك الألم الذي لا بد منه لقاء التعامل بالمال، إنه أساس كل الشرور!


هناك أدباء كبار تجاهلتهم قرارات الجائزة، رغم أنه كان لهم حضورهم على ساحة الأدب العالمي، وبعضهم لسنوات طويلة قبل موته، كما منحت الجائزة خلال حياتهم، وفي بعض الحالات عشرات المرات، ولم تقترب منهم. من الأمثلة التي تتبادر إلى الذهن المسرحي النرويجي هنريك إبسن الذي توفي العام 1906، والروائي الأميركي مارك توين (ت. 1910)، والروائي الأميركي هنري جيمس (ت. 1916)، والروائي الإنجليزي بولندي الأصل جوزيف كونراد (ت. 1924)، والروائي النمساوي فرانز كافكا (ت. 1924)، والشاعر الفرنسي بول فاليري (ت. 1945)، والمسرحي الألماني بيرتولت بريخت (ت. 1956)، والروائي الروسي الأميركي فلاديمير نابوكوف (ت. 1977)، والروائي الإيطالي إيتالو كالفينو (ت. 1985).


تذكر المصادر أن الشاعر والمسرحي والروائي الألماني المعروف غونتر غراس كان مرشحا دائما كل سنة على قوائم الترشيحات لمدة عشرين عاما، حتى فاز بها في العام 1999 عن روايته التي أصدرها العام 1956 بعنوان "الطبل القصديري"، والتي تعد الجزء الأول في ثلاثيته المعروفة باسم ثلاثية دانزيغ.




وإذا كان للمرء أن يذكر من الأدباء العرب الكبار الذين رحلوا ولم يحظوا بها رغم جدارتهم، فإن من بينهم عميد الأدب العربي طه حسين، وأمير الشعراء أحمد شوقي، والروائي عبد الرحمن منيف، والشاعر محمود درويش، والشاعر نزار قباني، والمسرحي سعد الله ونوس، والشاعرة نازك الملائكة، والشاعر عبد الوهاب البياتي، والأديب جبران خليل جبران، والروائي والمسرحي توفيق الحكيم.


ولا شك أن هناك شعوبا أخرى تعتقد أن عددا من أدبائها الراحلين استحقوا الفوز بالجائزة، خصوصا أن أغلب الفائزين بها هم من دول أوروبا، بينما يبقى أدباء دول العالم الثالث الأقل حظا، حتى الأميركيون شعروا بخيبة أمل كبيرة هذا العام، ويعتقدون أن هناك تجاهلا للأدباء الأميركيين منذ سنوات من جانب الأكاديمية السويدية، إذ كانت آخر مرة نال فيها أديب أميركي الجائزة ذلك قبل ستة عشر عاما، وذلك عندما فازت الروائية الأميركية السوداء توني موريسون بالجائزة العام 1993. وقد ثارت في العام 2008 ضجة كبيرة حول تصريحات الناقد ومؤرخ الأدب السويدي هوراس إينغدال الذي شغل منصب السكرتير الدائم للأكاديمية السويدية، منذ العام 1997 حتى حزيران 2009، عندما صرح العام 2008 بأن الولايات المتحدة معزولة كثيرا، وغير منفتحة على الآداب الأخرى، مما يمنعها من لعب دور أساسي في صياغة واقع أدب اللغة الإنجليزية، وأضاف: إنها جاهلة كثيرا إذا اعتقدت أنها يمكن أن تنافس أوروبا، المركز الأدبي للعالم، وهي لا تساهم كثيرا في الحوار الأدبي العالمي.


كان الأميركيون يطمحون أن تعدل اللجنة موقفها أو أن تكفر عن تصريحات إينغدال، بمنح الجائزة إلى الأديب الأميركي جون أبدايك. لكن أبدايك رحل في مطلع العام الجاري، فعقد الأميركيون رجاءهم على الكاتبة الأمريكية غزيرة الإنتاج جويس كارول أوتيس، كون الجائزة لا تمنح إلا للأحياء. لكن أملهم خاب كثيرا. وهكذا ستنتظر أوتيس سنة أخرى وربما سنوات مقبلة، إذ إن اسمها ضمن الترشيحات منذ سنوات، وكان ترتيبها السابع في هذا العام على قائمة التوقعات، وحصلت على 4 في المئة من الأصوات.


هناك أمم كثيرة في العالم ممن يطمح أدباء من أبنائها بالحصول على الجائزة التي صار لها قيمة تاريخية ومعنوية علاوة على قيمتها المادية، والتي تفتح المجال أمام الفائز ليدخل بها إلى الثقافات العالمية إذا تابع حضوره الفعال على المستويين الوطني والعالمي، واستمر في تقديم أعمال متميزة تطرح قضايا المجتمع المعاصر من منظور الثقافة التي ينتمي اليها، وساهم في المشاركة في الدفاع عن القضايا الإنسانية الكبرى، ومناصرة الشعوب في سعيها للتقدم والتخلص من مشكلاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المزمنة.


تشير استطلاعات الرأي والتقارير الصحفية والمقالات الأدبية والموقع الشهير للمراهنة على المرشحين لنيل الجائزة على الإنترنت لادبروك، إلى أن أكبر نسبة توقع للفوز بالجائزة في الدورة الأخيرة كانت للكاتب والروائي الإسرائيلي عاموس عوز، الذي يشغل منصب أستاذ الأدب في جامعة بن غوريون، والذي نال 21 في المئة من الأصوات قبل الإعلان عن اسم الفائزة هيرتا موللر، التي كانت في المرتبة الخمسين على القائمة.


أما المرشح الذي نال ثاني أعلى نسبة من التوقعات (13 في المئة)، فكان الروائي الياباني هاروكي موراكامي البالغ من العمر ستين عاما والمعروف بإنتاجه الضخم، إذ وضع اثنتي عشرة رواية وستا وأربعين مجموعة قصصية. ورغم ذلك كان مرشحا في الترتيب التاسع بين الأدباء المحتملين. وقد فاز موراكامي بجائزة إسرئيلية في شباط 2009 عقب الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة، فحاول المتظاهرون ضد الحرب في اليابان ثنيه عن السفر إلى القدس لتسلمها، لكنه حضر الاحتفال وانتقد الحرب الإسرائيلية خلال خطابه. يتردد اسم موراكامي كمرشح مفضل لدى النقاد للفوز بالجائزة منذ سنوات طويلة، حتى قيل إنه قد نال الجائزة في الانتظار!


أما العرب، فقد طال انتظارهم مرة أخرى، منذ أن نال نجيب محفوظ الجائزة العام 1988، وطال انتظار أدباء من مثل أدونيس، الذي كان العام 2008 في المنزلة الثانية في التوقعات، فتراجع إلى المنزلة الثامنة هذا العام، بعد الروائي الأميركي المعروف فيليب روث الذي مل هو الآخر الانتظار، خصوصا أن آخر مرة منحت الجائزة فيها لشاعر كانت في العام 1996 من نصيب البولندية فيسلافا سيمبروسكا. يتردد اسم أدونيس للفوز بالجائزة منذ فاز نجيب محفوظ فيها العام 1988.


وخابت الآمال مرة أخرى، في أن تفوز الروائية الجزائرية الفرانكوفونية آسيا جبار التي كانت هذا العام، وبحسب موقع لادبروك، في الترتيب الثالث بين التوقعات بنسبة 7 في المئة من الأصوات. جبار كانت مرشحة متقدمة للفوز بالجائزة، وقد أظهر الموقع أنها نالت المركز الثالث في التوقعات. وهي معروفة كثيرا في الغرب وبعض دول العالم، وربما أكثر من العالم العربي، وقد ترجمت رواياتها إلى ثلاث وعشرين لغة، ويقال عنها إنها تستطيع أن تؤلف رواية في ثلاثين يوما. وقد ملت الانتظار منذ العام 1999. ويبدو أن قائمة المنتظرين لسنوات طوال ستزداد، وقائمة المستحقين الراحلين ستزداد، بينما تصر الأكاديمية السويدية على اختياراتها الأوروبية في كثير من الأحيان.

* اللوحة أعلاه للفنانة الهولندية المعاصرة ليندا غروين بعنوان زهرة الليل، وهي زهرة العاطفة والموت التي تنمو على ضفاف نهر النسيان في العالم السفلي حسب الاسطورة اليونانية.

** نشرت المقالة في الملحق الثقافي لجريدة الرأي الاردنية بتاريخ 30/10/2009.
اضغط على الرابط لرؤية الملحق الثقافي

اضغط على الرابط التالي لتحميل الصفحة



الاثنين، أكتوبر 26

"قليل من الحظ" في الصحافة العربية



"قليل من الحظ" في الصحافة العربية

نشرت بعض المواقع الثقافية والاخبارية الالكترونية والصحف العربية تنويها بمناسبة صدور كتابي الثاني "قليل من الحظ". بامكانك الضغط على الروابط المبينة لرؤية ما نشر حول الكتاب في تلك الصحف والمواقع الالكترونية، وسيتم تحديث هذه الروابط تباعاً في الايام القادمة






وفي هذا الصدد أود أن اشير الى مشاركتي في الندوة الثقافية التي أقيمت في ثاني أيام مهرجان الايام الثقافية العراقية في عمان وذلك يوم الجمعة 23 تشرين اول/اكتوبر 2009 والتي أدارها الاستاذ والناقد د. حيدر سعيد والتي شارك فيها كلاً من الناقد د. يحيى الكبيسي، والاديب والاعلامي علي عبد الامير عجام، والروائي والناقد المسرحي عواد علي، والشاعر عبود الجابري، حيث قَدّمتُ ورقة نقدية حول "صورة عمان في الرواية العراقية". يرجى الاطلاع على الروابط التالية لمزيد من التفاصيل:




الثلاثاء، أكتوبر 20

صدور المجموعة القصصية الثانية "قليل من الحظ"




صدور المجموعة القصصية الثانية "قليل من الحظ"

صدرت مجموعتي القصصية القصيرة الثانية "قليل من الحظ" عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمان، وقد قال مدير الدار الشاعر جهاد أبو حشيش في معرض الاعلان عن صدورها: "نهنئ أنفسنا والقارئ بصدور المجموعة الثانية للقاص والناقد اياد نصار "قليل من الحظ" والذي تتشرف دار فضاءات بأن كانت انطلاقته منها في مجموعته الأولى "أشياء في الذاكرة" فكان وفياً للدار، وكانت الدار وفية له ولابداعه وتميزه واشتغاله على مشروعه الابداعي".

تطرح المجموعة، التي تضم بين دفتيها خمس عشرة قصة قصيرة، قضايا الانسان المعاصر وأزماته النفسية والاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، حيث تمثّل كل قصة محورا رئيساً من محاور العلاقة الشائكة والمشتبكة بين الفرد والمجتمع، وافرازاتها من القلق والصراعات والضياع والهموم والموت العبثي التي صارت تتسم بها حياة الانسان، وخصوصاً في المجتمعات التي ينهشها العنف والتطرف في مستهل القرن الحادي والعشرين، وبما تنطوي عليه من إضطراب وتمزق وخديعة وإحساس بالخوف واغتراب عن المكان.

كما كتب الناقد الاردني المعروف الدكتور محمد عبيد الله كلمة نقدية على الغلاف الاخير، جاء فيها: "في هذه المجموعة كثير من الحظ، خلافاً لعنوانها الدال، والحظ الذي نقصده يتشارك فيه القارىء والكاتب معاً، إذ سيحظى القارىء بمجموعة قصصية جديدة تعيدنا الى وهج القصة النفسية أو السيكولوجية، التي تحاور أعماق الانسان ووجدانه في عالمنا الراهن، وخلال ذلك ترصد تأثيرات الأحوال الكبرى والتغيرات الجذرية التي تواصل فعلها وتأثيرها، سواء ما يتصل بالحروب وما خلفته من تشوهات وتمزقات، أو تحولات العالم الجديد، عالم الاتصال والعولمة والانفتاح والتجارة وما خلفه ذلك على الوجدان الانساني.

تؤكد هذه المجموعة المتميزة مع مجموعات أخرى لكتّاب معاصرين أن القصة القصيرة لم تستنفد أغراضها، ولم تزل نوعاً أدبياً حياً مفتوحاً على المستقبل، وأن التلويح بموتها ليس إلاّ إحدى إشاعات النقد الجديد المولع بصيغ الموت وإعلانات التأبين.

مجموعة إياد نصار الجديدة تطل بلغة أنيقة متقشّفة، ومركّزة على الوصف الداخلي، وعلى حركة الإنسان الجوانيّة، دون أن تنسى متطلبات السّرد وتتابع الحكاية، ودون أن تتخلّى عن منظور القصة القصيرة التي تتخذ من الإختزال ومن الاقتصاد اللغوي أساساً لبنائها، وهي في ذلك تسير على المبادىء الكبرى لروادها الأوائل، وتطوّرها بما يناسب زماننا الراهن".

وكانت مجموعتي القصصية الاولى بعنوان "أشياء في الذاكرة" قد صدرت في شهر ايلول /سبتمبر من العام الماضي، وقد نفدت طبعتها الاولى، وهناك ترتيب حالياً مع الناشر لأجل اصدار الطبعة الثانية منها

اياد

الجمعة، أكتوبر 16

هيرتا موللر: مفاجأة جائزة نوبل للاداب للعام 2009





هدية سويدية مفاجئة في ذكرى سقوط الستار الحديدي

هيرتا مولر: تكريم صوت الاقلية المضطهدة أم تكريس لممارسات الحرب الباردة؟

بقلم: اياد نصار

هل يمثل فوز هيرتا مولر، الروائية والشاعرة وكاتبة المقالة، الرومانية الجنسية، الالمانية الاصل واللغة، التي لم تكن معروفة من قبل خارج حدود بلادها بجائزة نوبل للعام 2009 التي أعلنت قبل أيام تكريماً مستحقاً لصوت الاقلية المضطهدة أم استمراراً غير معلن لممارسات وثقافة مرحلة الحرب الباردة، واستمراراً للاحتفال الغربي الكرنفالي بذكرى النصر على كل ما يمت للمعسكر الشرقي بصلة؟ هل يمثل فوزها انتباهاً متأخراً للمحرومين والمضطهدين من ضحايا نظام تشاوشيسكو الشيوعي في رومانيا أم تكريساً لصورة من صور انتصار الغرب الذي يرى في نفسه تجسيدا للحرية في صراع الشرق والغرب الذي يقوم على توظيف كل مجالات الحياة العسكرية والثقافية والاعلامية وكذا الجوائز الادبية لتكريس هذه الصورة؟ هل أرادت الاكاديمية السويدية أن تقدم هدية من نوع خاص في الذكرى السبعين لقيام وانهيار الاتحاد السوفياتي رسمياً أو في الذكرى العشرين لسقوط النظام الشيوعي والذي كان الغرب يشير اليه دائما بالستار الحديدي؟

قالت الاكاديمية السويدية في إعلان منح الجائزة تكريماً لأعمالها أنها "تتسم بتكثيف الشعر وصراحة النثر التي تهتم بتصوير المكان للمحرومين والمشردين". وقالت هيرتا مولر في بيان صدر عن ناشر كتبها في ألمانيا بعدما تبلّغت بخبر فوزها بالجائزة "إنني مندهشة كثيراً، ولا أستطيع تصديق الأمر لغاية الان. لا يمكنني أن أقول أكثر من ذلك في هذه اللحظة".


من المؤكد أن يفتح قرار اللجنة باب الجدل مرة أخرى حول نمط قرارات الاكاديمية السويدية في منح الجائزة وخصوصاً لكتاب لم يكن متوقعاً فوزهم في الترشيحات والتكهنات. فهيرتا مولر لم تكن كاتبة معروفة خارج المانيا أو رومانيا، وقد منحت الجائزة على كتاباتها الناقدة التي تعنى بتصوير مشاهد الحياة خلف الستار الحديدي، ويأتي ذلك في الذكرى العشرين لسقوط الشيوعية. ومما يؤكد ذلك، أن أغلب انتاج مولر هو بالالمانية وقليل منه تمت ترجمته الى الانجليزية والفرنسية والاسبانية مثل روايات "جواز السفر" و"أرض الخوخ الاخضر" و"السفر على ساق واحدة" و"الموعد". ولكن بالطبع ستزيد وتيرة ترجمة أعمالها منذ الان فصاعداً بعد فوزها بالجائزة.

ولدت مولر في منطقة بانات من إقليم ترانسلفانيا في غرب رومانيا في 17 آب من العام 1957. وتجسد أعمالها الظروف القاسية للحياة في رومانيا تحت حكم نظام نيكولاي تشاوشيسكو الاستبدادي الذي انتهى بثورة شعبية عليه ومحاكتمه هو وزوجته واعدامهما، كما تصور الاضطهاد الذي تعرضت له الاقلية الالمانية التي تنتمي لها في مقاطعة ترانسلفانيا على يد القوات السوفياتية. تتحدث هيرتا الالمانية لغتها الام بطلاقة وتخصصت في الدراسات الالمانية والادب الروماني في جامعة تيمشوارا. عملت معلمة في روضة للاطفال وكانت تعطي دروساً خصوصية في اللغة الالمانية. نشرت كتابها الاول وهو مجموعة قصصية باللغة الالمانية في رومانيا في العام 1982 بعد اجازته من الرقابة الشيوعية في تلك الفترة. وقد حضرت بعدها معرضاً للكتاب في فرانكفورت وانتقدت علنا النظام في بلدها فمنعت من النشر. غادرت موطنها برفقة زوجها الروائي ريشتارد فاغنر الى المانيا الغربية في العام 1987 عندما ازداد الاضطهاد وسوء الحال في رومانيا. نالت هيرتا عدداً من الجوائز الادبية وأصبحت عضوة في الاكاديمية الالمانية للكتابة والشعر في عام 1995. أرسلت في العام الماضي خطاب احتجاج الى رئيس المعهد الثقافي الروماني الذي قام بتعيين اثنين من المخبرين السريين السابقين للعمل فيه.

ومن الاحداث المهمة في حياتها والتي شكلت انعطافة كبيرة في مسيرتها الابداعية وكانت الاساس الذي طالما وظفته في كل أعمالها بصور أخرى عديدة للخوف من القمع والاضطهاد هو تلك الحادثة التي ذكرتها كل الكتابات التي تناولت سيرتها الذاتية. ففي السبعينات عملت لمدة ثلاث سنوات في مصنع للجرارات الزراعية وكانت وظيفتها هي ترجمة الادلة الفنية التي تم احضارها من ألمانيا الشرقية والنمسا الى اللغة الرومانية. كان زملاؤها ورؤساؤها مخبرين في الشرطة السرية. ومن أجل البقاء في وظيفتها كمترجمة كان لا بد من أن تصبح عنصراً في الاستخبارات السرية لضمان ولائها وتعاونها، ولكنها رفضت فتعرضت للفصل من العمل بعد ثلاث سنوات، وللتهديد حيث أخبرها رئيسها بأنك "سوف تندمين، سنغرقك في النهر".

بعد أن تركت هيرتا بلدها خوفاً من الاضطهاد وانتقلت الى برلين، صارت تجسد في كتاباتها مسألة الاغتراب ومحنة النفي السياسي. ومن طريف ما يروى أنها قالت عندما سألها الصحفي البريطاني جوليان ايفانس يوم التقى بها في برلين عن الحياة في ألمانيا: "البيروقراطية الالمانية عصية على الاختراق أكثر من رومانيا"! ويصف أحد الفصول السريالية الغريبة في روايتها "أرض الخوخ الاخضر" وداع الراوي بعد أن أصبحت موضع شك سياسي: "عندما رفعتْ غطاء السرير، وجدتْ أذن خنزير على الملاءة. رفعت الملاءة وهززتها ولكن الاذن بقيت ملتصقة بها كأنما هي زر مثبت بها".


لم تكن هيرتا هي الاولى من الفائزين في الاونة الاخيرة بجوائز نوبل الذين تناولوا قضية الاقليات فهناك الكاتب الفرنسي جان ماري لوكليزيو للعام 2008، والكاتبة المسرحية والروائية النمساوية الفريده جيلينك للعام 2004، والروائي الهنغاري اليهودي ايمري كيريتس للعام 2002، والكاتب المسرحي والروائي الصيني تشاو زينغ تشيان للعام 2000، والشاعرة البولندية فيتسلافا سيمبروسكا للعام 1996.
رُشحت روايتها الاخيرة التي أصدرتها العام الحالي 2009 بعنوان "كل شيء أملكه أحمله معي" لجائزة الكتاب الالماني وتم اختيارها ضمن ستة أعمال تتنافس على الجائزة التي لم تعلن نتيجتها بعد. تطرح الرواية رحلة شاب ألماني الى معسكر للعمل في الاتحاد السوفياتي كنموذج على مصير السكان في ترانسلفانيا بعد الحرب العالمية الثانية. وقد استندت في كتابها على مذكرات كاتب يدعى اوسكار باستيور التي قامت بمراجعتها وعلى ذكريات أمها عن تلك الفترة.

كان انتاجها الاول عبارة عن مجموعة قصصية نشرت في بوخارست بعنوان "الارض المنخفضة" وصدرت عام 1982 بعد أن حذفت منها الرقابة بعض المقاطع. ثم أصدرت مجموعتها الثانية بعنوان "التانغو القاهر" في العام 1984، وقدمت أول رواية بعنوان "جواز السفر" في العام 1986 في برلين، ثم نشرت نصوصاً نثرية بعنوان "شباط عاري القدمين" في برلين عام 1987، كما نشرت في ذات العام نوفيلا بعنوان "الرجل الفارغ المطلق". ومن أعمالها المميزة التي جذبت أنظار النقاد اليها كانت رواية "السفر على قدم واحدة" في العام 1989 في برلين، وقد تمت ترجمتها الى الانجليزية في العام 1992، وكذلك رواية "أرض الخوخ الاخضر" التي صدرت عام 1994 في هامبورغ، وحققت شهرة وتمت ترجمتها الى الانجليزية في العام 1996، ورواية "الموعد" التي صدرت عام 1997 في هامبورغ أيضاً، وترجمت الى الانجليزية عام 2001. وليس آخرا روايتها الاخيرة التي صدرت هذا العام "كل شيء أملكه أحمله معي". ومن أشعارها ديوان "امرأة تعيش في عقدة شعر" صدر في العام 2000، وديوان "الملك ينحني ويقتل" الذي أصدرته عام 2003 في ميونخ، ودواوين أخرى.

يمتاز أسلوب هيرتا في القصة والرواية بالنثر الشاعري حيث يتحول النص الى ما يشبه قصائد نثرية تعكس أجواء الخوف الذي يسكن أعماق شخصياتها. ويتسم أدبها باحساس رقيق في اللغة سواء أكان نثراً أم شعراً، كما تنظر بعين أمينة الى حد القسوة الباردة نحو تفاصيل الحياة في رومانيا الشيوعية، غير أن النقاد يأخذون عليها صعوبة أسلوبها، حيث أن متابعة تسلسل السرد في قصصها ليس بالامر السهل على القاريء إدراكه. كما أنها يؤخذ عليها اهتمامها بنقل الصورة من خلال اللغة والوصف أكثر من الحدث ذاته، ويتحول الوصف الامين أحيانا الى جو من الكآبة. كتبت ميريل روبين في صحيفة لوس انجليس تايمز عن رواية "الموعد" تقول: "مثل روايتها السابقة، والتي تجسد عالماً من الخوف والعصاب والاضطراب، فإن رواية "الموعد" ليست سهلة القراءة".

حصلت مولر على عدد كبير من الجوائز الالمانية في الشعر والنثر بدءاً من العام 1981، ويكاد يصل الامر حد فوزها بجائزة كل عام! ومن الجوائز المهمة التي حصلت عليها قبل نوبل هو فوز روايتها "أرض الخوخ الاخضر" بجائزة دبلن الدولية الادبية في العام 1998. كما خصصت مجلة تكست كريتيك الادبية الالمانية الرفيعة عدداً بأكمله عنها. وقد انسحبت مؤخرا من الجمعية الدولية للكتّاب عندما علمت ان هناك نية لدمج الفرع في ألمانيا مع فرعها الاخر في برلين احتجاجا على ضم بعض الكتاب الذي عملوا سابقا مع الشرطة السرية.

