السبت، ديسمبر 6

حـوار


حـوار

قصة قصيرة

بقلم: ايـاد نصار

المارد: لقد مكثت في القمقم ألف سنة وأنا أنتظر أحداً من البشر.

السندباد: وأين كنت خلال هذه المدة؟

المارد: كنت في أعماق البحر. كنت أحس بالاسماك وقناديل البحر والاخطبوط ونجم البحر تقترب مني، وأحيانا كانت تلمس القمقم النحاسي وتحركه وتقلبه، وأحياناً أخرى تداعبه بأذرعها أو تبقى تعوم حوله أو تقف عليه.

السندباد: كيف إستطعت المكوث هناك طوال هذه المدة حياً؟ ألم تشعر لوهلة باليأس والنسيان؟

المارد: شعرت أول الامر بالعزلة الرهيبة والوحدة المؤلمة القاتلة. ولكني عودت نفسي ووطنتها على الصبر .. الصبر المر الذي تحس به يعذبك من الداخل ويملأ جوفك بالاحساس المضني الذي يجعل الروح مكتئبة مبتئسة .. ولكن الكتابة على جدران القمقم كانت رفيقي الدائم. كتبت كل ما خطر ببالي من أفكار وأمنيات وهلوسات وحتى خربشات على جدران القمقم حتى امتلأت، بل تزاحمت الحروف بين المساحات الضيقة. قبل أن أفوت في القمقم ظننت أنني المارد العملاق الذي يخافه الاخرون. أو هكذا كنت أرى نفسي دائماً! لم أكن أظن أن هناك أحداً أعظم مني على هذه الارض!

السندباد: وكيف أحسست عندما كان يتحرك بك القمقم؟

المارد: أستيقظ من رقادي الطويل، وأبتهج. أشعر أن الخلاص قد إقترب. أتحرك وأقفز وأصرخ وأنادي. صرت أعرف حيوانات البحر من حركاتها ولمساتها وحتى أصوات أنفاسها.

السندباد: ألم تشعر بك تلك المخلوقات وأنت تصرخ بالداخل؟

المارد: أظل أصرخ وأنادي بأعلى صوتي من غير أن تسمعني. كانت تحرك القمقم وتقلبه، وتدور حوله ، وأنا أمني النفس أن ينفتح الغطاء فجأة. مرت سنوات ولم يحدث شيء. كاد اليأس يقتلني.

السندباد: ماذا كنت تفعل ساعتها؟ ألم تشعر بإقتراب النهاية؟

المارد: أحسست أنني كالميت الذي يصرخ في قبره فلا يسمعه أحد. بدأت أفقد الامل. عندما تبتعد كائنات البحر عن القمقم أنهار من اليأس والاحباط. أبكي في مكاني حتى تجف المآقي ، وأنام من شدة القهر والاحساس بمرارة النسيان.

السندباد: وكيف دخلت في القمقم؟ ألم تعرف أنه سينغلق عليك بابه؟

المارد: لقد كنت نائماً ذات ليلة بين القصور القديمة المهجورة. ما أجمل الحلم الذي رأيته. حلمت أنني السلطان أعيش بداخلها والناس من حول مجلسي تنتظر أوامري. كنت أسهر كل ليلة مع ندمائي. وكان يأتي الشعراء يلقون بين يدي قصائدهم فأغدق عليهم الاموال. وفي الصباح أستيقظ فأجد نفسي متشرداً بائساً منسياً بين الخرائب. كنت أقضي نهاري بالبحث عن لقمة طعام أو شربة ماء أسد بها جوعي وعطشي تائهاً كمن يدور في متاهة. بحثت عن طريق الخروج فلم أجده. كل يوم كان مثل الاخر. منذ الصباح وحتى الليل أحس أن الدنيا من حولي لا تتغير. صار الليل عالمي والاحلام هي ما يبقيني على قيد الحياة. وذات يوم قررت الا أستيقظ ، فليس في الصباح سوى الشقاء وليس تحت نور الشمس سوى الخرق البالية والأسمال والخرائب. تعودت على حياة الليل والظلام. شعرت بلذة الاحلام التي تنتشلني من واقعي المرير. فلم أستيقظ. ما ألذ النوم والرقاد. إستيقظت المخلوقات الاخرى وخرجت للعمل مبكراً. كان الجو بارداً وشتائياً ماطراً. شعرت بالدفء في فراشي وتخيلت حجم المعاناة في ذلك الصباح التي كانت تنتظرني لو أفقت.. شعرت بالشفقة على الكائنات الاخرى من البرد القارس وقد تجمدت أطرافها. وفجأة جاء فارس ملثم بالحلقات التي تغطي وجهه وجسمه راكباً على حصان أسود يحمل سيفاً قوياً ودرعاً، فوجدني نائماً.

السندباد: وماذا فعل بك؟

المارد: لقد حمل القمقم بطرف سيفه المدبب وفتح الغطاء. وعندما رآني بشعري الكث المجعد ورآى تجاعيد وجهي ، إنتابه الاستغراب مما رأى. أخذت أفرك عيني من الضوء الذي دخل فجأة الى الوعاء فآذاها. شعرت بالضيق. لقد أفسد علي منامي. لما رآني بهذه الملامح الغريبة، أقفل غطاء القمقم علي مرة أخرى. وحملني معه على حصانه وأخذ يسير بي حتى وصل الى شاطيء البحر وألقى بي في الماء.

السندباد: كنا في السفينة نصطاد السمك في عرض البحر. وكان الى جانبنا مركب صغير لنا وعلى ظهره ثلاثة غطاسين يغوصون في أعماق البحر بحثاً عن الدفائن والكنوز الغارقة. وفجأة رمى أحدهم الينا بالقمقم الذي كنت فيه. لقد التقطك من قاع البحر. حاول فتح القمقم فلم يستطع. كان الاغلاق محكماً بفعل الصدأ والاملاح. إحترنا أول الامر بهذا الوعاء الذي كان يبدو عليه أنه أثري قديم مضت عليه مئات السنين، ثم قررنا فتحه. أحضرنا بعض العدد والادوات حتى تمكنا من فتح الغطاء فكانت المفاجأة أننا وجدناك. شعرنا بالخوف والرهبة أول الامر من بشاعة منظرك فألقينا بالقمقم على الارض فخرجت منه. كنت ذات شكل غريب بلا ملامح واضحة، كثيف الشعر، غائر العينين كأنك مخلوق من العصور السحيقة أو كديناصور قزم غريب.
المارد: أذكر ذلك تماماً. لقد بدا كل شيء حولي غريباً مخيفاً. لأول مرة أرى السفينة وهي تتهادى فوق الماء. رأيت وجوهاً جديدة غير مألوفة. كل شيء حولي كان غريباً. شعرت أنني عدت من الماضي السحيق. ظننت أنني لن أخرج من القمقم. فلما خرجت شعرت بالخوف. كل شيء حولي غريب علي. تمنيت ساعتها في أعماق نفسي لو بقيت في القمقم.
السندباد: لقد أراد البحارة أن يعيدوك للقمقم مرة أخرى وأن يلقوا بك الى أعماق البحر.
المارد: لماذا؟
السندباد: لقد إحتاروا ماذا يفعلوا بك. شعروا أنك غريب عنهم. كانوا خائفين منك ولكنهم كانوا مشفقين عليك. لقد أحسوا بمأساتك. شعروا كيف قضيت الف سنة في الظلام في أعماق البحر كالسجين الذي لا أمل له بالخروج. لهذا قرروا أن يلقوا بك على الشاطيء ويتركوك.
المارد: وأين ذهبوا؟ ولماذا بقيت أنت هنا؟
السندباد: لقد ذهبوا في رحلة طويلة حول العالم في سبيل استكشاف طرق الملاحة واصطياد السمك والبحث عن الكنوز الغارقة والدفائن والآثار. ربما سيعودون ذات يوم ويمرون مرة أخرى من هنا. وإذا وجدوك قد عدت للنوم في القمقم مرة أخرى سيلقون بك في أعماق البحر ولن يخرجك أحد من البشر بعد ذلك.
المارد: ولكنك لم تخبرني من أنت؟ ولماذا بقيت هنا على الشاطيء معي؟
السندباد: إنها قصة طويلة ستعرفها بنفسك ذات يوم. ولكنني أنا ذلك الكاتب الذي سجنته ذات يوم في أحد سراديب قصرك عندما كنت سلطاناً يحسب لك الكل حساباً. لقد ألفت كتاباً ولكن قاضي القضاة وصاحب الشرطة إعتقلاني بسببه ، وإتهماني بالزندقة والتجديف. لقد تعذبت وذقت الامرين. ولم يكتفيا بذلك بل أرادا صلبي وقطع رأسي ، لولا أنني أدعيت الجنون لأنجو من الموت! لقد بقيت في السجن سنوات طويلة. وذات يوم جاء غزاة جبارون برابرة فأحرقوا المدينة وهدموا أسوارها وقلاعها وخربوا قصورها ونهبوها وقتلوا من أهلها الكثيرين. ولما هرب حراس السجن خرجت وهربت. لقد رأيت الفظائع بأم عيني والدماء تسيل في الطرقات والموتى مكدسين فوق بعضهم وصرخات الانين والنواح تملأ كل مكان. لقد سمعت أن السلطان قد تخفى بملابس متسول متشرد وهرب من بين الجنود. ثم تمكنت أن أخرج من المدينة.
المارد: وأين ذهبت عندما هربت؟ أين كنت طوال هذه الفترة؟
السندباد: لقد عرفت أنه لم يبق لي في مدينتي أي مكان. لقد ثاروا علي أهلي ونقموا مني وإضطهدوني بلا سبب لمجرد أنني أتأمل بالدنيا وحال الانسان ومصيره فيها. وأفكر بعقلي وأدون خلاصة تفكيري في كتاب. لقد إتهموني بإثارة الشك في نفوس البشر ووسموني بالكفر والزندقة! فألقوا القبض عليّ وأحرقوا كتابي وسجنوني! ولولا ما حل بالمدينة، لكنت الان مصلوباً على خشبة ومنصوباً في ميدان المدينة ليتفرج الكل عليّ. لقد هربت الى بلاد أخرى وإستمريت في التأليف وتعلمت السفر والصيد.
المارد: ولماذا لم ترحل معهم؟ لماذا بقيت معي؟
السندباد: تذكرت أيام زمان. وعزّ علي الماضي. وعزّت علي رؤيتك بهذه الصورة بعد أن كنت سلطاناً تحكم نصف الدنيا! فقلت في نفسي لعله تغير بعد كل هذه السنوات. فهل سأندم على إختياري؟! هل ستكون هذه نهاية السندباد؟ لقد مرت قرون على افتراقنا. فهل سنسير معاً في طريق واحد بعد الان؟ هل سيحاولون قتلي لديك مرة أخرى؟
المارد (سرح ببصره بعيداً فوق مياه البحر. إبتسم وبقي صامتاً): ............

*اللوحة أعلاه من رسم الفنان الالماني من المدرسة التعبيرية بول كلي (1879-1940) بعنوان السندباد البحري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق