الجمعة، نوفمبر 12

رسالة


رسالة

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار
* نشرت في صحيفة قاب قوسين الالكترونية بتاريخ 10/11/2010

هل تذكر هل تذكر شقيقتي التي حدثتك عنها؟ عادت يوم أمس من السفر بعد غياب طويل. لا أعرف كيف مضى واحد وعشرون عاماً ولم أرها.

حفرت سنوات الشوق الطويلة عميقاً في القلب، وحينما أطلت بوجهها الباسم نسيتُ كل تلك السنوات الضائعة، واكتشفتُ لدي نبعاً لا ينضب من الحنين اليها. حينما تفتحت عيناي على وجوه البشر من حولي، لم تكن بينهم. صورتها مسنودة على طاولتي في إطار فضي منذ أن عرفت قيمة الصور. أراها تنظر الي دائماً.. ابتسامة وبقية من كلمات على شفتيها، وشعر كستنائي طويل منسدل على كتفيها. بين حين وآخر أمسك الإطار وأمسح الغبار الذي تراكم على الزجاج، فتشرق صورتها من جديد. كنت أسمع صوتها بين حين وآخر يأتي من وراء القارات، دافئاً، حنوناً، ورقيقاً كأنوثتها التي تفيض بها نظراتها. صارت صورتها رفيقتي منذ أن رحلت أمي. أتأملها في بعض الليالي لأعاين الشبه بيني وبينها. لطالما قالت أمي إنني أشبهها. حدسي ينبئني أننا نتوافق في أمور كثيرة، رغم أننا لم ننشأ معاً. كلامها (الصامت) وصورتها يوحيان بذلك.

بالأمس زارتنا أم صفوان للسلام على سناء. كان اللقاء حاراً دامعاً. عانقت سناء وهي تترحّم على أمي. لطالما حملت سناء وهي طفلة بين يديها. ذكرتني الزائرة بتلك الظهيرة الشتوية. كانت أمي مشغولة بإعداد الغداء. ملأت الطنجرة بالماء ووضعتها فوق الموقد، ثم وضعت فوقها مصفاة حديدية مشبّكة، وألصقت لباناً حول المصفاة لتسد منافذ البخار. يتصاعد البخار من الطنجرة، فينضج المفتول. سهت أم صفوان عني.. مددت يدي، أحسست بلسعة. مزقت صرخة مفاجئة من الالم هالة السكون. أخذت أبكي وأصرخ دون توقف. غضبت أمي. خرجت أم صفوان مغضبة ولم تعد. لم تدخل بيتنا طيلة سنة كاملة، وحينما عادت بعدئذ إستقبلتها أمي بالأحضان. أقول لأم صفوان باستمرار: عندما أنظر الى الوشم في يدي أتذكرك.

فرح أبي بعودة سناء. كعادته حينما يأتي غائب، نزل الى السوق وإشترى فوارغ ومقادم. بقيت طيلة النهار منشغلةً في تنظيفها وتحضيرها وطهيها. أكره هذه الاكلة وأعجب كيف كانت تستهوي أمي. لكن أمي كانت صبورة. تذوب كالشمعة في صمت دون أن يحس بها أحد. في كل مرة كان زوج سناء يتصل بنا من أوهايو، كان يقول إنه يحنّ الى تلك الايام التي كانت تصنع أمي لهم تلك الأكلة. بعد أن رحلت أمي لم يعد يأتي على ذكرها. لا أظن أنه كان يفعل ذلك بدافع الذكرى، فأنا أعرفه جيداً. لا ذكريات لديه سوى ذكريات محلاته هناك، أراح واستراح!

حبيبي جابر، هل سأقدر، يا ترى، أن أرحل عن البيت مثل سناء؟ أفكر كثيراً بالامر. لقد نشأتُ في هذا البيت، وصار عالمي الذي لا أعرف سواه. مرت بي أيام طويلة شعرت بها بالوحدة فيه، وتمنيت الخروج منه، لكنني لم أعد أجرؤ حتى على التفكير بذلك. صار حريتي وسجني، جنتي وناري. هل سأطيق سنوات الغربة مثل سناء؟ ذهبتُ مرة الى بيت خالتي في العقبة، لأمضي عندها الصيف، بت هناك ليلتين. أحسست بالاختناق والحنين. لم أستطع المكوث بعيداً، فعدت.

صارت غرفتي عالمي الصغير. فيها كل شيء. سأصف لك بعض ما فيها، لتعرف كم تعني بالنسبة لي. أمامي مكتبتي التي صارت نافذتي على الدنيا. والى جانبي تلفاز يؤنس وحدتي في أمسيات الشتاء القارسة. تطل نافذتي على الحي الصاخب الذي لا يهدأ. منظر كئيب يصيبني بالإحباط. في أمسيات كثيرة أقف أمام النافذة وأسرّح بصري بعيداً، وأتخيل زرقة البحر أمامي، تتكسر أمواجها عند الشاطيء. ستائر غرفتي شفافة سكرية اللون ذات ثنيات جميلة. وخلفي على الحائط لوحة زيتية شرقية ذات إطار أزرق، وتحتها سريري بأغطيته ووسائده الزرقاء الزاهية. أحببت اللون الأزرق منذ كنت صغيرة. يتلاءم مع إحساسي الفطري بالحزن. ومن حولي تُحَف خشبية من صنع يدوي. بجانب الباب درسوار له مرآة صغيرة طويلة، وعلى سطحه اللامع صورة أمي وأبي في يوم زواجهما. أرى فيها عالماً مفقوداً لم أعد أحس أنه بقي منه شيء في زماننا. تمتزج الألوان والفنون والصور في كل زواية فيها، كما لو كنت معي الآن لتراها. لترى لوحاتي التي رسمتها وألواني وفراشي الرسم. على طاولتي لوحة عباد الشمس التي صارت جزءاً مني. وهنا أزهار الخزامى التي أحتفظ بها في كيس ملون، وهناك مكتبي الصغير وفوقه صورة سناء وزرافتي التي تؤنس وحدتي، والى اليسار ألعابي التي أحتفظ بها منذ صغري. وهذه هنا سفينتنا الخشبية بأشرعتها التي سنسافر فيها!.

تصور أني اشتريت تحفاً لأسطورة صينية. أحب عالم الاساطير. جابر، هذا هو عالمي. لا أحتاج الدنيا خارج غرفتي، هل كان الناس هكذا في الماضي أم أنها مجرد أوهام للتعويض عن التعاسة؟ قد يبدو عالمي صامتاً، لكنه يزخر بأحلامي وخيالي وتاريخي، لا عليك من شطحاتي!

جاءت أمك وأختك هدى يوم أمس لتسلم على سناء وأولادها. لم تجلس هدى الى جانبي طيلة الزيارة، كما اعتادت أن تفعل دائماً. رمقتني أمك بنظرات باردة بطرف عينيها من غير أن أعرف سبباً لذلك. شعرت بالتوتر. استعرضت شريط الذكريات لعلني أعرف السبب. بقيت تائهة في لجة أفكاري. شعرت باضطراب داخلي وانقباض. ماذا فعلتُ حتى ترميني بنظراتها الباردة، وتجافيني هدى على غير العادة؟ شعرت كأنني ارتكبت ذنبا عظيماً ..أجهله. قالت لسناء وهي تغمز بطرف حديثها: "أليست الحياة هناك أفضل من هنا؟ كيف ترفض من تأتيها فرصة للإقامة هناك وتبقى هنا؟" لم تتوقف طيلة الوقت عن تلميحات تحمل في طياتها اللوم. مزق كلامها سكينة نفسي. لكني احتفظت بصمتي، أتظاهر بأن ليس هناك شيء. رسمتُ ابتسامة ً باهتة على وجهي كلما تلاقت نظراتنا. كنت إحترق في داخلي. بقيت بين حين وآخر تثير أسئلة تعرف إجاباتها. كانت تتعمد أن أسمعها. "كيف هو بيت جابر؟ هل هو كبير وواسع؟ هل شاهدتيه؟ أخبرني أنه يمتد على قطعة أرض فسيحة وأمامه بستان من الأشجار؟ دعاني أن أذهب عنده للزيارة والاقامة لمدة شهر. كم أتمنى أن أذهب هناك، ولكني أنتظر نتيجة سهام في الثانوية، لا أريد أن أتركها وحدها. هذه سنة مهمة يجب أن أقف الى جانبها".

هدى الاخرى فظة ومتعالية. تقول إنها ما كانت لتبقى هنا لولا أمك. لكنها مستعدة للتضحية لأجلها. كانت تتباهى بزياراتها وجولاتها وحفلات الاستقبال التي لقيتها عندكم في الصيف الماضي. وجّهت نظراتها اليّ وقالت: "لو كنت مكانك لما بقيت هنا يوماً. لماذا تدفنين نفسك هنا؟ والدك تزوج، وأمك توفيت، فماذا بقي لك هنا؟" شعرت كم هي مختلفة عني. لم يكن عالمي الصغير بذكرياته وكائناته يعني لها شيئاً، وكأن وجودي ليس له قيمة بحد ذاته.

لا أريد أن أشغل بالك بقلقي أو أثير هواجسك بحساسيتي. ما يزعجني أنني لا أجد أحدا يفهم شخصيتي وعالمي سواي. وحدها أمي كانت تتقبلني كما أنا، وتدرك "صوفية" تفكيري. لست صعبة المزاج أو معقدة، لكن نظرتي للحياة تختلف عن كل النساء هنا. أحس باضطراب قلبي، وأبوح لك لترتاح نفسي. قد لا تدرك سبب خوفي من الغربة، أخاف إن غادرت عالمي أن تضيع ذاتي.

نسيت أن أخبرك أنني ذهبت في صباح يوم أول أمس الى محل أزهار، واشتريت باقة من أزهاري المفضلة التي تعرفها.. لتبدو هدية رائعة. خرجت سميحة الأسبوع الماضي من المستشفى. كنا نحس بها وهي تحترق في وحدتها وبؤسها. لم يكن يشعر بتراجع مساحة روحها القابلة للحياة، ظل يضغط عليها حتى لم تعد ترى أفقاً لحياتها معه. كم أثّر فيَّ ما جرى لسميحة. زرع في قلبي الرعب والخوف من المستقبل. هل يمكن أن يقع لي ما جرى لها؟ أرجو ألا تفهم كلامي خطأ. أنت مختلف وأدرك كم تتفهم طبيعتي. لكنها هواجس تبقى تلحُّ على أعصابي.

أحببت أن أكتب لك وأشاركك في كل شيء يؤرقني. أعرف أنك تتفهمني. ربما كدَّرتُ صفاءك بهمومي، ولكني أنشد وقوفك الى جانبي. كم أنا محتاجة اليك. أتمنى عودتك. طالت غيبتك عني، وقلبي ميت خوفاً من الغربة. لا أظن أنني سأتجرأ وأفعلها كما فعلتها سناء. أرجوك أن تتفهم خوفي. أنا كالسمكة إن خرجت من بحرها ماتت. أرجو أن تجد لي ساعة فراغ لتفكر بكلماتي وتجيبني. كتبت لك عدة مرات ولم يصلني منك شيء.

المشتاقة لك

غادة

في اليوم التالي حملت غادة الرسالة، احتضنتها بكل حرص، وأخذت تتأمل في العنوان الذي خطته أناملها الى البريد وأودعتها. نظرت اليها الموظفة وفي عينيها إبتسامة غامضة. موظفات في المكتب يعرفنها. كل شهر تأتي ومعها رسالة بغلافٍ ملونٍ عليه عنوان مكتوب بخط جميل. صرن يعرفن لمن ترسل الرسائل فلا يسألنها عنها. بل يلصقن الطوابع مباشرة. وضعت غادة الرسالة وخرجت ونظرات الموظفة تلاحقها. بعد أسبوعين قصدت صندوق البريد لترى إن كان قد وصل ردٌّ منه. لمحت شيئاً من ثقوب الصندوق الحديدية. فتحت الصندوق بسرعة واضطراب. أخرجت الرسالة. كانت مليئة بالأختام على وجهي المظروف. لم تعد العبارة غريبة عليها.. "المرسل اليه ترك هذا العنوان". شعرت بانكسار وترقرقت دمعة في جفنها من غير أن تهمي. عادت تجر الخطى متثاقلة حزينة. فتحت دولابها، استخرجت صندوقها الصغير وفتحته ووضعت فيه الرسالة. كانت هناك في الصندوق سبع رسائل مشابهة.

* اللوحة أعلاه بعنوان رسائل حب للفنانة الامريكية مولي بروز

رابط القصة بموقع صحيفة قاب قوسين




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق