الأحد، ديسمبر 18

القط الذي علمني الطيران


سجل فيها تجربته روائياً


"القط الذي علمني الطيران" لهاشم غرايبة..

متحف سردي للحياة في السجن

اياد نصار

* نشرت في مجلة "أفكار" الصادرة عن وزارة الثقافة الاردنية العدد 275 لشهر كانون اول 2011
في حديثه عن تجربته الروائية في منتدى شومان في شهر آذار الماضي عقب صدور روايته الاخيرة "القط الذي علمني الطيران"، قدم هاشم غرايبة مفاتيح في غاية الأهمية للدخول الى عالمه الروائي، وللوقوف على معالم فنه السردي ومحاور انشغالاته التي جسدتها أعماله، وأعطى في الوقت نفسه للباحث أدوات تتيح مقاربة أعمق للمؤثرات التي شكلت إطار وعيه الفكري. ومن أبرز ما ذكره في معرض استذكار مراحل تجربته الروائية قوله: "في السجن تستطيع أن تعاند السلطة، وأن تحتال على المكان، ولكن لا تستطيع أن تحتال على الزمن". (1)

تتكون الرواية من عشرين فصلاً قصيراً جاءت في حوالي مئتي صفحة، وقد أهداها الى ثورة الصبار والياسمين في تونس ولروح محمد بوعزيزي والارادة الحرة. ويمكن القول أن الرواية هي بحد ذاتها تجسيد فني مكثف للارادة الحرة التي عبر عنها بطلها الرفيق عماد الحواري ـ نسبة الى حوارة في اربد ـ خلال محنة السجن التي تعرض لها، والتي تحولت الى إدراك ووعي عميقين بقيم الحرية وحق الانسان في اعتناق الفكر والتعبير عنه ورفض عسف السلطة وجبروتها. وفي سياق التعبير عن إرادته الحرة أظهر بطلها صموداً لم يعتده السجناء الآخرون في أنفسهم، وجسد بأفعاله نوعاً من التمرد أو الثورة على أسلوب فرض الأمر الواقع الذي يصادر الحرية وينتهك الانسانية الذي يرمز اليه السجن. تجري الاحداث التي تسردها الرواية في عام 1977 وعلى مدى سنة ونصف منذ أن دخل عماد السجن. ويمكن القول أن مسرح الرواية هو بحد ذاته رمز لمسرح أكبر يشير الى الواقع كله، والبطل فيها يمثل ضمير المقموعين في السجن الكبير ورمز إرادتهم المفقودة المستلبة التي استعادها لهم، فصاروا أكثر جرأة على الرفض والتعبير عن مطالبهم.

يوحي العنوان بفنتازيا محيرة تدفع للتساؤل عمن يكون هذا القط، ومدى انقلاب المعايير التي تسمح للقط بأن يكون نموذجاً لاكتساب التجربة أو أن يقوم بدور المعلم، وأي نوع من الطيران الذي يمكن أن يتعلمه المرء من القط. واذا كان الطيران يرتبط بالتحليق، فهل هو كناية عن الحرية، أم عن الترفع عن الالم وحاجات الجسد، أم عن الرغبة بعالم آخر مفقود نحلم به. وعند التأمل نكتشف أن هناك سراً ينطوي عليه العنوان. بل إن عنوان الجزء الاول "كهف الغرباء" يضع القارىء على المحك. فالكهف رمز الاختباء والسرية والظلام والخوف ونكوص الوعي وسقوط الحضارة وبدائية الانسان. وهكذا تبرز صورة السجن السلبية مبكراً في الاستهلال.

يروي الرواية راوٍ بضمير الغائب العليم وفي بعض المواقف تبرز أصوات ساردة أخرى، ففي الفصل الرابع مثلاً يروي السجين سعيد القط تفاصيل مغامرته أثناء تسليك المجاري في حمام النساء حيث التقى بامرأة سجينة تدعى كرمة. يروي القط تفاصيل اللقاء العابر بكل تفاصيله الجنسية بلغته الشعبية التي تتعمد اظهار الفحولة والحرمان العاطفي.

تفتتح الرواية بمشهد يبعث على الضحك والسخرية رغم أن البطل يقف على باب السجن بانتظار تسجيله في القيود. وبدلاً من أن تخلق الرواية أجواءً من الحزن والأسى والقهر، فإن الراوي يوظف اسلوب تداعيات الطفولة بحماقاتها ليضفي على السجن ظلالاً ساخرة تصور الجانب الاخر المضحك في حياة السجين. يتذكر البطل صورة السيرك الذي رآه وهو صغير، وما يستحضر في الذهن من مشاهد الخداع والتهريج والبهلوانية وإظهار الاشياء بعكس حقيقتها، كما يتذكر رؤية الفيلم الهندي في السينما والاغراق في البكاء، في نقد ضمني للمكان وصورته في الذاكرة، ويلقي بظلال السخرية أيضاً على تصورات السجان والسجين معاً.

في ظل هذه الكوميديا الساخرة، ترسم الرواية ملامح السجن في إطار من الحديث عن البيئة التي نشأ فيها البطل؛ جو شعبي قروي يحاول أن يتصل بالعصر الحديث ورموزه، لكن صدمة الاتصال تبدو مضحكة. يتداخل السرد بشكل مستمر من خلال التنقل بين الماضي والحاضر عبر استدعاء مشاهدات البطل حينما كان صغيراً تدهشه حقائق الحياة بغرائبيتها ومفارقاتها وبين الحاضر لابراز التناقض والظلم والأيام المهدورة من عمره بلا طائل.

تسرد الرواية تفاصيل اعتقال عماد الحواري الشاب الذي تعرف الى الفكر الشيوعي وانضم الى الحزب خلال دراسته في جامعة اليرموك. ومن السخرية أنه وأثناء حوار اثنين من الشرطة اللذين يتبادلان الحديث عن طبيعة تهمة السجناء، لا تثير تهمة القتل لدى أحدهما شيئاً، في حين نرى الثاني يتعوذ لمجرد سماعه أن السجين الآخر شيوعي.

يشير الراوي الى مقارنة هي بحد ذاتها مفارقة بين تصورات عماد وأفكاره عن دوره في الحياة قبل السجن وبعده، حيث تعود اليه ذكرياته خلال دراسته في الجامعة حينما كان ممتلئاً بأحلام الشباب في الحرية والعدالة وتحرير فلسطين وصراع الافكار مع اصدقائه حول القضايا السياسية في تلك الفترة، وبين الاحساس بواقعه الان في السجن. في خارج السجن تراوده الاحلام الكبرى واحساسه أنه جزء أصيل منها، بينما يقتل السجن الاحساس بانسانيته ودوره.

يظهر عماد معظم الوقت في الرواية مغرقاً في هواجسه ما بين الكآبه والرغبة في الخروج ولوم الذات. وتوشك واقعيته أن تؤدي به الى السقوط والتراجع عن مبادئه. لكنه يلوذ دائما بكتاب للفتيان اسمه "الامير الصغير" لدو سانت اكزوبري لما فيه من حكم انسانية تبرز تطلع الشباب الى الاختلاف عن حكمة الكبار التقليدية، والتفكير بحقائق الحياة بطريقة مغايرة للمألوف.

تبرز الرواية تأثير عامل الزمن في حياة الانسان ومصيره، وتقدم صورة فنية مدهشة لتأثيره على الانسان في السجن، "الزمن طويل تحت وطأة العزلة"(2)، وتؤكد أن "الزمن مثل الماء يأخذ شكل المكان.."(3). تجسد الرواية مشاعر البطل المختلفة المتناقضة التي تنتابه، كما تبرز استراتيجياته في قهر الاحساس الممض بالزمن، الذي يصبح قوة قاهرة تحطم الارادة، وسجناً معنوياً علاوة على ذاك المادي. في السجن يبدو الأمر كما لو أن الزمن يتوقف في غياب الحرية وضيق الفضاء، وتتوقف الاحلام ويستبد الاحساس بالعزلة والوحدة "وجد نفسه وحيداً في عتمة اللمبة المضاءة على مدار الساعة! يواجه الزمن بثقله وتوقفه وعناده. الوحدة صحراء تزحف الى لبّ الروح"(4).

إن الرؤية التي تنطلق منها الرواية، ويجسدها اسلوبها الفني، تختلف عن كثير من الروايات التي تغرق في صور التعذيب والقمع وتنسى صور الحياة الاجتماعية بين السجناء أو بين السجناء والسجانين. تركز رواية هاشم غرايبة على الاحتفاء بتفاصيل الحياة اليومية داخل السجن الذي يبدو أنه ما يزال قادراً على توفير نماذج مختلفة للحياة في المكان رغم بؤسه. تركز الرواية على احساس السجين الداخلي الخانق وعالمه النفسي الذي يتعرض للانهيار تحت العزلة والعبثية أكثر من التركيز على صور وحشية التعذيب المألوفة في أدب السجون العربية ببشاعتها.

لغة هاشم غرايبة مشحونة بالاحاسيس ومثقلة بظلال المعاني والاشارات الرمزية التي تضفي عمقاً فلسفياً على النص برغم جزئياته المحلية، الا أنه يؤسس لحقائق كبرى، ويبرز اشكاليات ومتناقضات على صعيد الحرية والكبت، المعرفة والجهل، التنوير والظلام، "ابتلع مرارة السؤال، وتوقف عند الخط الفاصل بين الظل وبين سطوع الشمس، واستدار يستمتع بالشمس الصاعدة من الشرق.."(5).

في مفاجأة للقارىء بعيد منتصف الرواية وفي تعبير عن مهارة سردية في التجريب والخروج عن المألوف، يعلن الراوي أن اسمه "هاشم غرايبة"، ما يعطي الانطباع بأن الراوي يتقمص شخصية المؤلف نفسه، والاهم هو أن هذه الاشارة تعني أن هناك صلة حميمة بين تجربة السجن الحقيقية وبين تجربته روائياً التي يستمدها من تلك الذكريات البعيدة التي بعثت من جديد. ذكر هاشم غرايبة في حديثه عن تجربته أنه طالما كان يفكر في الكتابة عن تجربة السجن التي مر بها، وبقي يؤجل الموضوع الى أن حانت اللحظة.

تنحو الرواية الى توظيف الانتقال السريع نسبياً بين المشاهد من خلال فصولها القصيرة الكثيرة، لكن لغة السرد تنجح في الوقت نفسه في عكس رتابة الحياة في السجن، وتنتقل بين القص والوصف والحوار واستدعاء الذكريات، وتقدم اضاءات نفسية تحليلية موجزة، فالجانب الجواني مهم في عالم السجن حيث يعبر الشخوص عن همومهم وآلامهم وما يتعرضون له من ضغوط وهواجس وصراعات محمومة تتراوح ما بين التفكير في الاستسلام والتخلي عن القناعات طلباً للحرية ونكوصاً عن المبادىء. يقول الراوي: "السجن يمتحننا دائماً بلا مواربة .. ويعرّينا بلا رتوش"(6).

يحس القارىء بوطأة رتابة الحياة في السجن الا من قصص المساجين ومناكفاتهم ومشاحناتهم وذكرياتهم. غير أن الرواية تكسر الرتابة بسرد أدق التفاصيل من عالم السجن من الداخل بكل حيوية. وبرغم الألفة التي تربط السجناء بالمكان وبتفاصيله التي تتغلغل في نظام حياتهم اليومي، إلا أن أحاديثهم دائماً تنم عن السخط والمرارة، فمرة هو مثل الزريبة كما يقول "الختيار" ومرة هو شاطىء الريفيرا كما يشير اليه "القط" ساخراً.

يجري السرد معظم الوقت داخل السجن، وقليلة هي المرات التي ينتقل فيها السرد الى خارجه حينما تستحضر الشخصيات ماضيها قبل الاعتقال. ويجيد الراوي نقل تفاصيل حجرات السجن وساحاته ومرافقه كالسجن الشرقي والقاووش الشمالي والغرفة البيضا وغيرها، مثلما يثير التقسيم الاجتماعي والطبقي للسجناء انتباه البطل ودهشته.. كما أن الوصف في غاية الحيوية حيث ينقل مشهداً مليئاً بالحركة والحياة والاصوات والروائح والالوان. تمتاز لغة غرايبة بجملها القصيرة ذات الحركة المتتابعة والتي تترك في النفس انطباعات مؤثرة باستعاراتها المختلفة التي تكمّل في تجانس فني أجزاء اللوحة وتخلق الاحساس بأثر المشهد الكلي.

لم تغرق الرواية في عالم السجن الرتيب بشخوصه وظروفه، فقد انتبه غرايبة الى أهمية التجديد في مكان محجوز ضيق، فلجأ الى الافراج عن بعض السجناء وإدخال آخرين. وتقاعد مدير السجن الحاج ملقي وحل محله الضابط عطالله وترفع آخرون وأفرج عن الشكيك، وجاء نزيل جديد يدعى أبو القناني. ونقل عماد الى قسم الغرفة البيضا التي تضم "النخبة"!

يتداول المساجين بينهم توقعات بصدر عفو عنهم كلما حلت مناسبة حتى يصبح الوهم الذي يتعلقون به، ويشبه الكاتب الاوهام التي يتداولها السجناء بسعي قوم يأجوج ومأجوج في القرآن الى نقب السد والخروج الى العالم. في هذا التناص مع النص القراني يظل شعب السد يلحس الجدار بألسنته، وكلما تهيأ له أنه على وشك تحطيمه يعود قوياً من جديد، ما يذكرنا باسطورة سيزيف وجهده العبثي في بلوغ الهدف.

تتداخل اللغة العامية السهلة بالفصحى ما يعكس جانباً من ثقافة العيش ونمط الحياة في داخل السجن وخارجه، كما تعكس اللغة أجواء الحياة في اربد وتبرز القيم الاجتماعية والثقافية التي تؤطر تفكير الناس وعاداتهم. ويمزج الراوي في حديثه كما هو الحال في حوار الشخصيات الاخرى بين الفصحى والعامية في أغلب المواضع، ويستشف القارىء أن المؤلف يهدف قصداً الى توظيف اللغة الشعبية في حالة متناغمة مع الفصحى التزاماً بمنهج واقعي صارم.

يرسم هاشم غرايبة صورة فسيفسائية كاملة تتناول تفاصيل نمط حياة الناس في مدينة اربد وقراها، ولعل هذا الوصف والحنين الى المدينة بعفويتها وبساطتها وقلة فروقها الاجتماعية الطبقية من أجمل ما كتب روائياً عن اربد كمكان في مقابل كمٍ روائي لا ينضب عن عمان.

يعكس أول حوار بين البطل والسجين الملقب بالقط جانباً من شخصية القط وطريقة تفكيره، مثلما يعكس عمقاً في طرح الافكار والرؤى كأننا نستمع الى مثقف ينظّر عن فلسفة الحياة والموت والحرية. وفي هذا الحوار المقتضب بينهما يرد مفهوم الطيران، فالقط يربط مفهوم الطيران بنضوج التجربة مع الزمن، كطير ينمو له جناحان، بينما يعني الطيران بالنسبة للبطل طلب الخصوصية في أن يكون لك عالمك الذي تسرح فيه مع أفكارك وتصوراتك وذاتك بعيداً عن ضوضاء أفكار الآخرين.

ترسم الرواية في واحد من أكثر المواقف تعبيرية ملامح تمرد جماعي يقوده الرفيق عماد وزميله الشكيك لتحدي سلطة السجن. يظهر الموقف أن عماد قد نضج بسرعة واسترد ايمانه بذاته وبقدرته على التغيير رغم أنه بدا قبله ضعيفاً أمام جبروت زمن السجن القاسي.

تعكس قصة الحب التي نشأت بين عماد و"مها" ابنة المهندس المتهم بالاختلاس والتي جاءت لزيارة والدها تغيراً في نظرته للامور وطريقة تفكيره وتعبيره عن نفسه، ففي حديثه عنها تتحول الجملة من روائية الى ما يشبه قصيدة نثر طويلة موجزة العبارة عالية التوتر مشحونة العاطفة. ويصف الراوي هذا التغير بقوله "انتقل من عالم التجريد الى عالم التكوين"(7). علق القط على التغيرات التي بدأ يشاهدها وربط احساس البطل بالحب في قلبه بالقدرة على التحليق والطيران: "هسع نبت لك ريش وتقدر تطير يا رفيق"(8). وهكذا يصبح الطيران صورة رمزية عن الامل والتسامي والحرية التي ترتبط بالحب. واذا كان القط قد علمه أن الطيران هو التوق الى الحرية والتعلق بها، فإن مها قد غرست فيه معنى آخر أكثر نبلاً ودفئاً وربما نوعاً أصعب وأعلى من الطيران، إنه الطيران نحو عوالم الحب والحنان.

لعل من أكثر الأمور التي تلفت النظر هو قدرة غرايبة على رسم معالم شخصياته وملامحها داخلياً وخارجياً وعلى تطويرها خلال سياق الاحداث، ويلمس القارىء مدى جاذبية الشخصيات وحتى الثانوية والهامشية وتعدد ملامحها وصفاتها، فهي ليست شخصيات بسيطة أو أحادية. وفي السياق ذاته تعكس الرواية جانباً مهماً من الحياة داخل السجن يتمثل في ألقاب السجناء وصفاتهم التي يعرفون بها فتصير مرادفاً لأسمائهم وتنبع أهميتها أنها تعطيهم هوية ومكانة في هذا العالم الصغير حينما عجز العالم الكبير عن إدراكها. فهناك الشكيك واللبيس والتنبل والقط والواوي ووطوط، وهناك مدير السجن الحاج ملقي أبو فروة وعطا الله قفا الصاج، أما البطل فصار يعرف بالرفيق.

تتطور شخصية القط على نحو جذاب وعميق في الرواية لنكتشف أنه ضحية ماضيه الفقير وبيئته التي جعلت منه سارقاً، لكنه في أعماقه شخصية نبيلة تعشق الحياة والحرية. ويقدم الراوي صورة أفلاطونية للقط وخاصة في أحلامه فهو عذب الحضور، يرى كثيرا من الاحلام الخرافية الزاهية الفردوسية كأنه لا ينتمي لبيئة السجن، لابراز مدى التناقض بين الانسان حينما يتحرر من عالم السجن البائس ويعيش في عالم أحلامه الخاص.

تتسارع الأحداث في ختام الرواية. ويصير عماد بعد هجومه على مدير السجن انتقاما لكرامة والده بطلاً في نظر المساجين. وعندها يدرك أنه تعلم معنى الطيران: الحرية التي ينتزعها بقوته ومواقفه. "لحظتها رأى السجن كله غابة ياسمين.. وشعر الآن أكثر من أي وقت مضى أنه يستطيع الطيران"(9).

حصل شجار بين المساجين اثناء حفلة توديع عماد قبل نقله الى السجن المركزي بعمان. استغل القط جو الفوضى التي حصلت وكسر هو وعماد أقفال البوابة وهربا. لحقت بهم الشرطة وأخذ صوت الرصاص يعلو خلفهما.. لكن القط تعرض للدهس ومات "على ثلج الشارع كان سعيد مدهوساً مثل بقعة دحنون تتسع بسرعة، وتلوّن ذوب الثلج المنساب الى شوارع المدينة"(10).

تنتهي الرواية نهاية مفتوحة قابلة للتأويلات؛ شعر عماد أن الريش الابيض يغطي رأسه وكتفيه ويمتد على جذعه، ففرد ذراعيه واستقبل المدى وطار. تشير تفاصيل المشهد الختامي وخصوصاً بياض الريش، ودلالات الابيض الى الكفن والموت وخاصة أن الراوي يذكر لعلعة الرصاص ينهمر خلفه واستقباله الفضاء والطيران عالياً في السماء ثم النهاية بصوت آذان المغرب. واذا كان المشهد الختامي يوحي أن عماد قتل، فإن روحه حلقت في السماء حرة من كل قيد، كما يمكن تأويل المشهد الاخير في الدلالة على نيل حريته فكأنما يصبح طائراً في صورة معنوية ترمز الى التحرر فوق السجن والالم.

هوامش:
1- "تجربتي الروائية" ، من شهادة هاشم غرايبة في منتدى مؤسسة عبد الحميد شومان حول تجربة كتابة "القط الذي علمني الطيران"، 21-3-2011، عمان، من تسجيل المؤلف.

2- القط الذي علمني الطيران، هاشم غرايبة، عمان، دار فضاءات للنشر والتوزيع، 2011، الطبعة الاولى، ص 67

3- الرواية ص 67

4- الرواية ص 9

5- الرواية ص 8

6- الرواية ص 143

7- الرواية ص 170

8- الرواية ص 152

9- الرواية ص 192

10- الرواية ص 202



الجمعة، نوفمبر 25

الواقعية منهجاً في القص


الواقعية منهجاً في القص
بقلم الناقد العراقي مؤيد البصام

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الرأي الاردنية بتاريخ 25/11/2011

يكتب إياد نصار القصة بأسلوب الواقعية الاجتماعية والتسجيلية، ممزوجة بالتحليل النفسي لشخوصه، ولكن مجمل نهجه واقعي، سواء تحدث عن الإنسان أو عن الأشياء، وتأخذ الناحية التسجيلية الكثير من الوصف الذي تحتويه قصصه في مجموعته «قليل من الحظ» (دار فضاءات، 2010)، وبخاصة قصة «الدرب السلطاني». ويلاحق القاص الحالة النفسية التي يعيشها أبطاله من جراء الحروب، وما تجلبه من خوف ودمار، كما في قصة «ضمن ليلة السبت»، وهو ينسج شخصياته بشكل واقعي، ومن هنا تكمن براعته في الوصف للأشياء والأشخاص، وتبقى قصصه ذات نفَس واقعي اجتماعي، وهو مأخوذ بالوصف للأشخاص والأشياء من الداخل والخارج، مع محافظته على التتابع الزمني والتضمين.

ويترك نصار للومضة مجالاً متسعاً، بحيث تأخذ زمنية القصة مساحة تتعدى اللحظة أو الومضة، فقصصه أقرب إلى القصة الطويلة، وفيها بنائية الرواية في المتن الحكائي، لكنه يختصر في البناء الحكائي على حساب المتن الحكائي، لأنه يترك العنان للمخيلة والامتداد في سرد الواقع ومحاكاته.

وإذا ما حاول نصار التجريب بديلا عن القصة القصيرة، سوف يخرج لنا بقصص طويلة أو مشروع رواية. وهو باستخدامه التحليل النفسي للشخوص، استطاع أن يتحرك من الواقعية التسجيلية لكتّاب القصة في أربعينات القرن الماضي وخمسيناته، ويمنح قصصه وهجاً بالتحليل لإزالة التقريرية عنها. فقصة «شخص ما» مثلاً، لها نكهتها الواقعية. إنها مستلة من الواقع بحذق كما هي بقية قصص المجموعة.

وفي قصة «قناع»، أراد الكاتب أن ينقل حالة اجتماعية (عدم الالتزام في المواعيد)، لكنه أدخل حوار الصديقين اللذين يجلسان بجانبه في المقهى، ليتحدثا بما يريد أن يقوله على لسانيهما من نقد اجتماعي وسياسي، وجعله حواراً مبتوراً لم يستثمره لإعطاء أبعاده الفكرية أو حراكه الاجتماعي، وهذه المسألة تتكرر كثيراً في قصص نصار، فلديه من الأفكار أكثر مما تحتملها قصة قصيرة، لكنه يتركها بهذا الاقتضاب والبتر، من دون الإفاضة فيها وإعطائها أبعادها الدرامية، لتشكل جزءاً من الحدث الذي اختطّه في متنه الحكائي.

وربما كان مردّ ذلك ولع الكاتب بالأسلوب الواقعي، ومعالجة مأساة الإنسان المعيشية بصورها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ففي قصة «كابوس» حاول أن يغادر الواقعية التسجيلية إلى أفق أرحب في بناء الحكاية، لكن الوعظ يبقى يفرض نفسه على أسلوبه، ويتضح هنا تمسكه بالواقعية الاجتماعية، وإصراره على نقل معاناة الإنسان البسيط أمام طاحونة الاقتصاد الرأسمالية، وهو ما يتبدى بشكل جلي في قصة «نهاية رجل فقير»، التي تعرّي الرأسمالية واقتصادها، حيث ما يهم الآخر هو الربح، وما الإنسان إلا رقم في حسابات الرأسمال، ما يدفع بطل القصة إلى بيع كليته بعد أن تتخلى شركته عنه، وهو ما يقود بالتالي إلى موته. ما أراد الكاتب أن يقوله هنا: ليس هناك منحى إنساني في عمل المؤسسات الرأسمالية.. هناك حساب للربح ورفض للخسارة، حتى لو كان الأمر يتعلق بحياة إنسان.

أما قصة «قليل من الحظ»، فهي مستلّة من واقع الحياة، لكنها لا تمثل بواقعيتها تميزاً عن بقية القصص، وهو ما يجعلنا في حيرة وتساؤل: لماذا اختار اسم هذه القصة عنواناً للمجموعة؟ فهي قصة تقليدية من الواقعية الاجتماعية، تذكّرنا بقصص كتاب القصة في القرن التاسع عشر، مثل بلزاك ووليم سارويان، من حيث المنطلقات الفكرية، مع اختلاف المعالجة.

يتخذ إياد نصار في قصصه خطّاً يجرها نحو أسلوب التشييء، ولكن الواقعية التسجيلية والوعظية تسحبه إليها بعض الأحيان، كأنه لا يكتفي بما يقصه لنا، إنما يريد أن يعقّب ليكشف عن عمق معاناته على ما يحدث للإنسان من ظلم، وهنا ثمة خلط بين الأساليب ينتهجه في وصف الشارع والمصابيح والأشياء التي يقع نظره عليها، ليكمل به ما يرغب أن يقوله عبر التنوع الوصفي للحياة، لكنه يقطع استرساله لينعطف في وسط المقطع ويضع جملة اعتراضية، تلغي البعد التخيلي للمتلقي الذي كان ينسج خيوطه: «لقد احتار الناس في أمرها؛ هل هو توفير للنفقات، أم عقاب للقاطنين، -لأن أولاد الحي الأشقياء كسروا بعض المصابيح-». مثل هذه الجمل الاعتراضية التسجيلية والوعظية، تكثر بين ثنايا قصصه، ما يخرجها عن لحظة التأمل والدهشة والتساؤل، التي تتسم بها القصة القصيرة، وتحيل إبداعها إلى بنائية القصة القصيرة التقليدية.

رغم ذلك، يملك القاص قدرة وصفية وإمكانية رائعة في البعد التحليلي للأشياء (سواء كانت كائنات حية أو جمادات) يلتقطها ويبني عليها. وحراكه الفكري تتلبسه الروح الإنسانية والمشاعر العالية تجاه ظلم الآخر، لكن شغفه بالواقعية كمنهج، جعله يتخلى عن الحلمية والفانتازيات التي تشكل بُعد الدهشة في القصة القصيرة.


الجمعة، سبتمبر 30

ذات يوم شتائي


ذات يوم شتائي
قصة قصيرة

اياد نصار
* نشرت في ملحق شرفات ثقافية بجريدة الدستور الأردنية بتاريخ 30/9/2011

تهطل قطرات رذاذ من بقايا ليلة ماطرة. تتشكل دوائر في بقع المياة الراكدة، في وسط الشارع. تكبر، وتتسع، ثم تتلاشى. تقف تحت عمود الإنارة، وهي ترتجف من البرد. بجانبها عمود قصير، عليه لوحة خضراء صغيرة، تحمل اسم الشارع. تحمل حقيبة أنيقة سوداء في يدها، وتلبس معطفاً طويلا خمرياً من قماش فاخر. تلف رقبتها بوشاح الفرو، وتضع على رأسها قبعة سوداء يلفها شَبَرٌ حريري أبيضُ يعطي القبعة شكلاً أنيقاً. تلبس حذاءً أسود اللون، عالي الكعب، مدبب الرأس. تلف ساقيها جوارب طويلة شفافة رمادية. تمسك، بيدها الأخرى، القبعة خشية أن تطير. تهب ريح قوية، فينفتح معطفها، ويبدو فستانها الأزرق الكحلي تحته. تنظر إلى آخر الشارع ويداها ترتجفان من البرد.


السماء داكنة، ملبدة بغيوم ثقيلة، توحي بالكآبة والوحدة. من خلفها يمتد حقل واسع، منحدر من الأعشاب والحشائش الخضراء. تلمع قطرات المطر على أوراق الحشائش. تركض فتاة صغيرة وسط الحقل، بكنزتها الزهرية المونّسة بلون ذهبي وقبعتها الحمراء. تلبس بنطالاً رمادياً فضفاضاً. تحمل على كتفها حقيبة قماش سوداء ثقيلة منتفخة. يسير أمامها كلبٌ أسودُ صغير الحجم غير، عابئ بمياه المطر. تبدو البيوت العشوائية بعيدةً، صغيرة في نهاية الحقل الواسع، بألوانها الباهتة. تنظر يُسرى إلى آخر الشارع لعل سيارة تلوح بعد إنتظار طويل. يمر من أمامها رجال غير مبالين بالمطر، ونساء يحملن مظلات زاهية الألوان. أوراق الشجر على رصيف الشارع مثقلة بحبات المطر. تسقط القطرات، وتتألق الأوراق لمعاناً.


يقف رجل، يلبس معطفاً بنياً من الكتان، ويلف وجهه ورأسه بشماغٍ مخططٍ بالأبيض والأسود، على حافة السور المقابل. يمسك بيديه طفلين يحملان حقيبتين على الظهر. ستمر الحافلة بعد قليل. ينظر إلى سيل المياه الجارف الهادر عبر القناة خلف السور. مياه موحلة من الطين تضطرب وتندفع في القناة المكشوفة. ترتفع أمواجها ساحبةً في طريقها كلّ شيء. ينظر برهبة إلى المياه المندفعة، ويسمع صوتها العنيف. تستغل يُسرى لحظات إنشغاله. تنظر إلى الطفلين وتبتسم لهما. يبتسمان لها أيضاً. ينظر إليها وهي تقف مرتعشة. تنظر إليه. تتلاقى العيون. تشيح بوجهها بعيداً. تمر سيارة مسرعة. تمد مظلتها كي تتوقف، لكن السيارة تستمر في سيرها. مرت سيارة أخرى فارغة رفعت مظلتها لكنها لم تتوقف. تنظر إلى ساعتها بقلق وملل. تقف منذ حوالي نصف ساعة ولم تتوقف لها سيارة. كم تصبح المدينة كئيبة، باهتة، باردة القلب في الشتاء؟


تنظر إلى الفتاة الصغيرة تركض، والكلب أمامها وسط الحقل الأخضر. تتابعها بنظراتها. تبتعد وتصغر. تسرح بأفكارها. تنظر إلى جهتي الطريق. تمر سيارات مسرعة ولا أحد يتوقف. ترشقها القطرات من عجلات السيارات. تبتعد للخلف قليلاً. تشعر بالحنق، وتلعن، في داخلها، لعنات مكبوتة. ستتأخر عن الدوام. من سيصدقها في المكتب؟ من سيصدق أنها تقف هنا منذ أكثر من نصف ساعة. لقد تأخرت في الأيام الماضية رغماً عنها. لم يقل رياض لها شيئاً، ولكن نظرات التكذيب بائنة في عينيه. شعور ينغص عليها يومها، ويقتلها من الداخل. لا تريد أن يتجاسر عليها إذا استمرت تتأخر كلّ يوم. ربما يخرج عن صمته، ويوجه لها ملاحظة قاسية. ستكون بداية تنذر بمعاملة أخرى. يكفيها ما بها. لا تريد أن يزيد العمل من مراراتها المكبوتة. لقد استيقظت مبكرة، هذا الصباح الماطر، ولكن الحظ يعاندها.


يسمع الرجل صوت الحافلة تقترب. ينظر إلى ساعته. كل يوم ينتظرها في الصباح. صار سائق الحافلة يعرفه. تبدل السائقون منذ ثلاث سنوات، وهو يقف، كلّ يوم، مع الطفلين، في المكان ذاته. يصعد الطفلان إلى الحافلة البرتقالية. تراقب يُسرى الموقف بكل تفاصيله. تعود غصة من تجاويف الذاكرة، فتحس لها بطعم مرارة في الأعماق. تبلع ريقها. تنسى الإحساس بالبرد والوقت، وهي تتأمل منظر الطفلين يصعدان الحافلة. لم تعد تحس بشيء حولها. تراه يلوح لهما بيديه مودعاً. تتحرك الحافلة وهو ما يزال ينظر إليهما. تتابعه بنظراتها. يلاحق الحافلة بنظراته حتى تختفي عند آخر الشارع. يعود أدراجه، فتبتلعه البناية. تنظر إليه يُسرى وهو يختفي في رحم البناية المقابلة. تشرد بنظراتها إلى الحقل المنحدر الواسع. لقد اختفت البنت الصغيرة. هدوء يسود المكان. تنتظر ملولة قلقة. ترتجف يداها من البرد. لكنها بقيت متسمرة مكانها. ربما يشفق عليها القدر فتتوقف لها سيارة. في آخر الشارع ينتظر كثيرون. لن تكون فرصتها أحسن حالاً. أحست بالضيق. لقد فات الوقت وهي ما تزال هنا. ستؤرقها نظرات رياض، مثل كلّ يوم.


ما يزال رذاذ المطر يتساقط خفيفاً. تتسع الدوائر أمام ناظريها، ثم تتلاشى. قصفة ريح تعبر وجهها، فتحس بقشعريرة تسري في بدنها. توقفت حافلة برتقالية على الطرف الآخر. نزل منها طفلان يحملان حقيبتيهما على ظهريهما. نظرت إليهما. لم تصدق المفاجأة. لين بمعطفها الأحمر الغامق يلف جسدها، وطاقية من الصوف المشغول باليد تغطي خصلات شعرها الذهبية. وعلاء يتلفّع بمعطفة الكحلي الغامق من الجلد، وطاقية سوداء تغطي شعره الأشقر الناعم. وقفت مذهولة غير مصدقة. صرخت: لين.. علاء. التفت الطفلان إليها، تبسمت، بقي الطفلان صامتين. سارا ناحية مدخل البناية. نسيت نفسها وهي تنزل الرصيف. غاصت قدماها في بركة ماء في الشارع. أحست بلسعة الماء البارد داخل حذائها. نادت مرة أخرى: لين.. ماما.. علاء. قطعت الشارع من غير وعي. توقفت سيارة فجأة. كان صوت صرير عجلاتها مدوياً. ركضت إليهما. احتضنتهما وهي تبكي. أخذت تقبلهما وتضمهما إلى صدرها، وزفرات أنفاسها الحارة تخرج مع تنهداتها. أين كنتما؟ نظر الطفلان إليها بعيون مستغربة تملأهما الدهشة. بقيا صامتين. كانت تضمهما بكل حنان، وهما يشعران بحيرة.. لا يدريان شيئاً مما يجري.


لقد اشتاقت لهما كثيراً. لم ترهما منذ سبع سنوات. كلّ ليلة تحلم بهما. ما تزال صورتهما منطبعة في رأسها. استقيظت، في الليل، على رائحة الغاز. اضطربت خوفاً. أيقظت غنام. نهض من فراشه وجرى إلى المطبخ. قفزت عن سريرها. لين نائمة في سريرها بكل هدوء، وعلاء في سريره الخشبي المشبّـك الصغير إلى جانبها، ووجه للأسفل على المخدة. انتابها خوف مفاجئ. هزتهما بقوة. صرخت: ماما.. ماما. لم يستيقظا. تسلل خوف مريع إلى أعماقها. رأت بوادر حركة على جفونهما المغمضة. وأحست بأنفاسهما. اطمأن قلبها. جلست عند سريرهما تبكي. دخل غنام، ووضع يده على رأسها، وأخذ يهديء روعها.


ضمتهما إلى صدرها أكثر. قالت، والدموع في عينيها: أين كنتما. كنت أنتظركما كل يوم. هل نسيتما ماما؟ تحسستهما من معطفيهما أكثر. عادت الصور سريعاً كأنها تحدث الآن. حين عادت إلى لبيت في ذلك اليوم، لم تستطع فتح الباب.. كان هناك شيء ثقيل وراءه. بقيت تدفعه شيئاً فشيئا حتى انفتح. لم تعرف ماذا جرى بعدها. حين فتحت عينيها كانت ممددة على السرير، ومن حولها ستائر بيضاء. كانت أمها تمسك بيدها، والممرضة تسجل في الأوراق على سريرها. لقد حطمتها الفاجعة. لم تحتمل بشاعتها. تعيش على المسكنات والمهدئات. لم تنهر أعصابها وحدها. لقد انهار كلّ شئ في حياتها، في غمضة عين. لا تزال، إلى الآن، ترفض التصديق. كيف طاوعه قلبه أن يفعل ذلك؟ أي بشر يمكن أن يفعل هذا؟ كيف استطاعت أن تسلبه تلك الإجنبية الشقراء عقله؟ كيف حولته إلى وحش بلا قلب ليقتلهما بدم بارد؟ ما تزال صورة لين، وهي ترتمي على الباب، تحاول أن تفتحه قبل أن تلفظ أنفاسها، منطبعة في ذاكرتها. وعلاء يرقد على بعد خطوات منها مثل قطعة ثلج باردة.


أفاقت من شرودها على صوت ينادي عليها، ويربت على كتفها:
ـ شكرا على اهتمامك بهما. أقدر كثيراً ما قمت به لأجل سلامتهما. كيف يتركانهما في الشارع، هكذا؟ سأعرف كيف أتصرف معهم. ماذا لو لم أكن بالبيت؟ هذه المدرسة كلها فوضى.


رنّ جرس مزعج قطع عليها حُـلمها. رفعت رأسها، كان الظلام ما يزال يلف الغرفة، والستائر مسدلة. فركت عينيها، لم تتبين الوقت جيداً. حملت الساعة بين يديها. كانت الساعة الثامنة والنصف صباحاً! أحست بخيبة أمل. أسكتتها بقبضة من يدها، وعادت للنوم مرة أخرى. بقيت تتقلّب بقلق. وضعت رأسها تحت الغطاء، وراحت تبكي في نشيج مكتوم متواصل.

رابط القصة بجريدة الدستور

رابط الصفحة الكاملة


الاثنين، سبتمبر 5

الجوائز الأدبية


في تقرير لجريدة الغد الأردنية حول الجوائز الأدبية

اياد نصار: صارت الجوائز ساحة للسجال النقدي واثبات الحضور

 أعد التقرير - القاص والروائي جمال القيسي
الجوائز التي تقدمها الجهات الرسمية والأهلية للأدباء، هي مؤشر -بصورة أو اخرى- إلى أن العمل موضوع الجائزة متميز ويستحق التكريم، بغض النظر عن الجهة التي قدمت هذه الجائزة ولو كانت من شخص بعينه كما في بعض الجوائز.


من الجميل والمثالي أن نعتبر أنه لا يمكن تصور أن يقوم مبدع بكتابة رواية او مجموعة قصصية او ديوان شعر، وعين ابداعه على جائزة هنا او هناك مهما رفعت؛ إذ ان الإبداع حالة من العطاء اللامحدود التي لا تنتظر جزاء سوى الأثر الجمالي والتوعوي الذي تحمله بين ثناياها.

لكن ثمة من ينظر إلى الأمر على انه استحقاق للمبدع حيث "الإبداع يستحق التقدير، ان كان على هيئة جوائز مادية ومعنوية، أو على شكل توفير حد من الراحة على المستوى النفسي والمادي للمبدع، حتى يستطيع أن يتعاطى مع المادة الإبداعية التي ينجزها، فيعطيها حقها من خلاصة عطائه وإبداعه، بدون أن يقع تحت مطرقة الحاجة والضائقة".

القاص والمسرحي الزميل مفلح العدوان يقول "تأتي الجوائز هنا كأنها شهادة على ما ننجزه كمبدعين من إبداع، تعطينا فترة للراحة، نأخذ نفسا بهذا الدعم المعنوي، لنقدم أكثر، ونعطي بشكل مختلف، وفيها تحميل للمسؤولية أكثر، في أنه بالضرورة ان يكون ما ينجز بعد الجائز يشكل اضافة نوعية ومختلفة على ما أنجز قبل الجائزة".

ويضيف وهو الحاصل على جوائز عالمية وعربية ومحلية "للجوائز محفز للعطاء في أكثر من مجال ومن سياق وهي بالإضافة إلى ذلك تجعل الفائز بالجائزة ذات البعد الإنساني متمسكا ومدافعا عن القيم التي تعزز الابداع والحرية والحوار والتسامح".

ويشير إلى أن هناك كتابا كبارا رفضوا بعض الجوائز لتعارضها مع مبادئهم، أو لأنها تحمل تسميات وعناوين مسيئة، أو لأن ظرف إعطائهم للجائزة غامض مختلف عليه" معتبرا أن فلسفة للجوائز لا بد من التوقف كثيرا عندها، بكل جوانبها، وليس فقط عند القيمة المادية، أو البعد التنافسي لها".

ويلفت إلى أنه في المحصلة فإن "الجوائز تأخذ قيمتها من المبدعين أنفسهم، فهم من يضفون عليها قيمتها، وإلا فإنها بدون حضورهم، وتفاعلهم معها، تكون فارغة المحتوى، استهلاكية، وإذا تكرر إعطاؤها إلى أشباه مبدعين، أو بالترضية، فإنها بعد فترة تفقد معناها، وتبدأ بالتلاشي شيئا فشيئا، حتى وإن كانت قيمتها المادية عالية، أو الجهة المانحة لها تملك قوة سياسية أو اقتصادية بشكل ما".

ويختم منوها الى أنه "في المقابل هناك جوائز لا تشكل قيمتها المادية رقما يذكر، والمؤسسات الراعية لها، لا تملك إلا الصفة الإبداعية الإنسانية، ولكنها تحقق حضورا، وتنافسا حقيقيا بين المبدعين الحقيقيين، والفوز بها يعد شهادة ونيشانا إبداعيا يحتفى به".

فيما يعتبر القاص والناقد إياد نصار أنه "عندما تراعي الجائزة معايير شفافة وواضحة، وتستند إلى آراء نقاد معروفين بالصرامة والنزاهة، وليس على سمعة المبدع، أو علاقاتهم به، وتضع قواعد خالية من الأغراض المسبقة واعتبارات الترضيات ومكافآت نهاية الخدمة، عندئذ يقدم المبدع المستحق للجائزة الكثير من المصداقية والمكانة للجائزة".

ويلفت الى أنه غير "أنه ينبغي القبول بحقيقة ثابتة وهي أنه لا توجد جائزة في العالم ترضي كافة المتنافسين من المبدعين أو حتى من المتابعين والقراء" حيث اختلاف الآراء والأذواق وقلة الاطلاع على أعمال الآخرين والتعصب الجغرافي، والرغبة في تملق الكاتب تلعب دوما البواعث الأساس على الطعن بصحة قرارات جائزة إبداعية ما.

ويشير الى أن بعضا من الكتاب والنقاد يعشقون أن يجعلوا أية جائزة ساحة للسجال وإثبات الحضور وإظهار مدى تفوقهم على المكلفين بمنح الجوائز، موضحا "لذلك ترى بعضا منهم صامتين طيلة العام أمام كل الأحداث الثقافية، ولا تنفتح شهيتهم للكتابة إلا عند نقد الجوائز".

ويضيف أنه في المقابل، فإن "تقصير الجوائز وخاصة العربية منها التي تشوبها ارتجالية واعتبارات شخصية ومصلحية ومنافع تبادلية يعطي الفرصة للأقلام لإثارة القضايا حولها، وهذا وجه صحي وديمقراطي، وإلا لشهدت الجوائز فسادا أكثر بكثير مما هو ظاهر".

ويفرق نصار بأنه ينبغي الفصل بين "الرغبة في إثارة القضايا تجاه مظاهر فساد معينة، وبين الجرأة في الاعتراف بأحقية الفائزين" مبينا أنه "قلما نشاهد أو نسمع من يثني على قرارات منح الجوائز، بل صارت الرغبة في سلب الجدارة من الفائزين في معظم الأحايين أكثر بكثير من الرغبة في تكريم المستحقين".

ويعتقد بأن "إثارة القضايا حول الجوائز لا تضعف من مكانتها بل دليل صحي على أهميتها"، حيث أن "الجوائز العالمية تتعرض للهجوم والنقد والرفض حتى من الفائزين بها، وبعض الجوائز شهدت فضائح مشينة عبر تاريخها مثل غونكور الفرنسية وبوليتزر الأميركية.

ولا يرى في كثرة الجوائز ضيرا "بل يثير شهية الإعلام ويسهم في لفت انتباه الجمهور إلى الإبداع" رائيا بأن أية جائزة إبداعية لا تنجح عبر تاريخها وخاصة ذات التاريخ العريق أو الطويل في اكتشاف مواهب إبداعية جديدة، هي مثار ظن سيئ بها وبمعاييرها لأنها تبحث عن الأسماء المعروفة وليست المستحقة لإثبات قيمتها ومكانتها"

ويرى أن الجائزة "تكريم واعتراف بدور الإبداع في الحياة، وتكرس من مكانته ضمن المشهد الثقافي، وهي مؤشر في غاية الأهمية على مسايرة تطور اتجاهات الأدب وتعزيز التحولات؛ فالأعمال الفائزة من غير الأنماط التقليدية السائدة تعكس تحولات الإبداع واتجاهاته التي تحظى بتقدير النقاد والمحكمين".

ويستغرب أنه "لا يوجد لدينا في الأردن - رغم الحركة الإبداعية النشطة-جوائز بما يكفي لتكريم الأعمال الأولى للمبدعين كجائزة الرواية الأولى، وجائزة الديوان الشعري الأول، وجائزة المجموعة القصصية الأولى، وجائزة العمل الأول في مختلف المجالات، وغيرها من التصنيفات التي يمكن التفكير فيها كأساس لمنح الجائزة".

فيما يعتبر القاص والمسرحي الدكتور هشام البستاني أن الجوائز الأدبية "موضوع غارق في الإشكاليات. فمن جهة، تتدخّل في بعضها (وخصوصاً المحليّة منها) العوامل الشخصية والشللية التي تميّز المشهد الثقافي بشكل عام. وكثيراً ما تطغى حسابات الشخصنة والصداقة على معطيات التميّز الإبداعي.

ويتابع "من جهة ثانية، غالباً ما تبتعد الجوائز عن الأدب الإشكالي أو الطليعي؛ فلا أحد يعطي الجوائز لكتابة تقترب من أو تفكك أو تنتقد تابوهات الجنس والدين والسياسة، فمثل هذه المواضيع تُحرج مقدّمي الجوائز الذين غالباً ما يخضعون صراحة أو ضمناً لمعايير ما يسمى بـ"الأخلاق العامة" و"الذوق العام"

ويعتبر أنهم كذلك "يخضعون غالباً لتيّارات الأدب السائدة في حينه فتُهمل الكتابات التجريبية والطليعية لأنها أيضاً مثيرة للجدل ولكن على الصعيد الفنّي والتقني"

ويلفت الى أن عدداً كبيراً من الجوائز يقدّم من قبل هيئات أو شخصيّات محافظة في الخليج، وبعضها يضع ضمن معايير الجائزة نفسها بنوداً تشترط في المادة المقدّمة أن تلتزم بالآداب العامة، وفي هذا تطبيق عميق وخطير للرقابة لأنها تنقل الرقيب إلى عقل المبدع نفسه فيصير هو الرقيب على نفسه وكتابته بدافع انتهازيّ هو محاولته الحصول على جائزة.

ويشير الى أن العديد من الجوائز تتبع لوزارات الثقافة أو هيئات رسمية أخرى في البلدان العربية، "ومعروف أن السلطة السياسية في بلادنا العربية تمارس رقابة تختلف فداحتها من حالة إلى أخرى، لكنها موجودة في جميع الحالات، وغالباً ما يتم غض النظر عن أدباء معارضين، أو إهمالهم، أو حتى محاربتهم، مما يضع المزيد من التساؤلات أمام هذه الجوائز".

ويذكّر بأن كل جائزة تُعطى تثير الكثير من النقاشات والإشكالات حول أحقية الفائز بها، "وهذا يدلل على أن الجوائز لا بدّ تعبّر عن "اتجاهات" ما لدى مقدّمها، وقد لا تتحقق فيها الحيادية والموضوعية، وقد لا تتحقق فيها شرط الحريّة اللازمة لأي فعل إبداعي".

ويستثني جائزة "البوكر العربية" للرواية مما تقدّم عن الرقابة، "فبالنظر إلى القوائم القصيرة لهذه الجائزة، نجد العديد من الروايات "الجريئة" التي أُخذت بعين الاعتبار، لكن "البوكر" تؤشر إلى إشكالية أخرى في موضوع الجوائز وهي التركيز على نوع أدبي معيّن تفضّله صناعة النشر (هو هنا الرواية) على حساب الأنواع الأدبية الأخرى (القصة والشعر) التي لا تحبها تلك الصناعة".

ويعتقد أن الجوائز ستكون جيّدة لو تحققت فيها الحرية وانعدام الرقابة، والموضوعية وانعدام المحاباة الشخصية، والشمولية(بمعنى شمولها لكل الاجناس الأدبية بدون تمييز) وهو غير متحقق في الجوائز الأدبية العربية، ولهذا ستظل الجوائز (باستثناءات قليلة) حالة شللية كرنفالية تسويقية بعيدة إلى حد كبير عن التجديد الأدبي والتميّز الإبداعي".

رابط الموضوع بجريدة الغد الأردنية



الجمعة، أغسطس 26

زيارة من الزمرة الحمقاء


"زيارة من الزمرة الحمقاء" لجينيفر ايجان
تحطيم الشكل التقليدي للرواية

إياد نصار 
نشرت في الملحق الثقافي بجريدة الرأي الأردنية بتاريخ 26/8/2011

فازت الروائية الأميركية الشابة جينيفر إيجان بجائزة بوليتزر الأميركية لهذا العام عن روايتها "زيارة من الزمرة الحمقاء" التي تقع في 288 صفحة وصدرت العام 2010، وكانت روايتها فازت، قبل ذلك بأسبوعين، بجائزة حلقة نقاد الكتاب الوطني الأميركية.


يثير عنوان الرواية تساؤلات حول ماهية هذه "الزمرة الحمقاء"، وطبيعة الزيارة التي تقوم بها ولمن. كما تعد الرواية محيرة، لأنها عصية على التصنيف المريح ضمن فنون السرد، فهل هي رواية؟ أم مجموعة من القصص المترابطة على نحو فضفاض في فصول مستقلة؟ إنها في كل الاحوال ليست رواية بالمعنى التقليدي للرواية، من حيث الحبكة والشخصيات والزمن والانتقال الزمكاني عبر مسرح الأحداث. ويمكن تصنيفها ضمن الأدب التجريبي الذي يوظف التقنية في بنية العمل. فلا حبكة فيها بالمعنى الاعتيادي، ولا بطل معين، والزمن في حركة انتقال دائم، والشخصيات في تبدل مع كل فصل.

تبدو نصوص الرواية ذات اللغة الشعبية السهلة البعيدة عن التأنق الأدبي، كما لو أنها كُتبت لأغراض المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي من خلال تحطيم البناء الروائي والحبكة والزمن وحتى الشخوص، إذ لا تركز الرواية على شخصية واحدة أو قصة واحدة، أو حتى على عدد قليل منها.

تتناول الرواية تراجع العلاقات الإنسانية وانتشار ميل الإنسان إلى العزلة نتيجة التطورات التقنية، وتؤشر على قضية مهمة هي المفارقة نتيجة اعتماد الإنسان بشكل متزايد على التقنية وشعوره في الوقت نفسه بالاغتراب، إذ أصبح الناس مثل جزر متباعدة؛ يتواصلون بلا معنى أو هدف، كما تبين أن الموسيقى أصبحت سلعة، والشباب الذين يشترون الأغاني عبر الأجهزة اليدوية الحديثة هم سوقها المستهدفة.

الرواية التي تطرح تأثير الموسيقى في المجتمع الإنساني، تبدو من الناحية الشكلية ألبوماً موسيقياً من قصص الحياة الفاشلة، والنرجسية، والعلاقات التي تنتهي بالخيبة، ومحاولات الانتحار. وتنقسم الرواية إلى جزأين: (أ) و(ب)، يضم كل منهما مجموعة من القصص المتداخلة، لكنها في الوقت نفسه منفصلة بعضها عن بعض. ويحمل كل فصل في الرواية وجهة نظر مختلفة، يرويه راوٍ، وهناك شخصية مركزية في كل فصل تسرد قصص الآخرين معها. تعد الرواية، باختصار، حكايات مجموعة من الشخصيات التي تتأثر حياتها بالظروف المحيطة بها، فتصبح مشهورة أو تبقى مغمورة، لكنها جميعها تصبح ضحايا.

تمتد أحداث الرواية عبر خمسين عاماً منذ طفرة موسيقى الروك في سان فرانسيسكو في سبعينيات القرن الماضي وتنتهي في العام 2020 في مستقبل مليء بالبؤس والفقر. تنسج المؤلفة القصص حول زمن غير واضح المعالم ولا يسير خطّياً، وتظل تقفز بالزمن من الحاضر إلى الماضي ثم إلى المستقبل.

تركز الرواية على سبر تأثير الزمن في حياة البشر أكثر من اهتمامها بالحبكة. وتستخدم إيجان كلمة "حمقاء" أو "بلهاء" لتعني الزمن. يقول الراوي: "الزمن أحمق. أليس كذلك؟ هل ستدع ذلك الأحمق يتغلب عليك؟" (ص 96). لا يوجد في الرواية أبطال بالمعنى التقليدي، إنما هناك بطل لا إنساني مشترك؛ إنه الزمن، ذلك "الأبله" أو "الأحمق"، كما يشير العنوان، لأنه يغيرنا ولا يبقى لنا من الماضي سوى ألم الذكريات الذي نتجرعه كلما أحسسنا ببؤس الواقع. والشخصيات التي كانت تمتلئ حيوية في شبابها، تبدو مصدومة من الحال التي انتهت إليها بعد سنوات. يسأل أحد شخصيات الرواية بعد أن كان ذات يوم أحد نجوم الموسيقى: "السؤال الذي أريد أن أصل إليه: كيف تغيرت حالي من نجم موسيقي إلى شخص بدين تافه لا يسأل عنه أحد؟ دعونا لا نتظاهر أن ذلك لم يحدث".

تطرح الرواية مفهوم مارسيل بروست للزمن، والذي يلمح إلى إمكانية إعادة معايشة الذات التي كنا عليها منذ وقت طويل، وتبدأ باقتباس من رائعة بروست "البحث عن الزمن الضائع": "يزعم الشعراء أنه يمكننا أن نستعيد في لحظة ذكرى ذاتنا التي كنا عليها في ماضي الأيام عندما ندخل بيتاً أو حديقة اعتدنا أن نعيش فيهما في شبابنا. لكن هذه الاستعادة تعد أكثر أنواع الحج خطورة والتي قد تنتهي بخيبة الأمل بالقدر نفسه الذي قد تنتهي فيه بالنجاح".

تظل فصول الرواية تتنقل بين صيغ الزمن المختلفة من خلال الانتقال في الحديث عن أناس في حياة نجم موسيقى الروك الشهير الذي تحول إلى رجل أعمال يدير شركة تنتج الأسطوانات الموسيقية في نيويورك، واسمه "بيني سالازار"، ومساعدته المريضة نفسياً "ساشا". والقصة التي تسردها الرواية معقدة ومتشابكة، لأنها تروي بداخلها الكثير من القصص لعدد كبير من الناس.

تبدأ الرواية بقصة "ساشا"، وهي شابة في أواسط الثلاثين من العمر نلتقي بها في جلسة معالجة نفسية في مدينة نيويورك لمساعدتها على التخلص من عادتها في سرقة أشياء الآخرين، بل نراها في فصل لاحق يدعى "العثور على الأشياء" وهي تسرق محفظة رجل قابلته على "النت" وتخرج معه في موعد غرامي! تكشف "ساشا" عن ميولها الغريبة في سرقة الأشياء من الأشخاص الذين تصادفهم كوسيلة لتخليد اللحظات.

يتعرف القارئ لاحقاً على الخلفية المضطربة التي عاشت فيها "ساشا"، ويبدو بشكل واضح أن "دليل متاعب" هذه الفتاة كما تسميه الرواية، هو اختصار لمتاعب جيل بأكمله. كانت "ساشا" الطفلة ضحيةَ زواج عنيف، وتهرب بعد ذلك من أسرتها لتعيش في إيطاليا وتمارس الدعارة، ثم تدخل الجامعة وتسعى بكل جهدها كي تساعد صديقتها في التغلب على نوبات التفكير بالانتحار التي تنتابها. كما ندخل عالم الرغبات الخفية لعمها "تيد"، وهو مؤرخ لتاريخ الفن يعاني من زواج فاشل، ويسافر إلى إيطاليا لتخليص "ساشا" من العالم السفلي للمدينة.

في الفصل الثاني من الرواية نلتقي "بيني". تعمل "ساشا" مساعدة لـ"بيني" منذ سنوات، وفي إحدى المرات يحاول التحرش بها، لكنها تصده بطريقة حكيمة، ورغم علاقتهما القوية إلا أن أيّاً منهما لا يعرف الكثير عن حياة الآخر. كما نلتقي بشخصية "بيني" مرة أخرى وهو كبير يعاني الاكتئاب، ويحاول أن يجد صلة للتواصل بمن حوله، وعندما يعود بنا السرد إلى الماضي نراه في عنفوان شبابه، يعيش صخب طفرة موسيقى الروك.

يشعر "بيني" بتوتر أمام زحف التقنية، إذ تصبح الموسيقى أقل لمسة شخصية وأكثر برمجة حاسوبية، فيشعر أنه ليس ذا قيمة أو أهمية. تعد الرواية إدانة للعصر الرقمي التي تصفه بأنه "سريع، نزق، فوري، لكنه مليء بالفجوات والتوقفات".

تتراوح القصص الأخرى في الرواية بيم المغامرات الجنسية لشباب سان فرانسيسكو إلى ديكتاتور إفريقي يبحث عن جهة إعلامية لتلميع صورته. وينتقل ضمير السرد بين الغائب والمتكلم، ومرة يصبح بضمير المخاطب. وتتراوح نبرة السرد بين التراجيديا والسخرية.

يمتاز أسلوب الرواية بتوظيف التقنية في العمل كمضمون وكأسلوب، فهناك فصل غير تقليدي هو في حقيقته مقالة لها هوامش في مجلة! أما الفصل الأطول في الرواية الذي يزيد على سبعين صفحة ويحمل عنوان "وقفات عظيمة للروك آند رول"، فهو عبارة عن شرائح عرض "بوربوينت"، فيها رسوم توضيحية وأشكال ونقاط. تحكي الشرائح أفكاراً غريبة لاثنين من المراهقين الذي يتضح في ما بعد أنهما ابنا "ساشا"، وتوحي أفكارهما عن المستقبل أن الرواية تقترب من أسلوب الخيال العلمي، فترى أنه بعد خمسة عشر عاماً من الحرب، تأتي فترة تشهد طفرة في كثرة المواليد، كما عملت التقنية على اختراع آلات تحب الأطفال، ويصبح مستقبل نجوم الموسيقى تحت رحمة الأطفال الذين يملكون القوة الشرائية.

تستعيد الرواية الزمن الحاضر من خلال حفلة موسيقية قرب موقع الحادي عشر من أيلول في منهاتن، ويقدم أحد عازفي موسيقى الروك من العصر ما قبل الرقمي "مقطوعات غنائية للخوف وغياب التواصل اللذين يخرجان من صدر رجل تعرف من مجرد النظر إليه أنه لم يكن له حضور.. لم يكن جزءاً من تاريخ أحد، رجل عاش في الشقوق طوال هذه السنوات، منسي ومليء بالغضب بطريقة توحي أنه نقي، لم يلمس".

المستقبل في الرواية الذي يمتد حتى العام 2020، يقول الراوي عته: "بعد جيلين من الحرب والمراقبة التي تركت الناس تتوق إلى تجسيد قلقها في صورة رجل وحيد ضعيف يتكئ على جيتار مائل".

من أكثر فصول الرواية إمتاعاً ذلك الذي يصف المواجهة بين "بيني" و"سكوتي هاوسمان" الذي كان زميلاً لها في الفرقة الموسيقية، لكنه لم ينجح في شيء بعد ذلك، إذ عمل بوّاباً في مدرسة ابتدائية وتحول إلى شخصية عدوانية بسبب الفشل.

يسرد "سكوتي" في هذا الفصل المسمى "نكرات ومعارف" قصة علاقته بـ"بيني" وكيف بدأ الاثنان معاً، وفي حين ظل "سكوتي" يراوح مكانه فقيراً بلا اسم، صار "بيني" غنياً ناجحاً يعمل في مكتب وثير في إحدى البنايات العالية في نيويورك. يكشف حوارهما الكثير من مظاهر الزيف في العلاقات، كما يكشف طبائع الناس.

تقول جينيفر إيجان في مقابلة معها في شهر نيسان 2010: "أظن أن كل واحد يكتب بشكل منتقد ساخر عن مستقبل الحياة الأميركية سيبدو كأنه يكتب نبوءة.. أعتقد أننا كلنا جزء من روح الزمن، ونحن نستمع إلى الأشياء نفسها ونستوعبها بوعي أو من دونه".

"زيارة من الزمرة الحمقاء" رواية حزينة ومضحكة وغير تقليدية في الوقت نفسه. وكما تساءلت صحيفة "نيويوركر الأدبية" في تعليقها: "رواية غير خطية وذات رواة متعددين، ومواقع متباعدة للغاية، وحبكة ترتبط بالموسيقى الصاخبة الغريبة في المظهر واللباس والألوان والشعر، وتحدي المظاهر الاجتماعية التقليدية، هل تستطيع أن تصنع الفرق؟".

رابط الموضوع بجريدة الرأي الاردنية

رابط الصفحة الكاملة






الجمعة، أغسطس 5

ثورات وروايات


ثورات وروايات

اياد نصار

نشرت في قسم شرفات ثقافية بجريدة الدستور الأردنية بتاريخ 5/8/2011

لا شك أن الثورات العربية، التي نشهدها، الآن، ستصبح ـ في مقبل الأيام ـ موضوعاً مهماً وأثيراً للكتابة، ليس السياسية أو التاريخية، فحسب، ولكن الإبداعية بأجناسها المختلفة. فالأحداث الكبرى، التي تغير مصير الشعوب، تعد ملهمة لوجدان الأدباء والفنانين والفلاسفة والمفكرين، ومحفزة تثير شهية الكتابة بما تجسده من مفارقات، ومواقف متناقضة بين وجهي تلك الثنائية التي يمكن أن تضاف إلى كل ثنائيات الأدب التي بتنا نرددها؛ كالظلام والنور، والأبيض والأسود، والوجود والعدم، والخير والشر، والحقيقة والوهم، ذلك لأنها تمثل قمة المفارقة، كما نراها في حراك المجتمع العربي الاحتجاجي. وهل هناك من حل وسط بين حق الإنسان في الحياة والاختيار والمشاركة في صنع المستقبل، وبين الإصرار على إبقاء الاستبداد والدفاع عنه، بالرصاص وبمختلف حجج المنطق السياسي، الذي يرى أن الشعب ليس جديراً بامتلاك قراره، بَعْدُ؛ لأنه يمارس مراهقة خطرة لا تدرك أبعاد المؤامرات.


فهل من الناضج أن تفجر الثورات العربية شهية الكتابة، خاصة في الرواية؟ وهل من الحكمة أن يبادر الأدباء لتقديم أعمال تستند إلى مشاهد المظاهرات، وحكايات البطولة الفردية، وقصص الضحايا المأساوية، وتتحرك شخوصها في إطار الأمكنة التي شهدت الثورات، بوصفها ميداناً التحرير؟ أم إن التسرع في كتابتها سيؤدي إلى إغراقها في الميلودراما، والتركيز على الجانب الآني، المشحون بإثارة اللحظة، وغياب الصورة الواضحة؟ هل ستكون الرواية ـ الآن ـ ذات نظرة انفعالية قاصرة، أم إن الانتظار ـ حتى تنضج الرؤية ـ كفيل أن يعطي الرواية عمقاً فكرياً بحيث تنتقل من رواية الحرب إلى رواية النهضة؟

الثورات العربية

كانت هناك، منذ نهاية الحرب العالمية الأولى حتى ما بعد منتصف القرن العشرين، ثورات عربية مجيدة ضد الاستعمار في الجزائر، والعراق، واليمن، وسوريا، وفلسطين، وغيرها من الأقطار، وقد تناولها الإبداع كثيراً في أعمال عظيمة ـ شعراً، ونثراً، ومسرحاً، وفناً، وسينما، وغيرها. كما كانت هناك انقلابات عسكرية أطلق عليها اسم «ثورات»، من مثل: ثورة يوليو، في مصر؛ وثورة الرابع عشر من تموز، في العراق؛ وثورة المشير عبد الله السلال (ضد حكم الإمام البدر)، في اليمن، وغيرها. غير أنني أقصد، هنا، الثورات الشعبية الواسعة ضد أنظمة الحكم العربية، من مثل: ثورة الخبز، في مصر؛ وثورة الخبز، في تونس (عام 1984)، ضد حكم الرئيس الحبيب بورقيبة، وصولاً إلى الثورات الأخيرة.

تناولت روايات قليلة الثورة الشعبية، التي عرفت بمظاهرات الخبز، والتي جرت في عام 1977، ضد نظام الرئيس السادات، بسبب الغلاء، وانتشار، الفقر، ورفع الدعم عن السلع الأساسية، نتيجة سياسة «الانفتاح»، ويجري جانب من أحداث هذه الروايات في ميدان التحرير، غير أن بعض الروايات ـ هذه ـ لم تعط تلك الثورة حقها من المعالجة، بل مرت عنها مرور الكرام، مثل رواية رضوى عاشور المسماة «أطياف»، التي تعد رواية سيرذاتية تتناول التطورات السياسية والاجتماعية في مصر وفلسطين، في القرن العشرين. ويبرز ـ من خلالها تفتح وعي جيل الشباب على تردي الأوضاع القائمة، واستبداد السلطة، بوصفها أحد مواضيع الرواية الرئيسة، وفيها أوردت عاشور جانباً من المظاهرات الطلابية ضد نظام السادات، في مطلع السبعينيات من القرن الفائت، لكونها شاهدتها من قرب، وشاركت فيها، لكنها أشارت إلى مظاهرات الخبز، عام 1977، إشارة عابرة في معرض حديثها عن ميدان التحرير، الذي كانت تسكن على بعد أمتار منه، والمظاهرات التي مرت فيه منذ أربعينيات القرن العشرين.

اهتمت رواية إبراهيم أصلان، المسماة «مالك الحزين»، بمظاهرات ثورة الخبز بشكل أكبر، حيث يهتف الآلاف ضد الحكومة والأسعار، وتنقسم الجموع إلى ما يشبه نهرين هادرين: يتجه أحدهما إلى ميدان عرابي، في طريقه إلى ميدان رمسيس؛ والثاني يتجه إلى العتبة الخضراء، كما تبرز محاولات رجال المباحث والإعلام، وحتى الفنانين والأدباء المنتفعين لإظهار أن ما يقوم به الطلبة عبث وفوضى لا يليقان بالمواطن العاقل، وأنهم يفعلون ذلك لأنهم أناس بلا همّ يشغلهم، ويجدون أباء ينفقون عليهم، فلا عمل لديهم سوى إثارة القلاقل. كما تصور الرواية جوانب من مشاهد المظاهرات، وكتابة الشعارات على الجدران، واصطفاف عساكر الأمن المركزي الذين تبين الرواية أنهم متشابهون؛ لأن السلطة تفرّخهم، في إشارة ساخرة إلى أنهم بلا معالم واضحة، كأنما فقدوا هويتهم الإنسانية، وأصبحوا مجرد أدوات للقمع، غير أن البطل يبقى يصف ما يجري، ويشارك ـ أحياناً ـ بخجل في الهتاف، متلفتاً مِن حوله، خشية أنه يراه أحد، ويرقب، على اعتباره شاهداً، وفي حلقه غصة من إجهاض الثورة.

وفي الإطار ذاته تتناول رواية محمود الورداني، «أوان القطاف»، جانباً من المظاهرات التي جرت في أثناء ثورة الخبز، من خلال صبي يشترك فيها مع اثنين من رفاقه، ويرى قتل أحدهما بضربة سيف طيرت رأسه. يسرد الصبي الأحداث بصوته. كما ينقل السرد جانباً من الهتافات الشعبية العامية ضد حكم أنور السادات، ومدى الوجود الأمني المكثف، والقسوة في استخدام القوة لتفريق المتظاهرين، مقابل إصرارهم على التجمع في ميدان التحرير، ما يذكّر بتفاصيل مشهد ثورة 25 كانون الثاني، ذاتها، وإن اختلف السيناريو. لكن التركيز، في «أوان القطاف»، كان أكثر على سرقة عيش الفقراء، ونهب خيرات البلاد، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية، ما سميت معه تلك الثورة بثورة الجياع ، أكثر مما يجري ـ الآن ـ من مطالبة بالحرية.

أما عن ثورة 25 كانون الثاني، في مصر، فقد أصدر الصحفي المصري سعيد حبيب، في شهر شباط من هذا العام، أول رواية حول الثورة، وتؤرخ للمراحل المختلفة للمظاهرات، لكنها تسعى إلى تغيير الصورة النمطية عن الإسلاميين. عنوان الرواية هو «لا يا شيخ»، وتتناول صور القمع وأقنعته المختلفة، التي كان النظام يمارسها. أعتقد أن رواية الثورة المصرية العظيمة ستأخذ وقتاً قبل أن ترى النور.

الثورة الأميركية

أدت الثورة الأميركية إلى بروز مرحلة من السوداوية الموسومة بأجواء التشاؤم، والغموض في الأدب الأميركي؛ بسبب قصص المآسي والفظائع التي تخللتها، وآلام العبيد المضطهدين، الذين كانوا يتعرضون للقتل، خلال هربهم في سبيل الحرية، كما صورت ذلك ـ في ما بعد ـ روايات مارك توين، وكذلك بسبب حرمان سكانِ المستعمراتِ إبداءَ الرأي في القوانين التي كان يفرضها عليهم البرلمان البريطاني، وإجبارهم على دفع الضرائب، كما في حادثة «حفلة شاي بوسطن».

استمرت الثورة الأميركية حوالى ثماني سنوات، حيث بدأت عام 1774، وانتهت ـ رسمياً ـ عام 1783، تم خلالها إعلان استقلال الولايات المتحدة، وهزيمة الجيوش البريطانية. لم يُكتب، خلال تلك المرحلة، سوى كتابات سياسية وخطب. وظهرت أول رواية أميركية في نهاية القرن الثامن عشر، في عام 1790، بالتحديد، وكانت تدعى «قوة التعاطف»، كتبها وليم هيل براون، ولم يكن لها أية علاقة بالثورة، بل تندرج ضمن الرواية العاطفية. كانت قصة حب مأساوية بين حبيبن يكتشفان، في ما بعد، أنهما شقيقان.

لم يظهر، خلال تلك الفترة، وفي السنوات اللاحقة، أي عمل أدبي مهم عن الثورة. ويمكن القول إن الأعمال الأدبية ذات المكانة المهمة، في تاريخ الأدب الأميركي، لم تبدأ في الظهور إلا من بعد الثورة بأكثر من أربعين عاماً، وقبيل الحرب الأهلية الأميركية، ولم تكن ـ أيضاً ـ عن الثورة. ظهر خلال تلك الفترة، بعد الاستقلال، مجموعة من الأدباء الأميركيين المهمين، من مثل: رالف والدو إيمرسون، وديفيد ثورو، وإدجار آلان بو، وناثانيل هوثورن، وهيرمان ميلفل، إلا أنه لم تكتب رواية عظيمة أو مشهورة، عن الثورة، بشكل واضح. بل إن هوثورن آثر مرحلة سابقة على عصره كي تجري فيها أحداث روايته «الحرف القرمزي»، التي تعد معلماً في تاريخ الأدب الأميركي، وهي فترة ظهور ما يسمى بالمتطهرين (Puritans)، في منتصف القرن السابع عشر.

أسهم تردي الأوضاع السياسية، والصراع بين الشمال المتطور، والجنوب الزراعي المتخلف، في إذكاء شرارة الحرب الأهلية، خاصة من خلال موقف الشمال المساند لتحرير العبيد، مقابل موقف الجنوب المعارض. وهكذا وقعت الحرب الأهلية، التي استمرت زهاء أربع سنوات؛ بين 1861 و1865. وأول رواية مهمة كانت «كوخ العم توم»، لهاريت بيتشر ستاو، التي نشرت قبل الحرب بحوالى عشر سنوات.

الرواية الأولى، التي تجري أحداثها خلال فترة الثورة الأميركية، كتبت عام 1899، وقد كتبها روائي أميركي يدعى ونستون تشرشل (1871-1947)، وهو غير رئيس الوزراء البريطاني المعروف، الذي برز خلال الحرب العالمية الثانية، وكان عنوانها «ريتشارد كارفيل». تعد الرواية قصة رومانسية، وتندرج ضمن الأدب التاريخي، وهي عبارة عن مذكرات لرجل من القرن الثامن عشر يدعى رتشارد كارفيل.

بلغ مجموع الروايات التي تجري أحداثها في فترة الثورة الأميركية سبع عشرة رواية. وأما الروايات التي تجري أحداثها خلال الحرب الأهلية الأميركية فبلغت 56 رواية، ولكن معظمها كتب في القرن العشرين. ومن أهم الأعمال التي كتبت عن تلك الفترة الرواية المشهورة «ذهب مع الريح»، التي كتبتها مارغريت ميتشل عام 1936، ورواية «غير المهزومين» للروائي المعروف وليم فوكنر، عام 1940، والتي تحكي قصة آل سارتوريس في الجنوب الأميركي، وتجسد فترة تداعي ثقافة الجنوب وهزيمته.

الثورة الفرنسية
أثرت الثورة الفرنسية في آداب الكثير من شعوب العالم وثقافاته، ومن المعروف أن الثورة الفرنسية لعبت دوراً حاسماً في نشوء التيار الرومانتيكي، في الأدب، في القرن الثامن عشر، بسبب دعوتها إلى تحطيم الأطر التقليدية، وتمجيد روح الثورة والتغيير، مهما غلا الثمن، والاحتفاء بالفقراء والمعذبين بوصفهما ملهمين للإبداع، والثورة على القديم والكلاسيكي والأرستقراطي، وإبراز الجديد. لم يتوقف تأثير الثورة الفرنسية عند حدودها الزمنية الصارمة، التي يحفظها المؤرخ خلال عشر سنوات: بين 1789 و1799. ولم تتوقف التغيرات عند سقوط الملكية، المدوي، وانهيار النظام الإقطاعي، وانتهاء سيطرة الطبقات الأرستقراطية على السلطة والثقافة والنفوذ، بل صارت ملهمة لكثير من المفكرين، والمثقفين، والفنانين، والشعوب في كل أنحاء العالم.

من الأعمال الأدبية المشهورة، التي تجري أحداثها خلال الثورة الفرنسية، رواية ألكسندر دوما الأب «فارس البيت الأحمر»، وكتبت بعد الثورة بستة وأربعين عاماً. تجري أحداث الرواية خلال الفترة التي أعقبت انطلاقة الثورة، والتي عرفت بفترة عهد الرعب، واتسمت بمقتل عشرات الآلاف تحت ذريعة أعداء الثورة، وأفرط خلالها الفرنسيون في استخدام المقصلة، وكان من ضحاياها بشر كثر. وفي الرواية يحاول شاب جريء القيام بمغامرة لإنقاذ الملكة من السجن، رغم أنه من مؤيدي الجمهورية، لكن حبه لامرأة شابة يدفعه كي يصبح فارس البيت الأحمر. وقيل إن دوما كتب الرواية من وحي قصة حب اعتاد بطلها أن يكتب رسائل سرية، إلى الملكة، على أوراق الورد.

كما كتب الروائي الفرنسي أناتول فرانس، عام 1912، روايته المسماة «الآلهة عطشى إلى الدماء»، التي عكس فيها تلك الجوانب المظلمة من فترة عهد الرعب. وكتب ـ أيضاً ـ فيكتور هوغو روايته الأخيرة، المسماة «تسعة وثلاثون»، وقد نشرها عام 1874، بعد مرور خمسة وسبعين عاماً على الثورة، وبعد سنوات قليلة من قيام ما عرف باسم حكومة عمال باريس، من الفوضويين والماركسيين. وطرح هوغو فيها جوانب من تلك الانتفاضات المضادة للثورة الفرنسية.


وهناك الرواية العظيمة، «قصة مدينتين»، للروائي الإنجليزي تشارلز ديكنز. نشر ديكنز الرواية عام 1859، أي بعد الثورة بستين عاماً، وتجري أحداثها خلال الثورة بين مدينتي لندن وباريس، وتبرز معاناة الفلاحين البسطاء، الذين استغلتهم الطبقة الأرستقراطية، في السنوات الأولى للثورة. كما تبرز الرواية ضحايا الثورات ـ كما يحدث عادة ـ فشارلز دارني، رغم طبيعته الخيّرة الفاضلة، أصبح هدف الفلاحين الثائرين لمجرد كونه ارستقراطياً. تنسج الرواية قصة حب عاطفية خلال مسير الأحداث الاجتماعية والسياسية. وتعد الرواية من أهم الأعمال الأدبية، التي وثقت لمجريات الثورة الفرنسية، ليس في باريس وحدها، لكن في أوروبا، عامة.

الثورة الروسية

كتب المفكر الشيوعي المنشق، ليون تروتسكي، في عام 1924، كتاباً بعنوان «الأدب والثورة»ـ حول قضايا الثقافة والفن في دولة العمال الناشئة حديثاًً، آنذاك. وبعد طرده من الحزب الشيوعي، في عام 1928، منع تداول كتابه. وفيه يرى أن سقوط النظام الروسي، ما قبل الثورة، لم يكن يعني مجرد سقوط حكومة، بل سقوط نظام بأكمله، بما في ذلك النظام الثقافي السائد، آنذاك. كما أكد أن أصحاب المبادئ والمثل النظرية هم وحدهم من يعتقدون أن طبقة المثقفين هي من تصنع الثورة، فبرأيه أن الفكر ـ عبر التاريخ ـ يلحق الواقع.

من أهم الروايات التي تجري أحداثها خلال الثورة الروسية تأتي رباعية الروائي المنشق عن النظام الشيوعي، والحاصل على جائزة نوبل للأدب، الكسندر سولجينيتسين، وهي: «العربة الحمراء»، وتشكل عملاً روائياً ضخماً استغرق الإعداد له حوالى ثلاثين عاماً. تعد رواية «أغسطس 1914» أولى أجزاء الرباعية (وقد فرغ منها عام 1970، ولكن تم منع نشرها، في روسيا، فنشرها في باريس، في العام التالي). وكانت الرواية من الأسباب التي أدت ـ في ما بعد ـ إلى تجريد سولجينيتسين من جنسيته، في عام 1974، فقامت زوجته وأصدقاؤه بتهريب نصوص رواياته إلى الخارج. تعد الرواية مزيجاً من الخيال، والحقائق التاريخية، وتصور الحياة في روسيا الإمبراطورية، لكنها تركز على حياة الكولونيل فوروتينتسيف، الضابط في الجيش الروسي، الذي قام بغزو بروسيا، وهزم الجيش بقيادة الجنرال سامسونوف، في معركة تاننبيرغ، ومن ثمّ انتحاره. ركزت الرواية على الظروف التي سادت في بداية الحرب العالمية الأولى، وعلى ثورة عام 1905، التي سبقت الثورة البلشفية، وقد تلا الجزء الأول الروايات الثلاث الأخرى، المسماة: «نوفمبر 1916»، و»آذار 1917»، و»نيسان 1917».

من الروايات المهمة، في القرن العشرين، والتي ارتبطت بالثورة الروسية، ثمة رواية «نحن» للروائي يفغيني زامياتن، وهي رواية ساخرة من الثورة، رغم أن الكاتب أيدها، غير أنه، عندما رأى أنه تم خيانة أهداف الثورة، وسيطرت عليها القوى الشمولية، كتب هذه الرواية في عام 1921، وهي ـ في الأساس ـ قصة حب بين اثنين عاشقين في أجواء من الخيال العلمي، لكنهما يجدان نفسيهما مجرد رقمين في دولة قامعة.

وهناك رواية «ماري»، للروائي الروسي الشهير فلاديمير نابوكوف، الذي هرب ـ في شبابه ـ من روسيا إلى الغرب، وقضى حياته في المنفى، خاصة الولايات المتحدة، وكتب معظم أعماله باللغة الإنجليزية، وأشهرها رواية «لوليتا»، رغم أنه كتب عدداً من الروايات ـ في العشرينات والثلاثينات من القرن الفائت ـ بالروسية، ومن أهمها رواية «الهدية»، التي كتبها في عام 1936، وأبرز فيها تناقضات المنفى وعذاباته. ينتمي نابوكوف إلى جيل الحداثيين التجريبيين، الذين تمردوا على الإطار الواقعي الاشتراكي للأدب، خاصة في عهد ستالين.

هناك رواية «دكتور زيفاجو»، للروائي الروسي برويس باسترناك، الذي منح جائزة نوبل للأدب، لكنه اضطر لرفضها بناء على ضغوط من السلطات الشيوعية. كتب باسترناك الرواية في عام 1957، وهي ـ في الأساس ـ قصة حب في إطار عمل ملحمي ضخم يتناول الثورة الروسية. يسعى الشاعر والطبيب زيفاجو إلى أن يفعل الخير، وأن يعيش حياة بسيطة بكرامته، لكن مسعاه ينتكس بسبب الحرب، والثورة، وقصة الحب التي تجمعه وامرأة تدعى لارا، وهي زوجة ضابط شيوعي.


رابط الموضوع بجريدة الدستور
 
رابط الصفحة الكاملة
 

الثلاثاء، أغسطس 2

الكتاب السري




قصة قصيرة

الكتاب السري!

اياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة النهار اللبنانية بتاريخ 30/7/2011

كنت أمشي خلفه من غير أن يحسّ بي. أتباطأ في سيري. أدعه يبتعد قليلاً. أتلهى بالتوقف. أنظر حولي. أتطلع خلفي. أمشي على الجانب الاخر من الزقاق. رأيتُ نار الفرن مشتعلة في التنور. لا تزال ألواح الخشب مصفوفة فوق بعضها. ترددتُ قليلاً خشية أن يراني. رأيتُ أبي يمسك العجين، يرقّه بيديه، ثم يرفعه في الهواء، ويفرده على سطح البلاط أمامه. مشيتُ ملتصقاً بالجدار على رؤوس أصابعي كي لا يحسّ بوجودي. اذا رآني فسأمضي المساء في الفرن. تباعدت المسافة بيني وبين خليل، خشيتُ أن يتوارى قبل أن ألحقه. يتسلل كعادته خفيةً عني ليلتقي بأصحابه. يرفض أن آتي معه. كلما حاولت، صرخ بي. شكاني الى أبي، فأسمع محاضرة، وأمضي المساء أحمل الأرغفة وأرتّبها على اللوح الخشبي. صرت ألاحقه متسللاً حتى أفاجئه بين أصحابه. يثور ويزبد، ثم لا يلبث أن يقبل بالأمر الواقع! في أحيانٍ ما لا يقبل، فتلاحقني الحجارة حتى أهرب بعيداً!

دخل خليل في زقاق ضيق. أسرعتُ الخطى قليلاً. ركضتُ خلفه. وقفتُ على الزاوية. لمحتُ ظهره قبل أن يتوارى في آخر لحظة. ذهب الي اليمين. مشيتُ حتى وصلتُ نهاية الزقاق. كانت الطريق منحدرة الى الأسفل وعلى جانبيها سيارات وأشجار مزروعة على الرصيف. لم أره. اختفى مرة أخرى. أسرعتُ نازلاً الطريق. كان في نهايتها درج إسمنتي. أين ذهب يا ترى؟ نزلت الأدراج مسرعاً. بيت صاحبه علوان في نهاية الدرج. كانت البوابة الحديد مغلقة. لا يمكن أن يكون قد دخل بهذه السرعة. وقفتُ محتاراً. رحتُ أبحث عنه، ولكني لم أجد له أثراً. عدت أدراجي مقهوراً.

في الليل عاد الى البيت. نظر اليَّ نظرة فيها ابتسامة التشفي. وأخذ يقهقه. شعرتُ بالغيظ. عرفتُ أنه أحسّ بي أسير خلفه فتوّهني. قمتُ من مكاني وهجمتُ عليه. سمعتُ صوت الباب الحديد يُفتح. لا بد أنه أبي. ركنتُ الى مكاني وكظمتُ غيظي، وأنا أتوعده في الغد! بقي يضحك في سرّه، ويكيدني بحركات من يديه من غير أن يرى أبي.

خليل في السابعة عشرة وأنا في الرابعة عشرة. لكنه المدلل بيننا. لا أعرف لماذا يحظى بهذا الدلال؟ نحن سبعة أخوة وأخوات. لكن أبي يفضله في المعاملة علينا، على رغم أنه نادراً ما يساعده في الفرن. يستطيع خليل الخروج من الفرن في أي وقت يشاء. لا يردّ له طلباً، وأمي تحنو عليه وتدلّله أكثر منا. أبي يقول إنه ولي العهد ورجل البيت في غيابه. لكني لا أسكت. يحاول أن يفرض زعامته علينا فأعارضه. صرتُ كثير المشاغبة والجدال! لا تعارض أخواتي وأمي تصرفاته كأنه سيد البيت. لكن إحساسي يأبى ذلك. لماذا لا أكون أنا رجل البيت؟ أنا أمهر منه في شغل الفرن، وفي استيعاب الزبائن الغاضبين كما يقول أبي دائماً.

عندما عدت من المدرسة في اليوم التالي، رأيتُ خليل يهمّ بالخروج. أدركتُ أنه ينوي أمراً ما! كان يخرج الى البوابة ثم يعود. لن يغيب هذه المرة عن ناظري. اذا صعد الدرج فسأراه! مئة درجة كفيلة أن أراه قبل أن يختفي. درج طويل يصل بين الشارع في الأعلى وبيتنا. أشعر أحيانا أن نَفَسي سوف ينقطع منه. أبقى ألهث حتى أستردّ أنفاسي من جديد. رنّ جرس الهاتف. تظاهرتُ بالانشغال فلم أردّ. بقي يرنّ وأنا جالس جنبه. جاءت أمي مسرعة من المطبخ. رأتني. هبّت في بصوتها العالي: "لماذا لا تردّ؟ ماذا تفعل؟ ألم تسمع؟". قلت لها متحجّجاً: "كنت أقرأ في كتابي ولم أسمع". نهرتني: "ردّ بسرعة قبل أن ينقطع". كانت جارتنا أم محمد العامرية في الشارع الخلفي. بدا على وجهي التبرم. كم أمقت حديثها. كثيرة الكلام والفضول. لديها فضول يقتل كل القطط في حيّنا! بقيت تسألني عني وعن دراستي وتدعو لي بالتوفيق والنجاح! تخلصتُ منها بصعوبة، وناولتُ أمي السماعة. عدت أمسك كتاب التاريخ. تذكرتُ خليل. رميتُ كتابي جانباً وقفزتُ من مكاني. اللعنة. كيف نسيته؟ تبّاً للعامرية!

فتشتُ عنه داخل البيت فلم أره. بحثتُ في كل الغرف وفتحتُ كل الابواب المغلقة! اختفى مثل شبح. خرجتُ من الباب. وقفتُ في حوش الدار، نظرتُ الى الدرج الطويل الصاعد الى الشارع. لم أر له أثراً. لقد غافلني وخرج. صعدتُ الدرج قفزاً. ما إن وصلتُ حتى كنت ألهث مقطوع الأنفاس. لم يكن أحد في الشارع سوى سيارات متهالكة تقف على جانبي الطريق. لم أر خليل. أين أفتش عنه؟ لا أريد أن أجهد نفسي في بحث عن شبح بلا طائل. خليل له أساليبه في التخفي. لا تعرف متى يخرج من البيت ومتى يعود. وأبي يفلقني بصبره عليه. عدت أنزل الدرج خائباً. أمسكتُ كتابي. ليس فيه سوى أخبار الحروب والمعارك. كنتُ مستغرقاً في الكتاب، عندما رأيتُ خليل يدخل الغرفة وبيده كأس ماء يشرب منها. رفعتُ حاجبي وفغرتُ فمي من الدهشة. كيف عاد وأين كان؟ لم أحبّ أن أسأله كي لا يعرف أنني خرجت في إثره! عدت أدرس وأتشاغل عنه في كتاب آخر. كان يدخل ويخرج بلا قرار. أحسستُ أنه سيخرج مرة أخرى. بقيتُ متيقظاً وأذني مرهفة لأي صوت قد يصدر من الباب.

بعد قليل سمعتُ صوت الباب. تركتُ كتبي وقمت خلفه. فتحتُ الباب بسرعة فسمعتُ صوت خطوات على الدرج الخلفي المؤدي للسطح. تسحّبتُ بكل هدوء خلفه وصعدتُ الدرج. سمعتُه يدخل غرفة الخزين، فمشيتُ حتى وقفتُ عند بابها. غرفة ضيقة وفي سقفها سدة. ملأت أمي الغرفة بكل عدّة الشتاء: صوبات الكاز وجرارها والسجاد العتيق. وملأ أبي السدة بالعدد والصناديق وألواح الخشب التي كان يستعملها في الفرن والأكياس والكتب القديمة. سمعتُ صوت تسلّقه على السلّم. دخلتُ غرفة الخزين من غير أن يحسّ بي. كان في الأعلى داخل السدة. لم أستطع رؤيته، لكنني سمعتُ صوت الصناديق الكرتونية. هدأ الصوت وساد صمت. استغربتُ ماذا يفعل هناك! عرفتُ الان أين كان يختفي عني في أحيان كثيرة كشبح. المكان ضيق كالزنزانة بوجود كل هذه الكراكيب. بعد قليل أحسستُ بصوت أنفاسه يتململ ويتحرك كأنما يريد النزول، فأسرعتُ خارج الغرفة. نزلتُ الدرج ودخلتُ البيت. انتابني الفضول. ماذا كان يفعل خليل في السدة؟ ماذا خبّأ هناك؟ بعد قليل خرجتُ، وصعدتُ الى غرفة الخزين. تسلقتُ السلّم وأنرتُ السدة. كانت رائحة الهواء الرطب والعفن تنبعث منها. منذ مدة لم أصعد الى هناك. الغرفة ملأى، فلم أعرف أين أضع قدمي. وأخيراً حشرتُ نفسي بين الصناديق. أخذتُ أنظر في زواياها. لم يكن هنالك شيء غير عادي. فتحتُ بعض الصناديق. كانت مليئة بكتب مصفرة قديمة. استوقفتني بعض الكتب بغلفها القديمة: "بين القصرين"، "السكرية"، "شجرة اللبلاب". وقعت عيني على كتاب آخر. من الذي أحضره الى هنا؟ أمسكتُ به. كان ضخماً مليئاً بالصور والرسوم. شيء جديد أراه للمرة الأولى. هل هو لأبي؟ ولماذا يحتفظ به؟ أم لخليل وخبّأه هنا؟ دارت في رأسي فكرة. عرفتُ لماذا يتسلل خليل الى غرفة السدة ويجلس فيها. تملّكني الفضول. أخذتُ أقلّب أوراقه وأنظر في رسوماته. اشتعل الفضول أكثر! كانت الكلمات أكثر مما يستطيع ولد في مثل سنّي أن يحتملها! شعرتُ بالخوف. خفتُ أن يأتي أبي فجأة، ويراني هنا أمسك الكتاب. ستكون فضيحة!

أعدتُ كل شيء مكانه خشية أن يكتشف أحد أنني كنت هناك! نزلتُ، ولكن لم يزل بي شوق وإثارة لقراءة المزيد! بقيتُ أفكر فيه المساء كله. عدتُ في اليوم التالي وجلستُ كطفل مقرور فوق الصناديق، وأنا ألتهم الكتاب. كان ضخماً جداً وحروفه صغيرة. لكن كلامه ورسوماته كانت لا تقاوم! أحسستُ أنني في عالم آخر. تكشفت لي اشياء لم أكن أعرفها من قبل! لم أعرف من أتى به الى هنا. ربما لأبي ووجده خليل، وصار يأتي ليقرأ فيه بين حين وآخر مثلما أفعل الان! وربما أحضره خليل من عند أصحابه، وهرّبه الى السدة! لم أعد ألاحق أخي مثل السابق. صرتُ مشغولاً باختلاس القراءة في الكتاب السرّي!

استمر خليل يتردد على السدة فصرتُ أكثر حذراً من ذي قبل. خفّ اهتمامي بالأمر بعد فترة. عدتُ أطارده مع أصدقائه مرةً أخرى. وذات يوم فاجأته بينهم. نظر اليَّ بغضب وعصبية، وراح يشدّ بي من قميصي ويدفعني بقوة، ويهدّدني. تناول حجراً وأراد أن يرميه عليَّ فهربت. أخذ يلاحقني وأنا أجري. أصابني حجر في رأسي. آآآخ... كان مؤلماً. وقفتُ أتحسس رأسي. رأيتُ على راحة يدي بعض بقع الدم. أخذتُ أصيح عليه ليتوقف، لكنه استمر. صرت أبكي وأتوعده بصوت نشيج مكلوم. قررتُ أن أردّ له الصاع صاعين! في المساء عندما عاد أبي متعباً من الفرن. أخبرتُه بما يفعل خليل في السدة. لم يعر أبي الأمر اهتماماً. ولكن عندما ذكرتُ له اسم الكتاب، انتابته نوبة غضب وتغيّر لون وجهه، وأصبح متورداً وعيناه تقدحان بالشرر. عندما رجع خليل في الليل لم يهدأ أبي من تأنيبه. أقسم أن يغلق السدة بمفتاح، والويل لمن يفكر في فتحها! لم يحر لخليل جواب، فقبع في زاويته يسمع وعيناه نحو الارض!

في نهاية السنة أنهى خليل دراسته الثانوية. كنا نجلس نشاهد التلفاز ذات مساء، فطلب من أبي أن يأخذ مفتاح السدة. استغرب أبي الطلب. قال إنه يريد أن يأخذ الدنانير التي كان يخبّئها هناك. نظرنا اليه باستغراب. منذ متى يعرف خليل التوفير؟ اعترف أنه كان يخبّئ مصروفه وكل ما تجمّع لديه في أحد الصناديق الكرتونية. قام أبي وأحضر المفتاح الذي كان يخبّئه، وأعطاه اياه، وقال لي بيني وبينه: "إذهب معه. لا بد أن هذه حيلة". ذهبتُ مع خليل وصعدنا الى غرفة الخزين. كان المكان ضيقاً ورائحته غريبة. لم نستطع الوقوف فيه لأن السقف منخفض. فتح خليل أحد الصناديق الكرتونية. مد يده. لم يكن هناك سوى نشارة من الورق. فتح صندوقاً آخر كانت هناك لا تزال بعض الكتب المصفرة وقد التُهمت أطرافها. لم يكن الكتاب السرّي هناك! سمعنا صوت جلبة بين الصناديق. شعرنا بخوف. أعرفها من حركة أرجلها. فتح خليل صندوقاً آخر بحذر. كانت هناك أربعة منها تختبئ فيه وحولها نشارة من الورق!

الخميس، يوليو 21

مجاز خفيف لنضال برقان



"مجاز خفيف" لنضال برقان

البحث عن لغة أخرى للحب
إياد نصار


* نشرت في جريدة "النهار" اللبنانية بتاريخ 17/7/2011
  
في "مجاز خفيف" لنضال برقان كثير من الشاعرية المستندة الى رؤية تكاملية تطرح العلاقة بين كيمياء الحب في أطواره المختلفة، واللغة بوصفها وسيلة التعبير العاجزة ذات الاشكالية عن حالة الوصال المفقود بين العاشق والمرأة الحلم. "مجاز خفيف" نسيج شعري مشغول بعناية مستندة الى رؤية انسانية وفكرية واعية وغير تقليدية، وهو المحطة الرابعة في تجربة برقان الشعرية، الذي يبدو منشغلاً في ديوانه باستكشاف جوانب أخرى على صعيد فهم النفس الانسانية، وارتباط اللغة ذاتها ودلالاتها، في موضوع الحب والمرأة، لأجل بناء علاقة جديدة بين الشاعر العاشق والمرأة، التي لا تمنحه الالهام، أو تثير فيه شهية النظم وحسب، بل تصبح هي ربة الشعر التي تخلق اللغة والمعاني التي يكتنفها الغموض، في تعبير ضمني عن تباعد التواصل، وعجز انساني أمام ما يشبه قدرتها الأسطورية. هكذا يعبر عن أمنيته في أن تقوده كمعلّم الى حيث يستطيع الرؤية عندما تتكشف له الاسرار، فكأنما المرأة تصبح في أحد تجلياتها إلهة للشعر: "تقولين ما لا أرى من كلام/ وتمضين دون مصابيح في عتمة الحب/ .../ سأقول بأنك مبهمة كي تضلّ الحكاية/ بينا على مهل أتملّى وضوحك فيّ/ وأنأى".

تعكس معظم القصائد معاناة العاشق أمام تجربة الحب التي تتشح بصمت المرأة، وغموضها، وغيابها، فيتعمّق الاحساس بعبثية اللغة، كأنما تستحيل الكلمات الى ليلٍ من العتمة، فلا يرى المحب انعكاس تعبيره عن حبه وعذابه، وينتفي الاحساس بمعنى الحب ذاته، كأننا نمارس لعبة التخفي حتى يضيع الحب من بين أيدينا: "ونحن، إذ في ظلمة الكلمات نجلس/ هل عرفنا الحب؟". ويتابع في قصيدة "عتمة في الكلمات" موضوع الحب المصلوب على خشبة الزمن. يلتقي الحبيبان، لكن اللغة تبقى مغلفة بالغموض فلا تمنح نفسها لهما للتعبير كما ينبغي، كأنما الكلمات في عتمة، والحب لا يُرى. تتابع القصائد انهيال الصور التي تعمق الصمت والوحدة والاحاسيس التي تبقى رهينة الانتظار. وتؤكد في مستوى رمزي آخر أن اللغة هي أساس التجربة والاحساس بمعناها، فالصمت والمجاز والتلميح والايهام والغموض تقتل، بحسب القصائد، معنى الحب الحقيقي الذي يبحث عن لغة أخرى تمنح الخلاص والثورة، وتسير هادرة كالنهر نحو البحر.

ترسم قصيدة "مرثية أخرى" ملامح تلك العلاقة بين الحب والاحساس بتحقيق الذات واللغة. يمنح الحب شعوراً بالانطلاق والتحليق الى عالم اللغة العلوي حيث تصبح الكلمات قادرة على التعبير عن الحلم، ويضفي الحب على الشاعر احساساً بفرح كغيمة ماطرة. غير أنه سرعان ما يتبدد احساس الشاعر بالحب الذي صار قرين الحياة أمام اعتيادية الكلمات، ويقع مرة أخرى فريسة الكلمات الغامضة التي تقتل الرؤية، وتحيل كل شيء بحراً من الظلام، في اشارة الى الحياة التي تصبح مثل غابة موحشة لا يقين فيها في ظل غياب التعبير عن الحب الحقيقي. يطوّر برقان الاحساس في نفس قارئه تدريجيا لينتقل الى مستويات أعلى، فغياب الحب يشبه وقوع السماء على الارض التي غدت حطاماً مؤذناً بالنهاية: "وأينك؛ منذ كسرتُ السماء/ وليس على الأرض غير حطامي/ وأينك، ثمة نظم كثيف/ يجر دمي باتجاه الختام".

تقدم بعض القصائد حالة من التناقضات الغامضة الغريبة التي يمر بها العاشق. ففي حين يشعر بأن كل شيء حوله صامت لا يجيب، وبأن الكلام مات على شفتيه، وبأنه وحيد في عالمه لا يسمع سوى صدى صوته، يظل متمسكاً بحبيبته التي تصبح مثل تعويذة تحميه من الاخطار. لكنه بقدر ما يستشعر معنى وجودها لحياته، يلعنها، لأنها بعيدة، وهو يقاسي الجوع العاطفي. وبكثير من الرمزية التي تتفادى التصريح وهي تدخل موضوعاً يحاذي تخوم الجسد، فإن برقان ينجح في تجسيد علاقة العاشق بحبيبته الى أقصى حدود الكشف الحسي الخفي الشفيف، حيث تصبح مصدر الحياة والارتواء والتسامي وتحقيق الرغبة، وفي الوقت ذاته تنطوي على الموت، كأنما تسير الامور في دورة الحب والرغبة من ثوران الى خمود وهكذا: "فأسير خفيفا وأدفقُ حيث تفيض الحياة على/ ضفتيكِ/ وأمتد فوقهما كالحشائش/ أو مثل ليلٍ يفرّ الى حتفه".

تبرز قصيدة "حنين" التي تفتتح الديوان، الكثير من الاستعطاف والتمنيات التي ترتبط برغبة الشاعر في إدراك ذاته الكلية، وتحقيق أحلامه التي تمور في خفايا الصدر، لتنتقل من مستوى الكلام الى الفعل، لكنها تنطوي على مقارنة تعكس حال الحب ذاته. يشعر المتكلم أن المرأة لا تمنحه سوى الكلام، ولا تأخذه الا الى الاحلام، بينما يسعى الى لقاء من نوع آخر، وخلال هاتين الحالتين تظل المرأة بعيدة غامضة كالحب نفسه. مفردات القصيدة حداثية واستعاراتها ذات انزياحات، تركب صورتها الشعرية على أساس بصري من وحي الطبيعة.

يمتاز شعر نضال برقان بتوظيف صيغ الفعل المضارع كثيرا بشكل متتابع للدلالة على آنية الصورة المتحركة واستمرارها اللازمني. كما يتابع نحت الصور في عبارات متتابعة متلاحقة: "وينتظران من أبدٍ قطارَ الحب/ بينا الحب خلف الباب منصوباً بغير محله/ الريح تأكله على مهلٍ/ وينتظران من أبدٍ بصمت غامق".

تلجأ قصائد برقان الى توظيف الحوار والاسئلة المثقلة بالحيرة والتعجب لتعزيز احساس القارئ بمدى المعاناة، واظهار براءة الاحساس لدى المتكلم، الذي يخنقه ألا يرى الحقيقة التي تمنح مشروعية الحب. وتركز القصائد على ابراز الموسيقى الداخلية التي تستحضر في النفس ايقاع القصائد الغنائية الاندلسية، لكن الاحساس سرعان ما يتبدد أمام صوره الجديدة: "لا تبتعد يا نهر، لا تترك فمي/ من غير ما كلمٍ، ولا قلبي ظمي/ عيني بعينك في الزمان ولا أرى/ إلا سواك كأنني ليلٌ عمِ/ وكأن ما بيني وبينك واضحٌ/ حدَّ الغموض فلا أراك وأنت تحرس أنجمي/ لا تبتعد يا نهر إلا في دمي".

تطرح القصائد مفاهيم صوفية فكل شيء يعود الى الارض التي تغدو الام الكلية، وفي قمة لحظات الاحساس بالحب تتسامى الروح الى عرش من تحب، ويصبح المحبوب أساس الحياة، الذي يمسح عن المتعبين غبار الروح، كما تطرح بعض القصائد تساؤلات كونية مفعمة بالشك والحيرة والاحساس باللاجدوى حول وجود الحقيقة ومعناها.

تقدم قصائد برقان تنويعات على الصور الحسية التي تتداخل فيها الاصوات والالوان والحواس، غير أن الصور المحسوسة، هي مقدمات تحفز الذهن لإعطاء أبعاد مادية، وتجسد المفاهيم المجردة وخصوصاً ثنائية الحياة والموت، التي تتردد كثيرا في الديوان كبديل موضوعي من حضور الحب وغيابه في حياتنا. ويظل الشاعر يردد مفهوم الاحساس بالضياع وغموض اللغة التي لا تعرف كيف تستولد القصيدة الحقيقية. يقول في قصيدة "كلام في الحديقة": "في ظلمة، حطّ الصراخ على فمي/ فأضعت في بحر القصيدة خاتمي/.../ لو تعلمين، الموت يعصف جانباً/ وأنا أشمك، بينما قلبي عمِ".

تمتاز قصائد الديوان بتتابع الصور والاستعارات والتشكيلات الفنية وتداخل المؤثرات اللفظية والبصرية على نحو مكثف ينم عن قدرة الشاعر على بناء المشهد الشعري، وتدور معظمها في فضاءات علاقة الشاعر بالمرأة، وتأثيرها على اللغة، وتقدم مظاهر من لغز الحب السهل الممتنع. وتجمع قصائده بين الجدة في ابتكار الصورة وإنطاق المجرد، وبين اضفاء التأملات الفلسفية على معاني الحياة والحب والشعر، ولعل قصيدة "شرفات لا تخص نجومك" من النماذج المبهرة التي تجسد توجهاته.

تظل تتردد في كثير من القصائد مفردات رئيسية كأنها تشكّل معجم برقان الشعري الذي يستمد منه جملته التي تعبر عن فضاءاته وصوره. فهناك الصدى، والظلام، والحرب، والعتمة، والوحدة...الخ، كما يبدو للقارئ أن برقان يميل الى مفردات معينة في شعره تظل تظهر بين حين وآخر مثل كلمِ، ظمي، العدم.

تميل لغة الديوان الى المزج بين مفردات لغة شعرية حداثية تنزع الى بناء صور غير تقليدية فيها تشيكلات سوريالية، ومفردات مستمدة أحيانا من نادر اللغة وقديمها. تستدعي قصيدة "وجه مالك بن الريب" تلك القصيدة المشهورة من الشعر الأموي، وتتناص معها في اعادة تقديم قصة الموت وحيداً غريباً بعيداً عن الديار الا من الشعر الذي يلاحقه ويقيم معه أنى ذهب، لكنه يضفي على القصيدة ثوباً جديداً يلائم موضوعه. ومن أجمل قصائد الديوان أفكاراً وصوراً واستعارات وموسيقى داخلية وايقاعات هي تلك المسمّاة "مباهج فلكية"، وهي فعلا احد مباهج الديوان. تبدو احتفائية بالحب، والمرأة، وتعبيراً شفيفاً ذكياً بسلاسة عن تفاصيل جسد المرأة لابراز قوة تأثير الحب الحسي: "في صباحك أنسلُّ من خدري/ دافئاً ومضيئاً/ أغانيكِ صافية في فمي/ في يدي يترقرق جدولك الذهبي/ وقد عاد دون أذى لطفولته/ ما تزالين نائمةً دونما غبشٍ/ أتحسس جسمكِ/ ثمّ أعود الى خدري".

ينحو الشاعر في بعض القصائد مثل "قصائد قصيرة" الى التنظير حول ماهية الشعر وارتباطه بالرؤية والرمز والمجاز، وجماليته في التلميح لا التصريح ، وعلاقته بالشاعر جسداً وروحاً، وعلى رغم الجانب التأملي التجريدي، إلا أنه لا يتخلى عن جمالية العبارة الايقاعية المشحونة بالحب، وهنا يبدو موزعاً بين قطبين هما معنى حياته كلها: الشعر والمرأة. من هذه الاسطر يبدو أن الشاعر كان موفقاً في اشتقاق عنوان الديوان: "متأرجح بين الزمان وظلّه الممدود في الكلمات/ بين الكشف من غير انكشاف/ وانعتاق الرمز في الجسد الموارب للقصيدة/ هكذا آتي وأذهب في المجاز بخفة/ وأطل من جسدي عليّ بلا سواي".

تطرح بعض قصائد الديوان في الثلث الاخير منه قضايا أخرى غير الحب والمرأة، مثل الوطن ومحنة الضياع والتشرد والمنفى واغتيال الحلم، وتبادل الشجن مع الاصدقاء، ويبرز منها على نحو غريب تلك القصائد الى تعبّر عن الرغبة لمعرفة كنه الموت، واتخاذه صديقاً لمعايشة التجربة موقتاً من دون خوف منه. وعلى رغم أن الشاعر يقر بأنه ذلك الساحق الصامت الابدي، إلا أنه يعتقد أن الموت في حقيقته هو غير تلك الصورة التي نحملها عنه، وغير ذلك الاحساس الذي يرتبط في أذهاننا: "انما بي اشتياق لمعرفة الموت أكثر/ بي رغبة لزيارته كصديق/ نسير معاً".

مجاز خفيف نحت شعري ذو مستوى عال فنياً ولغوياً، يستلهم الرمز والايحاء والاسقاطات التأملية، ونقل المواضيع التقليدية للشعر الى آفاق ابعد من خلال التجديد وتطوير رؤى فكرية غير تقليدية للنظر بها اليها.

الأربعاء، يوليو 20

تأملات في تحولات الشعر والرواية


تأملات فـي تحولات الشعر والرواية

اياد نصار
* نشرت في مجلة أفكار الصادرة عن وزارة الثقافة الاردنية - العدد 269 /2011

كتب عباس العقاد قبل قرن من الزمان في مقدمة الجزء الثاني من ديوان ابراهيم شكري الذي طبع في سنة 1913 يقول: "إنما الشعر حقيقة الحقائق ولب اللباب، والجوهر الصميم من كل ما له ظاهر في متناول الحواس والعقول"(1). وقال في المقالة ذاتها: "فاعلم أن الشعر شيء لا غنى عنه، وأنه باق ما بقيت الحياة، وإن تغيرت أساليبه وتناسخت أوزانه وأعاريضه، لأنه موجود حيثما وجدت العاطفة الانسانية، ووجدت الحاجة الى التعبير عنها في نسق جميل وأسلوب بليغ"(2)، وأضاف مؤكداً الحاجة الى الشعر وقدرته على البقاء: "وإذا كان الناس في عهد من عهودهم الماضية في حاجة الى الشعر، فهم الآن أحوج ما يكونون اليه بعد أن باتت النفوس خواء من جلال العقائد وجمالها، وخلا الجانب الذي كانت تعمره من القلوب"(3).

