الجمعة، ديسمبر 11

حتى لا تصير المستحيلات أربعة

قبل أن تضيع تدمر الرابعة

اياد نصار 

  
        














تقوم نهضة المجتمعات على عدة رافعات اساسية كبرى لا بد منها لاي شعب ليحقق تقدماً ورقيّاً في اسلوب حياته من احترام لحقوق ابنائه ، وتوفير مستوى متقدم من الرخاء الاقتصادي والرفاه الاجتماعي ، وبناء قاعدة علمية وصناعية متطورة ، والوصول الى شكل ديمقراطي من اشكال الحكم والمشاركة الجماعية في الاطر السياسية والعامة ، واقامة دولة متطورة عمادها السلم والامن والنشاطات المستندة الى شفافية وعدالة ورغبة حقيقية في أن تكون جزءا من حضارة عالمية تعيش زمانها وتحدياتها ، وليس اسيرة امجاد سالفة لا ينفع معها استمرار الحنين.

ولو كان ينفع البكاء بين يدي التاريخ وحده لعادت الحضارة اليونانية واليونان اليوم في اشد أزماتها الاقتصادية والاجتماعية وسيطرة التيار التقليدي الذي لم يبق لليونان العظيمة سوى الاثار والتاريخ، ولو كان ينفع أن نظل نتأمل ونتدبر ونقرأ سير الاوائل لعادت حضارة روما وعادت أنظمة وفتوحات وجيوش وعمائر وابداعات روما، وايطاليا اليوم تعاني من أزمات اقتصادية وتراجع دورها السياسي وحضورها في الميادين الدولية، ولو كان ينفع أن نظل نعيش بعقلية القمقم وذهنية الاعتزال فلا نقرأ من التاريخ سوى تطورات قرن او قرنين مضيا من سالف التاريخ ، ونظل نترحم على اولئك الذين عاشوها في مكة والمدينة والكوفة والبصرة ، وننسى قرونا قبلها وبعدها من حركة التاريخ والتطورات المتلاحقة، لعادت حضارة الاندلس! ولو كانت المسألة أن نعيش بعقلية الاجداد ونرفض أن نتأقلم مع شكل الحياة في عصرنا ونظل نستحضر سير القدماء، لعادت الحضارة الفرعونية ونحن نرى ما تمر به مصر الطيبة مصر أم الدنيا من تحديات وأزمات وانقسامات وتراجع كبير في دورها اقليميا وعالميا بينما تستحضر تاريخها القديم. ولكن هذه الاسس لا تتحقق بين ليلة وضحاها. لا بد من قيام تيار فكري واسع وحركة شعبية كبيرة تؤمن بها وبضرورتها لأي تغيير تقدمي حقيقي نحو المستقبل. وهذه مجرد وقفة اولية في عجالة مع بعض هذه الروافع التي أثبت تاريخ الانسان أنها وراء كل نهضة حضارية حققتها الامم.

الايمان بقيمة النقد والشك والمراجعة دون خوف او  اتهام او تكفير او تخوين. فنقد الافكار والاساليب والمعتقدات والثوابت يعني الاحتكام الى العقل ، والاقرار بضرورة التغيير والمواكبة ، واحترام حرية التفكير وممارسة المراجعة ، بحيث يتعود الناس على أهمية التفكير والنظر دون عقلية الخرافة والتقديس الى كل الاشياء ، والايمان بأن جدوى ما ينفع هو ان كان ما يزال لهذه الافكار والنظريات والفلسفات والاديان والعادات والتقاليد قيمة صالحة او مؤثرة أو نفع يدفع بالمجتمع للامام ، وعدم الاحساس بالخوف والجزع عند القول انها يجب ان تخضع للنقد والبحث والدعوة الى تغييرها او تصحيحها او تطويرها. إن سطوة التيار الذي خلت له الساحة أو أخليت له والذي يرفع شعار صك غفران لكل مواطن لكي يثبت طهارته من أي نية أو شبهة نية للزندقة ، وخاصة التي ترفع صولجان التخويف من العاقبة والبوار والهلاك ، وتعد الناس بأحلام وردية في العالم الاخرى عائق كبير يحول دون قبول أهمية النقد والمراجعة والتغيير.

أما الثاني فهو مراجعة كل ما يتعلق بالمرأة من أنظمة وقوانين ونصوص واحكام دينية او مدنية بغض النظر ، وتطويرها لاعطاء المجال لاحترام قيمة كبرى وهي الاقرار بمكانة المرأة وقيمتها وحقها في الوصول الى كل المجالات التي يقوم بها الرجل على قاعدة مختلفان ولكن متساويان وشريكان. يجب مراجعة كل التشريعات والقوانين والتعليمات والانظمة واللوائح والخروج من سطوة اصحاب الصوت العالي سواء أكانوا متدينين او محافظين، أكانوا رجعيين أو تقدميين زائفين من اصحاب الافكار الشوفينية الذين يريدون اقامة مجتمع تقدمي عماده عبادة الافراد. لنشق عصا الطاعة امام الخوف الكبير والارهاب الفكري والضغط النفسي وتجييش المشاعر ضد كل من يخرج عن الاطار الديني التقليدي او الاطار الاجتماعي البالي بحجج واهية يعني ظاهرها الحفاظ على المجتمعات ويخفي باطنها ابشع صور الاضطهاد والحرمان ، وأنا ارى انه لا خراب ولا دمار ولا تفكك ولا تفسخ ولا اختراق للمجتمعات العربية اكثر مما نراه من استباحة مطلقة للحدود والفضاء وتدمير ممنهج لكل مقومات الحياة.

ممارسة احترام الفنون والادب والعلوم الانسانية بشتى صورها واشكالها وانماطها كالرسم والتصوير والموسيقى والمسرح والتمثيل والسينما وفنون الادب والابداع المختلفة ومجالات الاعلام والصحافة والتواصل واعطاء المكانة اللائقة لعلوم النفس والاجتماع والفلسفة ، وعدم محاربة حرية التعبير بذرائع مختلفة يدل ظاهرها ان الهدف منها حماية المجتمع او احترام الدين او الالتزام بأحكامه ويعني باطنها استمرار القمع وعقلية الخوف وهيمنة رجال الدين وسطوة الفكر السائد الذي اوصلنا للخراب. فلا قيمة أسمى من حرية التعبير والابداع ، ولا لذة فكرية أكبر من متابعة ما حققته العلوم الانسانية ونظرياتها المختلفة من سجالات وجدل فكري أسهم في انجاز نقلة حضارية لبعض المجتمعات لايمانها بأن كل أنماط السلوك والتفكير قابلة للتعديل والتطوير والتهذيب بعيدا عن التربية التقليدية القائمة على التخويف والتلقين والصمت في حضرة الشيخ!

ولا يقل عما سبق احترام ثقافات الشعوب الاخرى واديانها ومعتقداتها واساليب حياتها وتاريخها من مبدأ حقيقي ممارسة لا شعارا زائفا نراه يرفع ويسقط عند اول اختبار. التسامح واحترام الاخر يبدأ من احترام كل الطوائف والاديان والملل والفلسفات طالما أن هناك من يؤمن بها. طالما بقيت النظرة أنني انا صاحب الحق وغيري على باطل، وطالما بقيت النظرة أننا خير أمة وغيرنا على ضلال. واذا ظلت النظرة اننا مجتمعات محافظة وغيرنا مجتمعات تعيش الانحلال وخاصة الاخلاقي ، فسنظل أسرى ثقافة انعزالية تقسيمية طائفية لا ترى في الاخر الا الشر الذي يحل قتله ، ولا بد من تعزيز كراهيته ومحاربته والنظر اليه بمنظار الشك والخوف وعدم التعاون معه ، وهكذا نظل نعيش في ازدواجية صارخة فنحن نعتمد عليه في كل شيء لتطوير الجانب المادي من حياتنا ، ونشبعه شتما حينما نخلو الى انفسنا. ونبقى نعيش الوهم أننا امة معصومة وينتظرها الانقاذ وغيرها ينتظرها الوبال وسوء العذاب.

ولا يتوقف الامر عند الادعاء باحترام الاخر ونحن نرى ان كل النصوص التي تتلى على مسامعنا ليل نهار تكفر الاخر وأنا استغرب من بعض المؤسسات الدينية التي تدعي أنها تؤمن بهذا وتؤكد أن الدين يدعو لذلك وكل ادبياتها وخطاباتها ومواعظها وكتبها ودورها ورجالها ونساؤها يصيحون ليل نهار أن من يبتغي غير تلك الطريق فقد خرج عن الصواب! صور التناقض بين القول والفعل ، وحتى بين القول والقول لا تعد ولا تحصى ، لأننا نعيش في ثنائية وازدواجية منذ قرون، حتى بلغ السيل الزبى ، فلم نعد قادرين على أن نوفق بين عقلية انا وما عداي فهو ضلال وبين رؤية الاخر يتفوق. فكيف يتفوق الاخر طالما هو على ضلال؟

وامام هذه المعضلة لا يجد شيوخنا غير اسلوب اللجوء الى عقلية المؤامرة ، وليس لديهم من تبرير سوى أنهم نالوا النعيم في الدنيا ونحن سنناله في الاخرة! فزاد مستوى الكراهية للاخر حتى صار عقدة يظهر في صور غريبة عجيبة مثل قتل ابرياء في زوايا بعيدة من اصقاع العالم ، لمجرد انهم من الاخر بغض النظر عن اي اعتبار اخر! وليس غريبا أن توجت هذه الافكار والسلوكيات بظهور تيارات الارهاب  فهي وإن كانت تصدم بعضنا أحيانا ، ولكن كان من الطبيعي أن تظهر، فالحقد على الاخر سواء من نفس الدين او اللغة او الطائفة او الجغرافيا في تصاعد منذ عقود في كل مكان ، وهو الذي ما فتئنا نزرعه منذ مئة عام او يزيد ، وها نحن نحصد ما زرعناه. فقدنا مدينة نمرود الاشورية، وفقدنا مدينة الحضر الاثرية في العراق، وخسرنا تدمر في سورية، فهل نخسر أخرى رابعة؟ كيف سيكون شكل العالم بدون جرش أو البتراء أو بعلبك أو الاهرامات أو قرطاج؟ كيف سيكون شكل العالم العربي لو دمروا تراث ابن رشد وابي العلاء والمتنبي وابن عربي والفارابي والحلاج وزرياب وابن خلدون ومحمود درويش وطه حسين ، وكيف سيكون لو أحرقوا فن فيروز؟ وهل يرضى أهل مصر الطيبين أن يستيقظوا ذات يوم ولا يجدوا أم كلثوم الا في متحف اللوفر هذا إن بقي اللوفر ولم تصله اليد السوداء؟

اللوحة أعلاه بريشة الرسام توماس كول عام 1836 بعنوان دمار الامبراطورية ويظهر فيها قيام برابرة قبائل الوندال بتدمير روما