الجمعة، فبراير 26

عالم عدي مدانات القصصي



عالم عدي مدانات القصصي

القصة رسالة ضد استلاب انسانية الانسان

إيـاد ع. نصـار

ينتمي أدب عدي مدانات الى المدرسة الواقعية التي ترصد تحولات الطبقتين الدنيا والوسطى وصراعاتهما وتناقضاتهما على وجه العموم، ومدمني المعاناة اليومية والصامتين وأصحاب البؤس والاحلام المؤجلة وضحايا فظاظة الاقدار وأسرى العادات ثقيلة الوطأة التي تفتك بالروح على وجه الخصوص.


وقبل الخوض في عالم مدانات القصصي الذي يتشكل من ثلاث مجموعات قصصية هي "المريض الثاني عشر غريب الأطوار" 1983، و"صباح الخير أيتها الجارة " 1991، و"شوارع الروح" 2003، ومجموعة جديدة ستصدر قريباً بعنوان "حكاية السوار العتيق"، لا بد من الوقوف عند بعض المحطات المهمة والمؤثرات الرئيسة في حياته، والتي شكلت مناهل الفكر لديه، وحددت إطار تجربته الابداعية وخبراته في الحياة التي استمد منها مادة كتاباته.


تبرز في المقام الاول مهنة المحاماة التي يمارسها منذ زمن، ولعبت دورا كبيرا في اقترابه من مشكلات الانسان وهمومه، فصارت أحاديث الناس وحكاياتهم منجمه الذي ينقب فيه، وصارت هموم وشجون الفقراء والمعذبين والمهمشين وأسرى الرتابة اليومية التي تفرضها متطلبات الحياة البائسة ألوانه التي يرسم بها لوحات قصصه التعبيرية، ومراكبه التي يبحر فيها بحثاً عن جزر بشرية تعيش معاناة الوحدة والنسيان والعزلة وسط المجتمع، وتئن من الالم والضجر واليأس. ويمكن القول أن أدب عدي مدانات أقرب في جانب كبير منه للتعبير عن روح الطبقة الوسطى وأخلاقياتها ومشكلاتها من غيرها.


ورغم أن اهتمامه بالقصة والتأمل في فصول المعاناة الانسانية بدأ قبل أن يبدأ مشواره العملي في سلك المحاماة، وتمكن من تطوير أدواته وأسلوبه وزاوية الرؤية التي يقارب بها قضايا المجتمع، إلا أنه استطاع من خلال المحاماة أن يعاين ظروف عيش الناس، ويسبر أسباب إحباطاتهم، لينفذ الى دواخل نفوسهم وخفاياهم، ويلمس صفاتهم المتناقضة في آن معاً.


وثمة محطة أخرى مهمة في مسيرته الابداعية، هي أنه أحد مؤسسي رابطة الكتاب الأردنيين. فقد ولدت الفكرة في تلك الفترة المبكرة في بداية السبعينيات بعيد رحيل الاديب تيسير سبول الذي كان صديقاً لعدي. ففي ذلك اللقاء الحزين عشية تشرين عندما فُجع الاصدقاء بخبر انتحار تيسير احتجاجاً على انكسار الحلم العربي، ولدت فكرة إنشاء الرابطة لديهم وقد هزّهم الرحيل الدامي.


وإذا كان انتماء مدانات منذ أن تفتح وعيه على الواقع في بداية رحلة حياته، الى الحزب الشيوعي، قد لعب دوراً في تركيز اهتمامه على فئات المقهورين والمحرومين الذين تخذلهم أحلام الحياة، إلا أن قلمه استمر يهتم بهذه الفئات الى الان، حيث لم تنفك كتاباته القصصية والروائية عن تقديم معاناة الانسان تحت وطأة قسوة الحياة والفقر والتحولات الاجتماعية والمادية التي مرّ بها المجتمع، وصعود المظهر المادي الاستهلاكي بتأثير الثقافة الغربية على حساب الوعي والنضال والعمل السياسي.


ومما يثير الاعجاب، التزام مدانات بفن القصة واخلاصه له. وهو ينتقد الدعوات التي رفعت مسألة موت القصة القصيرة ، بل إنه أخذ على وزارة الثقافة تمويلها ندوات ومؤتمرات ترفع شعار التساؤل عن مصير القصة القصيرة مما يشي بافتراض موتها. ولعل مجموعاته القصصية المنشورة وأعماله المتواصلة في هذا الميدان ونشاطه في النشر بشكل شبه دائم، حتى يكاد لا يمر أسبوع دون أن تحمل الصفحات قصة له، دليل على اخلاصه لهذا الفن وإيمانه بدوره. فبالنسبة له: "كتابة القصص رسالة لفضح القبح والشر والمكائد واستلاب إنسانية الإنسان".


يلجأ مدانات من ضمن أساليبه، الى رسم صور متقابلة ومتناقضة من شخصيات عادية أو هامشية أو منسية في اطار ساخر تدير به مواجهاتها وصراعاتها. كما ينقل هذا الصراع الى مستوى أعمق، حين يطرح هموم الطبقات الدنيا في مناكفاتها اليومية، وكأن هذا الصراع اليومي بين نماذج من الطرفين، والذي يعكس التقارب والتجافي والاحتكاك والتناوش، والذي ينطوي على تجاذب وتنافر دائمين، هو زاد كافٍ للكاتب ليبرز حدود الحراك القائم. كما يركز الكاتب على ابراز تفاصيل المكان بواقعية شديدة تبتعد عن اللغة التأثيرية النفسية.


ويبدو عدي مأخوذا بنقل تفاصيل الامكنة بدقة شديدة في جمل طويلة مركبة. ويبدو ذلك واضحا في كثير من قصصه. لكن مدانات، رغم انغماسه الشديد بمشكلات الانسان العادي البسيط الذي تسلبه وطأة الحياة والفقر طعم العيش، يميل الى إغفال هوية المكان ، بل ينحو الى نوع من التجريدية في التسميات والاشارات والدلائل المكانية، أو البعد عن الاحتفاء بأمكنة معينة لها حضور في الذاكرة. فالاحداث يمكن أن تجري في أي مدينة عربية لولا تعابير وأحاديث شخصياته التي اكتست صبغة المكان الاردني.


أما على صعيد الأسلوب، فانه يكتب القصة المشهدية، حيث ينزع الى تقديم لوحة واسعة من مشهد مكاني تلتقي فيه الشخصيات وتدير حواراتها وصراعاتها ومناكفاتها، أكثر من نزوعها الى سرد الاحداث في حبكة متتابعة زمانياً ومكانياً. ويمكن عد قصته ضمن النسق الكلاسيكي للقصة الذي يركز أكثر على نبل القضايا وعدالتها من خلال الحوار، أكثر من تركيزه على الاساليب المشروعة في التجريب. ويوظف الحوار في غالبية قصصه كوسيلة لتقديم القضايا التي تدور في ذهن شخصياته، بدلاً من اسلوب القصة النفسية السيكولوجية او القصة المعاصرة التي تقوم على التشظي والهذيان والهلوسات ومناجاة الذات والكوابيس وعوالم الشك الرمادية التي لا يعرف أبطالها ماذا يريدون، غير أنهم يحسون بالاغتراب.


يبدو مدانات حريصاً في كثير من قصصه على استحضار ماضي الشخصيات كما يظهر من خلال حديثها عن نفسها، وهو يتتبع تاريخ الشخصيات من خلال سرد سيرتها. وفي كثير من الاحيان، وربما بحكم عمله محامياً وتماسه المتواصل مع قضايا الناس، يبدو في قصصه منشغلا بكبار السن والمتقاعدين والمرضى وخائبي الاحلام الذين يحسون بقسوة الحياة التي يبدو أنها وعدتهم بالكثير ولم تعطهم سوى القليل، من خلال توظيف ذكرياتهم وطرح خيبات أملهم. لهذا السبب يقدم العديد من قصصه أبطالا كباراً في السن يعانون وطأة العزلة والمرض والنسيان ومحاولات التكيف مع واقع الحياة الجديدة، ويعبر دائماً عن نظرتهم للحياة بلغتهم التي يعرفونها.


