الأربعاء، أبريل 29

عندما تشيخ الذئاب


قراءة في نماذج الشخصيات
في رواية " عندما تشيخ الذئاب"

بقلم اياد نصار
تفتتح رواية "عندما تشيخ الذئاب" للروائي الاردني جمال ناجي التي صدرت ضمن سلسلة اصدارات التفرغ الابداعي لوزارة الثقافة عام 2008 بمشهد إذلال وتنتهي بمشهد كابوسي مريع وما بينهما تجري صراعات الحب والشهوة والاوهام والاحلام المكبوتة وفن الخداع تحت لباس التدين والفقر والمشكلات الاجتماعية والوصولية السياسية ما بين شخصياتها الرئيسية التسع (عزمي، سندس، الجنزير، رباح الوجيه، جبران، جليلة، فاطمة أم سندس، بكر الطايل، صبري أبو حصة). وتمثل الرواية في حقيقتها تداعي الذكريات على لسان بعض أبطالها الذين يروون تاريخهم لنكتشف أن هولاء الابطال هم الذئاب البشرية التي تدير معاركها بعناد وقسوة وخبث في سبيل تحقيق أهدافها غير أنها كلها تصبح في نهاية الرواية ضحايا بائسة مهزومة منكسرة. تمتاز الرواية التي تشد القاريء منذ السطر الاول بجمالياتها الفنية وبعمق التجسيد المتعدد الزوايا للجوانب النفسية والعاطفية والروحية والاجتماعية والسياسية للشخصيات وبإتساع أفق القضايا التي تثيرها عبر امتداد زماني ومكاني كبيرين. وأعتقد أنها واحدة من أجمل وأمتع الروايات التي صدرت في الاردن في السنوات الاخيرة باقترابها الجريء من ثلاثية الجنس والدين والسياسة حيث يبدو واضحاً أن معارك هذه الذئاب البشرية الذين تصفهم الراوية بأنهم " شياطين في ثياب رجال، لكنهم ظرفاء"! كلها تدور في هذه الفضاءات الثلاثة. والبناء الفني للرواية في هذا الاطار مناسب تماما لرسم شخصياتها وتقديم تفاعلاتها وأزماتها النفسية وطموحاتها وصراعاتها وتناقضاتها وتجاذباتها وتنافراتها. فالرواية هي أصوات هذه الشخصيات التي تحكي ذكرياتها عندما تكبر وتشيخ. وهو مناسب أيضا ليتعرف القاريء على الاحداث من زاوية كل راوٍ في ظل التباين والاختلاف والتناقض الفكري والنفسي والاجتماعي بين هذه الشخصيات. وتمثل أحداث الرواية تفاصيل معاركها العنيفة ، الدموية أحيانا، التي تخوضها على الصعد العاطفية والفكرية والروحية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية. كما أنها في ذات الوقت تقدم صورة بانورامية مصغرة لتاريخ مدينة عمان وتطورها والتغييرات التي صاحبت ذلك بأسلوب نقدي ساخر أحياناً منذ نهاية الستينات وحتى منتصف العقد الاول من القرن الواحد والعشرين حيث تختتم الرواية أحداثها في نهاية عام 2004 وبداية عام 2005.

تستخدم الرواية أسلوب تعدد الاصوات الروائية التي تتعاقب وتتناوب على سرد الاحداث من وجهة نظرها وبلغة تعكس المستوى الفكري والاجتماعي والبيئة الثقافية لكل شخصية ، وهنا تتبدى إحدى نقاط القوة في الرواية حيث يمكن التمييز الواضح في تباين القدرة اللغوية لكل راوٍ من خلال استخدام مفردات تعكس طريقة تفكير كل شخصية ومستواها الاجتماعي والثقافي وكيفية نظرتها للدنيا. ولعل اللغة التي يستخدمها "رباح الوجيه" كاتب الاستدعاءات امام المحكمة والذي يمثل شخصية تقليدية من الطراز الاول بنظرته للامور الذي يستخدم في حديثه عن عواطفه أو مواقفه أو وصفه للشخصيات الاخرى كلمات وعبارات تقليدية تعيد الى الاذهان نمطا من الشخصية التقليدية التي سادت في مجتمع المدينة في فترة السبعينيات واوائل الثمانينات. فهو يتحدث عن المرأة تارة باسم الحريم والحرمة وتارة باسم النسوان وكثيرا من التشبيهات التي يبتكرها تقترن بأدوات الفلاحين حينما شبه خفقان القلب مثل دق القدوم أو الاشارة الى معانقة المرأة بقوله "عبطتها" أو وصف خبث رابعة زوجة جبران بأنها دودة! في حين يكتسي حديث الشيخ عبد الحميد الجنزير صبغة دينية واضحة في توظيف اللغة لايقاع أقوى تأثير في الاخرين ومداركهم ، وللهيمنة على عقولهم وتوجيه تصرفاتهم بأساليب السحر والجن والغموض والعزف على وتر العاطفة الدينية مما يعكس بصورة نموذجية أساليب الخطاب الديني. ونجد أن هذه اللغة المثقلة بإشارت دينية تلوّن نظرته للامور وتبدو منها مشاعر العداء والتشفي بأصحاب التيارات اليسارية الاخرى. وبرغم سياسة الجنزير القائمة على اقامة الصلات والحوار مع السلطة والمعارضة اليسارية الا أنه يبقى يستند الى تصوراته الدينية التي يطعمها بالايات القرانية والاحاديث. كما تعكس اللغة رغبة تلميذه بكر الطايل في تقسيم البشر الى مؤمنين وأشرار مع كثير من التزمت الساذج.
يلمس القاريء البراعة في ابراز المفارقة بين شخصية الشيخ الجنزير وبين تلميذه بكر الطايل. ففي حين أن الشيخ الجنزير يمثل قمة استغلال الدين من خلال تعزيز صورته ومكانته على أنه شخصية تكاد تصل مرتبة الاولياء في نظر الاخرين بفضل تصرفاته وأفعاله الظاهرية، الا أنه يمعن في حقيقة الامر في مخططاته وتحقيق رغباته الشريرة في النساء وسرقة أموال التبرعات للمساجد والسيطرة على الاخرين بطرق خبيثة لا تتورع عن ارتكاب المعاصي والاثام وقتل الاخرين من خلال توظيف الاتباع السذج لخدمة غاياته. بينما يمثل بكر الطايل نموذجاً شائعاً لشاب أصولي غر ليس له تجربة في الحياة يرى الاشياء إما باللون الاسود أو الابيض وهو عاجز عن تحقيق أي إنجاز اجتماعي او اقتصادي يبرر به سبب وجوده أو ينفع به أسرته التي تعيش فقرا مدقعاً فيلجأ الى الحقد على نجاح الاخرين ومحاولة قتلهم كما فعل مع عزمي أو في قتل من يعتبرهم أشرارا وخطرا على المجتمع من الفساد كما فعل بقتل الراقصة.

تروي خمسة أصوات متكررة أحداثَ وحكايات الرواية. وتمثل هذه الاصوات خمساً من الشخوص الرئيسية وهي سندس والشيخ الجنزير ورباح الوجيه وجبران وبكر الطايل بالاضافة الى جزء يتيم يرويه عقيد يسمى رشيد حميدات لم يكن لدوره اضافة مهمة تذكر كثيراً سوى ادخال عنصر الاثارة والتشويق في مطاردة البطل عزمي ومحاولات الايقاع والامساك به المتكررة الفاشلة التي تجعل منه هو أيضا ضحية حيث ينقل الى وظيفة أخرى نتيجة فشله في القبض عليه. ويبدو لي من خلال قراءتي للرواية أن جمال ناجي كتبها وفي ذهنه تصور سينمائي مستقبلي للرواية يحتاج بعض عناصر التشويق. فهناك دائما نهاية مفتوحة أو عنصر غامض تنتهي به معظم فصول الرواية.

برأيي أن أجمل ما في الرواية هو قدرتها على رسم شخصية البطل الاساسي وهو عزمي الوجيه رغم أنه ليس واحدا من الاصوات التي تسرد ذكرياتها ولكن من خلال أحاديث الرواة عنه وعن شخصيته بكل تعقيداتها وغموضها ومطامحها الكبيرة وقدرتها الهائلة على النضوج المبكر وتتبع تطورها وفهم اللعبة الدينية والسياسية وقدرتها في السيطرة على الاخرين مثلما فعل مع سندس أو أن يبقى لغزاً محيراً يفقد الاخرين الثقة في قدرتهم على إدراك مراميه مثل الشيخ الجنزير أو جبران.

تقوم فكرة بناء الرواية على سرد الاصوات الخمسة الرئيسية لحكاياتها أو ذكرياتها التي تربط الاحداث فيما بين شخصياتها بعلاقات متداخلة متوترة مأزومة متجاذبة تارة ومتنافرة تارة أخرى عبر فترة زمانية طويلة تمتد من بداية السبعينات في جبل الجوفة بعمان وحتى نهاية العام 2004 في مناطق مختلفة من عمان. وتكاد تكون الرواية عرضاً فنياً تاريخياً لمدينة عمان خلال هذه الفترة من خلال ابراز التغيرات التي طرأت على المدينة وسكانها. بل يمتد التناول الى ابراز تأثير العوامل الخارجية كالظروف السياسية المحيطة بالمنطقة والمتغيرات الدولية فهناك اشارات الى حرب لبنان وحصار بيروت، وهناك سقوط الاتحاد السوفياتي وما أحدثه من تراجع لدور الاحزاب والسياسيين اليساريين، وهناك الاحداث المستمرة في فلسطين والعراق وأفغانستان.

ولكن في حين يلاحظ أن بعض الاحداث أخذت حيزا مناسباً من وعي الشخصيات إلا أن هناك أحداثاً أخرى مرت عنها مرور الكرام وربما حتى لم تتطرق لها مثل قضية حرب الخليج الاولى وما أفرزته من تأثيرات ضاغطة على المدينة ماليا واجتماعيا وضغوطا اقتصادية هائلة، كما لم تحظ الحرب على العراق او أفغانستان بأي اهتمام سوى اشارة عابرة في معرض حديث الشيخ الجنزير عن بكر الطايل "كان بوسعي الخلاص منه واقصاؤه عن طريق متعهدي الجهاد في العراق أو افغانستان أو سواها".

تنطوي الرواية على مشاهد لاذعة وناقدة لمظاهر الحياة السياسية وفساد الاداء الحكومي بدءا من تأثير العلاقات الاجتماعية والنسائية على قرارات مصيرية تخص اختيار الوزراء كما حصل مع جبران أو مظاهر الفساد الاقتصادي او تحول مواقف السياسيين وتماهيهم مع مواقف السلطة ومبرراتها.

تبرز الرواية بشكل دقيق ومكثف ومتتابع التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية التي طرأت على مدينة عمان التي أفرزت أناسا استغلوا الظروف ومارسوا الفساد حتى تمكنوا من الانتقال من شرق المدينة الى غربها وتنكروا لماضيهم أو بيئتهم التي خرجوا منها كما يظهر في أسلوب حياة جبران ذلك المناضل السياسي الذي صار يبرر التحول الحاد في مواقفه بالعقلانية أو الحكمة أو الواقعية في حين يتصف أسلوب حياته الجديد بالترف والفراغ والتقليد الاجوف للاخرين. تقدم الرواية نماذج لشخصيات طغاها الشر والرغبات المحرمة والفساد واستثمار نفوذها ومعارفها وتمكنت من الانتقال من حياة الفقر والبساطة والاحياء الشعبية التي وصفتها سندس بقولها أن "الانسان هناك ليس هو المالك الوحيد لبيته وفراشه. الملكية موزعة بينه وبين الكائنات الاخرى" الى عالم الغنى والصفقات والتهريب وسرقة الاموال كما فعل الجنزير وعزمي!

تحفل الرواية بذكر اسماء مناطق عمان المختلفة والكثير من محلاتها ومعالمها، وكأن الرواية تقدم صورة توثيقية للحياة في أحياء المدينة وما اعتراها من تغيير. وهناك واقعية كبيرة في نقل الاحداث بين احياء المدينة المختلفة. فهناك جبل الجوفة الذي تنطلق منه كل الشخصيات في مغامرات حياتها المختلفة وهناك أحياء عمان الشرقية مثل جبل التاج والاشرفية والقويسمة وماركا وهناك وسط البلد والمحلات الراقية التي كانت في فترة من الزمن قبل توسع المدينة في الاتجاه الغربي، وهناك الجامع الحسيني وهناك المحكمة في شارع السلط. وهناك جبل اللويبدة وتلاع العلي وإسكان الصحفيين في طبربور، وغيرها من الاماكن والمعالم. وتقدم الرواية صورا عديدة متقابلة متضادة للحياة في جبل الجوفة الفقير المكتظ ، في حين أن جبل عمان يمتاز بالهدوء الى درجة الرتابة والملل. وتقدم الرواية بعضاً من صور الحياة المترفة فتصبح القطة سنزي رمزأ للترف والفراغ والتقليد والمظهرية!

أكثر ما يلفت انتباه القاريء هو هذه الدرجة من الوصف الذي يثير الحواس والايحاءات المباشرة في نقل مشاهد حميمية بلغة مثقلة ملتهبة ولكن في إطار فني أدبي يعرف كيف يوظف الجنس في الكشف عن نوازع الذات الداخلية المكبوتة وفي تقديم صور من استغلال المرأة بطرق بشعة تقوم على الاذلال والسيطرة الى الحد الذي تستعذب فيه المرأة هذه التصرفات لأنها تثير مكامن الشهوة لديها وتعوضها عن حرمان الزواج أو فشله كما في مغامرات سندس مع عزمي ، أو في حديث الشيخ الجنزير عن رغباته الشهوانية واستغلاله لاساليب السحر في علاج النساء للاستمتاع باجسادهن والايقاع بهن كما فعل مع جليلة زوجة رباح الاولى والذي بقي سراً غامضاً يتكشف في نهاية الرواية حين نتفاجأ بأن عزمي ليس ابن رباح الوجيه فهو عاقر منذ الصغر، بل إن أباه هو الشيخ الجنزير ، وقد دمر هذا السر الخطير وأقلق حياة الكثيرين ممن كان لهم ارتباط بعزمي أو والدته.

وبرأيي إن الجانب الابداعي في رواية "عندما تشيخ الذئاب" هو قدرتها الفائقة على رسم وتجسيد الشخصيات ومتابعة تطورها بحيث يلحظ القاريء عملية نضوجها وتأثرها وتأثيرها في الشخصيات الاخرى من خلال الصراعات والازمات المستمرة في علاقاتها بين بعضها، وفي ذات الوقت قدرة الشخصيات في تقديم أزماتها الفردية كنماذج للقضايا التي شغلت الناس في مدينة عمان خلال هذه المدة والتغيرات على طرأت على قيم وسلوك الافراد والسلطة والمعارضة وبروز الجانب الديني وتراجع الجانب الوطني والقومي وسيطرة النزعة المادية الاستهلاكية على احلام وتفكير الفقراء والاغنياء على السواء.

ولا بد لي من الاشارة أنه يستوقف القاريء أن لا أحد من الشخصيات في الرواية يتحدث عن طفولته أو ماضيه البعيد بل ينصب الحديث عن الماضي القريب والحاضر، وباستثناء رباح الوجيه الذي يتحدث عن طفولة عزمي وباستثناء ذلك الموقف الذي خاف فيه عزمي خلال رحلة مع زملائه من الوقوف على مرتفع قرب نهر الاردن، فلا أحد يتحدث عن ماضيه. وهكذا تشعر أن الرواية أسقطت تأثير الطفولة بشقاوتها وعذاباتها وعقدها وحرمانها في أن يكون لها دور في توجيه وعي الفرد، رغم تركيزها على ماضي الشخصيات بدءا من مرحلة معينة.

توظف الرواية عنصر التشويق والغموض بشكل بارع. فنساء الحي ورجاله يحملون سندس مسؤولية موت جليلة، لأنها تزوجت من رباح فأصيبت جليلة بحزن وغم واكتئاب وتوفيت بعد زواج رباح مباشرة بعدة ايام. وتوحي روايات الشخوص الاخرى بأن هذا هو السبب الذي أدى الى وفاتها، لنكتشف فيما بعد أن سبب وفاتها هو كثرة استعمال المبيدات والمطهرات الكيماوية للتخلص من الحشرات حتى تلفت رئتاها. وفي هذا اشارة رمزية بالغة الاهمية وهو هوس جليلة المفرط بالنظافة والتطهر رغم أنها ارتكبئت الخطيئة مع الشيخ الجنزير وولدت عزمي الذي ظن الجميع باستثناء رابعة زوجة جبران أنه إبن رباح! لكن رابعة احتفظت بالسر! وهنا يأتي عنصر التشويق الاهم وهو حقيقة نسب عزمي الذي يتكشف في آخر الرواية فيكون بمثابة المفاجأة. وهناك عنصر آخر يتمثل في ثروة جبران المفاجئة التي ظن الجميع أن سببها هو عثوره على كنز من الذهب أو دوره المشبوه في امداد المقاتلين الفلسطينيين المحاصرين في بيروت بالطعام مقابل المال، لنكتشف فيما بعد كما يدعي أنها كانت حصته من إرث كبير لوالده ظهر فجأة ولم يكن يعلم عنه شيئاً. وذات الشيء في ثروة عزمي الذي ظن التلاميذ أنها كانت من أموال التبرعات بينما قدم له خاله جبران حصة أمه جليلة المتوفاة من إرث والدها!

وأود الحديث عن بعض الشخصيات الرئيسية في الرواية بشيء من التفصيل لابراز معالجة الشخصيات التي قدمتها الرواية ببراعة واحترافية فنية عالية:
سندس:
الصوت الاول في الرواية التي تفتتح بمشهد حديثها عن إذلالها من قبل حبيبها الاقرب الى ذاتها الذي بقيت طول عمرها تجري وراءه كالسراب. وهي الشخصية النسائية الاكثر جاذبية وخلافية في الرواية. ورغم أن عشاقها كثر مثل رباح الوجيه التي ظفر بها كزوجة في مرحلة كانت تعاني خوف الوحدة والعنوسة حين مضت خمس سنوات على فشل زواجها الاول، ومثل الجنزير الذي استمات في محاولة اقناعها بالزواج منه، وعزمي الذي بقيت على الدوام تتأمل الزواج منه رغم أنه في عرف الاخرين إبن زوجها ولكن معرفتها أنه الابن غير الشرعي كان يدفعها لتطارده للزواج منها من غير أن تقدر أن تبوح له بهذه الحقيقة! الكل يلعنها ويعتبرها فاسدة تجري خلف رغباتها. إمرأة مليئة بالانوثة المتدفقة التي تستعذب سيطرة الرجل ولكنها في ذات الوقت لديها اعتداد بذاتها وترفض الخضوع للقيم الاجتماعية. تعتبر سندس أن الرجال لم يفلحوا في السيطرة عليها لأنهم لم يمتلكوا سحر ترويضها أو سر اذابة كتلتها باستثناء عزمي الذي حطم قشرة الغرور لديها واستثار رغباتها الكامنة.

يتصف أسلوب سندس بالتقشف في سرد الحقائق بدون تلوين أو ظلال أو إسهاب في الحديث عن الجوانب النفسية للانسان. بل تهتم بالحركة والظواهر المحسوسة. ورغم ذلك تنجح في تقديم صورة مؤثرة للحياة في جبل الجوفة الذي يبدو أنها ولدت فيه منذ اواخر الستينات. تعاني سندس من نظرات الاهل والمجتمع التقليدية التي تكاد تفترس المطلقة وخاصة بعد فشل زواجها الاول قبل أن يتم "الرجال يحبون النوم مع المطلقات ولكن يحبون أن يتزوجوا من غيرهن!"

تعتبر سندس نفسها ضحية النساء فأحاديثهن عن الرجال في الفراش أشعلت ثورة الجسد لديها، كما أن نظرات الشباب وتحرشهم أشعرها بالحاجة الى وجود رجل يحميها، وهو ما ساهم في زواجها المتسرع من رباح الوجيه الذي كان في سن والدها. ولكنها شخصية محيرة ذات طاقة حامية لم يستطع احتواءها واكتشف عجزه إزاءها. لا يردعها عن مخططاتها شيء ، وإحساسها بالأنا وتحقيق الذات عالٍ مهما كان على حساب الاخرين. ترى أن حقها في الحياة والاستمتاع بها يبرر أفعالها ، ولهذا تكره القيام بدور الامومة. إن أكثر إنسان فهم نوازعها وحاجاتها الجسدية والروحية هو عزمي وقد قال لها ذات مرة: " أنت موهوبة إذا اعتبرنا الغواية موهبة".

تمتليء سندس بحب الحياة. تقول عن نفسها" هكذا الحياة، وأنا أريد أن أعيش". ولذلك تتعرض لتشويه سمعتها وصورتها لأنها ترتبط بعلاقة عاطفية مع عزمي الذي تلاحقه في سبيل إخماد ثورة الجسد. ويشعل رفضه وإهماله لها ثورتها المكبوتة. وهنا تبرز أهمية أول جملة تفتتح بها الرواية وهي إذلال عزمي لها ثلاث مرات، إلا أنها لا تحقد عليه، بل تستعذب إذلاله لها.

يفتح هروب عزمي من بيت زوجها عيونها على العالم. وهنا نشعر بأن هناك تحول مهم في إدراك سندس لأبعاد جديدة في الحياة خارج إطار بيتها "لا أدري ما الذي جرى لي بعدها، فقد بدا لي أن في الحياة ما هو أكبر من بؤس بيتي وزوجي الشارد وأمي ونساء الحي ولغوهن".

ولكن رفض عزمي المستمر لها وابتعاده عنها لم يدم أمام اصرارها وخاصة بعد أن تبدلت أحوال عزمي المادية، واحتفل بعيد ميلادها بطريقة رومانسية حسية بالغة وصفتها سندس باسلوب حميمي مثير للحواس كثيراً حتى شعرت أنها عادت للحياة من جديد. غير أن عزمي ظل يرفض فكرة الزواج منها حتى النهاية. ولكن عزمي إشترى لها سيارة وشقة ووظف زوجها معه في أعماله المختلفة. ويبدو لي أن قبول صبري شراء عزمي شقة وسيارة لزوجته غير مقنع برغم الحاجة وبرغم إقناع سندس له ليقبل بذلك!

إن البوح الذي تقدمه سندس وحميميتها في الحديث عن توقها لعزمي ورغباتها الجنسية فيه يبلغ حداً مفرطاً لا تبرره ظروفها بقدر ما يمكن تبريره في تكوينها النفسي. وهنا نشهد أكثر فصول الرواية حميمية وهي تحطم ركناً في الثالوث المقدس وتقدم وصفاً يمور بالحركة والايحاءات الجنسية القوية لتفاصيل اللقاء الملتهب بينهما!

أما الشيخ الجنزير فيرى فيها شيطان البدن وأدران رغائبه المحشورة! تستجيب أول الامر لنداء الرغبة حين تلمس يداه جسدها بحجة المعالجة وهنا تصبح كأنها شخصيتان حيث تنظر سندس الى نفسها وكأنها إمرأة أخرى للدلالة على الازدواجية التي تعيشها، أما هو فيزداد إصرارا على رغبته الفوز بها. ولكني أود أن أتوقف عند الجزء الخاص بزواج سندس من صبري ابو حصة للمرة الثانية. يشعر القاريء لوهلة بأن زواجها هذه المرة مفتعل. والمبررات التي تقدمها سندس لقبول زواجها للمرة الثانية من صبري لغرض الانتقام منه وإشغال نفسها بالزواج الى أن يعود عزمي ليست مقنعة كثيراً. وفي هذا الاطار نلاحظ أنها سردت قدوم صبري وعرضه الزواج منها وقبولها ووصف حفلة الزفاف ومن ثم رفضها العناية بأطفاله واعطائهما الى جدتهما لتعتني بهما بسرعة كبيرة غير متناسقة.

كما بدأت سندس تتحرر من أوهامها وأحلامها متأخرا بعد لقاء عاصف مع الجنزير في مزرعته وبعد لقائها بعزمي للمرة الاخيرة: "حين جلسنا في شقتي، أحسست بقوة غير مألوفة تسري في عروقي وتحررني من أوهام أو أحلام عبثت بي طويلاً". تنتهي رحلة سندس في البحث عن ذاتها وسعادتها وحريتها بعودتها الى بيت أمها منكسرة بعد أن تكشفت لها الحقيقة أن طريق الجسد لم تحقق لها ما كانت تصبو اليه فتبكي في حضن أمها كالطفلة من جديد! وهكذا تنتهي في عزلة ويأس وجفاف روحي!

عزمي:
رغم أنه غاب صوت عزمي الراوي شكلياً إلا أن حضوره طاغ في الرواية. يستأثر باهتمام جميع الشخوص الاخرى بفضل ذكائه وعلو همته ولماحية تفكيره وقدرته الفائقة على فهم نفسيات البشر وتطوره من مجرد فتى مشاكس كثير الاسئلة بما يكتنفها من جدلية وروح متشككة. تبدأ سندس حديثها عنه بطريقة غريبة غير متوقعة: "هو الوحيد الذي فعلها من بين كل الرجال الذين عرفتهم، ولا أدري كيف استعذبت إذلاله لي"! كما يفتتح الشيخ الجنزير حديثه عنه. خيط مشترك من الاهتمام به لدى كل الشخصيات حباً أو كرهاً يجعله الشخصية الابرز والاكثر جاذبية وإثارة للاهتمام. تمتاز شخصيته بالصمت والصبر كأنما يحمل الدنيا على ظهره كما وصفه جبران. وبالغموض والانغلاق على ذاته كما تصفه سندس. وبأنه لديه جسم شاب وعقل ابن ستين كما وصفه رباح الوجيه.

بدأت حكايته مع سندس عندما تزوجها أبوه رباح الوجيه بعد وفاة أمه جليلة في ظروف غامضة. وقد حمل كثيرون من نساء الحي ورجاله سندس مسؤولية قتلها لأنها السبب الذي أودى بحياة جليلة من القهر كون أن زوجها تزوج عليها، ولكن نكتشف فيما بعد أن هذا ليس سبب وفاتها. وصفته سندس بأن لديه من الكوابح ما يزيد عن اللازم، حتى أنها انفجرت ذات مرة قائلة له: "من أي عجينة أنت؟"

أما حديث الشيخ الجنزير عنه ففيه قدر من التشويق. لقد أثارت شخصيته فضوله وإعجابه، فهو شاب نبيه لا يكسر بسهولة مثل باقي الرجال، شديد الملاحظة، قوي الذاكرة، ولديه رغبة داخلية في التساؤل بعيداً عن المقولات الجاهزة. ومن ساعتها يبدأ الجنزير بالتخطيط لاستخدامه في مخططاته وألاعيبه، ويعتقد أن عقله النابه يمكن إسكاته بالنصوص والطقوس! ويلاحظ هنا النقد الذكي للأساليب التي تعمد الى اسكات أية بادرة للتفكير العقلي لدى اتباع بعض الجماعات كما يفعل الجنزير!

كان عزمي في طفولته محور الخلاف الدائم بين أمه وأبيه. فأمه حانية تريد تربيته تربية ارستقراطية مستمدة من تاريخ عائلتها العريق، أما رباح بثقافته التقليدية الشعبية فهو متسلط بخيل لا يرى في ذلك أي خير بل إفساد للصبي. ساهمت وظيفة رباح ككاتب استدعاءات وقناعاته من كثرة الحالات التي مرت عليه والتي يتنكر الشباب فيها لآبائهم ويبيعونهم في ترسيخ نظرته تلك تجاه عزمي.

ينضم عزمي لدروس الشيخ الجنزير، ويلاحظ أنه لديه قدرة مثله على قراءة الرجال وما تخفيه أحاديثهم وأقنعة وجوههم، وأنه يبقى متماسكا أمام نقد الاخرين أو محاولاتهم النيل منه فيطلق عليه لقب "رمح الله". وفي احدى الرحلات الخارجية الى وادي اليرموك يكتشف الجنزير أن عزمي يخاف من المرتفعات. كما يجد أن لديه قدرة غريبة على تذكر تفاصيل ماضيه وكأنه مشدود بعلاقة ما مع ذلك الماضي لدرجة أنه يتذكر كل آلام طفولته منذ الشهور الاولى حيث يقول: "الحياة خشنة. لم أشعر بنعومتها الا في الاشهر الاولى من ولادتي". ومثلما تثير الاماكن العالية الخوف والهلع لديه فإنها تذكره بماضيه حيث كان يحس أن المسافة بين كتف من يحمله وبين الارض عالية جدا، فيشعر بالخوف حتى ينزل للارض مرة أخرى، وفي هذا اشارة مبكرة نكتشف أهميتها في الرواية فيما بعد حين نعرف أصل عزمي. عندها يمكن فهم الامور على أنه كان لديه قلق نفسي غامض واحساس فطري منذ الولادة بأن مصيره معرض للخطر في أية لحظة بين أيدي هولاء اذا عُرف السر!

يتعرض عزمي لموقف خطير حاولت فيه فتاة إغواءه ليزيد من مبلغ المعونة الشهرية لعائلتها وخططت هي ووالدها للايقاع به واتهامه بالاعتداء عليها لو رفض. ولكن موقفه النبيل في تخصيص مبلغ أكبر مما كانت تظن أو تتوقع جعلها تنهار وتعرف حجم الخطأ الذي ارتكبته. لقد أذهله تصرف فاتن الريشة فقال مقولة تختزل الكثير من المعاني في فهمه العميق للحياة: "تلك الفتاة آية في الجمال، لكنه جمال مهان. أهانته الحياة ونكلت بصاحبته التي لم تبد مهزومة أمامي إنما حزينة، وبين الحزن والهزيمة مسافات.. لقد رايت في عينيها حينياً متكسراً للفرح، فأحسست بفداحة الظلم الذي تمارسه الحياة على أبنائها." ويظهر واضحاً أن نظرة عزمي للفقراء وأصحاب السوابق فيها نوع من التعاطف فهم ضحايا البيئة والفقر والمساكن المكتظة. ولهذا لا نفاجأ كثيراً في نهاية الرواية من زواج عزمي منها.

كان موقف الجنزير طوال الرواية محيراً يتسم بالدفاع عن عزمي وتفهم طبيعة تصرفاته. ويحس القاريء أن هناك شيئاً غامضاً ما لا يعرف له سبباً يجعل من الجنزير متعاطفا معه الى هذا الحد. وفي نهاية الرواية يدرك القاريء السر وهو ما يبرر إحساس الجنزير تجاه عزمي لأنه في نهاية المطاف ابنه الحقيقي!

يستوقف القاريء موقف عزمي من زملائه تلاميذ المركز الذي يقول عنهم: "أحبهم لكنهم ليسوا أهلاً للاعجاب ولا للثقة، فهم مستكينون لفقرهم.. مستسلمون لما ستؤؤل اليه أحوالهم ويعتقدون أن الله خلقهم كي يكونوا هكذا" وهو ما يعكس نظرته للحياة واهتمامه بتحقيق أحلامه في الثراء والنفوذ حتى يصبح شخصية لها وزنها في المجتمع، لكنه يثير حسد زملائه بأعماله وأشغال المقاولات التي يأخذها ويثير الارتياب بتجارة التهريب التي يمارسها ويعطي الجنزير في النهاية سبباً للايقاع به عن طريق تأليب بكر عليه وابلاغ الشرطة عنه التي تنجح أخيراً بعد محاولات مضنية عديدة في القبض عليه.

لعل أفضل وصف لشخصية عزمي هو ما قاله خاله جبران: "لا يقول كل ما عنده! حتى أنني في الفترة الاخيرة لم أعد قادراً على تصنيفه أو تحديد وجهته، فتارة أرى فيه رجلاً متمسكاً بايمانه وأخرى متحرراً، ثم محسناً، فمغامراً، أو صعلوكاً، أو باطنياً، أو مشروع عاشق، أو مرتبطاً بعلاقات غير مفهومة مع أناس لا أعرفهم، وأخيراً على علاقة غامضة مع زوجة أبيه السابقة، سندس!"

اصبح رفض عزمي للزواج من سندس مؤشرا على التحول الفكري الذي أصابه، فبعد أن كان يرفض الزواج منها لأسباب شرعية لم يعد يذكر هذه الكلمة بل أصبح فيما بعد يقول لأسباب قانونية! وتتصف لقاءاته الاخيرة بها بالتوتر والعدائية. تخبره بالحقيقة المرة التي لا يصدقها اول الامر ويظن أنها من الاعيبها، فيأخذ مجموعة من الاطباء لفحص والده فتتأكد له الحقيقة التي تصدمه. وفي مشهد الكابوس الاخير للشيخ الجنزير يقول عزمي أن بدنه هو الحي وأن الجنزير قتله للدلالة أن روحه قتلت وأن الجنزير هو من قتلها.

الشيخ الجنزير:
لعل أفضل وصف للشيخ الجنزير هو الذي جاء ضمن سياق لعبة الاسماء الطريفة التي قام بها جبران كردٍ على ما قاله الجنزير حين وصف جبران أبو بصير بأنه أبو بريص للاشارة الى أنه متسلق كالسحلية، فقلب جبران اسم الجنزير فصار الخنزير! ثم ضحك وقال: "الغريب أنك متدين، مع أن الخنازير لا تستطيع النظر للسماء."

يمثل الجنزير الصورة المقيتة لاستغلال قناع التدين في تقديم صورة خادعة عن الذات للآخرين في سبيل تحقيق رغبات النفس السوداء وأحلامها المريضة ومخططاتها التي تقوم على استغلال الاخرين من خلال تضليلهم ليكونوا ضحايا الغايات الشريرة بينما يحتفظ صاحبها بذات الوقت بصورته النقية الايمانية التي يرى فيها الناس قمة الخير والفضيلة.

يبدو الشيخ الجنزير في النصف الاول من الرواية شخصية في غاية الورع لا يتحدث سوى بلغة القران وقد أدى الحج ما يزيد عن سبع مرات والعمرة ثلاث عشرة مرة. بلغ الخامسة والثلاثين في السنة التي وقعت فيها حرب تشرين عام 1973. وتنتهي الرواية وهو في السابعة والستين من العمر. توحي تفاصيل بيته التي يرويها بأجواء الاولياء الصالحين وأصحاب الطرق الذين يلجأ لهم الناس لفك أعمال الجن والسحر.

يمارس الجنزير اشباع رغباته من خلال ممارسة علاج النساء بالطرق التقليدية في أجواء من الدخان والبخور والنحاسيات والخلطات واستخدام طرقه في التأثير على النساء من خلال إثارة أجسادهن باسم المداواة او ايهامهن بقدراته الذكورية. وهو رجل مزواج حيث تقدمه الرواية أنه متزوج من إثنتين. وقد استطاع إغواء وتطليق حليمة زوجة صديقه الشيخ حميد خلال مداواته له فتزوجها. ولا يكتفي بذلك بل يريد الزواج من سندس ولكنها بقيت ترفض حتى حطمت غروره واصابته بالاحساس بالوهن والانكسار.

ورغم أن الشخوص الاخرى يذكرون الشيخ الجنزير كشخصية أساسية في الاجزاء التي يروونها بالاضافة الى الاجزاء التي يرويها هو ، الا أننا لا نرى أي وصف لملامح الجنزير الا في مرحلة متأخرة نسبياً في جزء ترويه سندس. ولكنها فيما بعد تدرك حقيقة شخصياته المتعددة والاقنعة التي يضعها "وقد راعني أن الشيخ استعاد بسرعة عجيبة نظرته الوقورة السمحاء وملامح الكهل الحاني الذي توحي هيئته بالثقة والاستقامة".

تقدم الرواية صورة رمزية في لنقد الفكر الديني المشبع بنظرية المؤامرة واستغلال التفسيرات الغيبية الميتافيزيقية في تفسير الظواهر، فقد استطاع الجنزير تحويل النظر عن الفساد المالي في المركز في السنوات الماضية الى مسألة استيلاء عزمي على التبرعات في تلك السنة فصار الكل غاضبا منه حاقداً عليه! وهنا يلاحظ أن تأثير الجنزير الواضح على تفكير أتباعه فهم مشبعون بفكرة المؤامرة ضد الاسلام، ويحقدون على عزمي لأنهم يتصورون أنه يأخذ أموال المسلمين! ولكن يعرف عزمي في قرارة ذاته أن أستاذه الشيخ الجنزير ليس بالايمان والهالة التي كان يظنها عندما رآه في غرفته بالفندق في إحدى جولات جمع التبرعات من المسلمين في لندن وهو يخبأ نصف المبلغ لنفسه!

للجنزير طريقة في التقرب من الاخرين مهما اختلفوا معه. ففي الظاهر يبدو معادياً ومتعصباً ضد أصحاب المباديء الماركسية وغيرها، ولكنه يوظف كل علاقاته لمصلحته وزيادة نفوذه. ونلاحظ ازدواجية شخصية الجنزير فهناك وجه متشدد متطرف متمسك بالمباديء يظهر للعامة ويتخذ من المظهر الخارجي وسيلة لترسيخ هذه القناعة لدى الاخرين، ووجه داخلي لا يعرفه سوى من يلتقي بهم في مزرعته.

يعقد في مزرعته لقاءات دورية تجمع عدداً كبيراً من أصحاب القرار ورجال الاعمال والسياسيين من مختلف الاتجاهات. وهكذا تصبح المزرعة أشبه بصالون سياسي تدار فيه الاحاديث والاشاعات وتصنع فيه المواقف والقرارات وتتشكل القناعات في اشارة ناقدة للدور الغائب للمؤسسات السياسية والاحزاب الذي تعوض عنه المزرعة. ونلاحظ الصراع الدائم والمناكفة والمزاح المثقل بالاشارات بين الشيخ الجنزير وبين جبران. ونرى مقدار تشفي الجنزير بجبران بعد سقوط الاتحاد السوفياتي الى درجة أنه اتصل به ضاحكاً ليقول له "غلبناكم"!

يمتلك الجنزير عقلية محترفة تتقن التخطيط والاستفادة من قدرات كل من حوله في مشاريعه المستقبلية. ولهذا تجده يجمع حوله تلاميذ ذوي ميول واتجاهات وقدرات مختلفة بهدف استغلال كل واحد منهم في المجال الذي يتقنه عند الحاجة! يقول عن بكر الطايل: " آثرت الاحتفاظ به في قبضتي لأمر في نفسي"!

يتباهى الجنزير بقدراته الذهنية والفكرية واللغوية، ويعتقد أن مهارات الجمع بين الاضداد ومسايرة التوجه العام ظاهريا والاستفادة من كل الفرص في الخفاء هي التي تمكنه من النجاح والوصول. ويقول في هذا الصدد حول نظرته للحياة: " الحياة سهلة ميسورة في ظاهرها، لكنها معقدة في باطنها، وبين الظاهر والباطن توجد منازل الناجحين من الناس، لأنهم يرون الظاهر ويعرفون الباطن. يكفي أن يدخل المرء في روع الاخرين أنه مقتدر وممتد ومتنفذ حتى يلتفوا حوله، ويصير نافذاً من خلالهم هم وسواهم. لكن هذا لا يتسنى لكل الناس ، فهو نتاج نادر ونفيس لعصارة العقل المتوقد."

شخصيته منغلقة ذات براءة خادعة مثل عزمي الوجيه. إلا أننا نرى هشاشته وضعفه في فشله في السيطرة على سندس أو عزمي. بل إن سندس تصوره بأنه "صار أشبه بتنين هرم ينفث آخر ما تبقى في جوفه من لهيب". وفي فصل متأخر من الرواية نرى الشيخ الجنزير في جو صوفي مع تلاميذه مع ما يصاحبه من دروشة لكي ينسى رغباته وتعلقه بسندس ، ولكنه يشعر بالضعف والهزيمة فيسقط على الارض بين تلاميذه في مشهد رمزي بالغ المعنى يدل على سقوط المثل الاعلى الذي كانوا يرونه فيه، وسقوط النموذج الروحي الذي كان يحاول إظهاره للناس. لم يكن أمام الجنزير الذي بدا يائسا مهزوما منكسرا سوى الوشاية بعزمي فهو كما يقول خانه وعليه ان يدفع الثمن. ولعل صورة المشهد الكابوسي الاخير الذي تنتهي به الرواية دليل على سقوط نموذج شخصية الجنزير وما ترمز اليه حيث يبقى هاجس عزمي يطارده ويقض عليه مضجعه ويتحول الى كابوس يلاحقه.

جبران:
يمثل جبران أبو بصير المعارض والمناضل اليساري الذي يتخلى عن ماضيه وأفكاره وقناعاته ، وإذا كانت لا تموت القناعات كما يقول ، فانها تقبع خاملة ميتة في زوايا الذكريات. ويتحول جبران الى الاهتمام بطموحاته الشخصية وأسلوب حياته وسعادة أسرته بعيداً عن هموم الاخرين ومعاناتهم ويصبح مركز إهتمامه هو تجارته وأحلامه السياسية في الوزارة، ويتولى طوال الوقت تبرير نمط حياته الجديد الذي يتصف بالترف والتقليد والزيف بأنه من حق الانسان التمتع بالحياة ولكن فضول الناس يحرمه من هذا الحق!

يعتقد الناس وخاصة رباح الوجيه زوج شقيقته ، جليلة، أن جبران قد وجد كنزاً مدفوناً من الذهب في جبل الجوفة! ولهذا باع تاريخه وانتقل للعيش في جبل عمان وتغيرت طباعه رغم أنه أشبع الناس كلاما فارغاً عن الفقراء كما يقول!

في حديثه عن نفسه يروي جبران أنه تعرف على زوجته رابعة خلال احدى الندوات الادبية وقد أعجب بها لأنها تملك مقدمات ثقافية ولكنه وجد بعد الزواج أن اهتماماتها الثقافية قد فترت. ويمكن ملاحظة التغير في تفكير رابعة وأسلوبها الحياتي الذي يعكس هوساً بالنمط الاستهلاكي الغربي والغاء كل المظاهر الشعبية العفوية في علاقاتها بالجيران والنساء.

ينحدر جبران من عائلة ميسورة فأبوه كان تاجرا للاخشاب الذي خسر تجارته وأمه من اسرة عثمانية عريقة. يكتشف جبران بالصدفة أن والده ترك وراءه قطعة أرض كبيرة على طريق المطار لم يكن يعلم أحد عنها شيئاً، فباعها واستغل حصته وحصة أخته جليلة التي أعطته اياها ليستثمرها معه خوفاً من أن تقع بيد زوجها فيبذرها.

وفي خضم حصار بيروت في بداية الثمانينات وحين كان المزاج العام ثائراً ، ورغم أن عدداً من رفاقه اتصلوا به للمشاركة في تظاهرة ضد الحصار، إلا أنه تظاهر بالمرض لعدم المشاركة ومضت ايام طويلة لم يعرف الناس أين ذهب حتى خرجت اشاعات تقول أنه كان يمد المقاتلين بالمؤن مقابل مبالغ مالية كبيرة وهذا ما يفسر سبب ثرائه في حين أن الحقيقة كما يرويها من وجهة نظره أنه كان مشغولا بمتابعة الارض التي ورثها عن أبيه!

يصف جبران سنوات الانتماء السياسي بأنها كانت سنوات إنهاك ومعاناة حقيقية لا تنمحي من الذاكرة ، بل تبدو عبئاً على الحاضر تلقي بظلالها عليه وتعكر صفوه! ويبدو واضحا أنه يسعى لنسيان ذلك الماضي لكنه يستعصي عليه فيعيش صراعا بين ماضيه وحاضره ولكن تصرفاته وتطورات الاحداث فيما بعد تبين أن الماضي صار مجرد ذكريات لم تمنع صاحبها من ارتكاب كل الموبقات باسمها!

يظهر جبران في الرواية بمظهر الهاديء العقلاني الذي يتسم بتفكير منطقي يبرر الاحداث ويتفهم الدوافع .. "من حقه أن يقطف ثمار ما تطاله يداه في هذه الحياة" وكأنه بذلك يبرر لنفسه التحول الذي حصل في أفكاره وأسلوب حياته بشكل جذري نحو "الواقعية". ورغم أن جبران يحن في بعض الاحيان الى قناعاته القديمة ويحاول التشبث بها من خلال رفضه لبعض تصرفات زوجته في اقتناء قط شيرازي أو ممارسة الرسم إلا أنه يهادن ويقبل الامر الواقع، بل إن من السخرية أنه في نهاية الرواية عندما يفقد منصبه الوزاري لم يجد سوى القط "سنزي" ليسلي به وحدته!

تتكون لدى جبران قناعات راسخة هي بحد ذاتها نقد مباشر لمظاهر الحياة السياسية. فهو يرى أن اليساري او القومي يبقى محسوباً في نظر الاخرين على ذاك التيار طول عمره حتى لو اصبح من اركان الحكومة! وهكذا يصبح الماضي عبئاً لأن الناس تحاكم الشخص على ماضيه أكثر من حاضره!

يتبدى للقاريء الجوانب المشتركة في تفكير جبران والشيخ الجنزير رغم اختلافهما الايدولوجي الظاهر. فهما يتغاضيان عن خلافاتهما حين يكونان معا في المزرعة كنوع من المهادنة السياسية من أجل تحقيق مصالحهما ويظهران الخلاف والتباين امام الاخرين! يسعل كل منها لتحقيق رغباته وأهدافه الشخصية بكافة الوسائل النفعية والباطنية مع المحافظة على صورة معينة تستند الى الماضي أمام الاخرين.

في الجزء الاخير من الرواية حينما يبلغ الستين من العمر يواصل تبرير منجزاته ويعتقد أنه في أوج العطاء والحكمة لاقناع ذاته بأنه ما يزال له دور مهم برغم التحول الجذري. ولا نفاجأ بعد كل هذه التحولات التي طرأت عليه حينما يعترف أنه نال من ملذات الحياة الكثير وجمع ثروة هائلة الى حد "تخمة الترف". ورغم أنه يزعم أنه لم يكن يؤمن بكتابة المذكرات في هذه السن وأنه لا يرغب في تسلم حقيبة وزارية، إلا أن المفارقة تبدو جلية حينما يختم آخر جزء له بالحديث عن أنه يبحث عن ناشر لمذكراته! بعد أن استقال من الوزارة بسبب القاء القبض على عزمي مختبئاً في فيلته وتيقنه بعدم إمكانية العودة الى الوزارة مرة أخرى!

توظف الراوية مشهدا رمزيا بالغ الاهمية بنوع من السخرية يتمثل في الجلسة الصباحية بين جبران وزوجته قبل أن يصبح وزيرا يتمثل في قراءتها في فنجانه وهو ما يسميه الفنجان السياسي. وهو بذلك يتهكم على ما يجري على أرض الواقع حيث يصبح الاستيزار حلم الجميع وكأنه مسألة حظ ووقت!

مما يلفت النظر أن جبران تطرق مرتين في بداية ظهوره وقريبا من آخرالرواية الى مسألة سجنه في السبعينات بسبب مواقفه وانتمائه السياسي بشكل عابر كمرور الكرام، ولكنه لا يتطرق الى الحديث عن تلك الفترة نهائيا رغم أنه يتحدث بالتفصيل عن ماضيه وعن معاصرته للتحولات التي طرأت على المدينة!

ربما يكون جبران واقعيا الى حد مدهش حين وصف الجوانب النفسية التي يمر بها المعارض حين يصير وزيراً بقوله: "إن أول ما يلفت انتباه المعارض حين يصير وزيراً هو تلك الحيل النفسية التي تتكاثر وتتوالد لتخلق لديه يقيناً بأنه يستحق الوزارة بعد تاريخه النضالي الطويل". وهنا ترصد الرواية بشكل دقيق وطريف التغيرات اللفظية والنفسية والاجتماعية والخارجية التي يمر بها المعارض حين تغريه مناصب السلطة. بل إن جبران يمارس الفساد الذي كان ينتقده فقد توسط لشقيق زوجته ليصبح رئيس ديوان إحدى الدوائر شبه الحكومية!

مما يثير الانتباه هو هذه النهايات البائسة المنكسرة المهزومة التي تجد كل الشخصيات الرئيسية في الرواية أن مصيرها قد إنتهى اليها وهذا هو المصير الذي ينتظر الذئاب عندما تشيخ ولا تعود قادرة على اصطياد أو إمساك فريستها!

* لوحة غلاف الرواية أعلاه للفنانة العُمانية نوال بنت سعيد أحمد عتيق

الأربعاء، أبريل 15

أوراق ذابلة


أوراق ذابلة

اياد نصار

كالطفل ِ كان القلبُ في هواكِ
يفرحُ .. يضحكُ ويبكي
تحملهُ يداكِ
فيسكتُ وعلى الوجهِ ابتسامةٌ
من رضاكِ
تهدهده أشعارُك فيغفو،
تداعبه همسةُ الحبِ من شفتين
تمرُ ناعمة ً كنسيمِ صِباك
ملولٌ ينامُ ويصحو
يركضُ اليكِ .. تبتعدين في المدى
كسرابٍ..
كطيفٍ
هيهاتَ أن يراكِ


يا لبرودة القلبِ .. قلبـِكِ
أكنتِ تفرحينَ لعذابي
وانطفاءِ روحي
ببعدكِ؟
كم كان يعتصرني
من حُرقةِ الوجدِ بكِ
الاسى وأنتِ تزيدين في
احتراق ِ شبابي


صلّى القلبُ في معبدِك
صلاتَه الاخيرة ْ
وبكى من لوعتِهِ شوقاً
فترقرقتْ دمعتُه
وذبلتْ زهرتُه
النضيرة ْ
تنهّدَ القلبُ حسرةً
ثم ارتحلْ
أين مني يداك الحانياتُ
أين ضاعت ذكرياتٌ ماضياتٌ
وأملْ
هواكِ كان مطرَ الحياة
لاوراقي الذابلة ْ
ما عادت أمطارُ الشتاءْ
تهطلُ كلََّ بياتْ
ما عادت تعبرُ من سمائي
نجومُكِ الآفلة ْ
صيفُكِ قيظٌ طويلٌ بلا انتهاءْ
اصفرّتْ أوراقي
وتمايلتْ بلا لحنٍ أو غناءْ
معلقة ً في مهبِّ الريحِ
وحينَ يأتي أجلُ الدمعِ
ستسقطُ من بعد طول ِ جفاءْ


أسلمتُ القلبَ لوجعهِ القديم
لحزنهِ الابديّ
لارتعاشته الواهمة ْ
وانكساراتِه المتراكمة ْ
وشهقت جروحي زرقة ً
في اخضرار عينيك الآثمة
آه كم قتلتني وعودُك
التي لا تأتي
هل ترين في عيني
أيَّ سُهدٍ وجمرٍ لأحلام ٍ
نادمة ْ؟


كم ظننتُ أنّ الحبَ يدومُ
فصنعتُ لأهدابِ عينيكِ
سماءاً كلها نجومُ
ومن شعري وورودي
أزهاراً لحُمْرةِ خدّيكِ
ما كنتُ أحسبُ أن الفؤادَ
بلا أملٍ يرومُ
هواكِ
آه حينَ لا ينفعُ رجاءٌ
لديكِ
ولا بقايا من رماد تقومُ


قالتْ لي ساحرةٌ
وهي ترى في القدحِ
بقية ً من حزنٍ
مستحيلْ
طيفُك منفيٌّ وراء نافذةٍ مغلقة
مصلوبٌ على الجدران
كالقتيلْ
وتراءتْ صورتُها كسرابٍ
على دربٍ طويلْ
ورأيتُ قطرةً من دمكَ
في القدح تسيلْ
آه كم أدمتْ قلبكَ
أما آن للقلبِ الرحيل؟

* اللوحة أعلاه بعنوان اطار ذهبي للفنان البحريني خالد التهمزي، 2002

الجمعة، أبريل 10

محمود الريماوي.. بين الصحافة والادب


محمود الريماوي.. بين الصحافة والادب
قصص تعيد اكتشاف عمق تجارب الحياة اليومية بنزعة تأملية


بقلم: اياد نصار
محمود الريماوي كاتب قصة مخضرم وصحافي سياسي من طراز مهذب رفيع يعرف كيف يوصل فكرته الى القاريء بهدوء دون تهويل أو ضجيج. منذ أربعين عاما حينما إنطلق من الصحافة في بيروت وهو يكرس قلمه للقضايا العربية وفي طليعتها القضية الفلسطينية ولم تسرقه الصحافة من عشقه الادبي للقصة القصيرة التي أصدر منها لغاية الان تسع مجموعات قصصية كان آخرها مجموعته المعنونة "رجوع الطائر" التي أصدرها صيف عام 2008. وأخيراً استجاب لنداء الرواية فأصدر روايته الوحيدة الاخيرة التي صدرت منذ أيام عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في عمان بعنوان "من يؤنس السيدة" وقد أقيم حفل توقيعها في رابطة الكتاب الاردنيين.

الريماوي واحد من الاصوات الحاضرة المشاركة بفاعلية في كل النشاطات الثقافية برغم انشغالاته اليومية. في ملتقى القصة العربية القصيرة الذي أقامته الدائرة الثقافية في أمانة عمان خلال شهر آب /أغسطس الحالي فقد بدا متفائلا في أن القصة ستكون أكثر استجابة من الرواية في الاستجابة لمتطلبات العصر وأكثر قدرة على استيعاب التجريب بفعل قصرها وتجاوبها مع انتشار وسائل الاتصال المختلفة. وفي آخر مؤتمر لجمعية النقاد الاردنيين والذي عقد في المركز الثقافي الملكي في عمان في الصيف الماضي حول واقع القصة القصيرة في الوقت الراهن، قدم رؤيته حول القصة وتحدث عن تجربته الطويلة فيها. واعتبر أن لا خوف على مستقبل القصة القصيرة من الدعوات التي تدعو الى إعلان وفاتها تحت تأثير مزاحمة الرواية لها. وقال إن الصحافة لها شهية كبيرة للقصة وتعطيها دفعة للامام ، وعالم القصة يخلق طبيعة مكثفة متكاملة تدعو الى إعادة رؤية الأشياء بعد نزع الرتابة والألفة عنها.

محمود الريماوي يكتب القصة بشهية كبيرة ويجد نفسه فيها أكثر لأن كتابتها تقوم على التكثيف وليس على الإفاضة. ويعلن ولاءه للقصة بقولته "عندما أشعر بأن كتابة الرواية حياة أو موت قد أعمد إلى كتابة الرواية"! في عالمه القصصي المتنوع تبرز المسحة التأملية والنزعة الفلسفية الاخلاقية التي تعيد اكتشاف تجارب الحياة المختلفة ويومياتها "المأساوية" التي تنتهي بالخيبة أو التشاؤم ولكن لا تخلو من لذة الاكتشاف ومتعة الغوص في عمقها بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والفنية والاقتصادية والفكرية والأسرية. وعالمه ملون واسع يمتد الى آفاق أرحب وليس يعج بالبشر وحسب، بل مليء بأجواء الموسيقى والشعر والصحافة وبالاشجار والأسفار والبحر والطيور والحيوانات التي يستنطقها ويراقب حركاتها وسكناتها ويتعلم منها برغم تجارب مشوار الحياة لأنه ما يزال هناك لديها بقية لتقوله، ولأنه يكتشف فيها ما لا تراه سوى عين القاص المتأملة بنظرات فلسفية نفسية عميقة، كأنه بافلوف في أبحاث الاشتراط النفسي.

يكتب القصة من واقع تجارب ومشاهدات وانطباعات الحياة اليومية العادية ولكنه يعرف كيف يلتقط اللحظة التي يسقط عليها أبعادها الرمزية ويحولها الى خبرة حياة أو الى درس في فن العيش الذي يرهف السمع ويحدق النظر في تفاصيل صغيرة وينقلها للقاريء ببراعة قلمه ومشاهداته الادبية. تستحضر قصصه أحيانا أسلوب تشيكوف في أحداثها البسيطة العادية التي يرى فيها ما يستحق الكتابة عنه. في قصصه مفارقات متعددة وسخرية لمّاحة. ففي قصته التي منحت المجموعة إسمها وهي "رجوع الطائر" نلاحظ النزعة الانسانية التي تستقريء معاني الحياة والحرية وتحدي التفاهم والصراع مع الاخر والرأفة ومعطيات الجمال والتنوع الثقافي واعادة اكتشاف دهشات الطفولة وتشكيل واقع الحياة بكينونات جديدة. تتألف القصة من ثلاثة عشر جزءاً قصيراً تفتتح مشهدها بقدوم كائن غريب جديد يحدث مفاجآت وردات فعل مختلفة في جو آمن فيه من الاعتياد والرتابة. وهكذا يصبح الببغاء القادم في قفص بألوانه الصفراء المزركشة بالاسود محط إهتمام الجميع في البيت ما بين القبول والرفض. موقف يستدعي التوقف والتأمل فهو ليس كائناغريبا كما يبدو للاخرين بل إن وجوده أساسي كأسلوب حياة في ثقافات أخرى. وهكذا يمنح الببغاء بمقتضيات متابعة أمور معيشته وإطعامه اليومية اضاءات واسعة في الفكر حول قيمة الاخر واستراتيجيات تعاملنا معه وقيمة عالم الطيور والحيوانات وحتى اختيار الاسماء، مثلما يطرح استجابات الابناء والزوجة المتناقضة التي تحمل معاني متعددة. ولكن الزائر الغريب الذي كان من المفترض أن يكون مصدرا للفرح يتسبب في إحداث نوع من الخوف حين تنتشر أخبار انفلونزا الطيور، فيتعرض الى حملة عدائية كبيرة ويصبح الاب في موقف لا يحسد عليه لكنه يستمر في انحيازه لحب الطائر ودفاعه عنه. وفي النهاية يتسبب في انشقاق بين الاب والابن الذي يهدد بقتله مما يشكل دعوة لاعادة التفكير بمكانه الطبيعي: الحرية والتحليق في بيئته الاصلية. وعندها تتبدى قيمة رجوع الطائر في مشهد رمزي لاطلاق سراحه بعد أن وفر تجربة حياة جديدة للاسرة.

ولد محمود لطفي الريماوي في بلدة بيت ريما القريبة من رام الله في الثاني من شهر تشرين اول /اكتوبر من عام النكبة 1948 الذي شكل هاجساً رئيسيا بالنسبة له فقد تفتح وعيه مبكراً على مأساة شعبه ورافقها يكتب عنها في كافة مراحلها وصورها من التشرد واللجوء الى الثورة والمقاومة والانتفاضة وتأكيد التمسك بالارض والهوية في كل مراحل حياته من أريحا الى بيروت الى الكويت الى عمان. عاش أغلب طفولته في مدينة أريحا قبل النكسة عام 1967 ثم درس اللغة العربية في جامعة بيروت العربية كما عمل صحفيا في بيروت لمدة سنتين خلال الفترة 1968 – 1969. انتقل بعدها للعمل في الكويت في الصحافة خلال الفترة 1973 وحتى عام 1987 حينما أبعد عنها. مارس العمل الصحفي كتابة وتحريراً وساهم بمقالاته وزواياه في العديد من الصحف والمجلات السياسية والادبية خلال تلك الفترة. عاد في عام 1987ليستقر في عمان وليتابع نشاطه الصحفي والادبي حيث كان يكتب عمودا يوميا في جريدة الرأي ولسنوات عديدة تحت إسم "رأي عربي". كما رأس تحرير صحيفة المشرق الاعلامي وعمل في فترة سابقة مشرفا لملحق "الرأي" الثقافي . ومنذ عام 2007 فقد اُختير ليكون رئيس التحرير المسؤول لصحيفة "السجل" الاسبوعية التي تصدر عن دار المدى للاعلام .

كرس الريماوي جانبا كبيراً من كتاباته لطرح معاناة الشعب الفلسطيني وبقي يواكب تطورات الاحداث في مقالاته التي أجمع العديد من الكتاب والقراء بمستواها الرفيع في تحليل الاحداث وابراز خفاياها وقراءة واستشراف المستقبل. كما كرس جزءا كبيرا من كتاباته لطرح قضايا الانسان العربي المعاصر في الحرية والديمقراطية وبناء مجمتع فاعل يساهم في صياغة مستقبله فيه بفاعلية. كما كرس جانبا كبيراً من قصصه القصيرة لطرح هموم ومعاناة الانسان الفلسطيني الذي تطحنه ذكريات التشرد والنفي والشتات والواقع الفلسطيني المتشرذم كما يقدم صورا بانورامية من واقع المجتمع الفلسطيني في أماكن وأزمنة مختلفة من تاريخ القضية.


أصدر تسع مجموعات قصصية لغاية الان حيث صدرت مجموعته الاولى في عام 1972 عن وزارة الثقافة والاعلام في بغداد وكانت بعنوان "العرى في صحراء ليلية" وآخرها "رجوع الطائر" عام 2008 التي تحدثنا عنها. كما صدرت الاعمال القصصية الكاملة في عام 2002 في عمان عن وزارة الثقافة الاردنية. وقد صدرت له مؤخراً في شهر آب/أغسطس 2009 روايته الاولى بعنوان "من يؤنس السيدة". ومن الجدير بالذكر أنه حصل على جائزة فلسطين للقصة القصيرة عام 1997. محمود الريماوي عضو رابطة الكتاب الأردنيين، ونقابة الصحفيين الأردنيين، واتحاد الصحفيين العرب ، واتحاد الكتاب والادباء العرب.


مؤلفاته في القصة القصيرة والرواية:
1. العرى في صحراء ليلية (قصص قصيرة)، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد 1972.
2. الجرح الشمالي (قصص قصيرة)، دار ابن رشد، بيروت، 1980.
3. كوكب تفاح وأملاح (قصص قصيرة)، دار الكرمل، عمان 1987.
4. ضرب بطيء على طبل صغير (قصص قصيرة) دار الثقافة الجديدة، القاهرة 1990.
5. غرباء (قصص) ، وزارة الثقافة، عمان 1993.
6. القطار (قصص قصيرة) المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، عمان 1996.
7. شمل العائلة (قصص قصيرة) المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2000.
8. لقاء لم يتم (مختارات قصصية)، أمانة عمان الكبرى، عمان 2002.
9. رجوع الطائر (قصص قصيرة)، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، 2008.

10. من يؤنس السيدة (رواية)، دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمان، 2009

بالاضافة الى اصدارات تشتمل على نصوص أخرى:
- أخوة وحيدون (نصوص) دار أزمنة، عمان، 1995.
- كل ما في الأمر (نصوص) دار أزمنة، عمان، 2000.

* اللوحة أعلاه للفنان الفلسطيني عبدالهادي شلا بعنوان "لمن الازهار؟"