ومن روايتها "كل شيء أملكه أحمله معي" أقتطف النص التالي: "حملت معي كل شيء كان عندي. لم تكن في الواقع لي. إما أنها كانت تستخدم لغرض آخر او لشخص آخر غيري. الحقيبة المصنوعة من جلد الخنزير كانت في الاساس صندوق الغراموفون. والمعطف كان لأبي. والبنطال القصير من عمي ادوين. والجرابات الطويلة استعرتها من جارتي السيدة كارب، والقفازات من عمتي فيني. أما الوشاح الحريري وحقيبتي الشخصية وحدهما كانتا لي من هدايا أعياد الميلاد السابقة.

كانت ما تزال الحرب مشتعلة في كانون الثاني عام 1945. لقد صُدموا ونحن في عز الشتاء عندما علموا بأن الروس سوف يأخذونني الى مكان لا أعلمه، فأراد كل واحد أن يعطيني شيئاً، حتى لو لم تكن له فائدة. في الحقيقة لم يكن هناك شيء على الارض يمكن أن يساعدني في ذلك الموقف. ولم يكن هناك خلاص لي: اسمي على قائمة الروس. أعطاني كل واحد شيئاً ورسم في ذهنه النتيجة التي توصل اليها. حملت الاغراض، ووصلت وأنا آنذاك في سن السابعة عشر الى النتيجة التالية: الوقت مناسبا للذهاب بعيداً. كان بامكاني القيام بذلك بدون تلك القائمة. أردت الذهاب بعيدا عن هذه البلدة حيث كل الحجارة لها عيون".

وفي مكان آخر كتبت تقول: "رجلا بوليس- روماني وروسي- أخذا القائمة من بيت الى بيت. كانت تلك هي الدورية. لم أعد أعرف أي شيء، أو إن كانا قد نطقا في بيتنا كلمة معسكر. واذا لم يفعلا ذلك، فما هي الكلمة الاخرى –غير روسيا- التي نطقا بها؟ واذا كانا قد فعلا ذلك فإن كلمة معسكر لم تخفني. برغم الحرب وصمت الموعد حول عنقي، كنت ما أزال في السابعة عشر استمتع بطفولة شقية مرحة. كنت أسمع كلمات مثل الالوان المائية واللحم، ولكن دماغي كان أصماً عن كلمة معسكر".

تُعدّ هيرتا مولر من أكثر الكتّاب تقديراً في ألمانيا. ومنذ أن ظهرت على الساحة الادبية لاول مرة عام 1982 حينما نشرت مجموعة قصصية بعد أن أجازتها الرقابة في بوخارست وحذفت منها، فقد نشرت ما يزيد عن عشرين كتاباً منذ ذلك الحين. ورغم أنها تعيش في ألمانيا منذ اثنين وعشرين عاماً، إلا أنها لم تنفك تنشغل بقضايا وطنها الام وخصوصا الاقلية الالمانية فيه، في تلك المرحلة الصعبة من تاريخ العالم بأسره. تقول: "كانت أهم تجربة في حياتي هي العيش تحت النظام الديكتاتوري في رومانيا. وعيشي على بعد مئات الكيلومترات منها في المانيا لا يمحو ببساطة تجربتي الماضية. لقد حملت معي ماضيّ عندما غادرت. تعلمت أن أستمد معنى حياتي من كتابتي. أردت أن أعيش على القيم التي حلمت بها. الكتابة بالنسبة لي السبيل الذي أعبّر به عما لم أتمكن من أن أحياه".

وقد استضافها المعهد الثقافي الروماني في بوخارست في عام 2007 لتقرأ مقتطفات من كتابها الاخير "سيدة تعيش في شينون"، وهو ديوان شعر يقوم على مبدأ الكولاج الذي امتاز به شعرها منذ أن أصدرت ديوان "الحارس يأخذ مشطه معه" في العام 1993 والذي احتوى على 94 قصيدة تقوم على فكرة الكولاج حيث تقتطع الشاعرة كلمات أو مقاطع من مجلات وتجمعها معاً بعدة طرق. وقد بدأ اهتمامها بشعر الكولاج حين كانت ذات مرة في رحلة سفر فقامت بملء البطاقات البريدية العادية بكلمات ومقاطع مأخوذة من المجلات.في حوار أجرته إذاعة رومانيا الدولية معها في شهر آب عام 2007 قالت هيرتا: لقد أثرت فيّ الموسيقى الشعبية الرومانية لأنها مرتبطة كثيرا بالوجود بطريقة لها معنى. لم يكن الفلوكلور الالماني ملهماً لي البتة." واضافت أنه لم يكن أحد يتكلم الرومانية في بلدتها. وحين تعلمت الرومانية فيما بعد، فقد وجدت كم هي مختلفة عن الالمانية. الاستعارات في الرومانية أكثر حسية ومباشرة للمعنى، ولهذا أرادت تعلم اللغة. وتضرب مثلا فتقول "في الرومانية فإن ذرات الثلج هي "دموع صغيرة" بينما في الالمانية هي "كرات أيار الصغيرة". الامر ليس مجرد اختلاف في اللغة بل اختلافاً بين عالمين. عند رؤية نجم ساقط، يقول الرومانيون أن أحدا قد مات، أما الالمان فيضمرون أمنية طيبة".

تطرح أعمال هيرتا مولر قضايا الدمار الانساني للديكتاتورية والاحساس بالضياع وفقدان الجذور في معاناة المنفى السياسي. طرحت في أعمالها القصصية الاولى وبالذات "الارض المنخفضة" و"التانجو القاهر" موضوع النفاق السياسي والقهر الذي لا يرحم الذي يتعرض له غير الموالين، كما صورت العقلية الفاشية للاقلية الالمانية وفسادها وعدم تسامحها. ولذلك تعرضت لنقد شديد في وطنها على محاولتها تحطيم الصورة الساحرة البسيطة للحياة الالمانية الريفية في رومانيا.

تقدم هيرتا صوتا أميناً الى درجة القسوة وحزيناً الى درجة فظيعة، وتصوغ مشاهداتها ببساطة لا تعرف الخوف، وتجعل مشاهد العنف اللفظي الذي يقوم به الكبار في العائلة واضحا ومؤلما للقاريء مثلما هو للطفل. ويخفف من شدة القمع الذي تتناوله جمال نصها السردي وومضات السخرية التي تستخدمها، كما يخفف منها ما تتصف به أعمالها من لغة شعرية صافية واستعارات وتوريات رمزية تتكرر في غالبية أعمالها.

تعكس الكثير من أعمالها جوانب من سيرتها الذاتية وتاريخ بلدتها. فرواية "جواز السفر" عام 1986 تؤرخ جهود عائلة فلاح الماني روماني للحصول على جواز سفر لمغادرة البلد. وبعكس أعمالها السابقة، فإن هذه الرواية تفضح فساد القرية القاسي، من خلال اظهار فساد المسؤولين من مدير البريد الى الكاهن، الذين يسعون للحصول على مكاسب شخصية وجنسية من اولئك الساعين للحصول على جواز سفر لمغادرة البلد.

قال الناقد جيسون باسكين من مجلة شيكاغو ريفيو في مقالة له عام 2002: "في أعقاب الجرائم التي ارتكبت باسم الامة والعرق، فقد وجد الافراد أنفسهم مدفوعين لحماية هوياتهم وإقامة خطوط دفاع شفافة في وجه الاضطهاد. لقد أعادت روايات هيرتا مولر الحياة الى نضال الناس العاديين".

أما رواية "السفر على ساق واحدة" التي صدرت عام 1989 فتتطرق الى مشكلات الاقامة والاستقرار في الغرب، والشعور بالاغتراب الذي يعصف بحياة المنفي السياسي. أما في رواية "الثعلب كان هو الصياد" التي كتبتها عام 1992 فإن الشخصية الرئيسة هي مدرّسة يطاردها البوليس السري. تصوّر هذه الرواية تشظي الذات الذي يصيب أمة بأكملها يحكمها الخوف. ووصف وليم فيرغسون في مقالته في جريدة نيويورك تايمز عام 1999 رواية "السفر على قدم واحدة" بأنها رواية قصيرة متميزة، وقد يكون الحدث فيها قليلاً، ولكن تم تصوير وعي بطلتها ايرين بصورة رائعة حيث يصبح الهم السياسي هو الهم الذاتي.

أما رواية "أرض الخوخ الاخضر" التي كتبتها في العام 1994 فتعد عملها الاهم وألاكثر غنى من حيث تصوير الحياة تحت الديكتاتورية الرومانية حيث تربط بين طفولة الراوي المقموعة والاضطهاد القاسي للدولة.

تمتاز رواية "أرض الخوخ الاخضر"، كما يشير الى ذلك الناقد لاري وولف في مراجعته للرواية التي نشرها في صحيفة نيويورك تايمز عام 1996، بالتفاصيل الجغرافية الواضحة التي تسعى بواسطتها المؤلفة الى خلق ما يشبه الشعر الجميل من البشاعة الروحية والمادية للحياة في رومانيا. تبدو الرواية التي تصور دولة يحكمها لصوص يسرقون الخوخ كأنها حكاية خرافية عن الشر والجشع والغباء والقسوة. إن قدرة هيرتا لا تتبدى في تصوير الحياة في رومانيا تشاوشيسكو بل في اعادة انتاج تجربة النفي، فبعد أن تهرب الشخصيات الى ألمانيا فانه ما يزال يؤرقها الاحساس بغياب الحرية حيث كانت وبالاحساس المر بالاغتراب في مكانها الجديد.

* اللوحة أعلاه بعنوان الغجرية النائمة للفنان الفرنسي هنري جوليان روسو من المدرسة ما بعد الانطباعية البدائية (1844-1910)

** نشرت المقالة أعلاه في جريدة الدستور /الملحق الثقافي بتاريخ 16/10/2009.

الخميس، أكتوبر 15

هيرتا موللر: مفاجأة جائزة نوبل للاداب للعام 2009














هدية سويدية مفاجئة في ذكرى سقوط الستار الحديدي

هيرتا موللر: تكريم صوت الاقلية المضهدة أم تكريس لممارسات الحرب الباردة؟

نشرت جريدة الدستور الاردنية في ملحقها الثقافي الصادر يوم الجمعة 16/10/2009 مقالتي حول هيرتا موللر الاديبة الالمانية الرومانية الاصل الفائزة بجائزة نوبل للاداب للعام 2009. يرجى الضغط على الصور أعلاه لتحميل صفحات الجريدة وقراءة المقال.

اياد نصار

السبت، أكتوبر 3

موسم الخروج من العزلة

موسم الخروج من العزلة
ترجمات القصة والرواية النسائية العربية

بقلم: اياد نصار*

"بالنسبة للمرأة العربية فإنني أرى أن هناك طريقاً واحدة لاختراق أي شيء: لنتحدث، لنتحدث بدون توقف عن الامس واليوم، لنتحدث بيننا...وننظر. لننظر الى الخارج، خارج الاسوار والسجون"! آسيا جبار من رواية "نساء جزائريات في شقتهن" 1980.

بدأت ترجمات القصة والرواية العربية الى اللغات الاخرى- وبالذات الفرنسية- منذ أواسط القرن العشرين، بينما تأخرت الى اللغات الاخرى الى ما بعد ذلك، وشملت بالدرجة الاولى عددا من الروايات، تليها وبدرجة أقل مجموعات قصصية لروائيات وقاصات من غالبية الدول العربية. وما تزال الأعمال السردية النسائية التي تترجم كل عام في ازدياد وتشمل أصواتاً جديدة. تناولت الروايات المترجمة مسائل عديدة مثل مقاومة الصور النمطية للمرأة، والبحث عن هوية، والتمرد، والمطالبة بحرية المرأة وحقوقها، ومقاومة الحط من مكانة المرأة وكرهها، والنظرة الاشكالية للمرأة في التراث، وإبراز صوت المرأة الداخلي، وبناء الهوية الوطنية، وتأكيد دور المرأة في أوقات الحرب والسلم، والاحتفاء بانجازاتها، ومشاركة المرأة في القضايا القومية، والدعوة الى علاقة جديدة بين الرجل والمرأة، وحرية التعبير عن مشاعرها المكبوتة...الخ. وقد تنوعت التقنيات السردية والبنى والاساليب والمدارس، من الواقعية الى الرمزية الى التاريخية الى السيريالية. كما تنوعت الاصوات الروائية التي شملتها الترجمة بشكل يعطي تمثيلا جيداً لحضور المرأة مكانياًً وزمانياً- من شمال افريقيا الى مصر والسودان الى منطقة الخليج الى العراق وبلاد الشام منذ خمسينيات القرن الماضي الى الان، مروراً بمراحل تطور الرواية النسائية العربية بما يعكس التغيرات الثقافية والسياسية والاجتماعية والدينية المختلفة.

ويجب في البداية التفريق بين الادب العربي المترجم، والادب العربي المكتوب بلغة أجنبية. وهناك الكثير من الاعمال من كل نوع. وتركز المقالة على الاعمال الروائية والقصصية النسوية العربية المترجمة الى لغات أوروبية، ولا تتناول الاعمال التي تكتب اصلاً باللغة الاجنبية مباشرة- مثل روايات الجزائرية آسيا جبار- إلا المترجم منها الى الانجليزية.

تلعب عدة عوامل مهمة دوراً في مدى انتشار أو انحسار ترجمة الاعمال الادبية النسائية العربية الى اللغات الاوروبية. هناك بلا شك، وكما في أي مشروع ثقافي يتداخل فيه الابداع بالمال، قوانين العرض والطلب، ومدى استطاعة الاديبة العربية كسر حاجر العزلة والخروج الى بلدان عربية وأجنبية من خلال الكتابات واللقاءات والمؤتمرات والنشر وبناء الصلات مع المثقفين في تلك الدول، وقدرة الاديبة على التحرر من القيود الاجتماعية المكبلة لها في اطار تجربتها في بلدها، ومدى نجاحها في فرض صورة مغايرة للتصورات الشعبية حول أدب المرأة، ومدى تغطية الصحافة العربية والدولية للنشاطات المتعلقة بالاديبات العربيات وتقديم أعمالهن للقراء. وهناك سبب آخر يتعلق باللغة ذاتها يتمثل في اختلاف تركيبة اللغة العربية وجمالياتها الاسلوبية عن باقي اللغات الاوروبية.

ازدادت في الآونة الاخيرة حركة الترجمة من الادب العربي الى اللغات الاخرى وبالذات الانجليزية. وهناك الان دور نشر غربية عديدة مهتمة بتوقيع عقود ترجمة الروايات العربية في فرنسا وألمانيا وانجلترا والولايات المتحدة وكندا واسبانيا وايطاليا وغيرها. وهناك حلقات بحث وملتقيات ومؤتمرات تقام في أماكن مختلفة، كالجامعات ومراكز الدراسات الاكاديمية المعنية بالمنطقة العربية، وعلى هامش معارض الكتب في العواصم الغربية والتي تولي ترجمة الاصدارات الجديدة من الرواية والقصة القصيرة العربية اهتماماً كبيراً.

ومما يلفت الانتباه إن أغلب ما تتم ترجمته هذه الايام بحسب المراقبين، هو روايات ومجموعات قصصية نسائية، وتشكل حوالي 80% من الادب العربي الذي يترجم للانجليزية. ومما قد يثير الاستغراب أن روائية مصرية شابة هي ميرال الطحاوي، والتي حققت شهرة كبيرة مفاجئة في وقت قصير منذ صدور روايتها الاولى "الخباء" عام 1996 والتي- ورغم أن روايتها ترجمت لغاية الان الى تسع لغات- ترى أن الادب العربي يبقى خارج كل المنافسات على حساب طغيان الأدب الصيني والياباني والهندي وغيره من الاداب!

قالت نوال السعداوي مستنكرة الاهتمام بالاصوات الروائية الشابة في حديث نشرته صحيفة العرب الدولية: "يهتمون بواحدة اسمها ميرال الطحاوي ويترجمون لها ويرفضون الترجمة لنوال السعداوي". وفي حوار آخر قالت بأن "النقاد المراهقين الذين تجاوزوا الستين يهتمون بالشابات الجميلات"! أما الروائية رضوى عاشور فقالت بأن الحنان الأبوي للنقاد يفسد كتابة الشابات اللواتي يتراجع مستوى ابداعهن بعد التدليل! وحاول الدكتور محمد زكريا عناني أستاذ الادب الانجليزي في جامعة الاسكندرية، تفسير سبب اهتمام الغرب بكاتبة شابة ظهرت فجأة وتُرجم لها لغاية الان روايتان هما: "الخباء" و"الباذنجانة الزرقاء" بأنه يعود الى "افتتان الغرب بسحر الشرق البدوي الذي تتبدى فيه المظاهر الانسانية قسوةً أو ليناً على طبيعتها العفوية البدائية والغامضة".

تظهر مفارقة ساخرة عند عقد مقارنة حول مسألة دعم الانتاج الادبي النسوي العربي بين الشرق والغرب. ففي حين أن دور النشر العربية المؤمنة بتحرير المرأة تظهر بصورة خجولة، وهناك واحدة فقط انطلقت في مصر عام 1996 (دار الشروق)، فإن دور النشر في الغرب قد اضطلعت بمهمة كبيرة طوال العقود الأربعة الماضية في اكتشاف الكتابات النسوية وتشجيع نشر أعمال الكاتبات وادخال هذه الاعمال في المناهج المدرسية والجامعية، غير أنه لا بد من الاعتراف بجهود مطبعة الجامعة الامريكية في القاهرة التي تعد رافدا مهما في طباعة الادب العربي الحديث بالانجليزية، وقد قامت بطباعة كل اعمال نجيب محفوظ. واذا كان يمكن لنا أن نمثل الاعمال المترجمة في الخمسينيات والستينيات والسبعينيات على مستوى العالم بقطرات، فإنها بعد فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل صارت مثل سيل جارٍ، حيث يطبع سنوياً حوالي عشرين كتاباً من الادب العربي المترجم في الولايات المتحدة وبريطانيا ومصر.

وفي حين تفتقر دور النشر العربية الى أقسام متخصصة بترجمة الروايات العربية الى اللغات الاخرى، مثلما تفتقد الى هيئات استشارية في الاداب العالمية، تقوم باختيار الاعمال ضمن برامج تهدف الى تقديم ما يجسد مختلف مراحل تطور تلك الاداب واتجاهاتها، وذات قيمة نقدية وتاريخية وفنية، وفي حين تخضع أغلب الاختيارات لرغبات فردية، فإن بعض دور النشر الاجنبية والمراكز الاكاديمية والبحثية التابعة للجامعات، تقوم بترجمة الروايات والقصص العربية ضمن خطة لتعريف القاريء الغربي بها واتاحة المجال للنقد لدراسة اتجاهات الادب العربي في تلك الفترة.

ومما يجدر ذكره أن مجلة دو الثقافية السويسرية كانت قد خصصت عددها لشهر آذار في العام 2007 للادب النسائي العربي تحت عنوان "الأدب العربي بأقلام بنات شهرزاد" وقدمت فيه عدداً من الكاتبات العربيات اللواتي حققن شهرة وصل صداها الى الآداب الاخرى، وتُرجمت أعمالهن الروائية الى لغات عديدة، وحصلن على جوائز تكريم في تلك الدول.

واشتمل العدد على مساهمات وحوارات مع عدد من الكاتبات من بعض الدول العربية مثل: سميحة خريس من الاردن، وسعاد عميري من فلسطين عام 1948، ولطفية الدليمي من العراق، وليلى العثمان من الكويت، وبشرى خلفان من سلطنة عمان وغيرهن.

هناك اهتمام متزايد بترجمة ما يصدر من أعمال سردية وشعرية عربية في العالم عموماً وفي الغرب خصوصاً، ولكن ما تحظى به الرواية من اهتمام لا تحظى به القصة أو الشعر بالدرجة نفسها، حتى تكاد تكون الرواية في نظر الغرب- وحتى في نظر العرب أنفسهم- ديوان العرب الجديد الذي يعبر عن شخصيتهم وهويتهم وقضاياهم ومشكلات واقعهم بعد أن كان الشعر كذلك ردحاً طويلاً. وتتوفر في بعض الدول الغربية مجموعة من المترجمين المحترفين البارعين مثل دينيس جونسون ديفيز وكاثرين كوبهام وكذلك من المستعربين المتخصصين بدراسة وتعلم اللغة العربية مثل الايطالية إيزابيلا كاميرا دافليتو، الذين قدموا خدمات جلّى على صعيد ترجمة الكتب من روايات وقصص قصيرة وأشعار ومسرحيات قديماً وحديثاً.

يطرح كتاب "تقاطعات: الجندر والامة والمجتمع في الرواية النسائية العربية" الذي صدر العام 2002 من جامعة سيراكوز بالولايات المتحدة، أسباباً أخرى وراء الاهتمام المتزايد بترجمة الادب النسائي العربي وهو قيام الثورة الاسلامية في ايران وطرح قضايا الحجاب ومنع الاختلاط، بالاضافة الى أن الامم المتحدة قد خصصت العقد- منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين الى منتصف الثمانينيات- ليكون العقد العالمي للمرأة. وأظن أنه يمكننا ان نضيف الى السبب الاول تلك النماذج المتشددة من النظرة للمرأة التي جاءت بها الحركات السلفية والتي أخذت تحارب الادب النسائي الذي رأت فيها تحرراً يهدد قيم المجتمع الاسلامية.

وفي اطار الجهود التي تشهد اهتماماً غربياً بترجمة الاعمال القصصية والروائية العربية- وخصوصاً النسائية منها- تم في الصيف الماضي توقيع ستة عقود لترجمة روايات لكاتبات سوريات وأردنيات وفلسطينيات الى اللغة الالمانية من خلال مبادرة لاحدى دور النشر العربية في مدينة كولونيا الالمانية. وشملت عقود الترجمة أعمال الروائيات عبير أسبر، وروزا ياسين حسن، وسمر يزبك، ومي جليلي، ونعمة خالد بالاضافة الى الروائية الاردنية سميحة خريس. وذكر مدير الدار أن ما شاهده في مشاركته في معرض فرانكفورت للكتاب عام 2004 قد أذهله فحجم الكتب العربية في المعرض وحجم الكتب المترجمة الى الالمانية كان يدعو للرثاء.

وترى القاصة والروائية الفلسطينية نعمة خالد، بأن الترجمة فرصة لاطلاع الاخر على المنتج الثقافي العربي، وفرصة لتغيير الصورة النمطية للمرأة "الحرملك" العاشقة للمنزل والخاضعة للرجل، والارهابية أحياناً. وتتهم نعمة الغرب والكتّاب العرب من الذكور بترسيخ هذه الصورة النمطية. أما القاصة والروائية السورية سمر يزبك فقالت لا بد للمرأة أن تواصل البحث عن ذاتها وحريتها، لأن خسارات الحرية أقل بكثير من خسارات العبودية.

ومن الكتب الهامة التي صدرت باللغة الانجليزية حول الروايات النسائية العربية كتاب صدر في العام 2003 عن مطبعة جامعة تكساس لمؤلفته نوار الحسن غولي تحت عنوان "قراءة السير الذاتية للروائيات العربيات: شهرزاد تحكي قصتها". وفيه توظف المؤلفة معرفتها باللغة العربية والانجليزية ودراستها في مؤسسات تعليمية في الشرق الاوسط والغرب، في مراجعة النصوص الاصلية العربية في الروايات بتلك النصوص في الترجمات الانجليزية، كما تفكر بعقلية القارىء العربي وهي تراجع النصوص المترجمة، تفادياً لأي سوء فهم في التعرف على جو النصوص نتيجة مشكلات الترجمة.

جاء في افتتاحية مجلة الثقافة السويسرية المشار اليها آنفاً "إن الفرق بين التركيبة اللغوية العربية وبين اللغات الاوروبية كبير، فبينما نميل نحن (في الغرب) الى الجمل القصيرة، تميل الجملة العربية الى استخدام الرموز والصور الجمالية، فاللغة العربية هي لعب بالكلمات تنبعث منها الموسيقى الى أذن المستمع. وتعرف اللغة العربية العديد من المصطلحات والتعابير والكلمات التي قد نحتاج الى جملة كاملة لترجمتها الى لغات أخرى، لذا فهناك صعوبة في الترجمة الى اللغات الاوروبية".

وهناك إشكاليات تتعلق بأصول وفنيات الترجمة- مثل الحذف- التي يعتبرها بعض المترجمين الغربيين تقنية ضرورية ومقبولة في عملية الترجمة للتخلص من الاطناب المنفر في الوصف، أو في الزوائد اللفظية التي تثقل النص، أو الاسترسال المفرط عند تجسيد الحالات النفسية للشخصيات، ويقابلها التوسع والإضافة- لأغراض توضيحية أو أسلوبية- نتيجة اختلاف اللغات والثقافات. وتذكر آمال عميرة في الفصل الثاني من كتاب "تقاطعات: الجندر والامة والمجتمع في الرواية النسائية العربية" والذي تناولت فيه بالدراسة أدب الكاتبة والناشطة المصرية نوال السعداوي أن هناك اختلافات جوهرية تتراوح بين الحذف والاضافة واعادة ترتيب الفصول بين النسخة العربية وترجمتها الانجليزية لكتاب "الوجه العاري للمرأة العربية"، بما يلبي حاجة الناقد الغربي عند دراسة الظواهر في المجتمع العربي. وإذا أقرينا بذلك، يجب ألا يتعدى حدود اللزوم واللياقة، وأن يكون بالتراضي مع المؤلف بعد مراجعة مشتركة لكل التعديلات، ويفترض عدم إلحاق خلل فادح أو فاضح بالنص الأدبي.

وقد تكون هناك اشكالية في الترجمة من الادب العربي الى اللغات الاخرى، اذا كان في أحد بواعثها هو كتابة الرواية أو المجموعة القصصية وفي ذهن الكاتبة أنها مشروع للترجمة قبل أن تولد، مما يعطي الانطباع بأنها تكتب لتقديم نماذج نسائية نمطية لاثارة فضول واهتمام القارىء والناقد الغربي المهتم بالاطلاع على الثقافة العربية، وما قد يعني ذلك من التركيز على قضايا حرية المرأة المسلوبة والقيود الاجتماعية والتابوهات وصور استغلال المرأة ومشاهد الجنس التي تقترن كثيراً في ذهن القارىء الغربي بالادب العربي.

عندما اختيرت الروائية الجزائرية آسيا جبار عضواً في الاكاديمية الفرنسية، شنّ الروائي الجزائري رشيد بوجدرة صاحب رواية "ألف عام وعام من الحنين" هجوماً قاسياً عليها واصفاً رواياتها بأنها متوسطة المستوى وهي "ما يطلبه الفرنسيون". وسبق له أن وصف روايات أحلام مستغانمي بأنها مثل "ساندويتش البطاطا" فيما عدّه النقاد نوعاً من الغيرة الشخصية!

وفي شهر نيسان من العام الحالي 2009 عقدت ندوة مهمة في المجلس الاعلى للثقافة في مصر تحت عنوان "أدبنا في عيون الآخرين" نظمتها لجنة الدراسات الادبية واللغوية، وقد شارك فيها عدد من اساتذة الجامعات والدارسين والنقاد. وطرحت الندوة موضوع الادب العربي المترجم، وأجمع المحاضرون على أن الجهات المترجمة تعتمد على معايير غير موضوعية أحيانا في اختيار الروايات والقصص التي يتم ترجمتها مثل العامل المادي والرواج التجاري أو العلاقات الشخصية والمعارف عن طريق أدباء آخرين.

وطرح في الندوة ما يشير الى أن الادب العربي المعاصر موجود بشكل جيد في الدول الاوروبية، وخصوصاً في فرنسا. وقالت الدكتورة غراء مهنا رئيسة قسم اللغة الفرنسية بجامعة القاهرة إن رواية "نجمة" للروائي الجزائري كاتب ياسين قد تم اعتمادها ضمن المنهاج الفرنسي ويدرسها طلاب المرحلة المتوسطة. وأضافت أن هناك حضوراً واضحاً للروائيات العربيات مثل آسيا جبار ورضوى عاشور ومي التلمساني وغيرهن، فلم تعد القضية وجود الادب النسوي العربي من عدمه، بل بكيفية بناء الثقافة، وتحويل الادب العربي الى عامل يسهم ايجابيا في تغيير النمطية التقليدية.


* نشرت في ملحق الثقافة في جريدة الدستور الاردنية يوم الجمعة الموافق 2/10/2009. يرجى الضغط على العنوان أعلاه للانتقال الى رابط الصفحة في الجريدة وتحميلها

الجمعة، أكتوبر 2

جذور النوفيلا في اللغة والادب



جذور "النوفيلا" في اللغة والادب

بقلم اياد نصار

تعرّف دائرة المعارف البريطانية "النوفيلا" novella على أنها سرد قصير محكم البناء، واقعي أو تهكمي النبرة في الغالب، نشأت في ايطاليا في العصور الوسطى وكانت ترتكز على أحداث محلية ذات طبيعة هزلية أو سياسية أو عاطفية، كما أثّرت في تطور الرواية في أوروبا في القرن الثامن عشر، وفي القصة القصيرة في القرن التاسع عشر وما تلاهما.

ويعرف قاموس ديكشنري دوت كوم المشهور النوفيلا على أنها حكاية أو قصة قصيرة من النوع الذي جاء في كتاب ديكاميرون للايطالي جيوفاني بوكاتشيو في القرن الرابع عشر. كما يقدم تعريفاً آخر، وهو سرد نثري خيالي أطول من القصة القصيرة وأكثر تعقيداً. يبدو في هذين التعريفين أربع حقائق: الاولى نسبتها الى أصلها الايطالي، والثانية درجة الطول والقصر، والثالثة التعقيد في العمل الذي لا يعني نقيض البساطة والسهولة وحسب، بل اشتمالها على درجة من جودة البناء الفني وترابط العناصر، والرابعة هو في كونها عملاً سردياً خيالياً.

أما قاموس التراث الامريكي للغة الانجليزية، فقد عرفها على أنها حكاية نثرية قصيرة تتسم في الغالب بالدرس الاخلاقي أو بالتهكم، وفي تعريف آخر وصفها بأنها رواية قصيرة.

وعرّفتها موسوعة ويكيبيديا، بأنها سرد خيالي نثري أطول من النوفيليت novelette ، وهي الكلمة الايطالية التي تشير الى القصة القصيرة ولكن أقصر من الرواية. وفي حين أنه ليس هناك إتفاق حول الطول الذي يمكن أن يعد مقياساً يحدد النوفيلا ، إلا أن جوائز نبولا Nebula لكتاب أمريكا للخيال العلمي والفنتازيا تعرّف النوفيلا على أنها تحتوي على كلمات يصل عددها بين سبع عشرة الف وخمسمائة كلمة وأربعين ألف كلمة.

وترى الموسوعة أن النوفيلا نوع أدبي أكثر شيوعاً في اللغات الاوروبية منها في اللغة الانجليزية. وقد ازدهرت في ألمانيا في القرن الثامن عشر وما بعده، خصوصاً على أيدي كتّاب أمثال: هنريخ فون كليست، وجيرهارت هوبتمان، وجوته، وتوماس مان، وفرانز كافكا. وكما في حكايات بوكاتشيو، فان تلك النوفيلات الالمانية ترتكز على حدث مأساوي مثل طاعون أو حرب أو طوفان سواء في الواقع أو في الخيال. ويروي الحكايات عدة رواة لاشغال المستمعين عن التفكير بالبلاء الذي حل بهم.

ومن الامثلة المشهورة التي يمكن ايرادها تحت باب النوفيلا في الادب المكتوب بالانجليزية: "عن الرجال والفئران" لجون شتاينبيك، و"التحولات" لفرانز كافكا، و"مزرعة الحيوان" لجورج أرويل، و"الرجل العجوز والبحر" لايرنست هيمنجواي، و"دكتور جيكل ومستر هايد" لروبرت ستيفينسون، و"الموت في البندقية" لتوماس مان، و"وداعاً كولومبس" لفيليب روث، و"قلب الظلام" لجوزيف كونراد، و"أوراق أسبيرن" لهنري جيمس.

وكلمة نوفيلا بالايطالية تعني حكاية أو إخبارية، ويدل أصل الكلمة على أنها كانت تعني أخبار البلدة والحياة في الريف التي كانت جديرة بالاعادة لغرض التسلية والتثقيف. وكان يتم جمع تلك الحكايات في مجموعات مع الاساطير والحكايات الغرامية، ولكن مع مجيء بوكاتشيو وفرانكو ساشيتي وماتيو بانديلو، فقد طوروا النوفيلا الى حكاية قصيرة أكثر رقة من ناحية نفسية وأكثر اتقانا من حيث التركيب، وكانوا في الغالب يستخدمون قصة كاطار يجمعون حولها حكايات ذات مغزى معين.

وفي هذا الاطار فإن كتاب ديكاميرون لبوكاتشيو الذي انتهى من تأليفه في العام 1353 يشتمل على نحو مئة نوفيلا ترويها سبع نساء وثلاثة رجال تركوا مدينة فلورنسا هرباً من الطاعون الذي ضرب المدينة، والتجأو الى بيت في الريف خارج المدينة وراحوا يسردون الحكايات لتسلّيهم وتلهيهم عن التفكير بالموت الاسود الذي ضرب وسط أوروبا وجنوبها بين العامين 1348 و1350 وخلف وراءه نحو مئة مليون ضحية، وتسبب في خفض عدد سكان أوروبا في تلك الفترة بحدود 45 بالمئة. ويروي كل شخص منهم حكاية للاخرين على مدى الليالي العشر التي قضوها في ذلك المعتزل.

ويؤكد الدكتور محمد عبيدالله أن مجامع اللغة العربية لم تتطرق الى ترجمة هذه الكلمة، مما يعكس اتجاها عاماً بأن النوفيلا في الادب العربي لم تترسخ بعد كنوع أدبي مستقل ضمن جنس السرد. بل إن اصحاب النوفيلات التسع الذين اختارهم في كتابه "الرواية القصيرة في الاردن وفلسطين: بنية الرواية القصيرة" (دار أزمنة،2007) لم يصنّفوا هم أنفسهم ما كتبوه ضمن هذا النوع.

ويورد في هذا المجال ما قام به الناقد نزيه أبو نضال من تتبع التصنيفات التي استُخدمت في وصف بعض النوفيلات سواء تلك التي قام بها أصحابها أو الناشرون عند إشارتهم لها. فابراهيم نصر الله أشار الى أن "الامواج البرية" رواية في معرض حديثه عن أعماله، وهاشم غرايبة يصف كتابه "رؤيا" نصاً قصصياً، أما رفقة دودين فكتبت على غلاف "مجدور العربان" بأنها نص قصصي شبه روائي، وأحمد الزعبي يصف "اختفاء شاعر" و"صم بكم عمي" بنصين روائيين، وسحر ملص تشير الى نوفيلا "اكليل الجبل" بكلمة: قصة.

وتكاد تتفق اللغات الاوربية على استخدام التعبير نفسه، لكن بالصيغة التي تحتكم اليها كل لغة أوروبية. ففي الالمانية والهولندية والدانماركية والنرويجية تدعى novelle أما في البرتغالية فتُستخدم الكلمة novela وفي الفرنسية تُدعى nouvelle.

وهناك اختلاف آخر عن الرواية يتمثل في عدم استخدام فصول في داخل النوفيلا، لأن الاصل أن تقرأ في جلسة واحدة، ولكن يمكن استخدام الفراغ أو الورق الابيض. وهي في الاساس يجب أن تخلق لدى القاريء انطباعا واحدا مثل القصة القصيرة، ولكن بعمق فيما يخص تطور الشخصيات فيها.

يقدم د. عبيد الله في دراسته المشار اليها، عملاً بحثيا ونقدياً ينطوي على نظرة مهمة للغاية في دراسة تطور هذا النوع الادبي، وربما تكون من الاعمال التي لم يسبقه اليها أحد في دراسة بنية الرواية القصيرة في الاردن وفلسطين منذ البدايات ولغاية الان. وقد أشار في مقدمته الى أنه يقصد تمييز وتفريد الرواية القصيرة نظريا وتطبيقيا لعلها تكون منطلقاً لدراسات أخرى متممة.

ولم يكتف بتقديم دراسة نظرية تبين مفهوم هذا النوع وخصائصه وحدوده، بل تعدى ذلك الى تقديم دراسة تطبيقية على عينة تتكون من تسع نوفيلات لكتّاب من الاردن وفلسطين بالتحليل والشرح، منهم غالب هلسا، وغسان كنفاني، وجمال ابو حمدان، ومؤنس الرزاز، وإلياس فركوح، ويوسف ضمرة.

قسم د.عبيدالله كتابه الى ثلاثة فصول رئيسية. قدّم في أولها نظرية الرواية القصيرة، وفي الثاني الدراسات التطبيقية، وفي الثالث أورد نصوص النوفيلات التي تحدث عنها في الكتاب. يكتسب الفصل النظري أهمية كبيرة لتطرقه الى اشكالية البحث عن اسم لفن يقع بين القصة والرواية، فتارة ينسب للرواية بصيغة أو بأخرى، وتارة ينسب الى القصة.

ويبدو أن مصير النوفيلا سيبقى معلقاً مفتوحاً في غياب الاسم الشائع المحدد في الادب العربي وفي غياب معايير واضحة لتسمية هذا النوع سوى تقدير الكاتب أو الناشر فيما يستخدمانه لتوصيف الرواية القصيرة.

وتتبّع د. عبيدالله بشكل ممتع ودقيق معاني الكلمة ومدلولاتها في اللغات الاوروبية ومقارنتها بعضها ببعض وبأصلها الايطالي، كما تطرق الى إشكالية التعريف عند دراسة هذا النوع الادبي من حيث لا بد من وجود معايير أخرى للحكم غير الحجم وعدد الصفحات. كما أورد نماذج قديمة من الاداب الايطالية والفرنسية والالمانية، ساهمت في نشوء النوفيلا. وقد حاول تقديم دراسة تاريخية لغوية عبر تتبع المصطلح في مصادره الاوروبية المختلفة، وأفرد قسماً للحديث عن تجارب النوفيلا في مصر.

ومما ذكره في كتابه نقلا عن الناقد خيري دومة الذي أفرد فصلا قصيراً في كتابه الذي حمل عنوان "تداخل الانواع في القصة المصرية القصيرة 1960- 1990" أن الاسم العربي يثير اشكالية في نسبة النوفيلا مرة الى القصة ومرة الى الرواية، لأن لكل منهما مناخاً دلالياً مختلفاً، ولهذا فقد فضّل استخدام الاسم الايطالي.

والمفارقة أن دومة تحدث عن النوفيلا في معرض حديثه عن أنواع القصة القصيرة، مما يوحي بأنه عدّها ضمنياً أقرب الى القصة من الرواية، ولكن عندما تطرق الى معيار الشكل فقد عدّها قريبة للرواية. ثم عاد مرة أخرى ونقض ما قاله سابقاً حين قال: "ويبدو أن اتساع المادة فرض على هذا الشكل من أشكال القصة القصيرة (النوفيلا) أن يختار ثيمات معينة، وأن يرتكز على العناصر التقليدية".


* اللوحة أعلاه رسم بالالوان على حجارة البحر للفنانة الاردنية سهام الموسى
** نشرت في جريدة الرأي الاردنية يوم الجمعة الموافق 2/10/2009. يرجى الضغط على العنوان أعلاه للوصول الى رابط الصفحة