السبت، ديسمبر 25

صباحات جنين.. التاريخ الروائي للنكبة الفلسطينية


"صباحات جنين" لسوزان أبو الهوى
التاريخ الروائي للنكبة الفلسطينية

إياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الدستور الأردنية بتاريخ 24/12/2010

تعد رواية "صباحات جنين" للروائية الفلسطينية سوزان أبو الهوى قصة نجاح باهرة خلال فترة وجيزة ، تثبت حضور صوت نسائي ملتزم بقضية أرضه وشعبه في الغرب ، وقدرته على فضح أكذوبة الرواية الصهيونية التي ارتكزت دائماً ، كما تقول قارئة أمريكية في رسالة بعثتها الى مؤلفة الرواية ، على إظهار أن العرب أشرار ، وأن ما جرى في فلسطين لم يكن جريمة بحق شعب آخر ، وتؤكد ، كما تقول بطلة الرواية ، بأن "الحقيقة التي لا مناص منها أن الشعب الفلسطيني دفع ثمن الهولوكوست".


تحتل "صباحات جنين" حيزاً كبيراً من المشهد الابداعي لأدب الاصوات المهاجرة هذه الأيام في الغرب ، وتحظى بتحليلات نقدية وتغطيات إعلامية متزايدة ، كما ترجمت الى عشرين لغة حتى الآن ، وستصدر نسخة معربة من الرواية في عام 2011 . ودعيت مؤلفتها الشابة للحديث عن كتابها وعن سيرتها في جامعات ومؤسسات ومهرجانات أدبية عدة في الولايات المتحدة وفي بريطانيا ، حيث شاركت في مهرجان الكتاب في لندن ، وفي دول أوروبية أخرى مثل النرويج والنمسا وايسلندة ، وأجريت معها عدة لقاءات صحفية من قبل بعض الصحف والمحطات الاعلامية الأجنبية المعروفة ، وهذا يدل على مدى الانتشار الذي تحظى به. كما تعرضت أبو الهوى للنقد بعد نشرها للرواية من قبل كثيرين ، ومن ضمنهم حاخام يهودي في نيويورك الذي زعم أن روايتها مختلقة ، ما حدا بالمنظمين لجلسة نقاش تشارك بها المؤلفة حول روايتها ، وتحت الضغط ، الى قصرها على مجرد حفل للتوقيع على نسخ كتابها.


وصفت الدكتورة حنان عشراوي الرواية بأنها: "رواية قوية وحساسة تلخص التجربة الفلسطينية بأمانة عالية وعاطفة مؤثرة". وقالت "تكشف سوزان أبو الهوى عن مهارات لغوية وتخيلية لديها ، ما ينبيء أنها ستكون أديبة لامعة..".


جاءت "صباحات جنين" التي صدرت في شهر شباط 2010 في نيويورك في 338 صفحة ، وتصنف الرواية التي تحكي قصة معاناة عائلة فلسطينية تتعرض للتهجير وسلب أراضيها عبر أربعة أجيال منذ عام 1941 وحتى الوقت الحاضر ضمن الرواية التاريخية ، وتركز على تأثير الصراع العربي الاسرائيلي على حياتها وواقعها ومستقبلها. وتروي معاناة شخصياتها من الفلسطينيين ، وخاصة أثناء الحروب التي لم تتوقف منذ ما يزيد عن ستة عقود ، من خلال قصة آمال التي تولد في مخيم للاجئين الفلسطينيين. يحمل الاسم دلالات رمزية تنطوي على التبشير بالأمل والنصر مهما طالت المعاناة ، يقول الأب حسن لابنته آمال في الفصل الثاني: "إن آمال بمدّ حرف العلة تعني الأماني والاحلام والكثير منها".


وقد شبّه الناشر أهمية الرواية في تعريف القارىء الغربي بمأساة الفلسطينيين الذين هُجّروا من ديارهم برواية "ربان الطائرة الورقية" للافغاني خالد حسيني حول مأساة الأفغان في بلادهم التي مزقتها الحروب.


صدرت طبعة سابقة من الرواية تحت عنوان "ندبة داود" ، وكانت تتسم بالتسلسل الزمني عن دار نشر صغيرة أغلقت بعد ذلك. وعندما بدأت الرواية تحقق نجاحات بعد ترجمتها الى الفرنسية ، فقد عرضت عليها دار نشر بلومزبري في الولايات المتحدة إعادة نشرها بعد تغيير العنوان ، واستخدام تقنية الانتقال بين صيغ الزمن المختلفة ، وهكذا ولد العنوان الجديد "صباحات جنين". وصار عنوان الرواية القديم هو عنوان الفصل الثالث في الرواية بصيغتها الجديدة. وفي حين أن شخصيات الرواية خيالية ، إلا أن أحداثها وأمكنتها وزمانها بنيت على أحداث واقعية حقيقية في أماكن حقيقية تسرد ملحمة النكبة الفلسطينية وحتى الوقت الحاضر.


تتكون الرواية من ثمانية فصول ، يتكون كل منها من عدة أجزاء. يحمل الفصل الأول عنوان "النكبة" ويتكون من سبعة أجزاء يدعى أولها "الحصاد" ، وفي نهاية هذا الفصل تولد آمال بطلة الرواية في عام ,1955 ويُدعى الفصل الثاني "النكسة". أما الفصل الثالث "ندبة داود" ، فيتكون من ثلاثة عشر جزءاً ، ويتحدث عن مأساة الأسرة بفقدان أحد أبنائها ، وينتهي بانتقال البطلة الى ملجأ للايتام في القدس. ويعد الفصل الخامس ، الذي جاء تحت عنوان "قلبي في بيروت" ، بالاضافة الى الفصل الثالث ، أطول فصول الرواية. ويلاحظ كثرة استخدام الكلمات العربية في متن الرواية وفي عناوين الفصول والاجزاء الى حد أن المؤلفة أرفقت في نهاية الكتاب ملحقاً طويلاً هو في الحقيقة قاموس بالكلمات العربية الكثيرة التي ترد في الرواية ، والتي يحتاج القارىء الغربي الى شرح معانيها بالانجليزية ، من مثل: النكبة ، والنكسة ، والغربة ، وزغاريت ، وسناسل ، وفلاحين ، وكوفية ، ومناقيش ، وكنافة ، وفول ، وحمص ودلعونا..الخ وعبارات من مثل: السلام عليكم ، والبقية بحياتك ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وغيرها من العبارات الدارجة.


كانت البذرة الأساس للرواية ، كما ذكرت أبو الهوى ، هي رواية لغسان كنفاني ، رغم أنها لم تذكرها بالاسم وهي "عائد الى حيفا" ، والتي تنسى فيها عائلة فلسطينية خلال ذهول النكبة والتهجير طفلها في البيت فتجده عائلة يهودية استولت على البيت عقب حرب عام ,1948 كما كان للدكتورة عشراوي فضل في ولادة الرواية ، فقد أرسلت رسالة الى المؤلفة بعد أن قرأت لها مقالة تسرد فيها جانباً من طفولتها ، قائلة: "إنك تستطيعين كتابة سيرة من طراز رفيع. نحن بحاجة الى هذه الرواية". ولا بد من الاشارة الى أن الرواية تعتمد كثيراً على السيرة الذاتية للمؤلفة ، حيث أنها ذهبت في عام 2002 برفقة عدد من الكتاب والصحفيين والفنانين الغربيين الى مخيم جنين ، بعد المذبحة الوحشية التي ارتكبتها القوات الاسرائيلية فيه في عام ,2001 وقالت بعد ذلك: "منحتني الفظائع التي رأيتها الرغبة الشديدة في البوح ، وكان صمود سكان مخيم جنين وشجاعتهم وانسانيتهم مصدر إلهامي".


ولدت سوزان أبو الهوى في مخيم جنين عام 1955 لأبوين لاجئين من فلسطين عام ,1948 وعندما وقعت حرب حزيران في عام 1967 ، نزحت عائلتها مرة أخرى الى الكويت ، وقد انتقلت الى الولايات المتحدة وهي في سن صغيرة ، حيث عاشت ودرست الطب ، وقد حصلت على شهادة الماجستير في عام ,2001 أسست أبو الهوى منظمة غير حكومية تسمى "ملاعب لفلسطين" ، وهي مؤسسة تهدف الى بناء ملاعب للاطفال في الاراضي المحتلة ومخيمات اللجوء. وبالاضافة الى روايتها ، تكتب مقالات في عدة صحف مثل ديلي نيويورك نيوز ، وشيكاغو تريبون ، وكريستيان ساينس مونيتور ، وفيلادلفيا إنكويرر.


تكتب أبو الهوى بأسلوب يعرف كيف يخاطب القارىء الغربي ويكسب عقله من خلال التركيز على الجانب الانساني للمأساة أكثر من تركيزها على الجانب السياسي الذي يكتشفه القارىء ضمناً. تمتاز الرواية بزاوية الرؤية الانسانية المتأثرة بالتوجهات الغربية ، لكنها تفضح منطلقات الأسطورة الصهيونية التي سيطرت على الاعلام الغربي ، دون الاغراق في الوطنية ، أو التقسيم الساذج الذي يرى الاشياء بالأبيض والاسود ، والذي لا يلقى عادة تعاطفاً كبيراً من القارىء الغربي. يمتاز الأسلوب بالقوة والعمق والدقة ، كما يعكس النص الروح الفلسطينية للشخصيات في لغتها وحواراتها وانشغالاتها.


ورغم أن المؤلفة تجيد مخاطبة القارىء الغربي بلغته التي يفهمها ، لكن لهجة الاسترضاء تبدو واضحة في بعض الأحيان ، ففي حوارات البطلة الاخيرة مع ابنتها سارة ، وبينما كانت الدبابات تتوغل في مخيم جنين ، تشرح آمال مآسيها التي مرت بها الى سارة ، وكان من ضمن ما قالته أنها حزنت "ثلاثة آلاف مرة على ضحايا الحادي عشر من أيلول" ، في إشارة الى الضحايا الذين قضوا في انهيار البرجين. وفي موضع آخر تقول آمال لشقيقها اسماعيل ، أو داود كما سمته زوجة الجندي الاسرائيلي الذي اختطفه من أمه خلال الهروب من قريتهم وربته كيهودي: "أنت وأنا بقايا إرث لم يتحقق ، ورثة مملكة من الهويات المسلوبة".


تفتتح الرواية بموقف متوتر يلخص معاني المواجهة والصراع في مشهد قصير في عام 2002 في مخيم جنين المدمر حينما تتقابل آمال، التي تأتي ضمن مجموعة من الأجانب للتحقق من الجرائم التي ارتكبتها اسرائيل ، وجها لوجه مع جندي اسرائيلي يحمل السلاح. وتتساءل آمال إن كان المسؤولون "سيعبرون عن الأسى لموتها الخطأ كمواطنة أمريكية ، أم ستصبح حياتها تحت رحمة الاصابات العرضية" ، وسرعان ما نكتشف أن بطلة الرواية مواطنة فلسطينية أمريكية عائدة من المنفى ، وأن حجم الجريمة التي رأتها على أرض الواقع كان مؤثراً من ناحية انسانية الى درجة أثار فيها الذكريات الحزينة ودفعها الى البوح. ويحيل المشهد سريعاً الى بداية القصة الحقيقية في عام ,1941


تبدأ أحداث الرواية تاريخياً في قرية عين حوض شرق حيفا في فلسطين. وتحكي قصة عائلة الحاج يحيى أبو الهيجا ، التي تعيش مثل أية عائلة فلسطينية من الفلاحين قبل اغتصاب أراضيهم على زراعة الارض ، وتتمركز حياتهم حول قطاف الزيتون والتين ، في تقاليد متوارثة تقوم على حب الأرض والارتباط بها. للحاج يحيى ولدان هما درويش وحسن ، وخلال موسم الحصاد يقول حسن لأبيه إنه سوف يسافر الى القدس. يحذره والده من المشوار ، لأنه يعرف أن ابنه يريد أن يرى صديق طفولته اليهودي ، آري بيرلشتاين ، وهو ابن بروفيسور ألماني هرب من النازية. برغم الصراع بين العرب واليهود ، فإن توظيف علاقة الصداقة القوية بين حسن وآري ، مقصود لإظهار أن فلسطين كانت موطناً للتسامح وتعايش الاديان ، وأن العداء الفلسطيني للاسرائيليين ليس أساسه الدين.


تصور الرواية في أجزائها الاولى أجواء حياة العائلة التي تشغلها قضايا الارض والزراعة والزواج. تتعرض القرية الى أحداث مأساوية تعبث بهدوئها واستقرارها ، ألا وهي نكبة عام 1948 ، ثم نكسة حزيران ,1967 "في زمن بعيد ، وقبل أن يمر التاريخ فوق التلال ويعبث بالحاضر والمستقبل ، وقبل أن تقبض الريح الارض من إحدى زواياها وتسلبها اسمها وشخصيتها ، وقبل أن تولد آمال ، عاشت قرية صغيرة شرق حيفا بوداعة على التين والزيتون والحدود المفتوحة وضوء الشمس". وهكذا تجبر النكبة عائلة أبو الهيجا على مغادرة قريتهم ، واللجوء الى مخيم جنين ، ليكتشفوا أن العالم لم يسمع بمأساتهم. "في الأسى الذي لا يحتمل لتاريخْ دُفن حياً ، فقد سقطت السنة 1948 من التقويم الى المنفى ، وتوقفت عن عد الايام والشهور والسنين ، وصارت ذكرى لامتناهية للحظة في التاريخ تنتظر العدالة أن تسود".


تحكي الرواية ، من خلال قصة آمال ، مأساة الفلسطيني الذي إغتصبت أرضه ، وحطّمت الحروب حياته وأحالتها الى دوامة مستمرة من القهر والظلم والصراعات والانتقام ، وحولته الى إنسان مقهور مشرد وضحية حلم لغرباء لا ينتمون للأرض. إنها رواية عن الحب والحرب ، عن الظلم والنسيان ، عن الماضي الجميل والحاضر البائس ، عن الفقدان والخسارة ، عن الطفولة والزواج والأمومة. وتوظف أسلوب تعدد الاصوات السردية ، فهناك صوت ضمير الغائب العليم ، وصوت آمال ، وصوت شقيقها يوسف. كما توظف الرواية اسلوب الانتقال بين صيغ الزمن المختلفة.


من الاحداث المهمة في الرواية ، قيام الجندي الاسرائيلي موشيه بخطف الطفل اسماعيل شقيق آمال ، من بين يدي أمه داليا في فوضى التهجير القسري لسكان القرية. يقدم الجندي الطفل لزوجته العاقر جولانتا ، التي تطلق عليه عليه اسم داود. ينشأ الطفل في العائلة الجديدة ويصبح يهودياً. لكن له ندبة على وجهه تسبب بها شقيقه يوسف الذي أوقعه في مهده. ظلت الندبة في وجه الطفل وكبرت معه ، وهي التي تدله على الحقيقة.


يمثل فقدان الطفل أزمة كبيرة للأم. شعرت آمال أن أمها أصبحت منسحبة من الحياة وفقدت التعبير عن الحب ، وخاصة بعد أن عانت من الاجهاض عدة مرات قبل ولادة آمال ، ومن ثم فقدان زوجها. وتربط آمال فيما بعد سلوك أمها التي حطمتها حادثة فقدان ابنها بنصيحة قالتها ذات يوم: "مهما تشعرين احتفظي به لنفسك".


وفي مخيم جنين ، صار البؤس والشقاء والحرمان عنوان حياتهم. ينظر الحاج يحيى الى أشجار الزيتون التي تركها خلفه عبر خط الهدنة ، ويظل يفكر بحسرة بتلك الكروم التي لم يعد يستطيع الوصول اليها. وأخيراً يقرر التسلل للعناية بها ، رغم معرفته أنه قد يقتل بنيران اليهود. وحينما يرجع الى المخيم ، فإنه يحضر معه في يديه قطافاً من أشجار الزيتون ، ويقول: "اللعنة .. هولاء لا يعرفون شيئاً عن الزيتون. إنهم غرباء ، ولا يربطهم بالأرض شيء. لو كان عندهم انتماء للأرض ، لأجبرتهم الأرض أن يحبوا الزيتون".


يقول الراوي بعد مقتل الحاج يحيى على أرضه التي أصر أن يرجع اليها سراً: "لقد كشف موته الحقيقة... كيف يمكن للمرء أن يتخيل أنه لم يعد بوسع رجل أن يعود الى ممتلكاته ، وأن يزور قبر زوجته ، وأن يأكل فاكهة أربعين جيلاً من كدح الأجداد ، دون أن يلقى حتفه؟ لم يخطر ذلك السؤال ببال اللاجئين الذين حيرتهم مأساة الانتظار الأبدي".


تصف الرواية التغيرات التي طرأت على حياة الفلسطينيين بعد الكارثة. وفي تلك الظروف ولدت آمال حفيدة الحاج يحيى وابنة ولده حسن. ويصف المقطع التالي طبيعة الحياة في المخيم حينما كانت آمال وأختها هدى صغيرتين لا تعيان ما يدور حولهما من مصائب: "لقد كنا ممتلئتين على نحو ساذج بأحلام وطموحات ، غير عارفتين بأننا كنا نفاية العالم الذي تركنا لنعيش في بؤسنا ونخطو على برازنا".


تدحض الرواية وفي مواضع كثيرة زيف الأكذوبة الصهيونية التي تحاول تكريس ارتباط اليهود بفلسطين ، ولعل النص التالي من أبلغ الفقرات التي تتناول هذه المسألة: "نظر في صمت الى الدليل الذي صار الاسرائيليون يعرفونه ، وهو أن تاريخهم مصنوع من عظام الفلسطينيين وتراثهم. لم يعرف الأوروبيون الذين جاءوا لا الحمص ولا الفلافل ، لكنهم قالوا فيما بعد أنها من المطبخ اليهودي العريق. لقد استولوا على فلل القطمون واعتبروها بيوتاً يهودية قديمة... لقد جاءوا من بلاد غريبة واكتشفوا قطعاً نقدية تحت الارض من أيام الكنعانيين والرومان والعثمانيين وباعوهم على أنها مصنوعات يهودية".


ينتقل الحدث الى حرب عام 1967 ، حيث تعيش آمال أياماً مرعبة ، تزرع في نفسها الخوف ، وتترك آثاراً نفسية وعاطفية لا تمحى ، كما يختفي والد آمال ، الذي اعتاد أن يقرأ لابنته قصائد من الشعر في ساعات الصباح ، وهو ما يلمّح اليه العنوان ، وقيل إنه قتل في أحد المذابح ، ويتعرض شقيقها يوسف الى الاعتقال ، ويلتحق بالمقاومة. وتتعرض آمال نفسها الى إطلاق النار عليها من قبل الجنود الاسرائيليين ، وتترك الاصابات آثاراً دائمة في بطنها.


هناك قصة أخرى على الجانب اليهودي تجري في الوقت ذاته الذي تجري فيه قصة آمال ، إنها قصة شقيقها اسماعيل الذي صار داود ، والتحق بالجيش الاسرائيلي. بعد حرب عام 1967 يخبره زملاؤه الجنود بأن أحد السجناء واسمه يوسف يشبهه الى حد كبير. وفي محاولة للتخلص من أية تلميحات عن الشبه بينه وبين فلسطيني ، فإنه يضربه عند حاجز طريق. يصبح داود فيما بعد مدمناً على الكحول ، لكنه يسعى لمعرفة حقيقة أصله من خلال اتصاله بآمال.


يتم إرسال آمال الى ملجأ للايتام في القدس بعد وفاة والدها ، وهناك تفوز ببعثة الى الولايات المتحدة عام 1973 ، وتحاول إعادة اكتشاف نفسها تحت اسم "ايمي" الامريكية ، لكنها تعاني في الغربة من التناقضات بين نموذج الحياة الغربي ، وبين قيمها وثقافتها في المخيم. تقول آمال عن حياتها الجديدة: "لقد مُسخت الى هجين عربي غربي لا تصنيف له ، ولا جذور له وغير معروف.. لقد ضعت في دوامة التقلب الثقافية"،


تفقد آمال الاتصال بشقيقها يوسف وفي ذات يوم من عام 1981 يأتيها فجأة إتصال منه ، وهو في بيروت ، فتعرف أنه انضم الى الثورة الفلسطينية. تأتي آيمي الى بيروت للقاء شقيقها. وهكذا التئم شملهما مرة أخرى بعد ثلاثة عشر عاماً. وهناك تقع آمال في حب طبيب فلسطيني اسمه ماجد ، وتعود الى الولايات المتحدة وهي حامل منتظرة التحاق زوجها بها. وفي الوقت الذي بدأت حياتها تستقر ، وقعت حرب عام 1982 وحصار بيروت ، فيقتل زوجها ، وتربي طفلتها سارة بمفردها ، لكنها لا تريد لابنتها أن تعرف شيئاً عن فلسطين ، أو السياسة ، أو الحروب. تحس آمال بأن الامومة قد أعادت اليها الرغبة في الحياة ، وقد عبرت عن ذلك بقولها: "هذه الطفلة الضعيفة زرعت في إرادة الرغبة في الحياة ، وقد كرهتها لذلك ، لأن كل ما أردته حينئذ هو الموت".


وفي الفصل الاخير الذي يحمل عنوان "ثمن فلسطين" ، تستدير الرواية الى بدايتها ، وتواجه آمال الجندي الاسرائيلي الذي يحمل بندقية موجهة الى رأسها ، وتعبر عن وعي فلسفي بالموقف وشجاعة تستشعر عذاب الضمير لدى الطرف الآخر: "إنه يعرف ذلك الشعور ، ويتمنى أن يتخلص منه... لكنه لم ير وجه ضحيته من قبل. إن عيني المليئة بحب أم وهدوء امرأة ميتة ، تراه أقل مما هو عليه بقوته وأعتقد أنه سيبكي. ليس الان ، ولكن لاحقاً ، حينما يكون وجهاً لوجه مع أحلامه ومستقبله. أشعر بالحزن نحوه. الحزن على طفل يصير قاتلاً".


تنتهي الرواية بكلمات يوسف في المنفى في تونس ، الذي حمل معه مرارة قتل عائلته في صبرا وشاتيلا ، وعاش تحت خوف إتهام كان منه بريئاً هو تفجير السفارة الامريكية في بيروت. تصف آمال الموقف بقولها: "لقد قتلوا أخي الجميل غيابياً عندما ذبحوا زوجته فاطمة. وقلبه الان ينبض بقوة الغضب".


تضم الرواية بين دفاتها تراجيديا فلسطينية في إطار قصة سياسية واجتماعية. وتبدد الكثير من الصور النمطية والافكار الخاطئة التي روّجها الإعلام في الغرب من خلال قصة درامية مأخوذة من التاريخ ، قدّمتها في إطار قصة انسانية بدلاً من الصراع السياسي.


في كثير من الحوارات التي أجريت معها أكدت أبو الهوى أن الرواية الاسرائيلية ما تزال تهيمن على الاعلام الغربي ، وتمنع الرواية الفلسطينية من الانتشار ، لكنها متفائلة في أن الكتاب الفلسطينيين قد بدأوا في لفت أنظار القارىء الغربي الى حقيقة محنتهم. تقول في هذا الجانب: "نرى الان انبعاث الكتاب الفلسطينيين ، والموسيقيين والفنانين في الغرب ، وها نحن الان نمثل الجيل الثاني والثالث من الفلسطينيين الذين يعيشون في المنفى ، إن صناعة النشر في الغرب تبحث الان عن الرواية الفلسطينية".


يبدو واضحاً من الرواية أن الكاتبة تؤمن بأن المستقبل هو لآمال كما يدل اسمها ، وللشعب الفلسطيني الذي ترمز اليه وتجسد حكايتها حكايته ، أنها تقف على الجانب الصحيح من التاريخ. وفي جواب على رسالة قارئة أمريكية كتبت تقول: "صحيح أنني أنفقت الكثير في هذه المسألة ، ولكن هناك عقوداً من الزمن وأجيالاً عدة ، وعدة دونمات من أملاك العائلة ، وعائلة لاجئة مشتتة. وماذا يشكل هذا كله؟ هذا وطني. تاريخي. عائلتي. أبناء وطني. تراثي وإرثي الوحيد. المكان الذي أنتمي اليه. المكان الذي لا يسمح لي بالعودة اليه بسبب ديانتي"... وأضافت: "إنكم تقفون على الجانب الخاطيء من التاريخ.. إنكم على الجانب الآخر من إرث نيلسون مانديلا".

رابط المقالة بصحيفة الدستور

رابط الصفحة الكاملة (انتظر ريثما يتم تحميل الصفحة)





الجمعة، ديسمبر 24

مهجة كهف.. سورية أمريكية تسبح عكس التيار


مهجة كهف: سورية أمريكية تسبح "عكس التيار"

إياد نصار

* نشرت في صحيفة قاب قوسين بتاريخ 19/12/2010

تسبح الروائية والشاعرة السورية الأميركية وأستاذة الأدب المقارن في جامعة أركنسو مُهجة كهف، عكس تيار الأدب الروائي العربي النسوي المكتوب الانجليزية، وخاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا. ويبدو أنها تخوض سجالاً من نوع آخر مع الرأي العام الغربي، ومع جمهور الأدب في الدوائر الغربية المنشغل بقضايا الأقليات، والإسلام، والحجاب، واضطهاد المرأة في المجتمعات التقليدية. فمن هي مُهجة كهف؟ لماذا تغرد خارج السرب؟ وما جدوى ما تقوم به للمرأة العربية بشكل خاص؟.

ولدت مهجة كهف في أسرة سورية في دمشق عام 1968، وقد هاجرت أسرتها الى أميركا في عام 1971 ولم تبلغ بعد الرابعة حينذاك، وقد عاشت في ولاية إنديانا ودرست في مدارسها. وقد أسست عائلتها مركزاً اسلامياً تعرض للتخريب على يد جماعة الكوكلوكس كلان العنصرية. نالت كهف الدكتوراة في الأدب المقارن من جامعة روتجرز، وهي تدرس الآن الأدب المقارن في جامعة أركنسو، في فيتيفيل، حيث تعيش مع زوجها وأطفالها.

أصدرت كتاباً في النقد بعنوان "التمثيلات الغربية للمرأة المسلمة" في عام 1999. وتتبعت فيه صور المرأة المسلمة في الأدب الاوروبي من العصور الوسطى الى العصر الرومانتيكي. كما نشرت مقالات حول رائدة الحركة النسائية العربية "هدى شعراوي". أصدرت مجموعتها الشعرية الأولى في عام 2003 بعنوان "رسائل الكترونية من شهرزاد". وفي عام 2006 أصدرت روايتها الاولى "الفتاة ذات الوشاح البرتقالي". وقد نفدت طبعتها الاولى والثانية بسرعة وسط اهتمام أميركي متزايد حتى على صعيد القارىء العادي بدراسة الثقافة الاسلامية بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، ومع تزايد أعداد الجالية المسلمة التي تزيد حالياً عن مليونين، وبروز تأثيرها في مناح مختلفة، الى درجة صار معها المواطن الاميركي مهتماً بالاطلاع على جوانب هذه الثقافة الجديدة التي لم تعد مجرد ثقافة في ما وراء البحار، بل صارت بين ظهرانيهم في كل ولاية، وحي وشارع.

تتناول أعمال الروائيات العربيات المغتربات، وخاصة المكتوبة بالانجليزية، قضايا المرأة وإشكالياتها الاجتماعية المرتبطة بالثقافة والدين والعادات والتقاليد، وتصبح في كثير من الأحيان ثيمةً رئيسة تهيمن على العمل الروائي، ضمن تناوله لمسألة صراع الهوية، وانقسام الانتماء وتصادماته بين ثقافتين ونموذجين لأسلوب حياة الفرد والمجتمع، وغيرها من قضايا تواجه المرأة العربية في بلاد الاغتراب. وتتطرق الكتابات الى قضايا من صميم المجتمع الشرقي مثل تابوهات المحظورات التقليدية، وسيطرة قيم المجتمع الذكورية، وتركز خلال ذلك على معاناة المرأة جراء سيطرة هذه القيم، وخاصة جرائم الشرف، وتنقل صرخات الاستغاثة التي تطلقها بطلاتهن في حيرتهن، بين الهروب من المجتمع الذي يحرمهن من العلاقات الانسانية بين الجنسين، وحتى أبسط حقوقهن، وبين معاناة الغربة والاستغلال، وغياب فهم الآخر في المجتمع الجديد. ورغم أن القارىء المستهدف هو القارىء الغربي في الأساس، إلا أن المضامين عربية شرقية في مرحلة تعرضها للاختبار مع تصادم النماذج الحضارية. وتهدف الى كسب التفهم والتأييد والدعم لمعاناة المرأة العربية، والتعاطف على نطاق واسع مع نضالها، وهكذا تصبح هذه الروايات صرخة احتجاج وملاذاً رمزياً للخلاص.

تعلن هذه الروايات التمرد الرمزي على التقاليد، وروابط الدم، وتطبيقات المفاهيم المحافظة، وما تفرضه من التزامات اجتماعية ضاغطة قهرية. ويختلف النقاد في نظرتهم حول الكيفية التي تتناول فيها هذه الروايات قضايا المرأة من حيث ابتعادها أو اقترابها من الصورة النمطية في الأدب والإعلام الانجليزي والأميركي المعاصرين. ومن هذه الأعمال رواية "اسمي سلمى"، ورواية "أعمدة الملح"، للروائية الاردنية فاديا الفقير التي تقيم في بريطانيا منذ ثلاثين عاماً، وهي من الروايات التي حققت حضورا لافتاً في الغرب. وهناك رواية "الجاز العربي" للروائية الأردنية الأميركية ديانا أبو جابر، ورواية "ذات مرة في أرض موعودة"، ورواية "غرب نهر الاردن" للروائية ليلى حلبي، وغيرها. وقد روت الفقير كيف أن الأمر استغرقها سنوات طويلة، حتى بعد أن حملت شهادة الدكتوراة، وأصبحت في الجامعة، كي تخلع الحجاب في ظل ثقافة اجتماعية محافظة، وأمام محاولات الترهيب والضغوط العائلية. هذه الكتابات هي جزء من سعي المرأة العربية للتحرر ومقاومة هيمنة الرجل.

بالنسبة لمهجة كهف، الشابة الجميلة ذات الاثنين وأربعين عاماً التي تضع وشاحاً يغطي جانباً من شعرها، وتستخدم نظارات شمسية، وأحيانا تلبس حجاباً، فالمسألة مختلفة. فهي تؤمن بدور الدين في الأدب، وبدوره المهيمن على كل مجالات الحياة، وتعكس أعمالها رغبة عارمة في العيش ضمن مجتمع محافظ ملتزم بالتعاليم الإسلامية. وتحكي أشعارها ورواياتها "معاناة المرأة المسلمة في المجتمع الأميركي، الموزعة ما بين رغبتها في الالتزام بالحجاب ونمط الحياة المحافظ بحسب مفاهيم الثقافة الاسلامية كما تراها، وبين عدم تفهم قطاعات واسعة من المجتمع الأميركي لها، وربما المتخوفة من وجودها ودعواتها. وتشارك في نشاطات اجتماعية كثيفة في محيطها الأميركي لحمل المسؤولين على مراعاة احتياجات الجالية الاسلامية، واحترام معتقداتها. غير أن الأمر لا يتوقف عند مجرد طلب الفهم والتفهم واحترام حرية المهاجر، بل يتعدى الى محاولة تسويق صورة تقليدية للمرأة العربية وإلباسها قداسة المعتقد الذي يوجب على المجتمعات الغربية احترامه، وهي تدافع عن نموذج ماضوي، لعله يعزز الصور النمطية، ويطرح نفسه وحيداً مدافعاً عن القيم التقليدية، بعكس كل ما تنتقده الروايات النسوية العربية الاخرى.


تقول كهف عن تنشئتها: "لقد نشأت مسلمة. هذا صحيح. ليس فقط مسلمة محافظة، بل تحب الخلافة الإسلامية، بين أناس يأخذون القيم الإسلامية الجوهرية ويضعونها لتعمل في التعليم والسياسة". ولعل هذا ما يخيف المواطن الأميركي عندما يقرأ مثل هذه الأفكار والدعوات التي يعتقد أنها ستطيح بنموذجه الليبرالي. وتذكر أن أميركياً متعصباً كان يرسل لها رسائل تدعو الى "طرد المسلمين من المجتمع الأميركي، لأنه ليس لديهم ما يقدمونه لذلك المجتمع، وتذكر أنه قد أخذ يرسل لها باقات من الورد بعد أن تحاورت معه، ورأى نمط حياتها في أسرتها من خلال مشاهدته للصور، الى درجة وصفها بأنها ملكة جمال سوريا التي خسرتها سوريا وربحتها الولايات المتحدة!.

كتبت كهف في مقالة لها نشرتها في صحيفة الواشنطن بوست بعنوان "أميركية مثلك" في عام 2007 :"المسلمون هم الأخوة الأصغر عمراً في أسرة الديانات السامية، وكالعادة لا تحصل على احترام الأخوة الأكبر عمراً، اليهود والمسيحيون". وأضافت أن "كون أخوتنا الأكبر لم يلصقوا صورنا في دفتر العائلة لا يجعلنا أقل قربى. وقصصنا ليست أقل شرعية لمجرد أن عندنا زاوية مختلفة في تاريخ الأسرة". وأضافت تعبيراً عن توجهاتها المحافظة التي تتباين عن معظم التوجهات النسائية العربية المهاجرة في بيئة تدعو الى المزيد من اعطاء الحرية للمرأة المسلمة لتمارس دورها بموازاة الرجل: "هناك حكمة سائدة بأن التحرريين هم فقط يستحقون البقاء. كلا يا أعزائي. للمسلمين المحافظين حق في أن يتنفسوا كذلك. أن تكون متديناً ورعاً، حتى لو عنى ذلك السجود في المطارات، لا يشكل جريمة".

تعد روايتها "الفتاة ذات الوشاح البرتقالي"، رواية سيرذاتية الى حد بعيد، تنهل أحداثها من منبع السيرة الشخصية للروائية وسيرة عائلتها، ولو اختلفت الأسماء. وفيها تعرض سيرة حياة بطلتها "خضرة الشامي" التي هاجرت مع عائلتها وهي طفلة من بلدها الأصلي سورية في مطلع السبعينيات، واستقرت في ولاية انديانا في الولايات المتحدة. تعتمد الرواية على ابراز المواقف الحياتية المتناقضة، سواء بما يتعلق بالفكر أو السلوك أو الممارسات الإيمانية، التي تجد البطلة نفسها فيها، والصراع الذي يدور بداخلها بين ثقافة الأسرة والقيم التي نشأت عليها في بيتها، وبين نمط الحياة في المدرسة، وما تراه في الشارع والمجتمع بشكل عام. وتسرد الرواية جوانب من معاناة البطلة حينما تتعرض لتعليقات ومضايقات في الشارع، وفي المدرسة حينما لا تجد تفهماً من معلماتها لأفكارها ومعتقداتها وسلوكياتها، أو عندما تحاول مجموعة طالبات نزع الحجاب عن رأسها عدة مرات، ولم تهرع معلماتها لمساعدتها وتظاهرن بعدم الانتباه. كما تسرد الرواية تعرض أفراد أسرتها لاطلاق النار على جانب الطريق ذات يوم حينما تعطلت سيارتهم، وخروج مزارع أميركي شاهراً بندقيته ويطلق النار باتجاهم، واضطرارهم للفرار خوفاً على حياتهم.

تظهر بطلة الرواية خضرة الشامي بمظهر فتاة متدينة في فترة سن المراهقة، حيث تضع حجاباً أسود على رأسها. غير أنها تتخلى عن الحجاب بعد ذلك وخاصة مع تفتح وعيها، لسنوات طويلة، لكنها عادت واختارت أن تلبسه مرة أخرى في منتصف العمر. وفي محاولة لإعطاء تفسير لذلك، فقد ذكرت: "قبل أن أختم روايتي توجتُ البطلة بالحجاب لئلا يقال أنها مسلمة هاربة من مجتمعها المحافظ بحثاً عن ملاذ يخلصها من غطاء الرأس، خاصة مع تزايد الاعتقاد في العالم أن لدى المسلمات رغبة جارفة في نزع الحجاب".

الخشية أن رغبة مهجة كهف في تقديم صورة المرأة المسلمة الى المجتمعات الغربية كما تؤمن بها، وكما تعتقد بانسجام هذه الصورة مع التصور الاسلامي، ومطالبتها للمجتمعات الغربية أن تلتزم بممارسات أكثر ديمقراطية لتقبل الآخر، ورغبتها بتأكيد تميزها عن المرأة الأميركية الأخرى بمعتقداتها التي على المجتمع أن يتقبلها في إطار التعددية الثقافية.. الخشية أن يعزز ذلك صورة المرأة التابعة الخاضعة لسلطان الرجل، ويعيد ربط المرأة العربية بمفهوم الانعزال، والعجز عن الاندماج في مجتمعات الآخرين، فهي تركز على الخصوصية الثقافية والحضارية، ولا تلقي بالاً للمشتركات مع المجتمعات الأخرى. بهذا تتعاكس صورة المرأة المسلمة التي تسعى كهف الى تسويقها في المجتمع الأميركي، مع ما تخوضه الرواية النسوية العربية من مواجهات وتحديات في سبيل حرية واستقلالية المرأة. علماً بأن النموذج الذي تتمسك به الكاتبة والأكاديمية، ما كان يتسنى له فرصة التعبير عنه وترويجه ، لولا وجود بيئة فكرية تتيح تعدد الأفكار والمشارب .



تشيماماندا أديشي تعيد طرح أسئلة الهوية في عالم جديد


تشيماماندا أديشي .."ذلك الشيء حول عنقك"
تعيد طرح أسئلة الهوية في عالم جديد
إياد نصار

* نشرت في صحيفة قاب قوسين بتاريخ 14/11/2010

تشيماماندا اديشي .. ربما يبدو الاسم صعباً على النطق بعض الشيء، لكنه ليس أشد صعوبة من مسيرة الكاتبة نفسها، الوافدة من بلد مكتظ سكانياً، ومنكوب بالصراعات والحروب والفقر رغم ثروته النفطية، وينوء تحت المذابح العرقية والطائفية، وفساد الادارة الحكومية وتسلط القيادات العسكرية. إنها الكاتبة التي انطلقت نحو عالم جديد غريب عنها.


تشيماماندا نجوزي أديشي Chimamanda Ngozi Adichie صوت أدبي نيجيري متألق، يعيد الى الأذهان كتابات مواطنها المسرحي والشاعر وولي سونيكا الفائز بنوبل في العام 1986. تكشف مسيرتها عن شابة مهاجرة ومجتهدة، تشق طريقها في عالم الكتابة وتصنع لها إسماً وحضوراً على الساحة الأميركية. منذ أن صدرت روايتها الأولى في عام 2003 "الخبيزة الليلكية"، لفتت اليها الانظار، وأخذت تحصد الجوائز منذ ذلك الحين، كما استقطبت اهتمام النقاد والصحافة ودور النشر، وحجزت لإسمها موقعاً في عالم الرواية والقصة القصيرة المكتوبة بالانجليزية ومسابقاتها المختلفة، وأصبحت اسماً معروفاً بين أدباء الجيل الجديد الذي ظهر مع بدايات القرن الواحد والعشرين، وخاصة من المهاجرين من افريقيا وأميركا اللاتينية وشبه القارة الهندية الى بريطانيا والولايات المتحدة.

تميل أعمالها الى استلهام حياتها الشخصية في وطنها الأم، وتجارب عائلتها كمحور لكتاباتها. تقول إن نيجيريا ستبقى دائما وطنها، لكنها تحتاج أن تبتعد عنها أحياناً كي تتمكن من الكتابة عنها بشكل أفضل، وتضيف أنها عندما ترجع الى وطنها ستكتب عن أبناء نيجيريا المهاجرين في أميركا.

تشيماماندا قاصة وروائية نيجيرية ولدت في العام 1977 ، تقيم في الولايات المتحدة منذ العام 1996، حين قدمت اليها للدراسة وعمرها 19 عاماً. درست الاتصال والعلوم السياسية في المرحلة الجامعية الأولى، ونالت الماجستير في الكتابة الإبداعية من جامعة جونز هوبكنز في ولاية ماريلاند في عام 2003. وفي العام نفسه أصدرت روايتها "الخبيزة الليلكية"، ثم روايتها الثانية في العام 2006 بعنوان "نصف شمس صفراء"، التي نالت عنها جائزة أورانج البريطانية للرواية النسوية، ثم أصدرت مجموعة قصصية في العام 2009 بعنوان "ذلك الشيء حول عنقك".

تزخر أعمالها بشخصيات تعاني ظروفاً قاسية في بلد يواجه الاضطراب السياسي. وهناك الكثير من سيرة حياتها، ومن مشاهد الحياة اليومية التي تدعم رؤيتها بأن الكتابة "هي عن اولئك الذين عانوا ولم يتح لهم أن يقولوا شيئاً، فالكتابة صوتهم". كما تتناول الدين والصراع مع التراث الإفريقي.

حظيت "الخبيزة الليلكية" بإقبال طيب من القراء واستقبال ايجابي من النقاد منذ صدورها، وفي العام التالي 2004 وصلت الى القائمة القصيرة لجائزة أورانج البريطانية، وفي العام 2005 نالت عنها جائزة كتّاب الكومنولث. وتم إدراج الرواية في المنهاج الدراسي الثانوي في ايرلندا، وكجزء من امتحانات اللغة الانجليزية في عدد من المدارس في أميركا وفي أوروبا.

تجري أحداث الرواية في نيجيريا في فترة ما بعد رحيل الاستعمار، حيث "تزدهر"الاضطربات السياسية والمشكلات الاقتصادية ومظاهر الفساد. تعاني بطلتها الشابة كامبيلي وشخصياتها النسائية عموماً من اضطهاد نفسي، وإعتداءات جسدية، وتزمت ديني، ثم تمر بتجارب تتيح لها الاطلاع على نماذج أخرى من الحياة، في إطار عائلي يتسم بالحرية والاعتدال. تعاني البطلة من تأثير صراعات عاطفية وعائلية، تشهد خلالها بروز الجانب الأنثوي والرغبات الجسدية. تقع جريمة مدوية في العائلة، تمثل صدمةً لها وتخلف آثاراً عميقة لا تنمحي لدى كل أفرادها، ما بين التشرد والسجن والتفكك والمعاناة.

تعود بداية أحداث روايتها الثانية "نصف شمس صفراء"، الى ما قبل فترة الحرب الاهلية النيجيرية التي جرت بين عامي 1967 و1970، والتي عرفت بحرب جمهورية بيافرا المنشقة عن الوطن الأم. تعرض الرواية معاناة بطلتيها الشابتين "أولانا" و"كيانين" في ظل النزاعات بين القبائل. تتزوج أولانا من أودينيجبو وترحل هي وابنتها الصغيرة معه للعيش في الجمهورية المتمردة الجديدة، وتنتهي لاجئة في أحد المخيمات، وتعاني سوء التغذية وفقدان الطعام وأجواء الحرب والقصف والغارات. أما كيانين فتقع في غرام رجل بريطاني حل في البلاد لدراسة الفنون الافريقية وتعيش معه. تحاول كيانين الحصول على الطعام بالذهاب خلسة خلف خطوط المحاربين في الجهة المقابلة، لكنها تختفي ولا يعرف أحد مصيرها بعدئذ . تعكس الرواية جوانب من الحب والزواج والخيانة، في أجواء الصراعات السياسية والحرب، وتنقل ملامح الحياة في نيجيريا الستينيات. تم تحويل الروايةالى فيلم سينمائي.

تضم مجموعتها القصصية "ذلك الشيء حول عنقك" اثنتي عشرة قصة، وقد نشر معظمها في دوريات أدبية معروفة في الغرب، وتطرح قضايا الانسان الافريقي وخاصة المرأة فمعظم ابطال القصص نساء يعانين الاضطهاد أو الاستغلال، كما تتناول مشكلات نفسية وعائلية، وأخرى تتعلق بالهجرة والاغتراب، وقسوة الحياة في المجتمع الجديد ( الولايات المتحدة).

تركز الكاتبة في أعمالها على طرح مشكلات الهجرة والتأقلم والتكيف في حياة المهاجرين من افريقيا الى الولايات المتحدة، والحنين الدفين للوطن. وتبرز محاولات المهاجرين في التشبث بقيمهم التقليدية، التي يعتقدون أنها توفر لهم الملاذ من صدمة الانتقال الثقافية الى بلاد الاغتراب الجديدة.

تمتاز كتابات تشيماماندا بلغة سردية أخاذة ذات روح غنائية، أشاد بها نقاد . وتركز على الجوانب النفسية والداخلية لبطلاتها، وما تنطوي عليه من قلق واضطراب وشعور بالتمييز ضدهن واستغلالهن، سواء في بلادهن أو خلال محاولتهن إقامة علاقة انسانية وبناء عائلة في الغربة. لقيت أعمالها استقبالا كبيراً لما تمتاز به من وصف حيوي مكثف للأماكن والناس في نيجيريا...

تؤكد كتابات تشيماماندا أديشي وغيرها من المهاجرين، أن جانباً لا يستهان به مما ينشر من أعمال قصصية وروائية تلقى استقبالا شعبياً كبيراً أو تفوز بجوائز مرموقة هي من كتابات الوافدين من دول الكاريبي مثل جنوت دياز وإيدويج دانتيكا، أو من شبه القارة الهندية وجنوب شرق آسيا من مثل سنيترا جوبتا، وجومبا لاهيري، وحنيف قريشي. وتطرح كتاباتهم مسائل مهمة مثل الهجرة، وواقع حياة الاقليات في الغرب، والمقارنة بين نموذجين وعالمين وما يتخللها من معاناة نفسية، والعلاقة بين الرجل والمرأة في ضوء تطورات العصر، والدين والعنف، وأزمة الهوية والانتماء، والإحساس بالتهميش.

تشيماماندا صوت واعد، سيكون لها حضور بارز في تشكيل مستقبل السرد في السنوات المقبلة.




الجمعة، ديسمبر 17

الخيط الاسود لجمال القيسي.. صورة البطل في شبابه


قراءة في "الخيط الاسود" لجمال القيسي..

صورة البطل في شبابه

إياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الرأي الاردنية بتاريخ 17/12/2010

تنقسم رواية جمال القيسي "الخيط الأسود" إلى أربعة أجزاء هي: "صوت"، "صدى"، "صوت" و"آخر الصدى". ويشتمل كل جزء على فصول قصيرة. وتمتاز الرواية التي تقع في 154 صفحة، بتعدد الرواة، حيث يسرد الرواية راوٍ رئيس بصيغة الغائب العليم، بالإضافة إلى السرد على لسان اثنين من شخصياتها بصيغة الأنا: "واصل" بطلها، والشيخ يوسف، صديقه وابن حارته. وتعتمد الرواية على أسلوب تداخل الزمنَين الماضي والحاضر، واستدعاء الذكريات وصور الماضي البعيد. ونلمح منذ البداية أنها تدخل عالم الشباب المتدين، وتطرح صراعات الجماعات والأحزاب الإسلامية، ومشكلاتها من الداخل.

يروي الجزء الأول من الرواية الصادرة عن الدار العربية للعلوم في بيروت، والدار الأهلية في عمان بدعم من وزارة الثقافة، قصة الشيخ يوسف وأسرته. ويظهر البطل "واصل" في مستهل الرواية صبيا صغيرا يحضر جلسات صديقه الشاب، بينما تسرد الأجزاء الثلاثة الأخرى سيرة حياة واصل، وتفاصيل طفولته ودراسته في المدرسة، ورحيل والده، وسفر أخيه إلى روسيا لدراسة الطب، وجو المناكفة بينه وبين شقيقته، وكل ما يتصل بعد ذلك بتحولاته الفكرية وانتماءاته الحزبية.

تُبرز الرواية سيرة حياة بطلها منذ صغره وحتى خريف العمر، وما مر بها من أحداث وتحولات، بوصف ذلك جزءاً من التغيرات التي طرأت على المجتمع الأردني من النواحي الاجتماعية والاقتصادية والدينية، وذلك من خلال تناول حياة البطل التي تعبّر عنها علاقاته، وصداقاته، ومناكفاته، وانتماءاته الدينية، وتقلباته من جماعة الإخوان المسلمين إلى حزب التحرير، إلى طلاقه النهائي لهما وهو كبير، وقد نضجت تجربته واستقرت قناعاته على ضوء ما شاهده من التباين بين التنظير والممارسة، وبين الحقائق والواقع.

تؤسس الرواية مسرح أحداثها عبر المكان والزمان، من خلال تطور حبكتها، وتفاعلات شخصياتها منذ بداية الثمانينات، حينما كان واصل فتىً في الرابعة عشرة، وحتى وقتنا الحاضر، حيث صار كبيراً ولديه عائلة. وينتقل مسرح الأحداث من منطقة سحاب مقابل المقبرة الإسلامية، حيث يسكن الشيخ يوسف، وحي الشعيلية في شارع مادبا، حيث يعيش واصل في بداية الرواية، إلى المدينة الرياضية حيث تنتهي الرواية بمشهد واصل جالساً على شرفة منزله، غارقاً في تأمل حصاد تجربة حياته بحلوها القليل ومرها الكثير.

يشكل استغلال الدين منذ الصغر نقطة خلاف جوهرية بين واصل ويوسف رغم علاقتهما الوطيدة، ويصبح مفتاحاً لفهم شخصيته وقناعاته، ويشكل نقطة مرجعية منذ الصغر لدى واصل في الحكم على الأشخاص والمواقف والأفكار. يلمح الشيخ جبريل منذ البدء عقل واصل النابه الشرود، مما يؤدي إلى اقصائه من المشاركة. لم يكن السؤال غير عادي، إلا أن الموقف برمته ينطوي على نقد ثقافة دينية لا تسمح بالاختلاف معها.

ورغم أن الرواية لا تنطوي على أحداث مأساوية أو مواقف كبيرة غير متوقعة أو غير اعتيادية، ورغم مألوف شخصياتها وأحداثها، إلا أنها تشد القارئ بلغتها وأجوائها التي تثير النوستالجيا لكونها ترصد الكثير من ملامح الحياة في عمان قبل ثلاثة عقود.

تتناول الرواية مرحلة من تاريخ مدينة عمان في الثمانينات حينما كان بريد سكان الحي يوزّع عند بقالة الحي، وحينما كانت هناك صحيفة أسبوعية اجتماعية تدعى "أخبار الأسبوع"، تخرج عن خط الصحافة اليومية ذات التوجهات الرسمية، وتملأ فسحة من اهتمامات الناس الاجتماعية والأقاويل في تلك المرحلة.

وتقدم الرواية صورة مصغرة لمظهر اجتماعي واقتصادي طرأ على المجتمع في بداية الثمانينات. يعكس قدوم العائلة المصرية للعمل في الأردن حالة تدعو للدهشة والابتهاج بين سكان الحي. "استقبلت الحارة وجودهم كأنهم سياح قدموا من السويد إلى حواري الهند الكريهة". بدأت الأيدي العاملة المصرية بالقدوم إلى الأردن مع بداية الثمانينات. وسر الدهشة والابتهاج أن الناس في تلك الفترة كان لا يسمعون اللهجة المصرية الجميلة، ولا يشاهدون المواطن المصري سوى في المسلسلات والافلام، والآن صار بين ظهرانيهم.

تطرح الرواية مسألة استلاب الوعي لدى الشباب من جانب الجماعات الدينية قبل أن يتفتح وعيهم. ويشير الراوي إلى بداية وعي واصل بجماعة الإخوان المسلمين التي يشير إليها تورية باسم "الإخوان المستقلين"، وإلى وصايا مؤسسها حسن البنا الذي لا يذكره صريحاً بالاسم، بل يلمح اليه باسم الشهيد الإمام حسن. أهمل دروسه وصار يقرأ منشورات الجماعة وكتبها التي تدعو إلى أسلمة المجتمع، ما يشي بأن ما تقدمه من حلول لا يرى في الدنيا نشاطات إنسانية تستحق الاهتمام سوى الدين.

طرحت الرواية موضوع الدين بشكل أساس بوصفه مكوناً مهماً من مكونات ثقافة المجتمع الذي هيمن عليه الإسلاميون، خصوصا الجماعة، لفترة طويلة من الزمن تجاوزت خمسة عقود. غير أن الرواية تشير إلى تمرد البطل "واصل" على الفكر الذي حاول تدجين عقله، وسخر من قراءاته المستقلة وعدّها "أشكالاً فارغة حمقاء"، وصادر انتقاداته، بل ووصل الامر إلى حد تشبيهه بـ"القوارض" لقيامه بقرض الشعر. تمثل ثورة واصل نقداً للأحزاب التي تسعى إلى مصادرة حق الإنسان في التفكير الحر. وقد وظف التلاعب بالاسم لتوجيه النقد حينما قال على لسان أحد الأشخاص: "الإخوان المتسلّقون".

برز تطور الشخصية في الرواية في حالة واصل، حيث غدا من أكثر الشخصيات جاذبية نتيجة النضوج والمؤثرات التي مرّ بها. فلم يعد تلك الشخصية البسيطة المسطحة، بل تطورت تدريجياً، عاكسة التحولات التي طرأت على فكره، الذي بدأ يثور على المفاهيم التي نشأ عليها في بيئته الاجتماعية التقليدية، ويتمرد على الفكر الحركي. ولعل ما قاله له غسان الذي ينتمي إلى "حزب التغيير"، في تورية تشير إلى حزب التحرير، يعبّر عن ذلك بوضوح: "أنت لا تصلح لهم، ولا هم يصلحون لك"، أو كما قال الراوي: "اليوم تفتحت آفاق ورؤى جديدة، بعيدة الآماد في عينيه".

يشعر واصل بأفق أوسع للحرية مع غسان، ولكن عقله الشرود لا يتوقف عن الأسئلة. يسأله: "لماذا مقر حزبنا في لندن؟"، فيقول له إن "بريطانيا دولة قانون وتحترم حرية الفكر". وتوقعه الإجابة في حيرة، لماذا لا يكون الهدف هو الوصول إلى الديمقراطية بدلاً من دولة الخلافة!.

وبدا أن تطور الشخصيات الأخرى خلال الرواية كان بحاجة إلى اشتغال أكبر، حيث جرى تجميد شخصيات رئيسة وإبعادها عن مسار الأحداث، مثل الشيخ يوسف وشقيقه المسافر، فتحول الراوي عنهما كلياً ولم نعد نسمع عنهما شيئاً. بل إنه ترك العائلة المصرية عند تلك النقطة من الزمن. وركز كلياً على معالجة شخصية واصل حتى نهاية الرواية. وبعد أن تركهم الكاتب في الظل زمناً، عاد في الصفحة قبل الأخيرة ورسم نهايات سريعة مقتضبة لكل منهم.

يلاحَظ في النصف الأول من الرواية غياب الوصف إلى حد كبير، وغياب تدخل الراوي في تحليل الحالات النفسية للشخصيات، وقلة الإسقاطات الفلسفية إلا في حدها الأدنى، حيث تميل لغة الرواية إلى سرد الوقائع بقليل من الانعكاسات الفكرية، ومن دون توسيع زاوية الرؤية أو تداخل الأحداث والزمن، وغياب اللجوء إلى تداعي الأفكار أو المناجاة أو الهلوسات أو الأحلام مما تشتمل عليه الرواية الحديثة إلا في إطار ضيق.

تنتقد الرواية، من خلال توظيف أسلوب المفارقة والتناقض بين القول والفعل وازدواجية معايير الرجل، الثقافة الذكورية القامعة التي يمارسها المجتمع ضد النساء. بل لعل عدم ذكر اسم الأخت الكبرى لـ"واصل" هو بحد ذاته نوع من التهميش الذي يمارَس ضد المرأة إلى الحد الذي تبقى معه بلا اسم أو هوية. ومما يلفت النظر أن الرواية ليس فيها بطلة أنثى أو شخصية نسائية رئيسة! هناك البنت الكبرى لأبي سليمان (الظريفة) التي توصف بأنها جسورة وشرسة وذات حيلة، لكنها تبقى شخصية ثانوية. وهناك نيفين المصرية التي جاء زوجها للعمل في الأردن، وقد استحوذت على عقل واصل، وعلى عقل أخيه الأكبر. وهناك شقيقة واصل الكبرى التي أنقذته من الاحتراق بالنار، وهناك فتاة المدرسة التي يدعوها "الغريبة"، في إشارة إلى توقيعها على كتابها باسم "غريبة الديار". نشأ بينها وبين واصل حب مراهق نتيجة الجفاف العاطفي في بيئة قاسية، ثم لا نراها بعد ذلك إلا وهي في أواخر الأربعينيات وقد تزوجت وصار عندها أولاد.

أبدع القيسي في تجسيد تجارب البطل الأولى في التعرف على الجانب الجنسي في الإنسان من خلال رصد تفاصيل العلاقة بين الفتى الصغير ونيفين الزوجة المصرية العشرينية الجميلة، التي أثارت نوازعه، فاشتعلت ثورة الجسد. كما أبدع في نقل أجواء اللقاء الحميم الأول بين نيفين وواصل، الذي سمّته وهي تضمه، "شيطاناً صغيراً": "خشي أيّ طارئ كوني يقطع عليه هذه النشوة الأولى، وطعم النار الأول، وكنهَ التكوين، وسر الحياة، وعمق النهايات والبدايات!"

في الجزء الأخير من الرواية تتسارع النهايات، حيث نلاحظ حرقاً للمراحل كما سماها الراوي، إذ يعقد مقارنات إزاء مقولات حزب "التغيير"، ما يدعو للحيرة والتشظي، كما يعبّر عن الصراع الداخلي الذي أحس به إزاء "الإخوان"، حيث يتذكر مقولة "أسلمة المجتمعات لاستعادة الحضارة"، ويتذكر قول ابن خلدون أن الحضارات إذا انطوت لا تعود.

وتبلغ الحيرة والتشظي ما بين مقولات الحزبين وتبريراتهما لدى واصل ذروة التأزم. ويدرك أنه احترق في "أتون التجارب المريرة الموجعة المرشومة بالطعنات". ولكن في الوقت نفسه تأتي النهاية، فقد "طلّق الأحزاب وعاقر الأحزان".

تنتهي الرواية بفصل "ما يشبه الخريف"، وهو في حقيقته حصاد العمر المر. لقد استنفد البطل طاقاته في الصراعات الفكرية التي مرّ بها مع الحزبين بحثاً عن "المنهج الصحيح المؤدي إلى الحياة الفضلى". كما نرى واصل متزوجاً وقد حاصره السأم والوحشة، بعد أن ولت أيام "الشباب والعنفوان والطيش".

ومن داخل الجزء الأخير يفسح الراوي المجال لواصل كي يسرد بنفسه عبر تداعي الذكريات خاتمة الرواية، التي تعد أجمل فصولها، بلغة تأملية مثقلة بالتلوينات النفسية والفكرية، وفيها يعرّج بالتحليل على أحداث سيرته ومصائر الآخرين الذين شاركوه التجربة ليصل إلى استيعاب دروس الحياة. وتنتهي بإدراك البطل المنكسر حقيقة وجودية مغرقة في التشاؤم: "في عصر ثورات العلم والمعرفة، وهيمنة الصورة، واجتياح الحدود والعقول، تزعزع الإيمان، وتزلزلت القناعات، بل وانفرط عقد الأمان الاجتماعي، وبزغت فردانية الذات، وتقوقعها. الوشائج الحميمة هلكت، والأواصر العذبة ماتت، وها أنا ذا أعيش على صدى وقعها الماضي، وأعاين نهج الحاضر ولا معقوليته. أنكفئ على نفسي أنشد الخلاص".

رابط المقالة بصحيفة الرأي الأردنية
 
رابط الصفحة الكاملة (انتظر ريثما يتم التحميل)

الأربعاء، ديسمبر 15

ذبح الأدب العربي على رمال الصحراء الذهبية!

ذبح الأدب العربي على رمال الصحراء الذهبية!
اياد نصار
 
ورد في الخبر الذي عممته وكالة الأنباء الأردنية بأن مؤسسة بولندية تدعى الصحراء الذهبية (غولدن ديزرت فاونديشن) مهتمة بالتبادل الثقافي بين العالم العربي وبولندا، وتسعى الى تعميق التواصل الحضاري بين الثقافات عبر مشروع الترجمة الذي أعلنت عنه، وفي سياقه أعلنت كذلك، عن اختيار ممثل لها في الاردن. ويهدف مشروع الترجمة بحسب الإعلان إلى ترجمة أعمال من الأدب العربي لتعريف القارىء البولندي بها، وذلك ضمن مشروع أوسع للترجمة من الادبين العربي والبولندي. يبدو الأمر جميلاً في ظاهره، ونبيلاً في منطلقاته، ما يستدعي الثناء والدعم كونه يسعى الى ابراز تاريخ الأدب العربي، وربما تأثيره في الثقافات العالمية، واتاحة الفرصة للقارىء الاجنبي للتعرف على منابع الثقافة العربية، ومصادرها الأدبية، وتأثيرها في صوغ الهوية للشخصية العربية، وصولاً الى فهم أعمق وأكثر موضوعية للمجتمع العربي، من خلال ترجمة الادب العربي المعاصر المعبر عن واقع المجتمع العربي، وقضايا الانسان المتمثلة في التقدم، والتحديث، والحرية، ومقاومة صور الظلم الداخلية والخارجية، وتحقيق الامن، ورفاهية الانسان، والمشاركة في بناء الحضارة الانسانية.


وإذا كانت ديباجة الخبر تتحدث عن النية للترجمة من الادب العربي بشكل عام، ومن الادب الاردني بشكل خاص، بدلالة وجود شخصية أردنية كرئيس للمؤسسة، واختيار أستاذة جامعية ممثلا لها في الاردن، فإن عناوين الاعمال المختارة، التي تم الاعلان عنها لتكون باكورة مشروع الترجمة، تجعلني أضع يدي على قلبي من هدف المشروع، أو حتى أن يكون له أي دور مما ذكر، فالمختارات لا تقدم، بأي صورة من الصور، تمثيلاً حقيقياً يعكس روح الأدب العربي، وأظن أن أسماء القصص التي تم اختيارها تدل أنه لا يوجد هناك معايير أدبية أو نقدية واضحة للاختيار بناء عليها. ليسمح لي القائمون على المشروع القول بأن الشخصيات التراثية المختارة والعنوان الذي أسند لكل واحد منهم تناسب قصصاً للفتيان أكثر من مشروع للتبادل الثقافي الذي يفترض أن يعكس مستوى فكرياً عالياً، وأساليب لغوية سردية أو شعرية تحمل خصائص الادب العربي في العصور التي ينتمي اليها. وماذا يهم القارىء البولندي أن يقرأ قصصاً للاطفال عن العز بن عبد السلام والامام الليث بن سعد وابن تيمية؟ يبدو لي أن هناك دوافع غير أدبية ومنطلقات قد تكون دينية أو تاريخية وراء المختارات تجعلها أقرب ما تكون الى نماذج من النصوص المدرسية التي تهدف الى نشر قصص الحكمة والزهد والموعظة والتفاخر بالانجازات العلمية أو التاريخية.

والسؤال الاهم هو ما هي الحكمة التي نريد ايصالها للقارىء البولندي؟ هل نريد تعريفه بمواقف معينة سجلتها الشخصية ، أم نريد له أن يعرف مضامين أدبنا العربي القديم وأساليبه وخصائصه؟ أم أن الهدف هو تقديم الادب العربي المعاصر، وهو ما لا تعبر عنه القصص المختارة؟ أم أن الهدف هو التربية الاسلامية للطفل العربي ما لا يحتاج معه الامر الى ترجمة الى البولندية ، إلا إذا كان الهدف هو تربية الطفل البولندي على هذه القصص! ماذا يعني القارىء البولندي أن يعرف قصة الليث بن سعد؟ هذا إن كان هناك نفر يعرفونه هذه الايام من القراء العرب من غير المتخصصين في تاريخ القضاء في الديار المصرية، وهل هذه القصة التراثية تفيد الأدب العربي في بولندا كثيراً؟ وأما الخليفة هارون الرشيد ، فإنه حكاية بحد ذاتها. تاريخ هارون الرشيد خلافي، وهناك الكثير من القصص التي رويت في مصادر الأدب العربي عن مجالسه وندمائه وحلقات الرقص والنساء والغناء في قصره. ربما يود بعضنا أن يعيد كتابة التاريخ، ويسند الى هارون الرشيد تاريخاً من الفتوحات والزهد. لا أظن أن عبارة واحدة قيلت عنه تكفي لتغيير الكثير من قصص كتاب الاغاني وغيرها مما ورد في كتب الادب العربي والمصنفات الادبية والتاريخية الموسوعية. يبدو لي أن خلف الاكمة ما ورءاها، وأن كل هذه الكلمات الرنانة التي تتحدث عن مشاريع تبادل ثقافي وحضاري مجرد واجهة كبيرة لمشروع صغير. فهل ترجمة مجموعة من قصص الاطفال التراثية الى البولندية تستحق عناء هذه الاعلانات الضخمة المضللة؟

لقد أصابني اختيار الأعمال بالخوف والذهول والشفقة على مصير هذا الطموح الكبير الذي كما يقول المثل تمخض الجبل فولد فأراً. لم أجد ما يجمع بين عناوين القصص سوى الرغبة الساذجة في التباهي بمنجزات شخصيات تاريخية من عصور مختلفة، ولا يجمع بين كثير منها جامع، ولا يضيف أي منها الى الادب العربي الحديث شيئاً.

أدعو القائمين على المشروع الى مراجعة الاسس والمنطلقات التي تحكم مشروعهم، ووضع معايير تستند الى تقاليد نقدية وأكاديمية بعد الاستفادة من خبرات المتخصصين في تاريخ الادب، وفي تحديد الكتب والاسماء التي تستحق البدء بها وشملها بالمشروع، مع التركيز على الادب العربي الحديث، الذي قد يسهم أكثر في تفهم المواطن البولندي لقضايا المجتمعات العربية المعاصرة.

لقد قمت بمراجعة موقع مؤسسة الصحراء الذهبية على الانترنت والاطلاع على كافة محتويات الموقع، واستغربت بأن تفاصيل الخبر المنشور في الدستور نقلاً عن وكالة الانباء والاسماء المختارة، لم تكن على الموقع الرسمي للمؤسسة، ولم يكن هناك ما يشير الى اعتماد ممثل المؤسسة في الشرق الاوسط، وقد كان الأحرى بها أن تعلن قبل غيرها عن هذه التطورات. وكل ما وجدته هنالك هو تعريف بعبارات عامة بغايات المؤسسة وأهدافها في التعاون عند نقاط التقاء الحضارات، وقد أدرجت المؤسسة عدة من أهداف أعتقد أنها أكبر من قدرة مؤسسة واحدة على تحقيقها، بل وتحتاج الى عدة مؤسسات رديفة لانجازها، وهي بالاضافة الى التعريف المتبادل بين العربية والبولندية، تشمل حماية الفنون والثقافة والتراث، والدفاع عن الحريات وحقوق الانسان والحقوق المدنية والديمقراطية والادارة الذاتية ما يلقي بظلال الشك على الهدف الحقيقي للمشروع، وخاصة أنه ذكر أن المؤسسة تقبل مساعدات نقدية وعينية من جهات محلية وأجنبية ، أو أن ما ذكر هو مجرد شعارات كبيرة، لا بأس من وضعها على الموقع، طالما لا تكلف شيئاً. أعتقد أن كل مشروع من هذه المشاريع، وخاصة ترجمة الادب العربي، يحتاج الى تشكيل لجان متخصصة وهيئات مراجعة واختيار توفر رؤية استراتيجية للمشروع، وتؤمّن منهجية متوازنة للقائمين على العمل تنطلق من ضوابط ومعايير لمثل هذه المشاريع الثقافية.

واذا كان هدف المشروع هو التعريف بالادب العربي عامة والادب الاردني خاصة، فأين نصنف هذه المجموعة ذات القصص الدينية التراثية منه؟ هل تعد عملاً يمكن دراسته على أنه نموذج من الادب الاردني الحديث؟ يذكر موقع المؤسسة أن الهدف من أعمالها هو ترجمة الاعمال العظيمة من الادب البولندي الى العربية ، ومثلها من الاعمال الكلاسيكية العظيمة من الادب العربي. فهل ترجمة قصص للاطفال تدور حول شخصيات تراثية يجعل من القصص أعمالاً عظيمة؟ هناك خلط كبير وتقديم للامور على غير حقيقتها. وإذا كانت المؤسسة راغبة فعلا في التعاون على هذا المستوى الرفيع، فلماذا لا تعقد صلات أدبية حول الترجمة مع الجامعات الاردنية ودور النشر والمراكز الاكاديمية المتخصصة أو وزارات الثقافة أو مع الهيئات التي تمثل الجسم الأدبي في الاردن والعالم العربي مثل اتحادات الكتاب وغيرها؟ إن العمل الوحيد ضمن مشروع الترجمة الذي وجدته على موقع المؤسسة، بخلاف ما يقوله الاعلان عن مشاريع كثيرة للترجمة، يخص ديوان "تواضعت أحلامي كثيراً" للشاعرة الكويتية سعدية مفرح، والذي تم في شهر تشرين الثاني من عام 2009، ويبدو أن المشاريع الأخرى مجرد أحلام على الورق بعد.

رابط المقالة بصحيفة الدستور

رابط الصفحة الكاملة (انتظر ريثما يتم تحميل الصفحة)




الجمعة، ديسمبر 3

سؤال فينكلر.. رواية كوميدية لكن خطيرة


فازت بجائزة البوكر للرواية البريطانية لهذا العام

تحدثت عن حماس ومنظمة التحرير وحزب الله
سؤال فينكلر.. رواية كوميدية لكن خطيرة

إياد نصار
* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الدستور يوم الجمعة 3/10/2010

أثارت رواية «سؤال فينكلر» The Finkler Question للروائي البريطاني اليهودي هوارد جاكوبسون الاهتمام منذ لحظة إعلان فوزها في شهر تشرين أول الماضي بجائزة مان بوكر للرواية المكتوبة بالانجليزية لعام 2010 ليس في الصحافة العالمية فحسب، وإنما في الصحافة العربية أيضاً لعدة أسباب: لم تكن الرواية في عداد التوقعات الأوفر حظاً بالفوز، وخاصة أن الروايات الست التي تأهلت الى القائمة القصيرة التي تسبق الاعلان عن النتيجة النهائية، اشتملت على روايتين، كان الفوز متوقعاً لإحداهما، وهما "سي" للروائي البريطاني توم مكارثي، و"الببغاء وأوليفيه في أمريكا" للروائي الاسترالي بيتر كاري. ولم تحظ رواية "سؤال فينكلر" بموافقة جميع أعضاء لجنة التحكيم الخمسة، حيث صوّت ثلاثة لصالحها فقط.

وكانت هذه أول مرة تمنح الجائزة لرواية كوميدية منذ أن مُنحت الجائزة لأول مرة عام 1969، مع أن رواية "الشياطين الكهول" للبريطاني كينغسلي آميس والتي فازت بالبوكر في عام 1986 كانت تتسم بروح فكاهية. تتناول الرواية مسألة "اليهودية" كدين وكشخصية في إطارها التاريخي والسياسي، وتركز على المشكلات الثقافية والعرقية والاجتماعية التي ترتبط بمسألة أن تكون يهودياً في بريطانيا، من خلال حوارات شخصياتها الطويلة والمملة أحياناً، والتي تأخذ قسطاً كبيراً يعوّض عن قلة الحدث في الرواية. لم تتطرق الصحافة الغربية التي غطت أخبار فوزها الى الجانب السياسي المرتبط بفلسطين، والنضال الفلسطيني، والنظرة الى الصراع مع الصهيونية، ومقاطعة اسرائيل، وما يسمى بمعاداة السامية، وقصرت الحديث عن أزمة الهوية بالنسبة الى الشخصية اليهودية في بريطانيا، بينما انقسمت بعض الصحف العربية حيالها، بين من رآها تشن حملة شعواء على الصهيونية بفضل النقد الشديد الذي تنطوي عليه على لسان بعض شخصياتها، وبالتالي رأت أن كاتبها معادْ للصهيونية، وبين من عدّ الكاتب صهيونياً. وبرأيي فإن كلا الموقفين لم ينطلقا من قراءة تأملية تعاين مضمون الرواية، وإنما اعتمدا على تاريخ الكاتب، ومواقفه، وبعض المقتطفات التي وردت في الصحف الاجنبية أثناء التغطية. وفي بعض الاحيان اختارت صحف أخرى طريقاً أسلم من "وجع الراس" في نقل الخبر كما هو، مع إغفال كل ما يتعلق بالجانب اليهودي، وهو ما انتقدته "فيروز التميمي" في تعليقها الاسبوعي في "الدستور" في الشهر الماضي.

تقع الرواية التي صدرت هذا العام عن دار نشر بلومزبري في بريطانيا في 320 صفحة، تقسم الرواية الى قسمين رئيسين وخاتمة قصيرة للغاية. يتكون القسم الاول من خمسة أجزاء، والثاني من ثمانية.

يبدو أن المؤلف شرع في كتابة الرواية في بداية عام 2009، حيث يرد فيها كثيراً ذكر غزة، والحرب على غزة، أكثر من أي شيء آخر يرتبط بفلسطين وتاريخ القضية الفلسطينية. كما تعكس الرواية، وبكثير من القلق لدى أبطالها في حواراتهم، ما رافق الحرب من احتجاجات عالمية واسعة النطاق، ودعوات انطلقت من أماكن مختلفة ومطالبات من شخصيات أدبية وأكاديمية بمقاطعة اسرائيل.

تتحدث الرواية عن حياة أبطالها الثلاثة وهم: إثنان من الرجال الأرامل اليهود، صمويل فينكلر وليبور سيفشيك، ورجل انجليزي يعد نفسه "أرملاً فخرياً" بينهما، اسمه جوليان تريسلَفْ، لأنه يعيش بمفرده بعد أن هجرته النساء اللواتي أحبهن في حياته، وخاصة جوزفين وجانيس، اللتين أنجبتا منه ولدين، ألفريدو ورودلفو، رغم أنه لم يتزوج منهما. تفتتح الرواية بصوت الراوي يتحدث بضمير الغائب عن تريسلف الذي "كانت حياته سلسلة من فشل الى آخر". رجل متشائم يعيش أزمة الفقدان والوحدة، ويحاول أن يجد لحياته معنى من خلال التعرف على "اليهودية"، فيدخل في عالم الأقليات الدينية، وما يكتنفه من خوف وتشبث بالهوية، ويبدأ يعيش الصراعات السياسية التي تجري بين أتباعها، وكما يقول الراوي في افتتاحيتها: "رأى الاشياء آتية لا محالة. ليس هواجس غامضة قبل النوم وبعده، لكن مخاطر حقيقية قائمة في وضح النهار" في إشارة تحضّر القارئ نفسياً لكي يدرك المخاطر والتهديدات، التي تظل الشخصيات اليهودية الأخرى تعبّر عنها، والتي تعتقد أن اليهود يواجهونها في المجتمع البريطاني خاصة، أو في العالم عامة، فيتعاطف معهم، لأنهم، كما يزعمون، ضحايا يدفعون ثمن ما يجري في مناطق أخرى مثل غزة.

تمتاز لغة السرد بتوظيف الكوميديا والسخرية في كثير من المواضع، وخاصة في أثناء الحوار. يُظهر الموقف التالي بين عشيقتي تريسلف الجو الفكاهي الساخر الذي يسيطر على حوار الشخوص في الرواية، أو يصبغ السرد حينما يعلّق الراوي على تصرفات الشخوص وقناعاتهم وأحاديثهم. قالت جوزفين تخاطب جانيس: "أستطيع أن أتفهّم أن يذهب الى امرأة سمراء لديها ثديان كبيران وفخذان مستديران وذات مزاج لاتيني ناري، ولكن ماذا كان يظن أنه يرى فيك ما لم يجده لديّ؟ فكلتانا بقرة أنجلو سكسونية ممصوصة الجسد". لم يكن تريسلف البالغ تسعة وأربعين عاماً سعيداً في عمله مقدمَ برامج لسنوات طويلة في هيئة الاذاعة البريطانية البي بي سي، وتدل سيرة حياته العملية في الاذاعة أنه ظل شخصاً هامشياً يشعر بالعزلة والاغتراب، وقد عبّر في كتاب استقالته عن تساؤل مرير: "هل سيشعر أحد بغيابي إذا توقفت عن الحضور؟" بعد أن ترك البي بي سي، عمل في عدة وظائف مختلفة، ما كان يوحي للنساء بأنه يحب التغيير والمغامرة، حتى يكتشفن لاحقاً أن الحقيقة غير ذلك، فكنّ يتهمنه بالملل وخنق إبداعهن، ويتركنه من غير تمهيد أو رسالة. لذا نجد في نهاية الرواية أن صديقته اليهودية "هيفزيبا" التي تعلق بها كثيراً، وصار يعدّ نفسه يهودياً نتيجة تأثيرها وتأثير أصدقائه الآخرين عليه، قد تركته دون أن تترك له كلمة.

كانت حياته سلسلة من الخسارات، وانتهت كل علاقاته بالفشل الذي حطم استقراره النفسي. وجد تريسلف في اللقاءات المتكررة بأصدقائه فينكلر وليبور ضالته المفقودة. ورغم الاختلافات بينهم في السن، والوظائف، والأفكار إزاء المرأة، أو الزواج أو الدين أو السياسة أو حتى نظرتهم الى أنفسهم، فقد جمع بينهم عامل أقوى هو الشعور بالحرمان.

على صعيد الحدث، تفتتح الرواية حبكتها بعودة جوليان تريسلف ذات ليلة من عشاء مع صديقيه فينكلر وليبور الى البيت في لندن، وقد أراد أن يتمشّى في طريق العودة، لكنه تعرض لإعتداء من قبل امرأة مجهولة، تهجم عليه، وتسلبه هاتفه الخلوي ومحفظته، وساعته، وتدفعه الى واجهة محل للموسيقى يبيع الكمنجات، حتى تهشم الزجاج.

شكلت الحادثة محور اهتمام تريسلف طيلة الرواية، وصارت هاجساً وانشغالاً يومياً بالنسبة له، تغيرت معها حياته بعدها الى الأبد. يتناول الراوي تفاصيل الحادثة، مثلما يفعل في أكثر المواقف الجادة، بروح الكوميديا. يتحرق تريسلف لمعرفة من قامت بها، ولماذا هاجمته، وهل قصدته هو، أم أنها ظنت أنه يهودي، أم كانت مأجورة من جهة ما لتنفيذ ذلك. بقيت كل هذه الاسئلة بلا إجابات. كان الشيء الوحيد الذي قالته المرأة عندما هاجمته "أنت جو".. وظل يحلل هاتين الكلمتين.. هل كانت تقصد أنت جوليان؟ أم كانت تقصد أنت يهودي "تُلفظ كلمة يهودي في الانجليزية جو". وهكذا راح يربطها باليهود، واستنتج أن لها صلة بالغضب الشعبي على مستوى العالم ضد اسرائيل نتيجة الحرب على غزة. تتضح خطورة تحليلات تريسلف حين يتم ربط حادثة اعتيادية، يمكن أن تقع لأي انسان بفكرة العداء لليهود أو كما تسميه الرواية "معاداة السامية"، لإثارة التعاطف مع اليهودي الضحية.

أما ليبور سيفشيك، فهو أرمل يهودي أصله من التشيك، في حوالي التسعين من عمره، ترك بلاده في عام 1948 هرباً من القمع الشيوعي. وانتهى به الأمر في بريطانيا معلماً لتاريخ التشيك في المدارس، وهي مهنة كان يمقتها. "يعلم سخافات تاريخ التشيك الى طلاب المدارس الانجليز في إحدى مدارس شمال لندن الحكومية. إذا كان هناك من شيء أكثر سخفاً من تاريخ التشيك فإنه تاريخه هو". ترك ليبور التدريس والتحق في دائرة التشيك في البرنامج العالمي لهيئة الاذاعة البريطانية نهاراً، وكان يكتب في الصحافة عن حياة نجمات هوليوود وإشاعاتهن ليلاً.

كان ليبور متزوجاً لمدة تزيد على نصف قرن من امرأة اسمها مالكي. كانت مالكي هوفمانسذال تحب الموسيقى، وكانت عائلتها تتوقع لها أن تكون عازفة كونشيرتو مشهورة لولا زواجها منه. وإذا كانت الرواية تقرن جمال مالكي ورائحتها بالروائح العطرة للجزيرة العربية، وإذا كانت الرواية لا تهاجم العرب بشكل مباشر، كما اعتدنا في بعض الروايات ذات الميول الصهيونية، إلا أن هناك صوراً وتشبيهاتْ سلبية للعربي وردت في أكثر من موضع ما بين نموذج شره الى إرهابي أعمى. ففي حوار بين ألفريدو ورودلفو حول إن كان والدهما يهودياً، تتدخل جوزفين قائلة: "لا يمكنك أن تكون يهودياً أبداً اذا اعتمدت على أبيك وكان عربياً كبير الجثة وله أسنان ذهبية". وقالت جانيس: "اصمتوا" وهي تحذرهم بنظرات عينيها، فقد كانوا في مطعم لبناني.

تعبّر مواقف ليبور عن توجهاته اليهودية اليمينية التي تؤمن بالمشروع الصهيوني. ولا يرى أي عيب في ممارسات اسرائيل ضد الفلسطينيين: "إن أغلب ما يقوله نقاد اسرائيل عنها هو عملياً ليس عنها"، أما الشخصية الرئيسة الثالثة والاكثر حيوية وإثارة للجدل بسبب آرائها الجريئة في النقد السياسي والثقافي والديني فهو صمويل فينكلر الذي غير اسمه الى سام فينكلر، والذي توفيت زوجته تايلر بشكل مفاجيء، ما "جعله أكثر غضباً من كونه حزيناً". حدثت خلافات بين سام وتايلر، وكانا على طرفي نقيض من موقفهما من اليهود، واسرائيل. كانت تايلر تبدو دائماً منطوية وكتومة بعض الشيء. ونعرف فيما بعد، أنها قبل وفاتها، كانت على علاقة جنسية حميمة مع تريسلف. والآن، كما يؤكد السارد، فإن أسرارها قد دفنت معها.

كان تريسلف وفينكلر زميلين أثناء الدراسة. ولكن في أكسفورد تخلى فينكلر عن انتمائه الصهيوني نهائياً. تقدم الرواية وعلى نحو ذكي وفكاهي الصورة النمطية السلبية التي كان يحملها تريسلف عن اليهود قبل أن يتعرف على فينكلر، وتبرزها على أنها نموذج لما يحمله الاخرون، وحتى المثقفون منهم، عن اليهودي، ما يضع القارئ في موقف التعاطف ورفض الصورة النمطية.

يشكل نموذج فينكلر نقيض ليبور في كثير من آرائهما السياسية، ومواقفهما من اسرائيل، والصهيونية، وحتى اليهود أنفسهم، ويبقى الصراع بينهما محتدماً طيلة الرواية. يمثل فينكلر اليهودي الذي يكره الصهيونية كرهاً شديداً، ويكره إسرائيل، ويرفض الاعتراف بها، ويمقت ممارساتها ضد الفلسطينيين، ويتفهم أسباب العداء ضدها، وضد السامية.

التحق فينكلر بمجموعة من الاكاديميين اليهود الذين أطلقوا على أنفسهم تأثراً بأفكاره اسم اليهود الذين يشعرون بالخجل، أو "اليهود الخجلين". كانت الحركة ذات أطياف مختلفة تشمل يهودا يخجلون من الصهيونية. وكان فينكلر عضواً قيادياً وفاعلاً في الحركة. لا يخلو حديث الراوي عن أعضاء المجموعة من التهكم نتيجة هذه التوليفة الغربية في النشأة والدوافع، ويضرب مثالاً على أحدهم الذي اكتشف أنه يهودي فقط من خلال البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، وفي آخر مشهد في الفيلم يظهر وهو يبكي عند نصب الضحايا في معسكر الاعتقال النازي في اوشفيتز على أجداده الذين لم يعرفهم. يقول الراوي: "لقد ولد يهودياً يوم الاثنين، وأصبح عضواً في اليهود الخجلين يوم الاربعاء، وشوهد وهو يهتف "نحن كلنا حزب الله خارج السفارة الاسرائيلية في يوم السبت"، غير أن القارئ يكتشف أن هناك جانباً خفياً خطيراً يتمثل في أن هذا الصوت اليهودي المعارض يتم تصويره وكأنه ملاك العدالة الذي يبحث عنه الجميع، يقول الراوي: "لقد احتاجته الحركة، واحتاجه الفلسطينيون، واحتاجه نادي غروشو [النادي الذي كانوا يعقدون فيه لقاءاتهم]"، أدرك فينكلر وتريسلف أنه عندما يتكلم ليبور عن اسرائيل، فإن الهدف من كلامه، هو حقن الناس بحقيقة وجودها، أكثر من الرغبة في العيش فيها. وعندما ينطق بكلمة اسرائيل، فإن صوت الراء يخرج "كما لو أن في الكلمة ثلاثة حروف مشددة، ويسقط حرف اللام، لكي يشير الى أن المكان يخص الله". وفي المقابل، لم يسمح فينكلر لنفسه أن يستخدم كلمة اسرائيل أبداً. "لم يكن هناك اسرائيل. كان هناك فقط فلسطين. بل لقد سمعه تريسلف يقول في مناسبات إنها بلاد كنعان. كان سام فينكلر يبصق الكلمات المرتبطة باسرائيل مثل صهيوني، وتل أبيب، والكنيست كما لو أنها كانت لعنات".

يقدم الراوي الكثير من الاراء والتحليلات النفسية والدينية والتاريخية والسياسية في معرض سرده، أو تعليقه على الشخصيات، ما يلقي الضوء على تفكير الشخصية كما يراها، والاسئلة التي تدور في ذهنها، ويمارس الراوي في كثير من الاحيان دوره السردي بنبرة تعليمية حيث يقحم وجهة نظره وتفسيره لما يجري بشكل واضح. لكن ميله المفرط للتعليق والتحليل يجعله يبدو أحيانا كأنه مجرد واجهة يختبئ المؤلف خلفها، يضع الكلمات في فمه، لكي لا يترك للقارئ فرصة أن يرى الشخصية كما يحسها ويفهمها، بل كما يريدها المؤلف.

