الاثنين، سبتمبر 1

لا قمرَ في بغداد!


لا قمرَ في بغداد!

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

العرق يتصبب من جبينه. المخدة مبللة تحت رأسه وعلى جانبيه مثل بقعة ماء كبيرة. الغطاء مكوّم عند قدميه. نام من غير أن يتغطى بشيء. ظهره للأسفل وعيناه تحدقان في السقف. الغرفة غارقة في الظلام، ولكن ضوء القمر يتسلل من نافذة الحجرة من خلف الستارة. الجو حار وجسمه قد التصق بغطاء السرير من شدة الرطوبة. يغمض عينيه. ترتسم ملامح مختلطة على وجهه. تارة يبدو كأنما يحلم بشيء جميل. يحرك شفتيه فتظهر أسنانه البيضاء. تفترُّ عن بوادر ابتسامة توحي بالسرور. وتارة يبدو مقطبَ الوجه عابساً غاضباً. يقطب جفنيه ويزم شفتيه. ترتسم ملامح غاضبة توحي بألم ، أو كابوس يعاني وطأته في هذه الليلة. يتقلب في فراشه. يغمض عينيه ساعة ثم يصحو من وطأة الحمى والرطوبة. لقد احتمل الصيف بحرّه ورطوبته الثقيلة ولياليه التي لم يذق فيها أحياناً طعماً للنوم. ولكن الليلة شديدة الوطأة عليه. لا يذكر أنه عانى مثلها منذ سنوات.

ظلّ يتقلب في السرير. يشخر ويهذي بكلمات غير مفهومة. يعلو صوته فجأة يدمدم ببضع كلمات ثم يهدأ مثل سكون العاصفة. ينادي على ليلى بصوت عالٍ. ليلى .. ليلى .. ثم يخمد صوته قليلاً حتى لا يبقى سوى ملامح حزن ترتسم على وجهه. جسمه يزحف نحو الحافة من غير أن يدري. استلقى على جنبه الأيسر على حافة السرير. استمر يهذي وينادي على ليلى. أخذ يحرك ساقه فجأة بحركة عنيفة ثم يهدأ من جديد. انزلق عن الحافة وسقط عن السرير بكل هدوء من غير أن يحس به أحد. هوى في فضاء سحيق بين سحب الدخان الرمادية الكثيفة. بقي يتقلب في العدم والظلام ويخترق كتل السحب الكثيفة كالجبال. الطقس بارد جداً، والغيوم مثقلة بالماء، والرياح تسحبها هائمة على وجهها كأنه زمهرير الشتاء. أحس بدمه يتجمد في عروقه من شدة البرد والخوف. ظهرت له صور أشباح في كل مكان وهو تائه في الظلام. كانت تقترب منه، تحمله على يديها ثم تقذف به للاعلى فيهوي مرة أخرى. أحس بخوف شديد. أحس بنفسه معلقاً في غياهب الفضاء الرمادي.

بقي يهوي وهو يحرك يديه ورجليه كالغريق الذي يصارع الأمواج. ارتطم بالأرض. صدر صوت عالٍ لارتطامه . قام يتأمل نفسه وينفض الغبار عن ظهره. فأدرك أنه وقع بين شواهد للقبور. إنها بغداد يعرفها جيداً. ربما لن يعرفها كما ينبغي! الارض عشبية طرية مبلولة بالماء. منذ ليلة أمس والمطر يسقط على شواهد القبور يمسح عنها الغبار والنسيان وأتربة المحاجر المهجورة التي انتشرت حول المقبرة وتسللت إلى داخل أطرافها من جهة الشمال والشرق. زاد هطول المطر واشتدت الرياح فامتلأت الطرقات بالوحل والطين وسالت القنوات في كل مكان. زاد نباح الكلاب المتشردة. كلاب متشردة شرسة هربت من عالم البشر الاحياء وأنست للموتى فسكنت بينهم. لقد أفسد عليها المطر والريح وصوت القذائف التي تنطلق بين حين وآخر فتضيء سماء المدينة سكونها الليلي. فقامت تتجول بين القبور. شاهدته يسقط من السماء إلى الارض وشمت رائحته عن بعد. أطلقت قوائمها للريح وأخذت تعدو ناحيته. سمع أصواتها العالية المرعبة. حاول أن ينهض فلم يستطع. زاد صوت نباحها اقتراباً وشراسة. تحامل على نفسه ونهض متمايلاً كأنما سيقع مرة أخرى. أخذ يجري كالأعرج خوفاً منها. بقي يركض وقلبه يخفق باضطراب. صار يتنفس كالمخنوق وصوت خفقان قلبه وهو يلهث من الركض واضحاً. تمكن من الافلات منها ووصل الشارع. تمر السيارات مسرعة من جانبه. الدنيا ظلام دامس. لم يتوقف له أحد. من سيخاطر بحياته ليلتقط راكباً في هذا الوقت على أبواب المقبرة؟!

انتبهتُ إلى صوت أمي تجلس على حافة سريري وتناديني. لم أستطع فتح عينيّ أول الامر. إستجمعت قواي وفركت عيني. كانت تنظر اليّ. وتحمل في يدها كأس ماء. العرق يتصبب من جبيني ، وجسمي يسبح في بركة من العرق. انتشلتني من كابوس مريع. فتحت عينيّ. بدأت أرى ملامح الاشياء من حولي. الشمس في سقف الحجرة. لقد عادت الكوابيس مرة أخرى. أحالت حياتي جحيماً لا يطاق! ليتني أستطيع الهروب منها. تطاردني كوابيس مجنونة كل ليلة. لا تفارقني صورته. إنه ذاته يترصدني دائماً في منامي. صورته لا تنمحي من ذاكرتي وكوابيسي.. هو ذاته في كل واحد منها. صارت صور الحمى والتعذيب والدماء والآهات والقبور من أبجديات كوابيسي. يقول الطبيب أن أعصابي رقيقة مرهفة لا تتحمل الضغوط والقهر وصور التعذيب والموت.

كان صحفّياً مثلي. تخرجنا معاً في الكلية ذاتها وعملنا في صحف مختلفة. كنا مشاغبين مشاكسين. لم تطل إقامتنا في صحيفة واحدة أكثر من ثلاثة أشهر! كنتُ ناقماً لا يعجبه شيء وغاضباً على الواقع البائس في بداية عملي، ولكنني كنت معجباً بمنجد. كان يجد ذاته في ملاحقة المتاعب ، وبارعاً في فتح الجبهات وخوض المعارك. كنت أحذّره فلا يستمع لي. ولكنني في أعماقي كنت أحسده على جرأته التي لم أمتلك مثلها. وبرغم ذلك، فقد كنا فريقاً متفاهماً.

عندما وقعت الحرب في العراق، قررنا أن نجازف. كان الوضع خطيراً ولم يسلم الصحفيون مثلنا من نهايات مأساوية كانت تنتظرهم. كل طرف يعتبرنا عدواً له! كنا نسافر معاً إلى بغداد ونتسلل من بين دروب النار وحدائق الجحيم ،كالذي يتلمّس طريقه بين حقول الالغام التي لا يعرف متى تثور تحت قدميه.

كنا نلهث وراء الاحداث ثم نودّع بغداد. وكنا بالكاد نغيب عنها يومين أو ثلاثة حتى تضطرنا الاحداث للعودة. كان منجد يلمز بطرف قلمه اللاذع أصحاب الموت العبثي ، ويهاجم مشاريع جنونهم العصابي. كنا نرى صور ضحايا أحلامهم المجنونة في كل زاوية وكل شارع. وصارت كل الاماكن مرعبة ومسكونة بالارواح الشريرة ، تثور فيها زوابع الدخان والدمار والأشلاء والدماء في أية لحظة.

ذلك اليوم محفور بأعماق ذاكرتي. لا أظن أنني سأنساه. صعد مجموعة من الملثمين إلى الحافلة. أنزلوا الركاب قسراً تحت تهديد السلاح والضرب بأعقاب البنادق. واقتادوني أنا ومنجد إلى عربة جيب كانت معهم وهم يسوقوننا أمامهم بكل عنف ويركلوننا ويضربوننا بأعقاب بنادقهم ويصرخون علينا. عصبوا أعيننا واقتادونا إلى مكان بعيد. لم نعرف إلى أي مكان أخذونا. ولكنني أظن أنه كان بعيداً خارج المدينة، وربما في أحد البساتين المهجورة التي تركها أصحابها خوفاً. كان يسوده الهدوء بعيداً عن حركة الشوارع والسيارات. ولكن الهدوء فوق الارض كان يخفي عالماً من الوحشية تحتها. رموننا في زنزانة مظلمة ثم فصلوننا عن بعضنا. كنت أسمع صوت صرخات منجد وأناته وهم يعذبونه في الزنزانة التي بجانب زنزانتي. صار التعذيب زادنا اليومي من غير أن يقولوا لنا شيئاً. لم نكن نعرف من هم فقد كانوا يأتون ملثمين ويخرجون ملثمين. كانوا يتفنّنّون في تعذيبنا بتعليقنا من أرجلنا وفي ضربنا بأسواط لاذعة نحس بقسوتها وهي ترتسم خطوطاً حمراء ودماء على جلودنا. تملكنا الخوف والرعب من مصير مجهول.

عذبوا بمنجد كثيراً ولم يتركوه وحده فترة طويلة. كنت أسمع أصواتهم وهم يكيلون له الشتائم والاهانات. عرفت من كلماتهم أنهم ينتقمون منه لأنه لم يسكت على مشاريعهم المجنونة. صبوا جام غضبهم على يده التي تكتب وأطفأوا سجائرهم في صدره وظهره. كانوا يأتونه في آخر الليل وهو يكاد يقع من الاعياء وقلة النوم، ويبتكرون طرقاً جديدة في تعذيبه. وعندما يفرغون منه يأتون اليّ. رأيت الموت في عيونهم وأدواتهم. كانوا يضربونني بأحذيتهم وبالسوط حتى ينزف الدم مني، ويلتهب الالم في كل مسامة من لحمي.

كنت أنهار من شدة التعذيب ويغمى علي. يتركونني ساعات قليلة قبل أن يعودوا مرة أخرى ويغرقوني بالماء حتى أكاد أختنق. سيطرت صور الخوف والتعذيب على تفكيري. صارت مثل كوابيس مفزعة تحاصرني في النوم واليقظة. لقد قرأت عن الحروب وكوابيسها ولكن كوابيس بغداد كانت مختلفة. كانوا غرباء لا تعرف قلوبهم الرحمة.

في تلك الليلة، سمعت أنّات منجد عالية ً من شدة التعذيب. كان صوت أسواطهم وإهاناتهم يثير فيّ الخوف لأن دوري سيأتي بعد وقت قصير. كان يصرخ من غير أن ينهار أو يستسلم. عرفت بحدسي أنهم أرادوا اتباع أسلوب جديد في قهره. راودتني أفكار أنهم سيصفّون منجد تلك الليلة. حاولت أن أتخلص منها وأتفاءل، لكن وقع الصوت وألمه لم يدع لي مجالاً. بدأ يضعف صوت منجد ويتضاءل وتخور مقاومته. مضى علينا تلك الليلة أسبوع على ما أظن. لقد تورمت عيناي ويداي ورجلاي ولم أعد أقوى على الوقوف. لم أعد أحس بالعالم الخارجي. هل يفكر بنا أحد بالخارج؟ هل يتذكرنا أحد أم قد طوانا الاهمال والنسيان في هذا المكان الرهيب؟ هل ما زال يطلع القمر في ليل بغداد أم صار الشفق الاحمر المخضب بالدم لا يغيب من أفقها؟ في تلك الليلة لم أعد أسمع صوت منجد. لم أعرف ماذا حصل له. هل قتلوه؟ أم نقلوه لمكان آخر؟

مرت الليلة ولم أعد أسمع صوت منجد نهائياً. مرت ليال كثيرة وأنا وحدي من غير أنيس في الزنزانة المجاورة. كانوا يحاولون ترهيبي بالقول إنهم سيجعلونني أرى ماذا حلّ بمنجد. ولكنني بقيت صامداً على وشك الانهيار. صرت أفكر بالاستسلام والسقوط. كانت صورة منجد ومعاركه تقفز إلى ذاكرتي فتجعلني أصمد. بقيت ضيفاً ثقيلاً عليهم فترة طويلة. تركوني بعدها وشأني في الزنزانة. ولكنني كنت أتوقع أن يأتوا في أية لحظة وبأيديهم السيوف ويقرأوا البيان وينتهي كل شيء! وفي يوم لم أر أحداً يمر من أمام زنزانتي أو أسمع صوت إنسان. دفعت الباب فانفتح. لم أصدق كيف حصل ذلك. فتسللت خارجاً وهربت. عشت فترة كالهارب المتشرد خوفاً من إنتقامهم. أعرف أنهم سيبحثون عني بشتى الوسائل في كل مكان.

نظرت في عيون أمي تجلس على حافة سريري. مسحت عرقي عن جبيني وتنفست الصعداء. لاحظت أمي هواجسي التي كانت تملأ وجهي، وأحست بكوابيسي التي تهاجمني كل ليلة، فناولتني حبة دواء وكوب ماء لتهدأ أعصابي. ثم قدمت لي فنجان قهوة. صارت قهوتها دوائي الذي تهدأ به أعصابي من دوامة الليل. أخذت رشفة. كانت مرّةً مثل الذكريات.

* اللوحة أعلاه بريشة الفنان العراقي المعاصر منير الكيلاني

هناك تعليقان (2):

  1. قمر بغداد
    بغداد وانتصفَ القمر ...
    فرِحَ الفتى فالليل كُلهُ سهر ...
    ظن الحياةَ كُلها سمر ...
    لهوٌ ولعبٌ حتى السحر ...
    فكُلها سعادةٌ يطردُها ضوءُ الفجر ...
    فليسَ هُناكَ فرحةٌ إلى ويأتي بعدها ضَجر ...
    ولا بُد بعدَ حلوِ العيشِ مُر ...
    فعِجافٌ يأكُلن السِمان واليابساتِ يأكُلن الخُضُر ...
    ويذوقُ ابنُ الفراتينِ بعدَ صفو الماءِ عَكر ...
    ويُنادي ابنُ بغداد السلام : أينَ المَفر ؟

    ردحذف
  2. غير معرف4:57 م

    الإنسان العراقي حقا وقع في خندق مميت محفور بصنعة وقصدية كي ينتهي ويصمت ..

    ردحذف