السبت، يوليو 26

سؤال الهوية


بمناسبة صدور كتابه الاخير:
هل أجاب سليم النجار عن سؤال الهوية ؟

بقلم: اياد نصار

صدر للناقد والكاتب الاستاذ سليم النجار خلال شهر تموز الحالي كتاب جديد حول أدب القاص والروائي الاردني الراحل غالب هلسا ، بعنوان سؤال الهوية في (زنوج وبدو وفلاحون لغالب هلسا). وقد استمتعت بقراءة الكتاب الذي يدل على وعي نقدي لكاتب يمتلك أدواته النقدية وقدرته اللغوية والفكرية على أن يقرأ ما بين وخلف السطور بعين فلسفية واعية. كما تستوقفك مقدرته التحليلية التي تدل على تعايش الكاتب مع أعمال غالب هلسا، واستلهام مراميها وأساليبها الفنية وفهم أبعاد شخصياتها ورموزها. والسؤال الذي يتبادر للذهن مباشرة في الحقيقة ينطوي على سؤالين: ما هي ملامح الهوية في أدب غالب هلسا والتي تجعله مشروعا روائيا وقصصيا متميزا ؟ ولماذا اختار الكاتب تحديدا مجموعته القصصية هذه بالتحليل والنقد؟ وأرجو أن أتمكن من الاجابة على هذين السؤالين كما تصورها وقدمها سليم النجار في كتابه.

يمكن القول بأن بنية الكتاب تقوم على تقسيمه الى ثلاثة فضاءات رئيسية: في أولها والذي غطى الفصول الثلاثة الاولى حاول المؤلف تقديم منحىً نقدي نظري بلغة أدبية ذات مضمون فكري عميق تحتاج الى القراءة المتأنية حول أهم ملامح هوية أدب غالب هلسا القصصي والروائي من أجل الاحاطة بفنه وفهمه في اطار مشروعه الثقافي الذي كان يدعو له. وهذا الشرح الفكري لا بد منه لكي يتعرف القاريء على الملامح الرئيسية لادب هلسا والتي تتمثل في مواضيع عريضة كالايدولوجيا وعلاقة الادب بالسياسة والمحرمات(التابوهات) وثقافة السؤال والالتزام واللاالتزام والبحث غير الموضوعي في العقيدة او الهوية الجغرافية الضيقة ودور التاريخ كقامع لحرية البحث في الهوية بدلا من أن يكون حافزا للتنوير.

وفي ثانيها ينتقل الكاتب للحديث بشكل محدد ضمن ملامح الهوية التي قدم لها عن مجموعة غالب هلسا القصصية (زنوج وبدو وفلاحون)بشكل محدد والاقتباس منها. ففي الفصول من الرابع وحتى التاسع يورد المؤلف عددا من المحاور التي تناولتها القصص ويدلل عليها بالاقتباسات المعبرة الدالة من عدة قصص كالورادون ، والمساء والليل، والزنوج ، ورحلة العودة ، واشتي وزيدي ، والخوف ، وخيانة زوجية. وفي ثالثها والذي خصص له الفصل العاشر والخاتمة ، فانه تناول الجانب الاسلوبي وزاوية النظرة للاحداث ومفهوم القصة عند غالب هلسا.

في القسم الاول من كتابه يلقي سليم النجار الضوء على أهم ملامح هوية أدب غالب هلسا، ويمكن الاشادة بجهده البارز الذي تمكن من التطرق الى أهم القضايا بطريقة مترابطة متسلسلة. وبرأيي إن هذا الجزء هو الاهم في الكتاب . يرى سليم النجار أن غالب هلسا يركز على الصدمة الاجتماعية التي لا تسير على رغبات القاريء او حسب الاسقاطات الفكرية. ويرى أنه يجب الفصل عند تناول غالب هلسا بين الايدولوجيا والادب. بعض النقاد اعتبروا أن أدب هلسا هو خير انعكاس لايدولوجيته، وقد اثنوا على ذلك ، ولا يخفون أن أدب غالب هلسا كان انعكاسا أمينا للماركسية في تقديم صورة مثالية للشخصيات من جانب الاعتزاز بالذات وطرح قيم الثورة على الظلم والحرية. والبعض الاخر اعتبروا أن سخر قلمه لخدمة الايدولوجيا وقد عابوا عليه ذلك. جازف كثيرا في حبكته لدرجة جعلت البعض يعتقد انه سخر قلمه لخدمة الايدولوجيا.

كما طرح فكرة أن اللحظة المأزومة متناثرة موزعة في التفاصيل اليومية التي تتوزع بين هم لقمة العيش وبين الحرية. وهنا أهمية التفاصيل حيث تناول هلسا المحرمات والتابوهات في المجتمع العربي من خلال الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة لحياة الانسان وكان متقنعا بامكانية تغييرها. ومن المحاور المهمة الاخرى التي تناولها النجار هو موضوع ثقافة الرغبة في أدبه: المرأة والذكورة واعتبرها أنها جوهر المشكلة. والرغبة تمثل أهم مظاهر التخلف الفكري في المجتمع العربي.

وبرأيه أن أدب غالب هلسا لم يكن نقدا لمنهج سياسي معين قد يكون الكاتب تطرق له بالنقد او السخرية. وبالتالي يرى أن مشروع غالب هلسا الثقافي لم يكن لاجل خدمة مشروع سياسي معين، بل نابع من ايمانه بدور في طرح قضايا تهم الانسان والمجتمع. واذا كانت الايدولوجيا تطرحها فليس ذلك يعني أن جعل أدبه مسخرا كدعاية اعلامية للقضايا التي تطرحها الايدولوجيا. بل أخضع مشروعه لثقافة السؤال وابتعد عن اللغة المباشرة والخطاب الايدولوجي. بل بالعكس إنه اهتم ببنية قصصه وروايته كبناء أدبي فني، ولم يكن يؤمن بالمقولة التي ترى أن دور الادب هو تغيير الواقع والوعظ.

يلعب التاريخ في فكر غالب هلسا دورا كبيرا في الكشف عن مناطق مظلمة ومسكوت عليها في الوعي لا تعرفها الا القلة القليلة، وقد حاول هلسا كسر احتكار السلطة للتاريخ لتوظفه لصالحها. كما أن الفكر بقي ينظر للتاريخ انه تاريخ سلاطين وامراء ولكن غالب هلسا حاول بيان اهمية الانسان العادي في صناعة التاريخ من خلال رفض التهميش.

اذا كان الادب العربي قد طرح موضوع الالتزام والاديب الملتزم عبر صور شتى (كما في أعمال جبرا حيث الالتزام بالقضية الفلسطينية وأدونيس الالتزام باسطورة الابداع ومحفوظ الالتزام بالبيئة المصرية وهمومها) ، فان غالب هلسا طرح موضوع اللاالتزام باعتبار ان القضية انسانية قبل أن تكون جغرافيا او سياسية. وقد تجاوز هلسا مفهوم الوعي الزائف بمقولات الالتزام بالمكان الضيق وامجاد الماضي الخاص بفكرة القطر أو المكان التي اعتبرها تقزيم للبعد الانساني.

يتمثل سؤال الالتزام في أدب غالب هلسا برفض هيمنة الافكار السياسية السطحية على النصوص التي تحتشد بها بعض الاعمال التي لا تعدو اكثر من ثرثرة ووعي مزيف وثقافية هامشية كما يتمثل في رفض حشد الشخصيات والتفاصيل الاحتفالية التي يضعها الكاتب في خدمة السلطة والاقطاعية والعبودية.

ان التعلق بالتاريخ هو نوع من بحث الانسان المرتبط بالعقيدة او الهوية التي يتمسك بها عن شيء ما لمواجهة القلق الوجودي. ومن العبث الحديث في موضوعية هذا البحث اذا كان الهدف هو تدعيم اجابات مسبقة. وبالتالي فان الرواية او القصة لا يجب أن تعيد تكرار المقولات الجاهزة للتاريخ والتي تعتبر ان انتشار هذه الافكار يمثل دليلا على مصداقيتها. يرى المؤلف أن نظرة هلسا للتاريخ ترى أنه يجب أن يكون أداة للتنوير وليس أداة للقمع الفكري من خلال تقديم دليل ظاهري على مقولات واحكام مسبقة، ومن هنا لم يكن يعتبر غالب هلسا ان الرواية أو القصة هي المعبر عن الانتماء التاريخي لعقيدة ما، ومن هنا يجب هجرة زمن القبائل والعصبيات والحروب المقدسة فلا حرب مقدسة سوى حرب كرامة الانسان.

أما في الجزء الثاني والذي يبدأ بطرح السؤال الجوهري: لماذا (زنوج وبدو وفلاحون)؟ فالمؤلف يرى ان هذه المجموعة القصصية دعوة من دعوات التنوير المتحررة من القيود والملتزمة بقضايا الانسان، كما أن المجموعة تعاملت مع الانسان الشخصية ككينونة لغوية للانتقال الى حالة الرمز في استقراء زمن ماضوي قد انتهى في سبيل الكشف عن القمع بكل اشكاله وصوره المختلفة. ويركز هذا الجزء على تناول غالب هلسا وفضحه لكثير من مشاهد القمع الذكوري للمرأة في عدة قصص ، فمن اعتماده على صوت امرأة (وضحا) لرفض السلوك السلطوي في تحقيق رغبات الفرد والفرد يصبح رمز السلطة الذي يمثله شيخ القبيلة بحيث تصبح تصرفات الجماعة مكرسة لتحقيق الانصياع لرغبات السلطة وعبادتها.

كما يتناول الكتاب رؤية غالب هلسا لموضوع الرغبة والجنس والعلاقة التدميرية الانتهازية غير المتكافئة بين الرجل والمرأة التي تقوم على ثنائية دور الرجل المستبد القامع والمرأة الضحية ضمن بيئة اجتماعية معينة. ويقتبس النجار من عدة قصص نصوصا تبرز هذا المحور الهام. ففي قصة "المساء والليل" مقاطع لاذعة تصور امتهان كرامة المرأة من قبل الرجل المتسلط الذي يمثله الشيخ ، والذي يتحول نتيجة استغلاله للسلطة لاشباع رغباته بطريقة غرائزية حيوانية الى نموذج فج للتخلف يصيب المرأة بالاحباط والانكسار والشعور بالخزي. واضح النقد الشديد لهذا النمط من القيم الاجتماعية في المجتمعات القبلية الذي ركز عليه هلسا في قصصه.

وفي قصة الزنوج يقدم غالب هلسا فكرة التمرد لاجل الحرية ، والثورة التي تلجأ الى تحطيم القوالب الاجتماعية نتيجة الاحساس بالظلم، مما يشكل صدمة اجتماعية كما ذكرت في مستهل هذه المقالة. " العبد ذبح الشيخ، والفلاح ذبح سحلول، عمرها ما انسمعت. ما ظل غير النسوان". أما قصة "سحلول يقوم بزيارة في منتصف الليل"، فتطرح اشكالية الوعي الحضاري مع الخارج والداخل واشكالية موضوع الشرف ، كما تطرح موضوع الصراع الطبقي. وتجسد الشخصيات كزيدان الفلاح وسحلول البدوي قيم الاقتناص والجبن والهروب من حل المشكلة الى الحلم والغيب. ولكن نهاية القصة عندما يقتل زيدان البدوي فهي تدعو الى رفض الميراث الشعبي الذي يصور الذل انه امر طبيعي والتسامح مع المجرم والسكوت على القهر عبر بوابة ثقافة الشرف والعيب. وفي قصة "هذيان" يرى المؤلف ان هلسا يحاول تحليل الاسباب النفسية لاضطهاد المرأة وعدم ايمان الرجل العربي بأهلية ومشروعية مساواتها القائم على التفرق بين صفات الذكورة والانوثة ويرفض هذا المنطق.