في خضم ذلك، بوسع المرء أن يرى وطأة الذكريات على شخصياته التي تبدو تعسة الحظ بائسة المصير. وحينما تهرب الى ذكريات ماضيها من حاضر شقائها، تصير موزعة بين واجب اجتماعي يطالبها بالالتزام، ورغبتها المستحيلة في أن تكون ذاتها كما تشتهي، فلا تجد سوى أن تعيش الوهم وشهقات البكاء. وحتى عندما تفكر شخصياته بايقاف الزمن واقتطاع ساعة منه لتعيش ذكرياتها في جو رومانسي عاطفي تجدد به أحلامها، تحدث أزمة في علاقاتها مع الاخرين المنهمكين بشؤون حياتهم، فليس لديهم وقت مستقطع لتجديد المشاعر والاحلام والذكريات.


في أغلب قصصه، تظهر شكاوي الناس العاديين بلغتهم وتعابيرهم الواقعية بلا رتوش، كما خبرها القاريء من واقع حياة المجتمع. وتكاد قصصه تكون التوثيق الادبي الدقيق لواقع المجتمع بكل مشكلاته وأطيافه وأحاديثه، فما يدور في الواقع من مسائل وقضايا شغلت بال المواطن في العقدين الاخيرين، كمشكلات السكن والايجار ومشكلات السوق والطريق ومنازعات الفقراء، تحضر في قصصه.


ويمكن القول بيقين أن موضوع الفقر والمعاناة أحد أكثر المواضيع التي تبرز في أدب مدانات، فشخصياته كثيرة الشكوى والتساؤلات التي لا تجد من يسمعها، ويحرمها الفقر من الاحساس بمتعة الحياة. شخصيات تحترف الحزن والانتظار والتذمر. ولكن قصصه تمتاز بتقديم بانوراما من القضايا الحياتية الضاغطة كالازمات الاسرية وغياب التواصل ولهاث الحياة والمرض والتعب.


يبدو مدانات ممن يؤمنون بتأثير السن والجنس والموقع الاجتماعي والحاجة في السلوك العفوي للانسان، الذي تتراكم عليه طبقات من تابوهات اجتماعية، فيصبح أسير مفاهيم وعادات تدخل الانسان في دوامتها. فكلما قلت مشاغله قل اكتراثه واحساسه بالهموم. وفي أثناء انشغاله بهذه القضايا فإنه لا يغفل عن الطقوس اليومية البسيطة للحياة او للحب كرمي وردة لفتاة أو مغازلة ساذجة مفتعلة أو تلفت فتاة وابتسامتها بخبث.


يهتم مدانات باختراع اسماء ثلاثية وهمية لأبطاله ليظهروا شخصيات حقيقية من الواقع، لكن حتى مع التعريف بالاسم الذي لا يخلو من غرابة أحيانا، كالاستاذ أحمد زكي المستطيلي، فإنها تبقى شخصيات مغمورة مهمشة. وهو يرصد بعين دقيقة شديدة الملاحظة تفاصيل الطقوس الحياتية اليومية التي تدل أن حياة أبطاله مستغرقة في دوامة خبيثة لا فكاك منها من المعاناة والتعب والرتابة. يبدو في هذا المشهد من قصة "الفجر لا يخفي عيوبه" اهتمام مدانات بأدق التفاصيل التي تزدحم بها حياة من يكتب عنهم. كل بيت في العالم القصصي لمدانات هو أزمة حياتية بحد ذاتها. فوضى وتراكم وضيق وتوتر وانحباس هي الصفات الاكثر تعبيراً عن عالم شخصياته. "غرفة جلوس العائلة الوحيدة في وسط المنزل تماما، وهي مركز النشاط العائلي، فعلى مقاعدها وفوق المشجب تتنائر الملابس وعلى طاولة الوسط تختلط الكتب المدرسية مع الأكواب وفتات الخبز وفيها ينتظر كل من أفراد الأسرة دوره في دخول الحمام وتناول الطعام".


يحرص الراوي عند الوصف وعند سرد الاحداث على ذكر أكثر التفاصيل الدقيقة ويثقل السرد والحوار أحيانا بجمل طويلة تنوء بكثير من التفاصيل التي يمكن الاستغناء عنها، وأحيانا يتكرر ذكر بعض التفاصيل نفسها ما بين الحوار والوصف كما في هذا المقطع الذي يرد على لسان أم أسامة في قصة "الفجر لا يخفي عيوبه": "أتخاطبني بهذا الكلام بعد عشرين سنة من الزواج؟! أفضل لي أن أغرب عن وجهك، فمن حسن حظي أن منزل والدي مفتوح لي وسأدخله معززة مكرمة، فهو خير من منزل لا أجد فيه سوى الوجوه العابسة والأشغال المكلفة، ابنك فج رأسه وانتفخ، ولا أعرف السبب، وهو يزعم أن أغرابا ضربوه، وهو بحاجة لمن يفحص رأسه، فتفضل: قم بواجبك كأب، أنا فعلت ما أقدر عليه، وضعت ثلجا على رأسه، غير أن هذا لا يكفي. ثوب ابنتك متسخ، ثمة بقعة كبيرة مصفرة، وهي لا تملك غيره، ومن غيره لن تذهب إلى المدرسة، فتفضل ونظفه لها، أما أنا فقد اكتفيت من حياة لم توفر لي ساعة صفاء واحدة، وقد صليت يدي بنار فرن الغاز المشتعلة وأنا منهمكة في معالجة الأمور التي تفوق طاقتي".


يركز مدانات على نقل تفاصيل المشهد بعيني الراوي بلا رتوش وبلغة قريبة من لغة القاريء العادي، لذا تخلو في كثير من الاحيان من ظلال التلوين النفسي والايحاءات والرموز. إذ يختلف مدانات عن كثير من كتاب القصة الذين يحبون القصص الموغلة في الرمزية والنفسية والايحاءات. وحتى في القصص التي يوحي عنوانها أنها قصة العالم الجواني للشخصيات في صراعها مع واقعها البائس، وما قد يفضي الى المناجاة والتأملات والوصف الايحائي المثقل باشارات نفسية. يظل مدانات يصر على لغة الشعب اليومية، فالاهم عنده هو المضمون الاجتماعي للقضايا التي يطرحها، وليس ابراز الجماليات الفنية والبراعات اللغوية والانزياحات الحداثية او الظلال النفسية للبوح. ويوظف مدانات تقنيات الحلم واسترجاع الماضي ومفاجآت النهايات المدهشة في قصصه التي تطرح عذابات الماضي الذي يبقى يلازمنا فنحس به ونعيشه ونتجرع مرارته وذكرياته كما في قصة "العيش في الماضي"، حيث تبدو الشخصيات غير قادرة عن تقبل حقيقة الواقع ولهذا تعيش على احلامها المنكسرة.


ورغم اهتمامه بتفاصيل السياق الواقعي للحدث خارج الشخصية، الاّ أنه يبدع حينما يقتحم عالم النفس الداخلي ليعبر عن الافكار المشوشة والهواجس والخواطر والافكار التي تزدحم في رؤوسنا في لحظات الخوف والقلق من المستقبل. وتصبح عباراته مثقلة بايحاءات الوضع النفسي العام الذي تمر به الشخصيات، غير أنه حينما يرسم صورة جميلة مفعمة بمشاعر الحب والتقارب والتعبير عن ما يجيش في الصدر من رغبات في تعويض الاخرين عن الحرمان، سرعان ما تتبدى سخرية الموقف المتمثلة في مشاعر الشك ونكران الجميل التي تتملك الطرف الاخر الذي ينظر بعين الريبة، وتحيل نهايات قصصه المفاجئة الحلم الى كابوس.
inassar98@hotmail.com

* اللوحة أعلاه للفنان التشكيلي الاردني وأحد رواد الحركة التشكيلية أحمد نعواش.
** نشرت المقالة في الملحق الثقافي لجريدة الرأي يوم الجمعة 26/2/2010.
 
رابط صفحة المقالة المنشورة في جريدة الرأي
 
رابط الصفحة الكاملة - جريدة الرأي
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق