الأحد، نوفمبر 16

الشعر العربي: أين هو الان؟


الشعر العربي: أين هو الان؟

بقلم اياد نصار

هل ما يزال الشعر ديوان العرب وفنهم الاصيل الذي نبع من ذاتهم منذ بدء التاريخ؟! هل ما يزال الشعر عشق العربي الاول بين كل الفنون؟! هل ما زال الشعر قطعة من فؤاد العربي وصورة عن حياته وسبب وجوده؟! هل ما زالت كلمات الشابي التي خاطب فيها الشعر تعبر عن العربي اليوم كما كانت في مطلع القرن العشرين:

أنت يا شعر قصة عن حياتي .............. أنت يا شعر صورة عن وجودي

أنت يا شعـر - إن فرحـتُ- أغـاريــــدي - وإن غنّــت الكـــآبــة - عــودي

أنت يا شعر كأسُ خمر عجيبٍ ..............أتـلــهّـى بـه خـلال اللـحـود ...!

أتحسّاه في الصباح، لأنسى ................. مـا تقضّى فـي أمسـي المعبـود

وأناجيه في المساء، ليلهني ..................... مـرآه عـن ظــلام الــوجــود

فيك ما في الوجود من حَلكٍ داجٍ ............... ومــا فيــه من ضيــاء بعيــدِ

فيك ما في الوجود من نغم حلوٍ ................ ومـا فـيـه من ضجيــج شديدِ

ورأى معروف الرصافي أن كل حدث في الحياة والطبيعة ما هو الا صورة من صور الشعر ينطبق عليها عروض الشعر وأساليبه الفنية ومواضيعه فكأن الشعر صارعالمنا الذي نعيش ونموت فيه:

قرأت وما في غير الطبيعة من سِـفْرِ ....... صحائفَ تحوي كل فن من الشعرِ

ومـا حـادثــات الـدهــر الا قصــائـد ......... يفــوه بها للسـامعـيـن فــم الدهــرِِ

وما المرءُ الا بيـتُ شعـرٍ عـروضـه ........ مصائبُ لكنْ ضَرْبهُ حفرة القبـرِ


وقال علي محمود طه شاعر الجندول في قصيدة أن عشق الشعر بلغ حد العبادة وإمتلك الشعر عروش القلوب:

عشقنا الدمى وعبدنا الصور ........... وهـمـنــا بـكـلِّ خيـــال عَبَـــرْ

وجـئـنــا اليــك بـملـك الـهــوى ........ وعـرش القلـوب وحـكم القـدرْ


فما الذي يجعل للشعر هذه المكانة في نفس العربي الذي توحي اشعاره أنه يعشق الكلام الجميل المنظوم على إيقاع موسيقى؟ وهل ما يزال الشعر يحتل تلك الصدارة عند العرب؟! أما أن الهوة بين الادعاء والحقيقة واسعة مثل إتساع البحر؟! آخر شيء يفكر به أصحاب النشر هو نشر دواوين الشعر. وآخر شيء يتوقعونه أن ينتشر ديوان شعر على الاقل ويفرض حضوره مثل ما تنتشر الرواية!

ويبقى السؤال الذي يطرح ذاته دائماً: لماذا يعشق العربي الشعر كل هذا العشق؟ بل لربما صار السؤال يشتمل على خطأ جوهري في حد ذاته. فهل الافتراض أن العربي ما يزال يعشق الشعر ينطوي على مغالطة لحقائق العصر الحالي؟ وأعود للسؤال الأساسي: لماذا كان للشعر هذه الحظوة في نفوس العرب؟

- أهو حب العربي للخيال والتحليق في عالم جميل يحرره من قيود الواقع الاليم؟

- أهو حب العربي للانطلاق والتحرر من قيود العقل والجمود؟

- أهو حب العربي للفن والكلام الموسيقي الموزون والصور التعبيرية الرائعة التي يقدمها باعتباره أحد الفنون؟

- أم هو تعويض عن عزوف العربي عن تعقيدات العلوم والبحث التجريبي وقوانينها المحددة والقدر الكبير من الجهذ الذهني الذي تتطلبه، مما لا يطيقه العربي فيهرب الى خيال الشعر؟

- أم هي رغبة العربي في الابداع الفردي وإظهار تفوق الذات؟

- أم هو الهروب والابتعاد عن بيئة جغرافية تمتاز بالقسوة والعيش في عالم جميل غير متحقق في أرض الواقع؟

- أم هو إدراك حقيقي بأهمية دور الكلمة في الحياة وفي التأثير في الآخرين؟

- أم هو عشق فطري منذ الازل لدى العربي أينما كان وفي أي مجتمع عاش؟

- أم هي رغبة العربي في إبراز قدراته ومواهبه اللفظية في التلاعب بالكلمات والصور والمعاني بلا جدوى، وتساعده اللغة في ذلك فلها تراث طويل من الادب وفنونه مقابل انتاج يسير في العلوم؟

- أم هي وسيلة للتنفيس عن المشاعر المختلفة من حزن وألم وفرح وغضب وغيرها؟
-أم هي كما ردد بعض المستشرقين بأن الشخصية العربية تميل أكثر في تركيبتها وبفعل المؤثرات اللغوية والثقافية الى الاداب ولا تطيق العلوم ولا تطيق اسلوبه في التفكير العقلاني المنظم الا فيما ندر؟
ربما هو مزيج من كل هذا وذاك بأولويات متفاوتة، ولكني أزعم ان الشعر فقد مكانته التي تربع على عرشها لدى العربي ردحاً طويلاً. وقد يكون من الخطأ توجيه السؤال للشعراء وجمهرة المثقفين، فمجالسهم ولقاءاتهم وحلقاتهم توحي لك بأن الشعر ما يزال حكمة العربي أينما وجده التقطه! فعدد الحاضرين في ندواتهم وأمسياتهم قليل يعدون على أصابع اليدين، وهذا مع استمرار الدعوة والحث عليها! لا أظن أنني استطيع في هذه العجالة الاحاطة بكل اسباب تراجع دور الشعر كثيراً في الوقت الراهن. ولكني أود أن أشير الى أسباب كثيراً ما نغفلها عند التطرق الى هذا الموضوع. وأولها أعتقد له علاقة بسوء استعمال اللغة والافراط فيها حتى فقدت روحها لدى الناطقين بها. لقد عمق سوء استعمال العربي للكلمة من الهوة بينه وبين شعره. فالعربي يستعمل الكلمات المترادفات في أحاديثه وكتاباته بإفراط شديد دون حاجة أو سبب مقنع أو سبب واضح لاظهار الاختلاف اللغوي الدقيق نتيجة استعمال المترادفات وبلا حساب للتكرار والتوكيد حتى فقدت الكلمات معانيها ولم تعد الاختلافات التي يجب أن يراعيها عند إختيار مفردة ما تعني له شيئاً من كثرة التهويل والمبالغة والافراط في الاسلوب العاطفي. فترانا نعيد ذات العبارة ونكررها بمترادفات متعددة حتى لم تعد تثير في النفس شيئاً، فاللغة تندلق بلا حساب من الافواه!

وثانياً، رغم كل تيارت الحداثة التي تحاول ربط فنون الانسان بواقعه المعاصر، إلا أننا أتخذنا موقف العداء منها وصورناها بأنها تدنيس للمقدس. ورحنا نمجد القديم الذي إنقضى عهده وباد أغلب مكوناته الفكرية من حياتنا، فعمّقنا إحساس العربي بأن الشعر شيء من الماضي. بل إن كثيراً من المناهج المدرسية اللغوية المعاصرة ، بل وحتى بعض الكتب والموسوعات والمجلات التي يسيطر عليها أتباع التقليد والاصوليات تجدها تحفل بنصوص من الادب القديم عبر عصوره المختلفة وتنأى بشكل متعمد مقصود عن الادب الحديث وخاصة من بعد ظهور الشعر الحر في الادب العربي في أربعينيات القرن الماضي فخلقت لديه شعوراً بأن الشعر شيء من التراث لا علاقة له بحياتنا المعاصرة!

وثالث هذه الاسباب هي ضحالة مستوى التربية والتثقيف الادبي والفني والنفسي والفلسفي مما يلعب دوراً كبيراً في تهميش الادب عموماً من حياتنا، والشعر على وجه الخصوص. فما زال الانسان العربي العادي في القرن الحادي والعشرين يتعامل مع النص الشعري بمنطق الواقع والعلاقات المنطقية الرياضية البسيطة، ويجد مشكلة عويصة في تذوق صور الشعر المعاصر غير المألوفة أو غير التقليدية وتشبيهاته وإستعاراته التي لم يتعود عليها ولم تحضّره لها اتجاهات التربية والتثقيف المختلفة، ويجد صعوبة في استيعاب الدلالات اللغوية المبتكرة وتوظيف الاساطير والرموز الفلكلورية والدينية. ورابعاً فأن هجمة رجال الدين على الكثير من التجارب الشعرية بإسم الاساءة للثوابت والرموز والشخصيات والنصوص قد ساهمت في إبعاد قطاع عريض من الناس عن الشعر ظانين أنهم يرتكبون رجساً بتعاطيه وقراءته!

وخامس هذه الاسباب، ما تزال الاساليب التقليدية في نشر ثقافة الشعر تقوم على توظيف اساليب التحليل الكلاسيكية التي تتعامل مع النص ككلمات منفردة أو تسعى الى شرح القصيدة بالاسلوب المباشر الذي يقوم على اعادة صياغتها نثراً بكل تبسيط. وقد شكلت هذه الاساليب حاجزاً نفسياً ولغويا وفكرياً يبعد القاريء عن ادراك المستويات المتعددة للفهم والتحليل وربط الشعر بمدارس العلوم الانسانية والاجتماعية والنفسية المعاصرة، ومدارس الشعر الحديث والنقد الادبي وتوظيفها لابراز جوانب اخرى تغفلها الاساليب التقليدية التي ما تزال تصف بكل صفاقة عاطفة الشاعر عند تحليل القصيدة بأنها جياشة!

وربما تصف وتلخص كلمات أدونيس ما آل اليه حال الشعر واللغة في قصيدته أول الشعر:

إنه العُرْيُ يكشف عن جثثِ الكلماتِ
إنّه الكونُ يذبلُ
ضيّعتُ ناري
...
لغتي غيرُها
خطُواتي
لم تعد خُطواتي.


وكما سبق أن وصف نزار أزمة العلاقة المتخلفة بين الفكر واللغة التي خلقها الاستخدام الأرعن الفاشل للغة في إطار من الوصولية وغياب الرؤية والتفاعل مع قضايا العصر مما تسبب بمأساة الشعر واغتراب الشاعر وعزوف القاريء، لا تزال بعض أعراض تلك المرحلة تفرض نفسها:

أنعي لكم، يا اصدقائي، اللغة القديمة

والكتب القديمة

أنعي لكم

كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة

كما ينتقد ويهاجم محمود درويش المواضيع التقليدية المكرورة للشعر التي لم يبرحها منذ قرون عديدة حتى صار الشعر متلازمة للبؤس في دنيا جديدة لم تعرف كيف تجعل الشعر يتفاعل معها ويعبر عنها:

أمس غنينا لنجم فوق غيمة

وانغمسنا في البكاء

أمس عاتبنا الدوالي والقمر

والليالي والقدر

وتوددنا النساء

دقّت الساعة والخيّام يسكر

وعلى وقع أغانيه المخدر

قد ظللنا بؤساء

يا رفاقي الشعراء

نحن في دنيا جديدة

مات ما فات

فمن يكتب قصيدة

في زمان الريح و الذرة

يخلق أنبياء

هناك الكثير من الاسباب الاخرى التي تتطرق اليها الدراسات عادة ولكني أحببت أن أتحدث في أسباب محددة كما رأيتها ورأيت تأثيرها من واقع مشاهداتي وتجربتي.

* اللوحة أعلاه للفنانة التشكيلية اليمنية فاطمة الشريف من مدينة الحديدة.

هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف5:17 م

    مهما تعددت الاسباب لنقد الادب العربي تظل انت يا استاذ من ضمن الذين لا يلامون و لا يطالهم النقد و الدليل هاته اللوحة الرائعة التي تبدع فيها بكل ما جميل و راقي

    ردحذف