ومثلما يختلف فينكلر مع ليبور حول الموقف من اسرائيل، والشعور بالخجل إزاء ممارساتها، فإن الامر ذاته ينطبق على نظرة كل منهما الى ما يسمى في الصحافة الغربية بمعاداة السامية. يتهم ليبور فينكلر بأن أصدقاءه معادون للسامية، لكن فينكلر ينفي، ويفضح منطلقات ليبور بقوله: "أي يهودي ليس من النمط الذي تريده تعده معادياً للسامية. إن هذا سخف وعمل شرير".

ومن جهة أخرى، التقى ليبور بامرأة يهودية لم يرها منذ نصف قرن تدعى ايمي اوبنشتاين بعد حادثة وقعت في لندن لحفيدها الشاب الذي تعرض للطعن في الوجه وفقدان البصر، على يد رجل جزائري كان يصيح بالعربية "الله أكبر"، و"الموت لليهود". تستغرب المرأة كيف يكون فقدان بصر حفيدها مبرراً بما حصل في غزة. وترى أن الناس لا يحتاجون الى سبب لكي يكرهوا اليهود.

يتضح من الحوار بينهما ومن تدخلات الراوي الكثيرة، والتي تبدو، في معظم الاحيان، مقحمة على النص لدفع الأمور باتجاه معين، والايحاء للقارئ بتفسيرات معينة أو ترسيخ مواقف في ذهنه، أن هناك ايحاءً بأن كراهية اليهود عادت من جديد، وأن العداء متأصل منذ قديم التاريخ. وهكذا تصبح أفعال اسرائيل والجرائم التي ارتكبتها في غزة في الظل، بينما حادثة الاعتداء على الشاب هي القضية الأهم، كما أن الرواية لا تتطرق الى ما جرى في غزة الا مروراً عارضاً في سياق الاحداث في المرات كلها التي ذكرت فيها، بينما تصبح هذه الحادثة وكل حوادث "معاداة السامية" هي بؤرة الاهتمام.

إن الاسلوب المسهب في الشرح الذي كتبت به بعض نصوص الرواية، والذي يصل حد استخدام النقاط الفرعية المرقّمة للتعبير عن موقف فكري، يبين طبيعة الأسلوب الذي يهيمن على الرواية، وتشعر أن اللغة الأدبية قد توارت أحياناً، وتحول النص الى نص تقريري سياسي أو فكري.

ما يلفت النظر في الرواية وبشكل صارخ هو تقديم صورة مقارنة متحيزة تقوم على ابراز الديمقراطية لدى الجانب اليهودي والايمان بالحوار رغم الاختلاف، ونقيضها أو غيابها لدى الجانب العربي والمسلم. فبرغم انتقادات فينكلر المريرة والساخرة للصهيونية ولاسرائيل، وشعوره بالخجل منهما، وعدم الاعتراف باسرائيل أو حتى ذكر اسمها، إلا أنه لم يكن يخشى من ردة فعل اليهود المؤيدين، ولم يكن يكترث من الانتقام منه، بل ظل يحاورهم دون أن يبدو أن هناك أي خطر يمكن أن يلحق به نتيجة ذلك، بينما ركزت الرواية على إظهار ردة الفعل العربية والاسلامية من خلال التهديدات التي يتعرض لها اليهود في لندن.

يتضح إصرار المؤلف على تقديم صورة زاهية عن الشخصية اليهودية المؤثرة في الاخرين انطلاقاً من موقفها الأخلاقي، من خلال دور فينكلر وبعض الشخصيات الأخرى التي تشاركه قناعاته. ويبدو لي أن للمؤلف هدفاً غير معلن يتمثل في إبراز وجه آخر جميل بشكل غير مباشر، رغم بشاعة الواقع وحجم الانتقادات للصهيونية واسرائيل في الرواية، والادانات الدولية للحرب على غزة. تدفع الرواية على نحو خفي ذكي باتجاه كسب التعاطف مع الشخصية اليهودية التي تصورها قادرة على إثارة الاعجاب، وتبييض الصورة التي تلطخت بالدماء والعار في مكان آخر.

يجب الاشارة الى أن هناك توافقاً بين مواقف المؤلف هوارد جاكوبسون التي يعبر عنها في مقالاته التي ينشرها في الاندبندنت بخصوص رفض مقاطعة إسرائيل، وآراء فينكلر في الرواية. في أثناء نقاش مسودة بيان للنشر في الغارديان، يقول فينكلر: "غزة تحترق ونحن نتجادل حول ما نستطيع فعله، بينما في الوقت نفسه نشكو بأن قصف غزة بالصواريخ والقنابل لم يكن متكافئاً". غير أن هذا الموقف الرافض للحرب، والذي يرفض حتى الاعتراف باسرائيل ويظل يشير اليها باسم فلسطين، حتى صارت زوجته تناديه بتهكم يا "مستر فلسطين"، يبدو متناقضاً مع نفسه، حين يصل الامر الى المطالبة بمقاطعة إسرائيل دولياً. لا يؤيد فينكلر دعوات المقاطعة، وخاصة المقاطعة الثقافية الشاملة للجامعات والمؤسسات الاسرائيلية، ويعتبرها أقسى أنواع المقاطعة. وهو الموقف نفسه الذي عبّر عنه جاكوبسون في تصريحاته بهجومه على المطالبين بالمقاطعة.

من الشخصيات التي تتبنى مواقف متقدمة في نظرتها الى الأمور في الرواية هي الناطقة باسم الحركة تمارا كروسز، وهي تؤمن بأن على اليهودي أن يظهر أن كونه يهودياً، فهذا أمر لا يحمل التزاماً بالدفاع عن اسرائيل في وجه الانتقادات التي تثار ضدها. وبالنسبة لها، فإن النموذج الصهيوني هو إجرامي منذ البداية، وضحايا ذلك الاجرام ليسوا الفلسطينيين وحدهم، ولكن اليهود أيضاً في كل مكان.

لا بد من الاشارة الى أن الرواية تقرن بأسلوب غير عادل بين خطايا اسرائيل وأخطاء حماس، وتغفل أن ظروف الاحتلال وممارساته القمعية والحصار هي المسؤول الاول والاخير عن أية تصرفات تنتقدها المنظمات الانسانية الدولية، فظروف الحياة غير الطبيعية في القطاع كفيلة أن تفرز ممارسات غير طبيعية. تذكر تمارا بأنه خلال وجودها في فلسطين، فقد التقت بمجموعة من ممثلي حماس لتعبر عن قلقها من برنامج الأسلمة الاجباري، وحذرتهم أن من شأن ذلك أن ينعكس سلبياً على دعم حماس الذي تتطلع اليه من مجموعات متعاطفة في أوروبا وأمريكا.

ينتاب تريسلف قلق حينما كان شاهد يهودي ضخم الجثة يدخل ويخرج من الكنيس على دراجة نارية سوداء، وقد لفّ وجهه بكوفية منظمة التحرير الفلسطينية [كوفية فلسطينية هكذا يسميها]. وبينما ينشغل تريسلف بالتفكير في الكوفية، تتوارد أفكار الى ذهنه تعكس مدى التأثير الصهيوني عليه، الى درجة يظن فيها أن الكوفية، التي تشكل جزءاً من اللباس الشعبي الفلسطيني، ورمزاً من رموز النضال، يهودية في الاصل، لبس مثلها موسى وابراهيم، في تزوير لتاريخ فلسطين لم يسلم منه اللباس. كما يربط الكوفية بمنظمة التحرير وكأنها مجرد رمز حركي، التي يرى أنها ـ أي المنظمة ـ صارت "أقل ما يثير قلق إسرائيل".

يمارس الراوي، ومن خلفه المؤلف، لعبة ذكية خطيرة، فعلى الرغم من أن شخصية فينكلر أكثر جرأة على رفض الموروث، والخروج من سطوة المحرقة، وكل الأحداث والأساطير التي ترتبط بالتاريخ اليهودي، وأكثر قدرة على التحليل والنقد، وأكثر ذكاء وعمقاً، إلا أن الرواية تقدمه بصورة الرجل الذي لا يكترث لحب زوجته، ولا لمعرفتها بخياناته لها، ولا يهتم بذكراها بعد رحيلها، ولا يغضب لمعرفته بخيانتها، كما أن أفكاره المعادية لإسرائيل وللصهيونية، تبدو مدانة ومرفوضة بشدة من قبل الاخرين حوله، وحتى من قبل ولديه، ما يضعف من مصداقيته، ويحطم نموذجه الثوري المثالي، ويظهره بمظهر الشخص الشاذ أو الخارج عن السرب، يقول الراوي: "زوج سيء، أب سيء، مثال سيء، يهودي سيء، وفي كل الحالات فيلسوف سيء أيضاً".

وكجزء من مخطط الرواية في ابراز أن نموذج فينكلر هو مجرد نموذج وصولي قد ينسى كل شعاراته عند الحاجة، ومن أجل إفقاد نقاد اسرائيل المصداقية، فإن فينكلر يبدأ في التغيّر. فعندما جاء الى العشاء مع ليبور، كان هادئاً وغير راغب في الحديث عن إسرائيل، وذلك لأنه لا يريد أن "يخسر جولة محاضرات مدفوعة التكاليف بالكامل الى القدس وتل أبيب وايلات".

توضح الرسالة التي كتبتها تايلر قبل وفاتها أن هناك أهدافاً أخرى خلف نقد فينكلر الحاد، وهي أنه عندما ينظر الى اليهود في كل مكان، يرى أنهم يعيشون بحالة ليست أفضل من أي شعب آخر، وذلك يعني بالنسبة له أنهم سيئون جدا، وهو يعتقد أنهم يجب أن يكونوا متميزين على نحو استثنائي يجعلهم مثالاً للآخرين. وتنبع خطورة الرسالة من أنها رد ذو نبرة عدائية تهكمية على قناعات زوجها "الحكيم" كما تسميه، ومحاولة تبرير أفعال اسرائيل اللاأخلاقية. ينم مضمون الرسالة عن رفض صريح لفلسفته حول اليهودي النموذج الذي يحلم به.

في نهاية القسم الثاني للرواية ينسحب فينكلر من الحركة بسبب الخلافات وتنامي المعارضة لتأثيره الطاغي. وفي تلك الليلة في آخر الرواية يتحدث الراوي عن انبثاق الفجر، لكن عالم تريسلف وهيفزيبا لم يكن جيداً، وكان فينكلر يموت في أحلامه، ولم يصبح تريسلف يهودياً، فقد شعر أنه وصل نهاية طريق مسدود، ولذلك قال لهيفزيبا: "إن دينكم صعب. تظلون تميلون الى الغيبيات".

تنتهي الرواية بوفاة ليبور، واضطرار فينكلر أن يدخل الكنيس ليؤدي الصلوات على الميت، ويبدو أنه لن يتوقف عن أدائها بعد الثلاثين يوما حسب التقاليد، كما يرى الراوي، بينما مُنع تريسلف من تلاوة الصلوات لأنه ليس يهودياً، في انتكاسة لكل الافكار والاحلام والمشاريع التي كانوا يحملونها، ولهذا تختتم الرواية بقول الراوي: "لا حدود لحًداد فينكلر".

يبدو لي أن الظرف الدولي الذي أفرزته الحرب على غزة من تأييد ساحق للفلسطينيين، وإظهار الوحشية التي تتعامل بها اسرائيل مع مطالبهم في إنهاء الاحتلال، وما رافق ذلك من تظاهرات ضخمة، وربما بعض الاعمال العدائية تجاه بعض التجمعات اليهودية، جعل كثيراً من اليهود في العالم، ومنهم جاكوبسون يشعرون بالفزع تجاه العداء لليهود على نطاق واسع، وفي الوقت ذاته لم يعد ممكناً الدفاع عن ممارسات اسرائيل، وعن الافكار التي تصورها أنها ضحية وسط محيط عدائي، وهذا ما يبرر انتشار الدعوات الى مقاطعة اسرائيل مقاطعة ثقافية شاملة، وأعتقد أن هذه إحدى أكثر الدعوات التي أراد جاكوبسون الوقوف ضدها، لأنها تعبر عن مزاج شعبي مدعوم من جانب المثقفين في أوروبا، دون أن يبدو أنه يقف في وجه الغضب العارم، والنقد الواسع لاسرائيل والصهيونية، مع الزعم أن النموذج اليهودي يتصف بالتنوع والديمقراطية والاختلافات الداخلية. وأعتقد أن هذا هو الاطار العام الذي بنيت حوله الرواية.

رابط المقالة بصحيفة الدستور الأردنية

رابط الصفحة الكاملة (يرجى الانتظار ريثما يتم التحميل)