أما في الجزء الثالث من الكتاب والذي خصص له المؤلف الفصل العاشر والخاتمة، فقد تحدث فيه المؤلف باسهاب عن مفهوم القصة عند غالب هلسا ، حيث تناول فيه بعض الجوانب الاسلوبية والفنية والجمالية والايدولوجية للقصة كما لمسها في أعماله. يطرح سليم النجار فكرة رئيسية يعتقد أنها ناظمة لكل قصص المجموعة تقوم على البحث عن بداية جذرية تتمثل في اثبات الذات وتقديم نسيج اجتماعي بعين فضولية تهدف أن تبحث في ما لا تعرف بعيدا عن قيود الواقع واشتراطات القيم الاجتماعية السائدة. وباسلوب العين الفضولية حاول غالب هلسا أن يكشف عن المخبوء داخل الانسان من أجل الوصول لحريته. وهو يرفض الخوف والهواجس السائدة ولغة القص التي تلتزم بالمباح الاجتماعي وتتجنب المحظور. فهو يعتمد لغة بصرية لا تخضع للاوامر والنواهي. وهو يرى أن الفاعل الرئيسي لثقافة التخلف التي تسيطر علينا هو نحن أساساً والنسق الاجتماعي الذي شكلناه. والانسان في هذا النسق الاجتماعي عند هلسا كما يرى المؤلف ما هو الا قصة قصيرة ليست بالمعنى الزمني ولكن الاجتماعي. فالمفارقات والدهشة والشخصيات العابرة والحدث الطاريء كلها اليوم اصبحت تفاصيل حياة انسان هذا العصر. ولهذا يرى ان هلسا يقدم صورة الواقع كما هو بتركيزه على اليومي والعابر والسريع والمتحرك. وهو بهذا أمين مع قناعته أن الادب صورة الواقع كما هو وليس أداة لتجميله او تغييره.

والايدولوجيا حاضرة في أعماله ليس كحامية أو حارسة لافكاره أو مكرسة لأدبه في سبيل خدمتها، بل حاضرة كمعرفة انسانية تقرأ ما خلف السلوكيات والممارسات وصور الخداع والظلم وتحاول فهمها وتفسيرها. موجودة كحاجة تدفع للتروي وليس كضرورة تدفع للاندفاع وتنميط الشخصيات والاحداث. وبهذا يختلف عن رؤية كثير من المثقفين العرب لدور الايدولوجيا في الادب. وهو يرى ان هلسا قد قدم قصة تعتمد أربع زوايا هي الانسان ، والازمة، والفكر، والصورة الاجتماعية وتخلص فيها من اوهام الحقيقة واليقين، فكل شيء فيها متحرك. باختصار القصة القصيرة لا تستطيع أن تحيي أفكارا ولدت ميتة، وتصبح أشبه ببيان خطابي ما لم تركز على الجانب الفني الابداعي بعيدا عن النمطية. كما يرى أن القضية الاساسية التي يلمسها القاريء في كل أعمال غالب هلسا هي أن ثقافة القاص او الروائي مهما كانت يجب الا تنتقص من ثقافته الانسانية بعيدا عن اشتراطات ومفردات الفكر السياسي القطري وصيرورات الجغرافية السياسية.
* اللوحة أعلاه للفنان المقدسي ابراهيم شلبي بعنوان "فروسية"

الخميس، يوليو 24

العيد الذي لا يحبه أبي


نظرة في "رجل بلا تفاصيل" لجمال ناجي
العيد الذي لا يحبه أبي أنموذجا ً

بقلم : اياد نصار

وضع الروائي والقاص الاردني جمال ناجي خطواته الاولى في عالم السرد في عام 1982 حينما أصدر رواية "الطريق الى بلحارث"، ثم أتبعها بروايته الثانية "وقت" في عام 1984 ، ثم نشر رواية "مخلفات الزوابع الاخيرة" في عام 1988 . ومن الرواية انتقل الى القصة القصيرة على عكس كثير من الروائيين الذين يباشرون بكتابة القصة القصيرة وربما اصدار مجموعات قصصية قبل التفكير في نشر رواية. فنشر مجموعته القصصية بعنوان "رجل خالي الذهن" في عام 1989 ، ثم عاد للرواية بروايته "الحياة على ذمة الموت" في عام 1993 . وبعدها بعام أصدر مجموعته القصصية الثانية التي هي موضوعنا في هذه المقالة بعنوان "رجل بلا تفاصيل". وبعد استراحة محارب طالت لمدة عقد نشر روايته " ليلة ريش" في عام 2004 . وأخر انتاجه هو مجموعته القصصية الجديدة " ما جرى يوم الخميس".

كان ناجي رئيساً لرابطة الكتاب الأردنيين خلال الفترة التي امتدت بين 2001-2003، وكان قبلها عضواً في الهيئة الإدراية للرابطة لعدت دورات. وقد نال جائزة الدولة التشجيعية للرواية عن العام 1989، وعلى جائزة تيسير سبول للرواية لعام 1994. وهو عضو في اتحاد الكتاب العرب أيضا ً.

تلعب التفاصيل دورا ً رئيسيا ً في مجموعته رجل بلا تفاصيل التي صدرت عام 1994 عن رابطة الكتاب الاردنيين. وهي ما يضفي معنى حقيقياً على حياة أناس عاديين مجهولين وربما مهمشين على حافة المجتمع فتعطي التفاصيل حياتهم قيمة حين تصبح هذه التفاصيل هي الطقوس التي ترسم واقعهم. وتخلق شعوراً بالانتماء وتساهم في تشكيل ذاكرة الشخصيات وزيادة احساسهم بخصوصية المكان. واذا لم تكن الشخصيات ذات تفاصيل كبرى تجعل منها شخصيات هامة ، فان هذه التفاصيل الصغيرة تلعب دورا رئيسيا في تشكيل الوعي وصنع الذكريات للشخصيات الاخرى، كما تعطي الراوي مساحة كافية لابراز أحداث ما بالنسبة له غير عادية وسط تفاصيل يومية مكرورة مما يجعل شخصياته ممتعة ويكتشف القاريء أنها شخصيات تنطوي على بعد عميق في التفكير والتعامل مع المواقف.

وفي آخر حوار أجري مع جمال ناجي حول المصدر الذي يستمد منه تفاصيل شخصياته ومادته القصصية ، فقد ذكر أنه يستمدها من التفاصيل الملقاة على الارصفة والتي لا ينتبه لها الناس ، وقال أنه هنا تأتي مهمة القاص بأن يستدل على الحدث المشحون والمتوتر ويلتقطه لكي يوظفه. ولكن التوظيف يحتاج الى مهارة في التخلص من الزوائد اللفظية الرشيقة العبارة بما يكثف الاحداث.

في قصة (العيد الذي لا يحبه أبي) هناك وصف طقوس قدوم العيد في حي فقير في قرية ما. وكأي قرية أو حي فقير أو مخيم في مدينة. يبدأ منذ بزوغ شمس العيد. وقد جسد الراوي العيد كالطيف الجميل او كحامل الهدايا الذي لا ينسى أن يمر على كل أجزاء القرية من سوقها وأزقتها وبئرها ونسائها الى أن يدخل بيت الراوي! واذا كان العيد هو تلك اللحظة التي تتوقف عندها القرية من رتابة وبؤس تفاصيل الحياة لتعيد تقديم ذاتها والتفكير بولادة جديدة، الا أن العيد بالنسبة للاب وربما لكثير من الاباء مثله هو امتحان صعب يهزم فيه دائما!

يستوقفنا في القصة ذلك الصراع الخفي بين البطل وهو والد الراوي وبين جارهم ابي عاهد. فهما النقيضان في كل شيء اللذان لا يتفقان على شيء، الا أن ابا عاهد يخسر دائما في الدفاع عن ارائه أمام اراء الاب الذي يحتد ويفرض رأيه بالقوة الا في يوم العيد فانه ينتصر! وهذا هو السر الذي تقدمه القصة. ولكن هذا الصراع الفكري يقابله علاقات اجتماعية شكلية تتمثل في الزيارة الطقوسية التي يقوم بها أبو عاهد مع أولاده التسعة كل صباح يوم عيد لبيت الراوي وما يتعبها من سلام وتقبيل ليد والدة الراوي لانها تذكره بأمه. والحديث عن طقوس تقبيل الايدي عند الصغار واعطائهم العيدية كصورة للنمطية البطريركية في المجتمع العربي التي تعرف كيف توظف استغلال المال!

ولكن الازمة تكمن في تصرفات اولاد أبي عاهد التسعة الذين يمارسون كل انواع الشيطنة والضجيج ومن ثم التهام كل ما يوضع امامهم للضيافة كالجراد. وفي الوقت الذي يشعر الاب فيه بالضيق من هذه التصرفات ومحاولته منع ما يقومون به بكل الوسائل التي تعبر عن احتجاج خفي كي لا يثير حفيظة ابي عاهد، الا أنه يفشل وينتهي به الامر الى أن ينهر اولاده من حوله بينما يلتهم اولاد أبي عاهد كل شيء. وخلال كل هذا الوقت يبقى تركيز الاب على الاطفال وعلى الصحون التي يقدمون فيها الضيافة! فهم كالشياطين الذين يلتهمون كل شيء، فلا يستطيع التركيز على حديث أبي عاهد والرد عليه او افحامه او مجاراته فتتاح له الفرصة أن ينتصر ويفرض أراءه في يوم العيد فقط من بين أيام السنة كلها!

واضح ما تطرحه القصة من موضوع الفقر ولقمة العيش التي تجعل من الاب يقبل بالهزيمة والسكوت وعدم الدفاع عن أرائه امام خصمه حرصا على صون بيته من العبث ومن التهام جيش الصغار. وواضح طرح موضوع معاناة الاب من عبء الاسرة والاطفال وهموم التربية وضيق المكان. كما يبدو واضحا موضوع الضغوط الاجتماعية التي تتمثل في العادات والتقاليد التي صارت عبئا وشكليات أكثر منها سلوكيات حقيقية نابعة من الداخل وتأثيرها على مصير الاخرين وعلى مصير العلاقات الاجتماعية ذاتها التي تصبح عبئا بلا احساس حقيقي. تطرح القصة هموم العلاقات الاجتماعية في القرية والمناطق الفقيرة التي تحرم الانسان من خصوصيته فيصبح الانسان ضحية علاقات اجتماعية شكلية بلا روح. وبهذا تصبح التفاصيل الحياتية اليومية هي التفاصيل الاساسية التي تعطي الشخصيات ملامحها وارتباطها بالمكان ومعاناتها فيه. كما تطرح القصة موضوع علاقة الاب بالابناء، فمعاناة الاب قد اصبحت ذكريات جميلة للراوي. فالعيد لا يحبه الاب وحده كما يؤكد ذلك العنوان وليس الاسرة بكاملها وليس الابناء أيضا ً. فالاهتمامات مختلفة! كما تطرح القصة هذه المفارقة في الطقوس الاجتماعية، فالعيد الذي يعتبر فرصة للتوقف وسط المعاناة اليومية للشعور بالفرح، يصبح أكبر مصدر للهم للاب، بينما مصدر فرح ولعب للابناء. وهذه ثيمة رئيسية في المجتمعات العربية الشرقية التي لم تعد للمناسبات فيها أية قيمة للسعادة والفرح لدى الكبار من شدة المعاناة والفقر على نقيض من الصغار، بل تصبح مواسم لمزيد من العبء! كما تطرح مفارقة من نوع أخر تدل على وعي الراوي رغم أنه ما يزال طفلا يحتفي بالعيد حين يرسم رسم صورتين متناقضتين لسلوك ابناء ابي عاهد في مقابل سلوك الراوي وإخوته.

قدمت القصة بلغة شعبية جذابة أجواء العيد وهمومه في قرية او حي ما من أية مدينة وخاصة في بلاد الشام! ورغم أن الراوي يقترب من طرح المشكلات الاجتماعية بلغة شفافة رمزية بشكل سريع، الا أن ذلك مفهوم من ناحية فنية فهو مجرد طفل ينقل الاحداث، ولكن طريقة السرد تدل على فهم عميق للمغزى. فالعيد غداً على الابواب ولكن ذكراه السنوية ترسخت في ذهن الراوي وهذه المفارقات التي يرسمها تدل على أنه بدأ يعي مبكراً السبب الذي لا يحب أبوه من أجله العيد!

* اللوحة أعلاه للفنان المصري أحمد حسين بعنوان "حرمان ودمى"


الأربعاء، يوليو 23

قناع


قناع

قصة قصيرة
بقلم : اياد نصار

أجلس في المقهى على طاولة وحدي أنتظر صديقي الشاعر. شرفة المقهى تطل على المدينة الصاخبة التي لا تعرف الهدوء! الجو جميل بعد العصر وفي الهواء نسمة عليلة. لا أتوقع وصول محسن على الموعد، فله سيرة معروفة بالتأخير. وقد يصل متأخراً ساعتين ولا يفكر بالاعتذار بكلمة! لقد تعوّدت عليه. ودائما أردد يجوز للشاعر ما لا يجوز لغيره! فكيف إذا كان محسن هو ذلك الشاعر؟! أقول له دائماً: الوقت من ذهب! فيقول لي: ما قيمة الوقت في حياة الشعوب أمثالنا؟! أنظر في الاسفل إلى سيل السيارات الذي لا ينقطع، وأسمع أصوات أبواقها التي لا تهدأ! أطوف ببصري بين حين وآخر في الجالسين حولي على الشرفة بدافع الفضول! أسرح بفكري وأنا أتأمل مباني المدينة القديمة ولوحاتها التي تملأ واجهات محلاتها وتحكي تاريخها. تروي خطوط اللوحات وأشكالها أعواماً من عمر المدينة. كم تبدو لي التغييرات هائلةً. أخذت أفكر كيف تغيرت الكلماتُ وحتى ألوانُها! وكيف تغيرت الصورُ والأشكال! تملأ روائح الأرجيلة المكان وتخرج أصوات فقاعات الماء في زجاجاتها متناغمة كالموسيقى. تتمدد نفثات الدخان الكثيف كالسحب البيضاء فتشم معها روائح التبغ المعطر بالتفاح! أرتشف الشاي بالنعناع الأخضر وأتلذذ برائحته وطعمه كي أنسى غصة الانتظار!

لم يكن هناك أمامي سوى مراقبة المدينة وسماع أحاديث الجالسين حولي على الشرفة! في الزاوية اليسرى القريبة مني شابان يتحدثان منذ فترة بكل جدية! كان صوتهما عالياً. لم أصغِ لحديثهما باديء الأمر. ولكنني عندما مللت من رؤية الشارع وتأمل اللوحات على واجهات المحلات، فقد أخذت أنصت إلى حديثهما! وضع كل منهما مجموعة من الكتب والصحف المطوية المتجعدة أمامه. ركّزت في سحابة دخان أبيض حتى تلاشت في الهواء. لم أعرف عمّا كانا يتحدثان ولكني وجدت نفسي أصغي إلى الحوار الدائر:

- الكذب حبله قصير
- هل قسته؟! هل مشيت عليه ولم تصل مرادك فانقطع بك في منتصف الطريق؟!
- لا ، ولكن هذا خلاصة تجربة الناس.
- وما أدراك أنه قصير؟ أعرف أناساً يكذبون طوال حياتهم!
- ولكن هذا المثل لم يأت من فراغ!
- وهل هو رأيك أنت كذلك؟
- بالطبع. إن رأيي من رأي الآخرين.
- وهل تصدق كل ما يقوله الاخرون؟
- لا. ولكن ليس معقولا أن يردد الاخرون دائماً هذه العبارة لو لم تكن صحيحة، أو لو لم تكن من تجربة حياتية فعلية!
- وهل تسلّم رأيك للآخرين بهذه السهولة؟
- لا بالطبع، ولكن المثل يقول "حط رأسك بين الرؤوس وقل يا قطاع الرؤوس"! أو يقولون أحيانا "الموت مع الجماعة رحمة"!
- ولكن خلاصة تجربة الناس تقول أيضاً: لا تكن إمّعة! فتصبح تابعاً في كل شيء لا قيمة لرأيك!
- ولكن الكذب قناع لا يدوم طويلاً.
- وهل رأيت أقنعة سقطت؟ لا تقل لي إن محمود درويش قد قال سقط القناع! فأنا أرى أن أصحاب الاقنعة في ازدياد!
- ولكن الامثال هي خلاصة تجربة حياة الشعوب. وهي لم تأتِ من فراغ! كل الشعوب في الدنيا لها أمثال ترددها.
- ولكن أمثالنا تحيّرني دائماً!
- لماذا؟ بالعكس إنها جميلة وموجزة وذات عبارة بليغة.
- هل جمال عبارتها يعطيها مصداقية! أم مضمونها هو الأساس؟
- ولكن صياغتها في قمة البلاغة.
- وهل تبحث عن البلاغة أم البلاغ؟! هل تهتم بالشكل أم بالمحتوى؟ وكما غنت ماجدة الرومي: فلماذا تهتم بشكلي ولا تهتم بعقلي؟!
- ما العيب في جمال الشكل؟
- لا عيب. ولكن أمثالنا تعلّمك الشيءَ وضدّه!
- كيف؟
- ألم تقل لي أن الكذب حبله قصير؟
- بلى
- والكذب ملح الرجال! وأنا لا أكذب بل أتجمّل! وكذبة بيضاء! هل تعرف متى يقول السياسي العربي كذبة بيضاء أم سوداء أم ملونة؟!
- طبعا الكل يعرف أنهم أكثر الناس كذباً! ولهذا لا نصدّق ما يقولون!
- ولكن المثل يقول أيضا السياسة هي فن الكذب والخداع! فلماذا نقبل تعريف السياسة ولا نقبل ممارستها؟!
- لأننا لا نقبل أن يضحك علينا أحد.
- وهل من لا يقبل أن يضحك عليه أحد يقول: اليد التي لا تقوى عليها بوسها وأدعُ عليها بالكسر؟! أليس هذا خلاصة تجربة البشر أيضاً؟!
- قد تضطرك الظروف أحيانا للانحناء للعاصفة! ألا يقول المثل: إنحن ِ للعاصفة ريثما تمر؟!
- ولكننا نقول دائما يا جبل ما يهزك ريح! فهل ينحني الجبل للعاصفة؟!
- ولكن هذا يدل على مدى تنوع وعمق تجربتنا العربية التي تعبر عنها أمثالنا.
- لدرجة أننا نقول الشيء وضده!!
- لكل مقام مقال.
- وأين ذهب قل الحق ولو على قطع رأسك؟! لم أر سوى رؤوس قليلة قد قطعت منذ أيام الحجاج!! إن قطع الرؤوس والرقاب الذي شاهدناه مؤخراً لا ينطبق عليه المثل. لم يتفوه أصحابها بكلمة واحدة. بل قطعت رؤوسهم بحسب النوايا!
- يبدو أنك ستتعبني! فما قلت لك شيئاً وأعجبك! أنت لا يعجبك العجب ولا الصيام في رجب!
- ولكن من يعجبهم كل شيء لا يرون الأشياء على حقيقتها!
- ولكن أين هي الحقيقة؟ الحقيقة غائبة!
- ما دامت الحقيقة غائبة، فقد حل الكذب محلها! فكيف يكون حبله قصيراً؟!
- لم أفكر بهذا الأمر هكذا من قبل!
- الكلمات الجميلة ليست دائما صادقة!
- ولكن الكلمات الصادقة ليست دائماً جميلة.
- هل سنعود مرة أخرى؟!

قطع إنصاتي فجأة صوتُ قادمٍ من مدخل الشرفة. كان ينادي إسمي حينما انتبهت اليه. وصل محسن أخيراً. سلّم عليّ وجلس. أخذ يعدد لي أسباب تأخره. خاب ظني.. فهذه أول مرة في حياته يعتذر! ابتسمت وقلت له لا عليك. لم أطلب منك اعتذاراً مرة واحدة أبداً! لا أريدك أن تعتذر كي لا تكذب، فالكذب حبله قصير. وضحكنا معاً!

* اللوحة أعلاه للفنانة الصينية الامريكية المعاصرة ديانا أونغ Diana Ong بعنوان قناع

الثلاثاء، يوليو 22

شخص ما


شخص ما

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

طرق الباب ثم وقف ينتظر ، يرسم في مخيلته ملامح من سيطل من خلفه. استرجع في ذاكرته الكلمات التي سيقولها. لم يسمعْ أي صوت بالداخل. أعاد الطرق مرة أخرى. تأمل تفاصيل الباب الخشبي الكبير المدهون بطبقة لامعة صقيلة باللون الجوزي. استجمع في ذهنه هيئةَ من سيطلُّ عليه. إنه يعرفه. شاهده يدخل من هذا الباب مرات كثيرة. مضت برهة ولم يطل أحد. أعاد الطرق مرة أخرى بصوت أعلى وحركة أسرع. وقف يستمع. لم يكن هناك أيُّ صوتٍ في الداخل. أين ذهبوا؟ إنه يعرف الرجل الساكن هنا. لم يتردد عندما سأله أبو سعد النصري عنه. أخذ يبحث عن مفتاح جرس كهربائي لعله يكون مختبئاً هنا أو هناك. لم يجد شيئاً. مشى حوالي المدخل، نظر في الزوايا وعلى جدار كتلة قليلة الارتفاع هندسية الشكل يعلوها قوس حجري قد نبتت حولها شجيراتٌ صغيرةٌ. أعاد الطرقَ مرةً أخرى بحركةٍ سريعةٍ من يده الرجولية. لم يخرج أحد. إنتظر لحظاتٍ ثم زاد من قوة الطرق قليلاً. كان متوتراً فربما أفلتت السيطرة من بين يديه وخرجت طرقة عالية! حاول أن يضبط انفعاله. ولكنه يعرف البيت جيداً. يعرف الرجل الساكن فيه. بقي ينتظر لعلّ أحداً يطلُّ من وراء الباب. لا مناص لديه من أن يأتي بالرجل إلى أبي سعد، والاّ سينزل عليه غضبٌ له أول وليس له آخر! تذكر سيارته المرسيدس الزرقاء القديمة. نزل عن درجات المدخل ودار حوالي البيت فرأى السيارة واقفةً. اطمأنّ باله قليلاً، فالرجل لا بدَّ أنه في الداخل!

أبو سعد النصري صاحبُ شخصية قوية ووجهٍ متجهّم. يلبسُ نظّاراتٍ سوداءَ كبيرةَ الاطار، عدساتها ذاتُ لونٍ غامقٍ يزيدُ من تجهّمه. يحب أن يظهرَ دائماً بمظهرِ الانسانِ الجادِ الرزين. يتكلم بصوت جهوري ، وحتى عندما يهمسُ فهو يتحدّثُ بصوتٍ عالٍ! لا يراه الناس إلاّ عابساً مكتئباً يخلو وجهه من أي عاطفة إنسانية! رجل لا يعرف الضحك. لا يذكر أنه شاهده يضحك سوى مرة أو إثنتين طوال سنوات.

