الثلاثاء، مارس 24

جولة في مواكب جبران


جولة في مواكب جبران

بقلم: اياد نصار

ألف جبران خليل جبران بإلهام الشاعر وبصيرة الفيلسوف وسحر ريشة الرسام وترفع وزهد الناسك قصيدة المواكب في عام 1918 بالعربية. تعتبر قصيدة المواكب بناء فنيا متكاملا ينطوي على مشروع فلسفي تأملي تحليلي ويقوم على أساس المقارنة بين عالم البشر من خلال تقديم صور تعكس جوانب ساخرة زائفة للمجتمع وبين عالم الطبيعة الذي يمثل الجانب الرومانتيكي الروحاني الصافي المفقود من حياة البشر في المجتمع وبين عالم الفنون الذي يمثل حلقة الوصل التي يمكن أن تردم الهوة بين الاثنين. تقدم القصيدة كثيراً من المقارنات لجوانب حياة الانسان في المجتمع بكل ضلالاته وزيفه ومظاهره الخادعة وبين عالم الطبيعة الساحر بصفائه ونقائه الذي يرمز للجانب الرومانتيكي. أراد جبران بهذه القصيدة البديعة البناء والمعاني طرح أهم القضايا المصيرية التي تحدد حاضر ومستقبل الانسان.. بل مصيره كله والتي رأى فيها التناقض الصارخ بين قيم هذين العالمين.

تتكون المواكب من حوالي مئتي بيت ويزيد ويغلب عليها السمة الرومانتيكية التي ميزت كثيرا من أعمال جبران سواء باللغة العربية أم بالانجليزية. وقد اراد جبران من خلالها تقديم مواكب شتى هي في حد ذاتها مسيرة البشر في المجتمع الذي يحفل بصور ضلالهم وزيفهم ومعتقداتهم التي تقتل أرواحهم. وهي في هذا دعوة إلى العودة لأحضان الطبيعة وبساطتها حيث أسبغ عليها من التجسيد صفات إنسانية تجعلها فردوس الانسان المهجور بدلاً من العيش في ظل القيم الزائفة للمجتمع.

وبداية فإن عالم البشر هو هذا المجتمع الذي يمور بالظلم والشر والحزن والقتل واستغلال الدين والنفاق والباطل والجهل والكراهية والبغض وثنائية الروح والجسد المشوهة وغيرها الكثير. في حين أن عالم الطبيعة بحيوانه ونباته وجماده هو ذلك العالم الذي اعتبره جبران عالم البراءة والنقاء الذي يمور بنقيض ما يمر به عالم البشر. وهذه المقارنة أراد بها جبران ساخرا إظهار كيف أن الانسان في تجربته قدم نموذجاً بشعاً للحياة والعلاقات الانسانية والقيم التي بنى عليها حياته. لقد انطوت قصيدة المواكب على نظرة متشائمة للغاية لعالم البشر فهو مستودع وأصل كل الشرور وكل مظهر للحياة فيه ينم عن أسوأ صورة للاستغلال وتشويه القيم المتعمد الذي يقوم به الانسان. وبهذا المعنى يصبح عالم الطبيعة والغابات هو الجنة المفقودة التي لم يتمكن الانسان من تحقيقها في حين أن المخلوقات الادنى منه قدمت نموذجاً أرقى لما يمكن أن تكون عليه الحياة فيها.

أما أحاديث الغناء ونداءات الناي فهي صور ترمز الى عالم الفنون التي يطرحها جبران كمخرج للازمة. هو الجسر الذي يمكن من خلاله الانتقال من عالم البشر البشع الى عالم البراءة والخير والنور وكل المعاني والصور والمظاهر الجميلة للقيم الانسانية في أروع تجلياتها. فإذا كان الانسان شقياً بائسا في عالم البشر ولا يتسنى له الوصول الى عالم البراءة والنقاء الذي يرمز اليه عالم الطبيعة فإن الفن هو وعاء الفكر وهوالوسيلة التي تخاطب أحاسيس وقلوب وعقول البشر. واذا كان عالم البشر بكل تناقضاته وصوره الصارخة في النهاية زائل فإنه الفن باقٍ خالد للابد. وفكرة خلود الفن الذي يخلد معه جمال الانسان كما ورد ذلك كثيرا في أعمال شكسبير وخاصة السونيتات ليست جديدة، بل إن جذورها يمتد في الزمن السحيق الى فكرة carpe diem التي تعني الاستمتاع باللحظة الزمنية قبل أن تفنى ، والى فكرة أن الزمن الهارب لا سبيل لايقافه او الامساك به الا من خلال تخليد اللحظة في لوحة فنية او عمل أدبي ابداعي او موسيقي او غير ذلك.

تنقسم قصيدة المواكب الى سبعة عشر بناءً شعريا متشابها متكررا تليه خاتمة هي الخلاصة التي يبرز فيها جبران أهمية عالم الفن. اما البناء الفني الذي يتكرر في القصيدة سبع عشرة مرة فهو على هذا النحو:
- أربعة أبيات ذات قافية واحدة تنقل مشاهد متشائمة تنطوي على صور التناقض والشرور والاثام والنفاق من عالم البشر
- أربعة أبيات ذو قافية مختلفة تنقل تشبيهات ومقارنات للصور الانفة ولكن من عالم الطبيعة وهي نقيض الصور في الاربعة أبيات الاولى. وتتضمن هذه الابيات الاربعة في آخرها بيتين أو أحياناً أخرى بيتاً من نفس القافية ينطويان على النتيجة التي توصل لها جبران عن اكتشاف سر الشقاء الانساني
- بيتان من قافية مختلفة كخاتمة يبرزان دعوة جبران للانسان للانخراط بعالم الفن والتسامي به نحو الرقي وهما يبرزان فكرة تفرد عالم الفن وخلوده

ولدلالة على ذلك نأخذ بعض المقاطع كأمثلة على هذا البناء الفني الفريد:
- أربعة أبيات ذات قافية واحدة تنقل مشاهد متشائمة تنطوي على صور التناقض والشرور والاثام والنفاق من عالم البشر:

الخير في الناس مصنوعٌ إذا جُبروا ........... والشرُّ في الناس لا يفنى وإِن قبروا

وأكثر الناس آلاتٌ تحركها ........................... أصابع الدهر يوماً ثم تنكسرُ

فلا تقولنَّ هذا عالم علمٌ ............................... ولا تقولنَّ ذاك السيد الوَقُرُ

فأفضل الناس قطعانٌ يسير بها .................. صوت الرعاة ومن لم يمشِ يندثر

- أربعة أبيات ذو قافية مختلفة تنقل تشبيهات ومقارنات للصور الانفة ولكن من عالم الطبيعة وهي نقيض الصور في الاربعة أبيات الاولى. وتتضمن هذه الابيات الاربعة في آخرها بيتين أو أحياناً بيتاً من نفس القافية ينطويان على النتيجة التي توصل لها جبران عن اكتشاف سر الشقاء الانساني
ليس في الغابات راعٍ ............ لا ولافيها القطيعْ
فالشتا يمشي ولكن .............. لا يُجاريهِ الربيعْ
خُلقَ الناس عبيداً............. للذي يأْبى الخضوعْ
فإذا ما هبَّ يوماً............... سائراً سار الجميعْ

- بيتان من قافية مختلفة كخاتمة يبرزان دعوة جبران للانسان للانخراط بعالم الفن والتسامي به نحو الرقي وهما يبرزان فكرة تفرد عالم الفن وخلوده
أعطني النايَ وغنِّ........... فالغنا يرعى العقولْ

وأنينُ الناي أبقى................. من مجيدٍ وذليلْ

وهذا مثال آخر عن الدين وتدين الانسان الذي يخفي من ورائه وطراً كما يراه جبران:
- أربعة أبيات تنقل مشاهد متشائمة تنطوي على صور الضلال والزيف والتناقض والشرور والنفاق من عالم البشر:
و الدين في الناسِ حقلٌ ليس يزرعهُ ......... غيرُ الأولى لهمُ في زرعهِ وطرُ

من آملٍ بنعيمِ الخلدِ مبتشرٍ ..................... ومن جهول يخافُ النارَ تستعرُ

فالقومُ لولا عقاب البعثِ ما عبدوا ........... رباًّ ولولا الثوابُ المرتجى كفروا

كأنما الدينُ ضربٌ من متاجرهمْ .......... إِن واظبوا ربحوا أو أهملوا خسروا

- أربعة أبيات أخرى تنقل تشبيهات ومقارنات للصور الانفة من عالم الطبيعة وهي نقيض الصور الاولى. وتتضمن هذه الابيات في آخرها النتيجة التي توصل لها جبران عن اكتشاف سر الشقاء الانساني:
ليس في الغابات دينٌ .......... لا ولا الكفر القبيحْ