ولو بقي العقاد على قيد الحياة الى الان لراعه مصير الحكم الذي أطلقه، ولأحزنه حال الشعر العربي، بل حال الشعر على مستوى العالم ككل. ويبدو أن العقاد مثل كثير من الشعراء والنقاد، وكما هو واضح في كلماته، لم يكن يظن يوماً أن الشعر يمكن أن يوجد بغير الأوزان والاعاريض التي ذكرها. وأن الحاجة اليه ستستمر ما دام الانسان على قيد الحياة بمعايير الشعر نفسها التي عرفها دون تغيير، وبعبارة أخرى بالقواعد والمعايير والاشتراطات نفسها التي تحكم عملية الابداع ذاتها. ولكن تاريخ الادب العربي أثبت خطأ مقولاته.

كانت هناك ثورتان كبيرتان أسهمتا في تغيير المفهوم النمطي الشائع عن الشعر، وأزعم أنهما ذاتهما قد أسهمتا في سيطرة الرواية فيما بعد: الثورة الأولى تتمثل في ظهور الشعر الحر في العالم العربي. ولكن الأهم أنه رغم الدفعة المستقبلية القوية التي وفرتها ثورة الشعر الحر لانتشار الشعر على نحو واسع بين الجيل الجديد من الكتاب والقراء على السواء من يوم أن ظهر في مقابل هيمنة الشعر التقليدي، ورغم نجاحه في بث روح التجديد في الشعر، وجعله زادا يومياً للمواطن العربي، إلا أن كرس مفهوما خطيراً اتضحت خطورته على الشعر فيما بعد. لقد فتح الشعر الحر عيون العرب على إمكانية التحلل من أوزان الشعر وأعاريضه وبحوره ومعاييره التقليدية، والاحتكام الى مفاهيم تجريبية جديدة تحطم الاطر الكلاسيكية.

وبقدر ما أعطت هذه الثورة من روح جديدة لسيطرة الشعر على المشهد الابداعي العربي، إلا أنها حطمت سيطرة التقليديين من الشعراء ونقادهم ووسائلهم الصحفية، وهكذا توارى محمود سامي البارودي وأحمد شوقي، وظهر على الساحة صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، وتوارى عبد الكريم الكرمي ليحل محله محمود درويش، وتوارى الرصافي والزهاوي وجاء السياب ونازك الملائكة اللذين ملئت أشعارهما الدنيا وشغلت الناس، وتوارى خليل مطران وبرز يوسف الخال وأدونيس. وتراجع تأثير مجلات الرسالة والأديب وغيرها وحلت مكانها مجلة شعر.

في خضم هذا كله، يجب التنويه الى نقطة في غاية الأهمية وهي أن ثورة الشعر الحر غرست في نفس المبدع العربي، أو من وضع خطواته الاولى على طريق الشعر، ومن خلفهما القارىء ، مفهوماً مهماً وهو أن الشعر يقبل التجديد، ويمكننا الخروج على الاطر السابقة نقدياً ولغوياً ونحوياً وشكلياً. ولذلك وبرغم ما قام به رواد الشعر الحر ومن عاصرهم أو تلاهم من الاصوات الشعرية التي كان لها حضور وتأثير بارز طيلة القرن العشرين، فإن الرغبة في البحث عن الجديد، وتقبل التجديد، وتكريسه ليصبح ممارسة راسخة قد تعزز أكثر من ذي قبل. وصار بالامكان كتابة الشعر دون التزام بقواعد الشعر والشكل واللغة المعروفة، ومن هنا ظهرت قصيدة النثر، ثم ظهرت النصوص الحرة التي لها ايقاع الشعر ومزاجه، ولكنها في الوقت نفسه ليست من الشعر ، وبقيت عصية على التصنيف.

أما الثورة الثانية التي كان لها دور بارز في التحولات التي أصابت الشعر والرواية على السواء فهي ظهور الشبكة المعلوماتية على نطاق واسع، وخاصة في العالم العربي في منتصف التسعينيات من القرن الماضي، وما أعقب ذلك مما وفرته من امكانيات هائلة ساهمت بشكل واضح في ظهور الصحافة الالكترونية والمواقع الثقافية والادبية والمدونات والمنتديات وغرف المحادثة والدردشة الصوتية ومواقع الكتابات المنشورة على الشبكة. لقد أتاحت هذه الثورة الفرصة للجميع لنشر كتاباتهم وأشعارهم وتناقلها وتوزيعها، وربما الى حد أوسع بكثير مما كانت توفره الصحافة المكتوبة، وهكذا لم يعد لزاماً وجود ناقد يرضى عن محاولات كتابة الشعر أو عن القصائد المنشورة قبل نشرها، ولم يعد الامر في حاجة الى محرر يقبل ما يحلو له، ويرفض ما يعتقد أنه غير مناسب أو لا يندرج ضمن إطار الشعر. وهكذا انتشرت موجة من كتابة القصائد النثرية والخواطر والنصوص فيما يشبه القصائد الشعرية، وإذا كانت هذه الثورة وكما كان متوقعاً في بداية الأمر قد أسهمت في زيادة مدى انتشار الشعر، إلا أن الشعر التقليدي والحر قد تعرضا لانتكاسة لأنه لم تعد قصائد الشعار الكبار وحدها التي تثير اهتمام القراء، بقدر ما أصبحت تجذبهم كتاباتهم أنفسهم، وكتابات الاصوات الجديدة الشابة غير المكرسة، وهكذا بدأ الشعر العربي المكتوب مرحلة التراجع. والحقيقة أنه ليس الشعر العربي الذي يشهد تراجعاً في الانتاج والنشر والحضور، بل ينطبق على الشعر العالمي أيضاً.

وأظن أن السبب الرئيس المسؤول عن التراجع هو أن هذا العصر قد صار عصر قراءة الشاشة واستخدام وسائل الاتصال التفاعلية وحتى الكتاب ولكن في جو من الذاتية والعزلة الفردية، أكثر منه عصر الاستماع والاجتماع والالقاء، والرواية تناسب هذا التحول في طبائع الانسان. إن تعقيدات الحياة وتداخل القضايا والأزمات بعضها بعضاً، واطلاع الكاتب على مصادر معرفية مختلفة تهطل عليه بشكل مستمر وهادر في كل يوم، وتعدد الاوجه والاقنعة التي يعيش خلفها الانسان الواحد بحسب كل بيئة من بيئاته، من مثل بيئة الأسرة والعمل والاصدقاء والكتّاب والغرباء وعالم السفر والهجرة، قد زاد من قناعة الكثيرين بأن النص القصير سواء أكان قصيدة أم قصة لم يعد كافياً ليلتقط كل هذه المشارب والتجارب والخبرات.

يقول المخرج الباريسي جورج فريدلاند في مقالة عنوانها "جمالية ديستوفسكي": "يقال دائماً إن الواقع ممل ورتيب، ومن أجل الترفيه عن النفس يلجأون الى الفن والخيال، ويقرأون الروايات، أما أنا فأرى أن العكس هو الصحيح، فما الذي يمكن أن يكون أكثر خيالية وغرابة من الواقع نفسه؟" (4) وهكذا صارت تعقيدات الحياة ومشاكلها وأحداثها الغريبة المنجم الأمثل لبروز الرواية الى الواقع على نحو ما نراه الآن. ولكن الرواية مرت بظروف صعبة في الفترة التي كان فيها الشعر في أوج انتشاره. فكيف كان عليه حال الرواية آنذاك.

يذكر الناقد البريطاني آلان ماسيه في كتابه "الرواية اليوم" والذي صدر في عام 1990، بأنه قبل عشرين سنة ـ يقصد في اوائل السبعينيات ـ كان من الدارج أن يتنبأ المرء بما يدعى "موت الرواية"، وبحسب تعبيره: "قيل لنا أنها ستصبح شكلاً فنياً يسرّ القلة من الناس مثل الشعر. إن كل الاجناس الابداعية تستجيب بالطبع الى القلة من البشر، ولكنه كان من المقبول عندئذ القول بأن الرواية قد فقدت مكانتها كوسيلة لنقل التجربة التخيلية"(5). وفي عام 1975 كتب الناقد الاسكتلندي جايلز جوردون في مقدمة كتابه "ما بعد الكلمات: أحد عشر كاتباً يبحثون عن سرد جديد" قائلاً: "السرد لم يعد فناً شعبياً، لكن القلة تؤيد ذلك الان" (6). إن استعادة السرد مكانته ربما كان في جزء منه عائداً الى الجوائز، وما تخلقه مناسبات الاعلان عنها من وعي في أذهان الجمهور. لكن السبب يعود للروائيين أنفسهم أكثر من أي سبب آخر، وقدرتهم على تقديم مواضيع مثيرة للاهتمام بأسلوب ممتع.

وفي عام 1977 حرر الناقد مالكوم برادبري مجموعة من المقالات حول الرواية اليوم، وقد وجد أن "الكثير من الروائيين آنئذ قد اصبحوا يضيقون ذرعاً بمعايير السرد التقليدية، وسعوا الى التجريب وإعادة صناعة الشكل من خلال البحث في الأسس" (7). وقد جاءت معايير السرد التقليدية التي أشار اليها من مصدرين: الواقعية من خلال تأكيدها على الحبكة والشخصية، واستمداد قوتها من عالم واقعي خلف الرواية، وثانيهما الجماليات الحداثية التي ركزت على النموذج والشكل والاسطورة، وبرأيه فإن كلا المصدرين لم يعودا كافيين لاثارة اهتمام الروائيين، وقد حدد مظهرين شكلا برأيه تعبيراً عن استجابة لعدم الرضا هذا. الاول هو الانسحاب من النمط المكرس نحو المستوى اللغوي للنص، والذي يصبح حدثاً كافياً بحد ذاته، والمظهر الثاني كان الاعجاب بالعملية السردية في محاكاة ساخرة للشكل، بحيث تصبح مثل انشاء لعبة مع اجراء التبديل الممكن. والمظهر الثاني عزز مفهوم القارىء بأن جهد النقاد النظريين قد حاصر الرواية، وخاصة أن مثل هذه الروايات التي تستجيب لتحليلاتهم النظرية لم تكن ذات حظوة لدى القارىء العادي. ومن الامثلة على ذلك روايات البريطاني وليم غولدنغ الذي لم تلق كل رواياته التالية ـ باستثناء الاولى "آلهة الذباب" والتي اكتسبت شعبية وصارت جزءا من المنهاج المدرسي ـ سوى اهتمام ضيق في إطار النقد الاكاديمي. وفي ذلك السياق وفي الفترة ذاتها كتب بيرنارد بيرغونزي بأن الرواية الانجليزية لم تعد رواية ولا تقدم سوى متعة متوقعة. واعتقد أنه وكما قال فقد تضاءلت الثقة بامكانية عودة الروح للرواية.

ولكن ثورة الشعر الاولى وثورة المعلومات الثانية مهدتا لعودة بروز النثر مرة أخرى وخاصة السرد بأنواعه المختلفة. وهناك إجماع في مختلف وسائل الاعلام الثقافية في مختلف أنحاء العالم بأن هذا الزمن هو زمن الرواية. وقد نشر عدد من النقاد والكتاب من مثل ستيفن كينغز، ج. إم تايري، ستيفن ميلهاوزر، جيمس ف إنغلش، وندي مارتن، وجيسون بووغ مقالات حول مستقبل القصة القصيرة في العصر الرقمي، وحول مكانة الرواية. ورغم دفاعهم عن مكانة القصة القصيرة وجمالياتها ورشاقتها، إلا أن لغة التفجع والحسرة والدفاع المستميت لإثبات فضائلها ينبيء بأن الرواية صارت سيدة الأنواع الأدبية.

إن تجارب الانسان المتعددة والمختلفة في اليوم الواحد والتي تتوزع على وجهات نظر متباينة ومتناقضة أحياناً في الوقت نفسه بحسب زواية النظر اليها من أقصى الخير الى أقصى الشر، ومن أقصى اليقين الى أقصى الشك، ومن أقصى تحقيق الذات الى أقصى المعاناة، ومن أقصى الفرح الى أقصى الحزن فرضت حتمية تعدد الاصوات والشخصيات والامكنة وتنوع الظلال والمعاني. وأعتقد أنه لم يكن غير الرواية وتالياً المسرحية ما يستطيع أن يستوعب هذا كله في عمل واحد.

إن ميل الانسان الى استثمار تجاربه الفردية الذاتية، والاحتفاء بها واعتبارها على درجة عالية من الغنى والتنوع والجدارة للكتابة عنها، ورغبة الكاتب في الغوص في أعماقه الجوانية وقناعاته للبحث عن رؤيته من مختلف مواقف الحياة، ورغبته في توظيف خبرات الماضي وذكرياته وأحلامه مهدوا الطريق لانتشار الرواية، فالشعر ميدان التجارب الوجدانية الذاتية أو القضايا العامة، والقصة ميدان الايجاز والتكثيف التي تصلح للحديث عن الاخرين أكثر من الذات في هذا العصر الذي يعمق الاحساس بقيمة التجارب الذاتية. إن الرواية تتجاوب مع تطلعات الانسان لتقديم رؤيته المعقدة المتشابكة وتجاربه المختلفة وربما المتناقضة في آن معاً.

إن دوافع تحول الكتاب الى الرواية مختلفة، ولكن لا فرق عندي بين تحول قاص أو شاعر أو صحفي أو ناقد الى روائي. إن خوض تجربة كتابة الرواية مسألة مغرية وثرية، وتنطوي على قدر من التحدي، وتتطلب جهداً كبيراً من العمل على بناء معمار أدبي متعدد الاطياف والعوالم والامكنة والقضايا والشخصيات والازمنة. والسؤال عن الاسباب والنتائج يبدو مثل جدل بيزنطي في حلقة مفرغة، فالسؤال إذا ما كان انتشار وسائل الطباعة ، وكثرة الجوائز الروائية، والرغبة في الشهرة، أو تحقيق عائد مادي، أو غيرها هي التي أدت الى انتشار الرواية عالمياً واحتلالها مكانة الصدارة، أو أن العكس هو الصحيح، أي أن انتشار الرغبة في كتابة تجربة الحياة في شكل رواية في هذا العصر الذي يشجع الذاتية والفردية وبالتالي اتساع الرغبة لدى الكتاب في خوض التجربة هو الذي مهد الى انتشار طباعتها وتسويقها وكثرة جوائزها وشهرتها ليس من السهولة الاجابة عليه، ولكن ما يهمنا هو المحصلة، وهي أن تحول الادب العالمي للرواية صار حقيقة واقعة وحتمية، وهي في النهاية مسكونة بهمّ إعادة اكتشاف الوعي والبحث عن الخلود في الرواية، كما كان يبحث شكسبير عن الخلود في سونيتاته، أمام قوى الموت والطبيعة المتقلبة، أو كما قال جوزيف كونراد "الذي يجعل الجنس البشري مأساوياً ليس كونه ضحية الطبيعة، بل كونه واعياً بها" (8).

الهوامش:
1- الشعر ومزاياه (مقدمة الجزء الثاني في ديوان ابراهيم شكري، 1913)، عباس محمود العقاد، مطالعات في الكتب والحياة، الطبعة الرابعة، دار المعارف، 1987، القاهرة.


2- المصدر السابق

3- المصدر السابق

4- الخيال والمخيلة، فن القصة وجهة نظر وتجربة، عدي مدانات، الطبعة الاولى، الاهلية للنشر والتوزيع، 2010، عمان

5- The Novel Today, Allan Massie, Longman House, 1990, Essex, England.

6- Beyond the Words: Eleven Writers in Search of a New Fiction, Giles Gordon, ed, Hutchinson, 1975, London.

7- The Novel Today, Contemporary Writers on Modern Fiction, Malcolm Bradbury, Alden Press,1977, Oxford

8- Joseph Conrad: Third World Perspectives, Robert D. Hamner, Three Continents press, 1990, Washington DC