فإذا البلبل غنى ............... لم يقلْ هذا الصحيحْ

إنَّ دين الناس يأْتي ............... مثل ظلٍّ ويـروحْ

لم يقم في الأرض دينٌ .......... بعد طه والمسيح

- بيتان كخاتمة يبرزان دعوة جبران للانسان للانخراط بعالم الفن والتسامي به نحو الرقي والحديث عن فكرة تفرد عالم الفن وخلوده:
أعطني الناي وغنِّ ............ فالغنا خيرُ الصلاة

وأنينُ الناي يبقى ............. بعد أن تفنى الحياةْ

ويمكن تطبيق ذات التقسيم الرائع على هذه الابيات التي سخر فيها جبران من عدل الانسان الذي إعتبره كثلج اذا طلعت عليه شمس الحقيقة ذاب وتبخر!

والعدلُ في الأرضِ يُبكي الجنَّ لو سمعوا ...... بهِ ويستضحكُ الأموات لو نظروا

فالسجنُ والموتُ للجانين إن صغروا ........ والمجدُ والفخرُ والإثراءُ إن كبروا

فسارقُ الزهر مذمومٌ ومحتقرٌ .............. وسارق الحقل يُدعى الباسلُ الخطر

وقاتلُ الجسمِ مقتولٌ بفعلتهِ ..................... وقاتلُ الروحِ لا تدري بهِ البشرُ


ليس في الغابات عدلٌ......... لا ولا فيها العقابْ

فإذا الصفصاف ألقى............ ظله فوق الترابْ

لا يقول السروُ هذي............ بدعةٌ ضد الكتابْ

إن عدلَ الناسِ ثلجُ.......... إنْ رأتهُ الشمس ذابْ

أعطني الناي وغنِ ............ فالغنا عدلُ القلوبْ

وأنين الناي يبقى............. بعد أن تفنى الذنوبْ


وفي ختام المواكب يقدم جبران رؤيته للهروب من عالم البشر المليء بصور النفاق والتناقض الساخر ومن الاثام والالام والحقائق الغائبة الى عالم الطبيعة الارحب والاجمل بصفائه واقترابه من أصل الانسان وروحه. في هذا الجزء الاخير يقدم جبران رؤيته بنمط بنائي فني مختلف عن باقي القصيدة كأنما أرد بذلك إبراز أنها مختلفة. يرفض جبران قيم الانسان ويعتبرها هباء، بل إن الانسان ذاته ليس الا وهم مثل سطر كُتب بماء سرعان ما يجف ويتلاشى، ولا يبقى الا عالم الفن. ولكن هنا جبران يبرع في خلق التزاوج بين عالم الطبيعة وعالم الفن حين يدعو للغناء في حضن الطبيعة من خلال تقديم صور عذبة للعيش في عالم النقاء والصفاء النوراني الاثيري. بل إن جبران يقر في النهاية بعجزه عن تحقيق هذا الحلم حين تفرض أشواق الجسد نفسها عليه وحين تدفعه النفس الى مآرب دنيوية أخرى تبعده عن هذا العالم الصافي الجميل الخالد:

أعطني الناي وغنِّ .................. وانس ما قلتُ وقلتا

انما النطقُ هباءٌ ........................ فأفدني ما فعلتا

هل تخذتَ الغاب مثلي ............... منزلاً دون القصورْ

فتتبعتَ السواقي ..................... وتسلقتَ الصخورْ

هل تحممتَ بعطرٍ ........................ وتنشقت بنورْ

و شربت الفجر خمراً .............. في كؤُوس من أثير

هل جلست العصر مثلي ............... بين جفنات العنبْ

والعناقيد تدلتْ .......................... كثريات الذهبْ

أعطني الناي وغنِّ .................. وانسَ داًْء و دواء

إنما الناس سطورٌ ...................... كتبت لكن بماء


العيشُ في الغاب والأيام لو نُظمت ....... في قبضتي لغدت في الغاب تنتثر

لكن هو الدهرُ في نفسي له أَربٌ .............. فكلما رمتُ غاباً قامَ يعتذرُ

وللتقادير سبلٌ لا تغيرها والناس ........ في عجزهم عن قصدهم قصروا

اللوحة أعلاه للاديب والرسام جبران خليل جبران بعنوان تناغم فوق الذروة (1883 - 1931)

هناك تعليق واحد:

  1. كل ما كتب جبران هو رائع يجسد ما في خبايا النفس الانسانية بسموها و انحطاطها .
    شكرا جزيلا على القولبة الرائعة لقصيدة المواكب .

    ردحذف