يقف أبو سعد طوال النهار خلف الصندوق ورأسه مرتفع للاعلى. وجهه أشقر يميل إلى الاحمرار قليلاً وعندما يغضب يصبح محتقناً قانياً كالدم. في نهاية الخمسين من العمر، ولكنه صاحبُ شكيمةٍ عالية. يخاف خليل منه كثيراً، ويخشى من سطوة لسانه. يحب أبو سعد قصص العرب القدماء ويجد متعةً في روايتها بأسلوبه الخاص. يسترق خليل السمع إليه أحياناً وهو ينظف الارض أو يمسح الرفوف وهو يروي قصصاً عن عنترة العبسي! إذا عرف أنه ينصت اليه سيظنه ترك التنظيف ليسمعه. يا ويله حينها من لسانه السليط. يتخيله خليل مثل الحكواتي، ولكنه يحب قصص البطولة ويرويها بصوته الجهوري الأجش.

أبو سعد مغرم بالسياسة وأحاديثها. ولديه ذاكرة عجيبة تحفظ التفاصيل. لاحظ خليل أنه يحب القراءة بشكل غير معقول. ولكنه لا يقرأ إلا الصحف! يعشق عبدالناصر كثيراً ويروي قصصاً عن حياته وبساطته. يردد أبو سعد دائماً أن ما أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة! صار شاكر مساعد الصيدلي خيرَ مستمعٍ له رغماً عنه! شاكر مضطر للاستماع له بدافع الواجب وكبر السن، ولكن هناك سبب أهم! يملّ شاكر من حكاياته فلا دخل له بالسياسة أو قصص عنترة. شاكر لديه قصص أخرى يهتم بها من زمانه هو وليس من زمان عنترة أو زمان عبدالناصر! ولأنهما يمضيان أغلب الوقت معا في الصيدلية فقد نشأ بينهما تقارب ظاهري! شاكر وسيم معسول اللسان. تحب النساء أحاديثه كثيراً، فلا تخلو الصيدلية من النساء في أغلب الاوقات! عنده لمسة "إنسانية"، يعطي الدواء أحياناً بدون مقابل في غياب أبي سعد! يكسب ثقة "بعض" المرضى بهذه الطريقة! خليل لا يأتي سوى ساعتين في الصباح وساعتين في الليل قبل وبعد مدرسته.

بقي خليل واقفاً ينتظر فتح الباب. هم َّ أن يغادرَ المكان ويرجعَ بخفي حنين. سمع صوتَ المفتاح يدور بالباب! تهلّلت أساريرُه. سيفلت من العقاب هذه المرة! أطلَّ رجلٌ ضخمُ الجثةِ أسمرُ الوجهِ كثيفُ الشعرِ يلبس فانيلا وبيجامة. كان ما يزال يغمض ويفتح عينيه عندما فتح الباب. قال: نعم؟ انتبه خليل أن الرجل حافي القدمين. تطلع في ملامح وجهه وشعره. أحس بخوف في داخله فقد أيقظه من قيلولته! خشي من ردة فعله. ولكن عقاب أبي سعد لا يطاق! نظر اليه بتفحص. إنه هو ذات الرجل. يعرفه منذ فترة لا بأس بها منذ أن بدأ يعمل في الصيدلية. يأتي كل يومين أو ثلاثة ويفرغ ما في جيوبه ومحفظته من نقود معدنية يجمعها خلال النهار من الركاب على طاولة الزجاج أمام شاكر ليشتري بها علبة حليب لطفله. طفله عليل لا يناسبه سوى نوع معين. يشكو ويتذمر بحرقة. صار يعرفه من ملامح البؤس في عينيه وأسلوبه في الشكوى من بين الزبائن الآخرين!

"أرسلني أبو سعد من صيدلية الشفاء القريبة منكم. ويطلب منك أن تأتي معي لأنه يريدكم في أمر هام"! استغرب الرجل من الطلب وقال: أنا؟ يريدني أنا؟ قال: نعم. سأل باستغراب: لماذا؟ فأجاب: لا أعرف، ولكنه يريد أن يراكم. بدا على الرجل الانزعاج. الوقت ما يزال بعد الظهر بقليلٍ من أيام شهر حزيران والجو حار. قال: أخبره أنني سآتي في الليل. فقال له خليل: أرجوك الآن. إنه يريدك الآن. أنت لا تعرف أبا سعد. إذا لم تأتي معي سينزل غضبه علي. قال: حسنا لا تخف. وضحك وقال: أعرف أبا سعد!

من لا يعرفه؟! الكل يعرفه. في الحقيقة معروف ببخله عندما يتعلق الامر بالنقود. شديد الحرص بشكل منفّر. حتى موسى المحاسب يتذمر منه ويشكوه إلى زياد صاحب الصيدلية.

قال الرجل: ولكن لماذا يريدني؟ ألم يخبرك بذلك؟ فأجابه: لا أبداً. لم يخبرني. كان خليل يخمّن بداخله أنه يعرف السبب ولكنه لم يشأ أن يخبره به، فلعل لديه سببا ً آخر. أو لربما اعتذر عندئذٍ عن الذهاب معه إذا عرف السبب! فبقي صامتاً. شعر خليل بالارتياح من سماع رده. لو كان شخصاً آخر لرفض، وربما طرده على إزعاجه له وقت القيلولة! كل الاحتمالات غير السارة كانت واردةً في حسبانه ولكنه رضي بالمجازفة. تذكر ما حصل يوم السيارة!

أرسله أبو سعد ذات يوم لإحضار طلبيات الأدوية من مستودعاتها في وسط المدينة. أعطاه بضعة قروش كي يذهب ويرجع بالحافلة. كانت الطلبيات كبيرة ومستودعات الادوية في أماكن متباعدة. حملها بصعوبة ومشقة وقطع بها مسافات طويلة. كان يستريح كلما مشى عدة أمتار. كان متعباً والمسافة بعيدة كثيراً عن مكان تجمع الحافلات. لن يسمح له سائق الحافلة بالركوب. تذكر ما قاله له السائق المرة الماضية حين صرخ في وجهه: أين ستضع كل هذه الادوية والصناديق والاكياس؟ هل ستضعها في حجر الركاب؟! هل صارت الحافلة واسطة نقل للبضائع؟! خطرت له فكرة خطيرة!

أوقف سيارة أجرة. وضع الصناديق والاكياس في صندوقها. فتح السائق عداد الاجرة. راقب خليل العداد طوال الطريق ويده على قلبه. كلما كان العداد يقلب في إزدياد، كان قلبه يخفق من الخوف! بقي صامتاً متوجساً طوال الطريق حتى وقفت السيارة أمام الصيدلية. ركض إلى ناحية أبي سعد. فغر فاه ورفع حاجيبه من جرأته في الطلب! كانت الاجرة عشرين ضعف أجرة الحافلة! أخذ يزبد ويصرخ ولكنه لما رأى السائق ما زال واقفا ً ينتظر الاجرة فقد دفع له المبلغ وهو يتميّز في داخله من الغضب! بعد أن أدخل الصناديق للداخل أمسكه أبو سعد من ذراعه وأخذ يشد عليها وهو يؤنبه على فعلته السوداء. ثم قال له غاضباً: أغرب عن وجهي. لا أريدك أن تبقى هنا اليوم! كثيراً ما يفكر خليل في سبب إستقواء أبي سعد عليهم، ولكنه كل مرة يرى فيها زوجة زياد في الصيدلية يعرف السبب ويسكت!

قال الرجل وهو ما يزال متكئا ًعلى حافة الباب بفانيلته البيضاء التي برز الشعر الكثيف من حافتها العلوية: انتظرني هنا قليلاً كي أغير ملابسي وآتي معك. وقفل الباب! بقي خليل واقفاً يتأمل في الزهور المزروعة حوالي البناء. أزهار جميلة ذات ألوان مختلفة، وقد نبتت حولها أعشاب خضراء وشجيرات ما زال عودها طرياً. وفي أخر الممر كان هناك شجرة تين كبيرة عالية عجفاء غير مثمرة. كانت أوراقها مغبرة كالحة بفعل الزمن والغبار. بدت كعملاق يخيف الازهار من حولها. شعر أنها لا تنتمي للمكان. شرد بأفكاره. لكنه وجد نفسه يفكّر رغماً عنه في أبي سعد وفي الصيدلي زياد. كان زياد النقيض له في كل شيء. رجل في بداية الأربعينات تخرج وعاد من إيطاليا. من عائلة ثرية، ولكن لا يتعامل مع الناس بمقدار ما في جيوبهم!

شعر خليل أن الرجل قد تأخر بالداخل. ولكن لم يكن أمامه سوى الصمت. بعد قليل فتح الباب مرة أخرى وأطل منه الرجل وقد لبس ثيابه وعدل هيئته. بقي خليل صامتاً رغم أن الرجل حاول أن يعرف السبب منه مرة أخرى. قال له: لا أعرف أبداً ولكنك الان ستعرف من أبي سعد. أخذ الرجل يفكر ويحسب طوال الطريق. دخل الرجل بقامته الطويلة وجثته الضخمة إلى الصيدلية فتبعه خليل. وقف في وسط المكان وراح يتطلع حوله بانتظار أن يخبره أحد شيئا ً ما. لم يكن أبو سعد يقف عند الصندوق. سأل عنه ، فرد شاكر أنه قد ذهب للغداء وسيعود بعد ساعتين! استغرب خليل من ذلك. سأل الرجل بحدة وقد بدا عليه الانزعاج واضحاً: ولماذا أرسلتم في طلبي؟ ولماذا الاصرار على حضوري في هذا الوقت؟ استغرب شاكر من كلماته ونظر إلى خليل لعله يجد لديه جواباً. فتدخل خليل وشرح لشاكر الموضوع والرجل يسمعه. أخذ شاكر يعتذر منه وعلى حضوره ولكنه أكد أنه لا يعرف عن الموضوع أدنى فكرة! شعر الرجل بغضب شديد ، وأراد ان ينتقم لكرامته من هذا التصرف! فكيف يرسل في طلبه على هذا النحو المستعجل ولا ينتظر حضوره ليشرح له الموضوع؟

شعر خليل بخيبة أمل كبيرة وحرج شديد أمام الرجل، وخاصة أنه أصر على حضوره معه. صار يعتذر منه، ولكن الرجل أخذ في التذمر بصوت مرتفع. بدأ تصرفه يتحول إلى عصبية وانفعال. حاول شاكر أن يهديء من انفعاله ولكنه أخذ يتلفظ بألفاظ قاسية. لم يقدر شاكر أن يحتويه. الرجل ساخط ومتوتر.
- ما الذي يستدعي حضوري بهذا الاصرار في هذا الوقت؟ ولماذا لم يكلف نفسه عناء انتظاري؟ هذا تصرف غير لائق وأنا لا أقبل ذلك أبداً.
وكلما حاول خليل أن يعتذر منه كان يزداد حدة، وكلما حاول شاكر تهدئته، كان يثور أكثر ويتفوه بكلمات جارحة:
- حقك علينا. نعتذر منك. ولكن ....
- لا أريد اعتذارك . هذا تصرف قليل الذوق
- أرجوك أن تهدأ حتى نتمكن من حل الإشكال.
- أنا هاديء! ضع نفسك مكاني، فماذا تفعل؟
- نعم ، معك حق ، هذا شيء مزعج. ولكن الافضل لو تعود في المساء عندما يأتي أبو سعد وساعتها سيكون السيد زياد هنا وبامكانك التفاهم معهما.

لم يقل شيئا ً، وأدار ظهره وهمّ بالخروج بكل إندفاع واحتجاج عندما دخل أبو سعد فجأة من الباب. أحس بأن هناك شيئاً ما يجري، وأنّ توتراً شديدا ً على وجه الرجل. فأخذ يعتذر عن تأخره. قال إنه ذهب إلى محل قريب لتناول شيء سريع بدل الغداء. أخذ الرجل يصرخ بصوت عال والغضب يقدح كالشرر من عينيه. أحس أبو سعد أن الرجلَ مشحونٌ للغاية وقابلٌ للانفجار. فلم يعرف ماذا يقول له. أخذ يعتذر منه بشدة عن هذا الخطأ غير المقصود. قال إن هناك خلطا ً قد وقع في الشخص المعني. كان خليل يسمع اعتذاراته وهو مذهول مما يسمع. انه متأكد من أنه هو الرجل ذاته.
- للاسف هذا خطأ خليل. فلست أنت الشخص المطلوب الذي طلبت منه الذهاب اليه!

وانهالَ على خليل بكل أنواع التأنيب والتقريع. ولم يتمالك الرجل نفسه، فانهال هو الآخر عليه بكلمات نابية. حاول شاكر أن يتدخل كي يحتوي غضب الرجل ويضع حدا لكلماته الموجهة لخليل. بقي أبو سعد يعتذر منه بينما خرج غاضباً وهو يهذر بكلمات غير مفهومة.

استبد الفضول بشاكر. لم يصدق خليل ما حدث وبقي يبحث عن تفسير. كان متأكداً أنه هو ذات الشخص المعني! كان حانقاً في أعماقه والغضب المكبوت يكاد يخنقه. كان يهمّ أن يسأل أبا سعد عما حصل، عندما قال أبو سعد إنه هو ذات الرجل! وقبل أن يتمكنا من التعبير عن دهشتهمها مما قال، فقد أضاف: إن عليه عدة دنانير متأخرة لم يدفعها لغاية الآن! ولهذا أرسلت في طلبه ليدفعها! وأنه اذا لم يفعل ذلك بتلك الطريقة فلن يقوم بسدادها! بدا الاستغراب في عيونهما واضحاً. كان تصرفه مفاجئا ًوغريباً. أضاف أبو سعد أنه اعتذر منه لما رآه غاضباً إلى ذلك الحد العنيف لأنه خشي من ردة فعله! لم يستوعب خليل أو يصدق ما حصل. توجه نحوه باصرار وعيونه تكاد يشتعل منها الغضب كالشرر. قطّب وجهه. لم يشعر بشجاعة مثلما شعر تلك اللحظة. ضمّ أصابعَه في قبضة يده وهو ينظر في عيون أبي سعد. تململت يده مكانها. لكنها تجمدت عن الحركة. صدرت منه صرخة زلزلت المكان. كان شاكر مثل ومضة البرق في استيعاب ما سيجري. انطلق كالريح حتى وقف خلفه وأمسك به. نظر خليل إلى أبي سعد بكل حقد. مشى خطوات قليلة نحو الباب وخرج. وغابت الصيدلية في رحم الذكريات إلى الأبد. أما شاكر فقد انكسر بداخله حاجزٌ ما منذ ذلك اليوم!

* اللوحة أعلاه للفنان البلجيكي رينيه ماغريت 1898 - 1967 بعنوان "المُعالج" عام 1941



السبت، يوليو 19

السقوط


السقوط
قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار
وقعت أحداث هذه القصة قبل سبعة عشر عاماً. لا زلت أذكر تفاصيلها بدقة كأنها اليوم رغم مضي السنوات الطويلة. تناول الحاج بركات كوب الشاي من يد أبي سعيد ورشف منه قليلاً بصوت عالٍ وهو جالس إلى جانبه في المحل. محلٌ قديمٌ ضيقٌ منزو ٍ في أحد الشوارع الضيقة. قلما يلاحظ أحد من المارة وجوده! معتم متهالك يثير منظره الكآبة! لا يوجد به تهويةٌ أو ثلاجةٌ ولا حتى مروحة!

جاء الحاج بركات ، كعادته كل يوم ، بعد العصر في أحد أيام شهر تموز اللاهب وقد هدأت الحركة بعض الشيء. الحاج بركات مغرم بسرد القصص ويروي تفاصيلها بدقة مذهلة. لكنه دائماً ينتظر الشرارة قبل أن يشرع في حكاية من حكاياته الطويلة! كان أبو سعيد يشكو من الازدحام والانتظار يوم أمس. أحس بوخزةٍ في صدره وضيقٍ في التنفس فأسرع به ابنه إلى المستشفى. رجلٌ عليلٌ متقاعدٌ رضي من الدنيا بهذا المحل الخَرِب. بالكاد يستطيع تحريك الاشياء من مكانها. كلُّ شيءٍ متكومٌ على بعضه، وربما شعر الزبائن بالشفقة عليه من الصناديق التي تتلف قبل أن يلمسها أحد. في الصيف تنبعث من المحل رائحة العفن. ولكنه إعتاد على الرائحة واعتاد زبائنه عليها أيضاً. لم تعد الرائحة تثير اهتمام زبائنه! بل صارت الاسعار حديث الناس. ولكن أبا سعيد كعادته يأخذ بواقي الخضار والفواكه ويبيعها بأسعار تقل عن المحلات في الحي! أخذ أبو سعيد يلعن الظروف فانتهزها الحاج بركات فرصة ليروي الحكاية!

"وقف الحاج صالح على طرف الميدان ينتظر الحافلة وهو يتكيء على عصاه التي ترافقه منذ خمسة عشر عاماً. يحمل كيساً من النايلون به مغلف بني. ليس غريباً عليه هذا الانتظار! صار مثل واجب يومي ثقيلِ الظّل! في السابعة والستين، لكن السكري والضغط قد أطاحا به. ولم يعد يقوى على المشي الا بمساعدة عكازه.

جو ربيعي في صباح خميس جميل. تهب نسائم هواء عليلة تحمل رائحة العشب الندي. هذه نهاية الطريق. ساحة عريضة يسميها الناس بالميدان. تلتقي فيها شوارعُ فرعيةٌ آتيةٌ من القرى المحيطة. يأتيها الناس من كل حدب وصوب. صارت مثلَ سوقٍ صغيرةٍ يفترش فيها الباعةُ أطرافَ الساحة. هنا ترى وتسمع كل أساليب المساومة بين مشترين فقراء وباعة ينتظرون الفرج! تخرج أصواتٌ عاليةٌ نشازٌ فجأةً فتمزق الهدوء. يلتفت الناس إلى مصدر الصوت ثم تعود الرؤوس لممارسة الرتابة اليومية. بدأ بعض الناس بالتجمع في انتظار الحافلة. المسافة إلى وسط المدينة بعيدة. أجرة الحافلة قروش قليلة يمكن احتمالها. لا يفكر أحدٌ من الواقفين في أخذ تاكسي! لا بد من انتظار الحافلة التالية! قد تأتي بعد لحظات قليلة، وقد تتأخر أكثر من ساعة حتى تصل!

يفتعل الركاب الواقفون أحاديث يتلهّون بها! تخرج تعليقاتٌ بصوتٍ عالٍ لعلّ أحداً يلتقطُ طرفَ الخيط ويبدأ الحديث! يتذمرون من طول الانتظار وتأخر الحافلة. وقد يحالفُ بعضَهم الحظُّ فيمر قريب أو صديق بسيارته فيتوقف له! تمر سيارة نقل كبيرة محملة بجرار الغاز، تقطع الصمت والملل. تطلق بوقها العالي الصاخب! فيتحول الحديث إلى الغاز وأسعار النفط!

أتى شيخ سبعيني من بعيد يجر جسمه النحيل بتثاقل. يتوقف أحياناً ويرفع رأسه ليتبين الطريق ويرى الناس من حوله. اقترب من الواقفين. همهم ببعض كلمات لم يسمعها أحد. وقف بآخر الدور وصار يتطلّع حواليه. بين حين وآخر يتمتم الشيخ سالم ويستغفر بهمهمات خافتة. بعد أن فرغ من أدعيته مشى قليلا ببطء حتى وصل عند الحاج صالح: "من زمان وأنت هنا يا حاج؟" "منذ نصف ساعة". "الله يتوب علينا من هذه الوقفة. إلى متى سنبقى واقفين؟ يضيع يومك وأنت تنتظر هنا". رد الحاج صالح: "شيء لا يطاق. يجب أن نشتكي عليهم". ضحك الشيخ سالم وقال: "يا ما اشتكيت. الوضع كما هو. بل صار أسوأ! الشركة تعبانة وحافلاتها تسير كالسلحفاة". سمع الحوارَ شابٌ كان يقف بالقرب منهما. قال بصوتٍ عالٍ: "لا تلتزم بوقت محدد للوقوف والوصول". رد عليه رجل خمسيني بنبرة سخرية كان يحمل في يديه بعض الاكياس: "يا سيدي لم نصل إلى هذه المرحلة! على الأقل نريد باصاً كل نصف ساعة"! فرد الشاب: "ما دام السائق لا يتحرك إلاّ بعد أن يمتليء الباص، فالوضع سيبقى كما هو"!

إن أفضل مكان لسماع القصص المريرة والهمهمات والشكوى هو موقف الحافلات! تتطور الأحاديث وتتشعب من تأخر الحافلة إلى الغلاء حتى تنتهي دائماً عند القضية الفلسطينية! وما دام الكل مجبراً على الانتظار ، فلا بد من الأحاديث التي تساهم في النسيان! وتعيد ذكريات أيام زمان!

أطلت الحافلة من بعيد بلونيها الأبيض والأحمر العتيدين. بدأ الناس في التقاط أكياسهم وأغراضهم والتحشّد عند رأس الدور! الوضعُ بائسٌ ومزرٍ ولكن الانتظار الطويل لا يسمح بتفويت الفرصة مرة أخرى! لا بد من المزاحمة والاّ ستنتظر مرةً أخرى! عندما فُتح الباب تدافع الناس. صعد الحاج صالح وهو يتكيء على حديد المقاعد، واختار مقعداً فارغاً قريباً من السائق وجلس! وضع العكاز أمامه وشعر أن الامور ستسير الآن على ما يرام. صعد الناس إلى الحافلة، وكل واحد يريد أن يجلس في مقعد فارغ وحده! صعد الشيخ سالم وجلس بجانب الحاج صالح. صعد باقي الركاب وبدأت الحافلة بالتحرك أخيراً.

تململ الشيخ سالم في مكانه ، عدل جلسته ووضع يديه على شماغه ، نظر جانباً إلى الحاج صالح وقال: لقد صار ركوب الباص بهدلة! إلى أين أنت ذاهب يا حاج؟
- إلى وسط البلد.. قالها بتنهد وأضاف: لتقديم طلب خط هاتف لبيت ابني
- ولكن تقديم الطلبات ليس في وسط البلد؟
- أعرف. سأستقل حافلة من المجمع في وسط البلد كي توصلني لمكاتب الشركة. ذهبت إلى هناك عدة مرات
- ولماذا تراجع أنت؟ أين ابنك؟
- مسافر. يعمل في الخليج. أبلغتنا الشركة أنه قد جاء الدور علينا
- منذ متى قدمتم الطلب؟
- قبل ثماني سنوات. حاولت كثيراً أن أستعجل التركيب. تدخلت لدى بعض الاصدقاء والمعارف ولكن دون نتيجة. قالوا أنه لا توجد أرقام جديدة لمنطقتنا!
- الشيخ سالم بابتسامة مهوّناً الامر عليه: لقد جاءنا الدور بعد مرور عشر سنوات!
- وأين أنت ذاهب؟
- إلى السجن.
- السجن؟ ولماذا؟ لا بد أنك تمزح.

توقفت الحافلة لتحميل بعض الركاب. صعدت بعض النسوة. كانت هناك مقاعدُ فارغةً في آخر الحافلة، لكنهنّ لم يذهبن اليها. بقين واقفاتٍ قرب الباب. كن يتلفتن في الجالسين لعل أحداً يخلي لهن مقعده. قام بعض الشبان من أماكنهم وذهبوا للمقاعد الخلفية فجلست النسوة مكانهم.
- قصة طويلة وغريبة لا عليك منها
- أرجو ألا يكون شيئاً سيئاً
- وهل السجن شيء طيب للحديث عنه؟ توقف لحظة وقال بنبرة حنين: لم نكن نعرف في زماننا مثل هذه الاشياء.
- زماننا لن يتكرر. ذهب ولن يعود.
شعر الحاج صالح أن الشيخَ سالم متحفظٌ ولا يريد أن يخبره عن السبب، فلم يكرر السؤال. بقي يجاريه كي يبقى الحوار متصلاً!
- هل هو قريب لك؟
- أجاب الشيخ سالم وهو ينظر بعينيه من النافذة إلى الشارع: نعم، ولولا ذلك لما تكبدت كل هذا العناء لأجله.
- هل هو ابنك؟
- لقد تعبت كثيراً في سبيله منذ أن دخل السجن
- شدة وتزول
قال ساخراً: لا أعتقد أنها ستزول. لقد بدأت الآن!

يدخّن السائقُ وهو يقود الحافلة. رجل ضخم قويُّ الجسمِ أسودُ الشعرِ عريضُ الشاربين يلبس قميصاً أبيضَ وقد صار مائلاً للسواد! سادت فترة صمت بين الحاج صالح والشيخ سالم. ينظر كل منهما إلى خارج الحافلة، أو يتأمل في الركاب الواقفين. صار الواقفون يتكدسون في الوسط. المسافة طويلة والحافلة تتوقف كل عدة مئات من الامتار. رحلة مضنية ومملة.
- منذ متى وأنت تزوره؟ هل سيبقى فترة طويلة؟
- منذ شهر. الله أعلم كم سيحكمون عليه
- ألم يحاكموه بعد؟
- ما زال في الحجز والمحاكمة جارية. كيف طاوعه قلبه أن يفعل ذلك؟
- ماذا حصل؟

يهب الهواء قوياً من النوافذ المفتوحة فيحمل معه دخان السجائر. بقيت الأصوات تتعالى كلما أراد أحد من الركاب النزول. المسافة من أقصى طرف ضاحية المدينة إلى وسطها مثل مشهد بانورامي. تمر الحافلة تارة بحي شعبي مكتظ بالسكان ، والبيوت كأنها صناديق متراكبة فوق بعضها، والأزقة ضيقة والأولاد يملأون الشوارع. وتارة تمر بحي بيوته من الفلل الفخمة والقصور والحدائق. مفارقات متواصلة!

قال الشيخ سالم: تزوج سعد منذ حوالي خمس سنوات. هو الرابع بين إخوته. توقف هنيهة ثم أضاف: إخوته الثلاثة تزوجوا قبله ورزقوا بأطفال. ولكنه بقي محروماً منهم. لقد أثر ذلك في نفسه كثيراً. ذهب للعلاج عند الاطباء دون فائدة.. كلما سمع عن معالج أو شيخ أو عطار ذهب إليه كالغريق الذي يتعلق بقشة. أنفق ماله واستدان من إخوته. ولكن بلا طائل.
- شيء صعب
- وأخيرا حملت. رأيت الفرح في عينيه وعينيها. صارت تراجع المستشفى بانتظام. صارت موضع اهتمام كل فرد في البيت. مضت شهور ونحن ننتظر قدومه. رجعت منذ شهر من المستشفى وهي تحمل طفلها ملفوفاً بين يديها مغتبطة به، وابني يكاد يطير من الفرح. لا أستطيع أن أصف الفرح في عيون أمه وأخواته. مضى أسبوعان ونحن في غاية السرور لأجل سعد وزوجته.

تغير صوت الشيخ سالم وصار خافتاً يشوبه الحزن. قال: أفقنا ذلك اليوم عند الفجر على صوت سيارات الشرطة تحيط بالمنزل. كان صوتها عالياً وأضواؤها تثير الخوف. نزل عدد من رجال الشرطة، وأخذوا يطرقون الباب.

دوّى صوت السائق فجأة عالياً: "لن يتوقف الباص مرة أخرى الاّ في المجمع بوسط المدينة. من يرغب في النزول فلينزل الآن". توقف الشيخ سالم عن الحديث. حمل أغراضه ونزل. شعر الحاج صالح بصدمة لم يكن قد أفاق منها بعد. بقي الشيخ صالح واجماً ولم يفق الاّ على صوت الركاب يجمعون أشياهم وينزلون. تفقد المغلف البني في يده. أمسك عكازة ونزل وهو يشعر بشيء من الدوار. وقف يفكر لحظات من أي طريق سيذهب. مشى خطوات بين السيارات. شعر بتعب وضيق في صدره. لم يعرف سبب هذا الشعور. هل هي القصة التي سمعها من الشيخ سالم ، أم عاوده المرض مرة أخرى؟ الجو حار عند الظهيرة وأشعة الشمس تلفح قوية. مشى وهو يرى الاشياء غائمة. إرتسمت لوحة سوداء أمام عينيه للحظات. شعر كأن الدنيا غرقت في ظلام دامس. مشى خطوات ولكن قدميه تخونانه. فقد توازنه للحظات. تماسك قليلا. لم يعد يرى أمامه بوضوح. شعر أن قدميه لم تعودا قادرتين على حمله. وقعت العكازة من يده. هوى جسمه إلى الأرض وخرجت صرخة فجأة وسط اضطراب الناس الذين تجمهروا حوله.

فتح عينيه. كل شيء حوله قد تغير. نساء بملابس بيضاء يحدّقْنَ به من أعلى وهو نائم. لم يستوعب الأمر. بدأ يشم روائح نفاذة يعرفها من قبل. قال له شاب: أنت بخير الان. كل شيء سيكون على ما يرام. أنت في المستشفى. نظر إلى نفسه وتحسس رأسه ولم يعرف ماذا يقول. بقي في السرير نصف ساعة حتى بدأ يشعر أنه إسترد وعيه. تذكر الشيخ سالم في الحافلة هذا الصباح. تفقد عكازته كانت ما تزال حوله. جاءه طبيب وقال له: إن وضعك جيد. وبإمكانك أن تمشي. سأل: ماذا حصل لي؟
- لقد وقعت في الشارع وقد حملك الناس إلى هنا. مجرد دوار بسيط.
- متى سأخرج من هنا؟
- أنت على ما يرام. ولكن أريدك أن تذهب لقسم الأشعة لعمل صورة وتعود إلى هنا كي نعرف ماذا جرى لك.

وقف متثاقلاً متعبا ًوالصداع يشق رأسه وبصره ما زال مشوشاً. مشى متمايلاً على عكازه. بقي يمشي ببطء وتثاقل وهو يتكيء على الجدار. شاهد لوحة أمامه. فتح الباب ودخل. الغرفة معتمة بعض الشيء. حديد وإسمنت وطوب بأرضها. ألواح من الخشب وسقالات حديد ملقاة في كل مكان. عثرت قدمه .. وقع .. دوّى صوت ارتطام رأسه بالحديد. صرخ ولكن صرخته ضاعت في الظلام. بقي متكوماً يئن على الحديد ونَفَسُه يكاد ينقطع.حاول أن ينهض أو يصرخ. لكنه لم يقدر. تلاشت الأصوات خافتةً شيئاً فشيئاً حتى خمدت".

كان أبو سعيد يصغي إلى حديث الحاج بركات بكل توجس، وقد نسي أن يشرب الشاي حتى صار لونه أسودَ مثل السوس! وأضاف: ثلاثة أيام لم يدر به أحد حتى رآه عامل النظافة! دخل زبون للمحل. بدأ الزبون يتحدث مع أبي سعيد ولكنه كان سارح الذهن مشتت الفكر في عالم آخر. عندما انتهى الزبون من شراء حاجياته انتبه أبو سعيد أن الحاج بركات قد غادر المحل من غير أن يحس به!

* اللوحة أعلاه من رسم الفنان العراقي الراحل شاكر حسن آل سعيد (1925-2004)

الاثنين، يوليو 14

سيلفيا بلاث


سيلفيا بلاث والآمال الضائعة

بقلم اياد نصار

كان لي أثناء دراستي الجامعية صديقة بريطانية ذات أصول أسكتلندية وإسبانية مختلطة. كانت صداقة رائعة للفكر والابداع. كانت "آن" تحب الأدب العربي وبخاصة الشعر الحديث، وتحب قراءة الشعر العربي لمحمود درويش ونزار قباني وبدر شاكر السياب وسميح القاسم. وكنا نجلس لساعات نقرأ بعضاً من قصائدهم ونتذوقها ونحللها ونعيش في عالم الشاعر وإبداعاته. وكان يأخذنا النقاش الى مناحي مختلفة من الادب العربي قديماً وحديثاً. كانت أسئلتها تنم عن تذوق رفيع واهتمام عميق بالقصائد المعاصرة وكان يثير حبها لتعلم اللغة العربية والاطلاع على قدرتها الاسلوبية والبلاغية في التعبير عن معاني الشعر فيّ الاعجاب. وقد اتبعنا اسلوباً جميلاً في النقاش يقوم على ترشيح عمل أدبي بالتناوب ليقرأه كل واحد منا على انفراد ، ثم فتح النقاش حوله. وقد استمر هذا الاسلوب بيننا فترة طويلة حتى بعد سفرها واقامتها بشكل دائم في برشلونة من خلال المكاتبات. وقد رشحت "آن" ذات يوم لي رواية الناقوس الزجاجي The Bell Jar للروائية والشاعرة الامريكية سيلفيا بلاث Sylvia Plath . لم أكن قد قرأت لها شيئاً من قبل.

إستطعت الحصول على الرواية وبدأت قراءتها، وفي أثناء ذلك أخذت أقرأ باهتمام عن حياة كاتبتها ، فراعني ما مر بها من أحداث إنتهت بموتها المأساوي. ورغم أنها حققت شهرة كشاعرة ربما أكثر منها كروائية حيث لم تصدر سوى هذه الرواية بينما أصدرت عدة دواوين، إلا أن الرواية نالت بعد وفاتها شعبية وشهرة كبيرتين. وللتشابه الكبير بين حياتها الخاصة وبين حياة بطلة الرواية يعتبر بعض النقاد أن الرواية تندرج في باب رواية السيرة الذاتية، رغم أنها نشرت الرواية باسم مستعار هو فيكتوريا لوكاس.
تخللت حياة سيلفيا بلاث المرأة الشابة ذات الجمال الجذاب التي ولدت عام 1932 وتوفيت عام 1963 أزمات نفسية وعاطفية أدت الى انفصالها عن زوجها الأديب والشاعر البريطاني المعروف تيد هيوز الذي كان رفيق دراستها في الجامعة فأحبته واقترنت به ورزقت منه بطفلين. وقد انتقلت للعيش معه من الولايات المتحدة الى لندن. وهناك نشرت ديوانها الاول بعنوان التمثال العظيم. وقد دفعها الخلاف والتأزم في علاقتها الأسرية مع تيد الذي كان يمثل الجانب الذكوري الذي يقمع طموحاتها في اثبات الذات وتحقيق مشاريعها وآمالها العديدة وخاصة بعد اكتشافها أن زوجها كان على علاقة عاطفية بامرأة أخرى الى ترك البيت والانفصال عن زوجها والاقامة لوحدها مع طفليها. ثم بدأت تعاني من مرض نفسي واضطرابات ذهنية حيث كانت تأتيها نوبات من الانهيار العصبي. وقد توفيت منتحرة بالاختناق بالغاز وهي في عز شبابها في سن الواحدة والثلاثين. وقبل أن تموت فقد قامت بترك خبز وحليب لاطفالها، وقامت بسد منافذ المطبخ بالمناشف المبللة، وتركت شبابيك الغرفة التي كانا نائمين فيها مفتوحة. ثم عرضت نفسها للغاز في المطبخ حتى اختنقت! ومن القصص الغريبة ان المرأة التي أحبها تيد هيوز قد ارتكبت الانتحار هي أيضا بعد وفاة سيلفيا بست سنوات مما عزز الشكوك بأن زوجها كان يسيء معاملتها. ولهذا تعرض شاهد قبره للتخريب والكتابة عليه من قبل مريديها بما يفيد إتهامه بأنه السبب في وفاتها!

أصبحت سيلفيا بلاث وخاصة بعد وفاتها رمزاً أدبياً في نظر الكثيرين من الشباب والشابات لتمردها على قيود المجتمع في سبيل تعزيز قيمتها كأنثى ، وحريتها كفتاة ، وابداعها النسوي حيث أصبحت رمزا من رموز المدرسة النسائية المطالبة بحرية المرأة وحقوقها ومساواتها مع الرجل والاعتراف باستقلاليتها وابداعاتها.

كما نالت قصائدها شهرة كبيرة وحظيت باهتمام كبير من النقاد وترجمت دواوينها الى لغات عديدة. وقد أوجدت ما يسمى بالشعر الذاتي الاعترافي بالاشتراك مع أخرين. كان شعرها يحمل الكثير من الملامح الفلسفية والتأملية التي تميل للسوداوية والاستسلام للموت واستحضار النهايات ، ولكنها تناولت أيضا موضوعات عديدة. وقد استلهمت الاساطير القديمة والاشارات الدينية في قصائدها. وامتاز شعرها بمسحة حداثية صوفية فلسفية. ومن دواوينها التي أصدرتها: التمثال العظيم ، وأرئيل، وعبور الماء ، وأشجار شتائية.

تدعى بطلة روايتها "الناقوس الزجاجي" إيسثر جرينوود، وهي أديبة موهوبة حققت شهرة كبيرة في سن مبكرة. حيث حصلت على بعثة للعمل في مجلة مرموقة في مدينة نيويورك. وقد أصيبت باحباط نتيجة عدم قدرتها على التكيف مع نمط الحياة في نيويورك فعادت الى بلدتها التي جاءت منها. وخلال اقامتها في نيويورك فقد سعت الى الحصول على منحة أخرى بدل المجلة لحضور دورة في الكتابة يشرف عليها كاتب معروف. ولكن طلبها جوبه بالرفض مما جعلها تقضي الصيف في كتابة رواية. ولكن كل حياتها كانت تتركز حول الدراسة والمدرسة ولم يكن لديها خبرة كافية بالحياة حتى تستند اليها في كتابة الرواية ولكنها كانت ثورية تواجه قيم المجتمع المحافظ في الخمسينيات من القرن العشرين الذي يعرض عليها إما الامومة او الالتحاق بوظائف تقليدية للمرأة بالتمرد. أصيبت إيسثر باكتئاب مما دفع أمها لعرضها على طبيب الذي تسرع في تشخيص حالتها بالاضطراب الذهني وتعريضها لصدمات كهربائية. وقد بدأت تعاني من الأرق وساء وضعها الصحي. وقد وصفت حالتها بأنها كالانسان المحتجز تحت ناقوس زجاجي يصارع لاجل التنفس. وقد حاولت الانتحار عدة مرات مثل الدخول في عرض البحر حتى تغرق أو تناول حبوب منومة بكميات كبيرة. وقد اكتشف أمرها وأرسلت لمصحة عقلية. ولكن خلال تلقيها للعلاج فقد بدأت تسترد عافيتها واستقرارها الذهني رغم أنها مرت بأحداث مهمة مثل انتحار زميلتها وفقدانها لعذريتها. وتنتهي الرواية نهاية مفتوحة حيث أن إيسثر على وشك الخضوع لمقابلة في المصحة النفسية من أجل مراجعة وضعها العقلي وتقرير فيما اذا كانت حالتها تستدعي اقامتها بالمصحة او السماح لها بالمغادرة. عاشت بطلة الرواية مراحل عديدة من اضطراب حياتها وتشظيها واصابتها باضطرابات نفسية وذهنية كانت تؤدي أحياناً الى اصابتها بانهيار عصبي.
في المقطع التالي من الرواية تجلس إيسثر جرينوود مع كونستانتين ، صديقها المترجم الذي يعمل في الامم المتحدة في نيويورك في أحد قاعات المحاضرات، وقد كان يدور في رأسها رؤية لما ستتفرع عنه حياتها مثل شجرة تين:

" في أعلى كل غصن حيث كانت هناك حبة تين بنفسجية كبيرة، فقد لاح لي مستقبل رائع. فثمة حبة تين كانت تمثل زوجاً وبيتا سعيداً وأطفالاً ، وثمة حبة تين أخرى كانت تمثل شاعرة مشهورة ، وحبة تين أخرى كانت تمثل استاذة لامعة ، وحبة تين أخرى إي جي المحرر الموهوب ، وحبة تين أخرى أوروبا وافريقيا وأمريكا الجنوبية ، وحبة تين أخرى كانت الامبراطور قسطنطين وسقراط وأتيلا الهوني ومجموعة من العشاق بأسماء غريبة ووظائف لا تضاهى ، وحبة تين أخرى كانت بطلة أولمبية . وخلف وفوق حبات التين هذه كانت هناك حبات أخرى أكثر منها لم أستطع عدها . ورأيت نفسي أجلس في وسط الشجرة أكاد أموت من الجوع ، لأنني لم أستطع أن أقرر أي حبات التين هذه سوف أختار . لقد أردت الحصول عليها جميعها ، واختيار واحدة منها يعني خسارة الباقي . وبينما كنت أجلس هناك غير قادرة على اتخاذ القرار بدأت حبات التين تذوي وتصبح سوداء، وبدأت تتساقط واحدة بعد الأخرى الى الارض عند أقدامي."

* اللوحة أعلاه بعنوان "خطيئة" من ريشة الفنانة السورية مها بيرقدار الخال.

الأحد، يوليو 13

كيمياء الروح والجسد


كيمياء الروح والجسد

اياد نصار

تتوهّجُ نجمة ٌ في القلبِ بعدَ مواسمِ الحزن ِ والألم ِ

ويولدُ قمرٌ كَلـَوْن ِ عينيكِ في فضاءاتِ العدم ِ

ويصيرُ الحبّ ُ الليلة َ شَمْساً في ظلام ِ الحلم ِ

فتعزفُ قيثارةٌ على بابٍ موصدٍ منذُ القدم ِ

تعزفُ لكِ في ليلِ انتظاري على وتر ِ النغم ِ

فعادَ هواكِ بعدَ الموت نبضاً يثورُ في دمي


كثلج ٍ يقطرُ دُخاناً على نار ِ أفكاري

تشتعلُ كلماتُكِ في قصائدي كالأمطار ِ

لا تموتُ جمرةٌ في الرمادِ من أسراري

يا رؤية َ العشق ِ في صفاءِ الفكر ِ بالأسحار ِ

يا أيها الهوى الأبديُ نثرْتُ حولََكَ أزهاري

وزرعتُك على الشفاه في فجري قناديلَ أشعاري


واذا ضاعتِ الاحلامُ في زوايا المسافاتْ

وجفّت وريقاتُ الشوقِ في لجّةِ المتاهاتْ

لا تقولي ليتنا نرحلُ الى جزيرةِ البداياتْ

لم يكن هذا الحبُ سوى قدر ٍ من الذكرياتْ

كم طافتْ في الحنايا الى اللقاءِ لوعة ٌ وآهاتْ

وخلَّفتْ في الصّدر ِ ألماً موجعاً من الزفراتْ


ما الحبُ الا كيمياءُ الروح ِ والجسدِ وانبهارُ اللقاءْ

ولمعة ُ الفكر ِ تتسربُ الى صقيع ِ القلب كحرِّ الهواءْ

أيها الحبّ ُ يا حلمَنا الضائع َ في أوهام ِ الكبرياءْ

لماذا تموت الاحلامُ في لحظة ٍ كإرتعاش ِ المساءْ ؟

أهو نزفُ الجرح ِ أم إنكسارُ القلبِ في الاحشاءْ ؟

كم تقتلنا الاقنعة ُ في ليل الوهم ِ وانطفاء ُ الرجاءْ


* اللوحة أعلاه بعنوان الرقص تحت المطر من رسم الفنان Jack Vettriano .

عشرة هنود


عشرة هنود

قصة: إيرنست هيمنجواي
ترجمة وتعليق: اياد نصار

في نهاية أحد أعياد الرابع من تموز/ يوليو(1) عاد "نك" متأخراً الى بيته من البلدة في العربة الكبيرة مع جو غارنر وعائلته ، وعلى طول الطريق مروا عن تسعة هنود سكارى. تذكر أنه كان هناك تسعة هنود لأن جو غارنر شدّ لجام الخيل اليه وهم يسيرون وقت الغسق ثم قفز الى الطريق وجرّ هندياً بعيداً عن طريق العجلات.
كان الهندي يغط في النوم ، ووجهه الى الأسفل في الرمل. جرّه جو الى شجيرات كانت على طرف الطريق ، وعاد الى مكانه في العربة.
قال جو: لقد صاروا الان تسعة فقط بين طرف البلدة وهنا.
قالت السيدة غارنر: إنهم هنود.
كان نك يجلس في المقعد الخلفي مع إثنين من أولاد غارنر وكان ينظر من مكانه الى الهندي حيث جرّه جو الى طرف الطريق.
سأل كارل: هل كان بيلي تابلشو؟
- كلا
- سرواله كان يبدو ضخماً مثل سروال بيلي.
- كل الهنود يلبسون نفس النوع من السراويل.
قال فرانك: لم أره أبداً، لقد قفز أبي الى الطريق وعاد ثانية قبل أن أرى شيئاً. ظننت أنه قتل أفعى.
- أعتقد أن عدداً كبيراً من الهنود سوف يقتلون أفاعي الليلة ، علّق جو غارنر
- إنهم هنود. قالت السيدة غارنر.

استمروا في السير بالعربة في الطريق الممتد أمامهم ، ثم انحرفوا عن الخط الرئيسي السريع الى طريق فرعية صاعدة عبر التلال. صار الأمر عسيراً على الخيل الان أن تجرّ العربة، فنزل الاولاد منها، وراحوا يمشون على أقدامهم. كانت الطريق رملية.
التفت نك ببصره الى الوراء ، وهو على قمة التلة بجانب مبنى المدرسة فرأى أضواء بلدة بيتوسكي ، وعلى الجانب الاخر عبر خليج ترافيرس الصغير أضواء ميناء هاربر سبرنجس. تسلقوا العربة مرة ثانية.
قال جو غارنر: كان عليهم أن يفرشوا تلك الطريق ببعض الحصى.
سارت العربة على الطريق عبر الغابة وقد جلس جو وزوجته بجانب بعضهما في المقعد الأمامي ، بينما جلس نك في الخلف يتوسط الولدين.

إجتازت العربة الغابة حتى وصلت الى منطقة خالية من الاشجار.
- الى اليمين هنا دهس والدي ذات يوم الظربان(2).
- بل كانت أبعد من هنا
- إنه لا يغير من الأمر شيئاً أينما كانوا. قال جو بدون أن يحول نظره عن الطريق، وأردف: أي مكان فهو جيد مثل غيره لدهس ظربان.
قال نك: رأيت إثنين منهم الليلة الماضية.
- أين؟
- بالأسفل جانب البحيرة. كانا يبحثان عن سمك ميت على الشاطيء.
قال كارل: ربما كانت حيوانات الراكوون(3).
- كانت ظربان. أعتقد أنني أعرف الظربان.
- يبدو عليك ذلك. قال كارل وأضاف: فأنت لديك صديقة هندية.
قالت السيدة غارنر: توقف عن الحديث بهذه الطريقة يا كارل.
- إن لهما رائحة متشابهة.
ضحك جو غارنر. قالت السيدة غارنر: توقف عن الضحك يا جو. أنا لا أقبل أن يتكلم كارل بتلك الطريقة.
سأل جو: نك ، هل لديك صديقة هندية؟
- كلاّ
- بل لديه هو أيضا يا أبي. قال فرانك وتابع: صديقته تدعى برودنس ميتشل.
- إنها ليست صديقتي.
- إنه يذهب لمقابلتها كل يوم.
رد نك: لا ، لا أفعل. وكان ما يزال جالساً بين الولدين في الظلام. شعر بفراغ ممزوج بالسعادة في أعماقه من محاولتهم إثارة حفيظتة بشأن " برودنس ميتشل." قال: إنها ليست صديقتي
إغتاظ كارل وقال: صدقوا كلامه إن شئتم ، لكنني أراهما معا كل يوم.
- كارل ليس باستطاعته أن يتعرف على فتاة. قالت أمه وأضافت: ولا حتى هندية حمراء. بقي كارل صامتاً. قال فرانك:
- كارل ليس لطيفاً مع الفتيات.
- إخرس
قال جو غارنر: أنت على ما يرام يا كارل. الفتيات لا يجدن رجلاً أبداً في أي مكان. أنظر مثلاً الى أبيك.
- " نعم ، ذلك ما كنت تود أن تقوله". ردت السيدة غارنر وقد مالت قريباً من جو عندما ارتجّت العربة فجأة. وأضافت: لقد كان هناك عدد كبير من الفتيات في وقتك.
- أنا أراهن إن كان والدكم قد تعرف حتى على فتاة هندية.
رد جو: ألا تصدق ذلك ؟ من الافضل لك يا نك أن تحترس لئلا تفقد برودنس.
همست زوجته في أذنه ، فضحك جو.
سأل فرانك: على ماذا تضحكون؟
- ألم تقلها أنت بنفسك يا غارنر؟ نبهته زوجته ، فضحك مرة أخرى.
قال جو: نك يستطيع أن يحتفظ ببرودنس. أنا عندي فتاة رائعة.
قالت زوجته: تلك هي الطريقة التي يجب التحدث بها.

كانت الخيل تجر العربة متثاقلة في الرمل. أخرج جو سوطه في الظلام وراح يضرب به. أخذ يصيح بالخيل: هيّا ، إسحبي العربة. إن ّ عليك أن تجري أقوى من ذلك غداً.
نزلوا طريق التلة المنحدر الطويل بينما كانت العربة ترتج متمايلة بمن فيها. وقفت أخيرا أمام البيت في المزرعة، فنزل الجميع منها. فتحت السيدة غارنر الباب ، ودخلت المنزل ثم عادت تحمل مصباحاً في يدها. أنزل كارل ونك الأغراض من صندوق العربة، بينما جلس فرانك في المقعد الأمامي ينتظرهما كي يقودها للحظيرة ، ويبيّت الخيول.
صعد نك عدة درجات ، وفتح باب المطبخ. كانت السيدة غارنر تشعل النار في الموقد. تركت صب الكاز على الحطب. والتفتت الى نك يودعها قائلاً: مع السلامة سيدة غارنر ، شكرا على أخذي معكم.
- أووه .. لم يكن شيئا يستحق الذكر، نكي.
- لقد قضيت وقتا رائعاً
- نود لو تبقى عندنا. ألن تمكث هنا وتتناول العشاء معنا؟
- أفضل أن أذهب .. أعتقد أن والدي ينتظرني.
- حسناً إذهب الان. أرجوك أن تنادي على كارل وأنت خارج.
- حسناً
- ليلة سعيدة ، نكي
- ليلة سعيدة ، سيدة غارنر

خرج نك ، إجتاز ساحة المزرعة وذهب للحظيرة. كان جو وفرانك يحلبان البقر. بادرهما قائلاً: تصبحان على خير. لقد قضيت معكم وقتاً رائعأ حقاً.
رد جو: تصبح على خير. نك ،ألن تبقى معنا للعشاء؟
- لا، لا أستطيع . لو سمحت أن تخبر كارل أن أمه تريده.
- حسناً ، ليلة سعيدة نكي

مشى نك حافي القدمين في الممر عبر المرج الأخضر خلف الحظيرة. كان الممر طرياً وناعماً ، وأحس بالندى بارداً تحت قدميه العاريتين. تسلق السياج في نهاية المرج ثم هبط نحو النهر الذي يمر من الوادي. غاصت قدماه في طين المستنقع، ثم صعد عبر أرض غابة أشجار الزان الجافة حتى رأى ضوء الكوخ.
تسلق سياج الحديقة ، ومشى حتى وصل المدخل. شاهد والده من خلال النافذة يجلس بجانب الطاولة يقرأ في ضوء المصباح الكبير. فتح نك الباب ودخل. بادره أبوه قائلاً : أكان يوما جميلاً يا نكي؟
- قضيت وقتا رائعا يا أبي. كان الرابع من شهر تموز / يوليو عيداً رائعاً
- هل أنت جائع؟
- كن واثقاً من ذلك.
- ماذا فعلت بحذائك؟
- لقد تركته في العربة في بيت السيد غارنر.
- تعال الى المطبخ

حمل والده المصباح ومشى أمامه. وقف ورفع غطاء صندوق الثلج، بينما دخل نك المطبخ. أحضر له أبوه قطعة من لحم الدجاج البارد في طبق ، وإبريقاً من الحليب ، ووضعهما أمامه ، ووضع المصباح بجانبه على الطاولة.
- هناك شيء من الفطيرة أيضاً ، هل يكفيك هذا؟
- هذا عظيم
جلس والده على كرسي بجانب الطاولة المغطاة بقماش مزيت ، فتكوّن له ظل كبير على جدار المطبخ المقابل. سأل: من فاز بلعبة الكرة؟
- فريق بيتوسكي. خمسة الى ثلاثة.

كان والده ينظر اليه وهو يأكل ، وملأ كأسه من إبريق الحليب. تناول نك عشاءه ، ومسح فمه بمنديله. قام والده وتناول صحن الفطيرة من على الرف. قطع لابنه قطعة كبيرة . كانت فطيرة التوت الاسود.
- ماذا فعلت يا أبي؟
- ذهبت لصيد السمك في الصباح
- ماذا اصطدت؟
- سمك البيرش فقط
جلس والده ينظر اليه وهو يأكل الفطيرة.
- وماذا فعلت بعد الظهر؟ سأل نك.
- تمشيت بجانب المخيم الهندي.
- هل رأيت أحداً؟
- لقد كان الهنود جميعهم في البلدة يشربون حتى سكروا.
- ألم تشاهد أحداً على الاطلاق؟
- رأيت صديقتك برودي.
- أين كانت؟
- كانت بين الاشجار مع فرانك واشبيرن. التقيتهم مصادفة . كانا يقضيان وقتهما معاً.

كان والده يتكلم دون أن ينظر في وجهه.
- ماذا كانا يفعلان؟
- لم أمكث هناك لأعرف ماذا كانا يفعلان.
- أخبرني ماذا كانا يفعلان؟
رد والده : لا أعرف .. لقد سمعتهما يدوسان على سنابل القمح
- كيف عرفت أنهم كانوا هم؟
- لقد شاهدتهما
- ظننت أنك قلت أنك لم تشاهدهما.
- أووه ، بلى رأيتهما
سأل نك: من الذي كان معها؟
- فرانك واشبيرن
- هل كانا ... هل كانا ...
- هل كانا ماذا؟
- هل كانا سعيدين؟
- أحسب ذلك

نهض والده من على الطاولة وخرج من باب المطبخ. عندما رجع كان نك ما يزال يحدق في الطبق وهو يبكي. التقط الأب السكين ليقطع الفطيرة.
سأل ابنه: أتريد مزيداً من الحلوى؟
- لا
- من الافضل لك أن تتناول قطعة أخرى
- لا ، لا أريد أبداً
أخذ والده يمسح سطح الطاولة من بقايا الأكل. سأله نك : أين كانوا بين الاشجار؟
- فوق هناك .. خلف المخيم. من الافضل أن تذهب للنوم ، نكي.
- حسناً

دخل نك غرفة نومه . خلع ثيابه . نام فوق سريره . سمع والده ما يزال يتحرك في غرفة الجلوس. استلقى نك على السرير. دفن وجهه في الوسادة. كان يحدّث نفسه: لقد تحطم قلبي. ما دمت أشعر بهذا فإن قلبي قد تحطم.
بعد برهة قصيرة سمع والده يطفيء المصباح ، ويدخل غرفته. سمع صوت الريح تهب عبر الاشجار بالخارج. وأحسها تتسلل باردة عبر النافذة. إستلقى على السرير فترة طويلة ووجهه مدفون في الوسادة. بعد قليل نسي أن يفكر في برودنس ثم نام أخيراً.
عندما استيقظ أثناء الليل سمع الريح ما تزال تداعب أغصان الشجر خارج الكوخ، وأمواج البحيرة تتكسر على الشاطيء. ثم غاص في النوم ثانية.

في الصباح كانت هناك ريح قوية تعصف بأوراق الشجر والامواج تتراكض مسرعة تتطاول بأعناقها حتى تصل الشاطيء. مرت فترة طويلة منذ أن استيقظ من نومه قبل أن يدرك أن قلبه قد تحطم.

(1) الرابع من تموز / يوليو يشير الى يوم عيد الاستقلال في الولايات المتحدة حيث تنتشر فيه الاحتفالات
(2) الظربان: حيوان أمريكي صغير منتن الرائحة له فرو يشبه فرو السنجاب
(3) الراكوون: حيوان أمريكي ثديي من أكلة اللحوم له فرو وينشط خاصة في الليل ويشبه الثعلب

التعليق:

لن أتطرق في هذا التعليق الى سيرة حياة الاديب الامريكي ايرنست هيمنجواي ، فقد سبق أن كتبت تعريفا به وبأعماله عند ترجمة قصة أخرى له بعنوان " عجوز فوق الجسر". يرجى الرجوع اليها.

وردت هذه القصة " عشرة هنود" في كتابه الصادر عام 1927 بعنوان (رجال بلا نساء) الذي ضم مجموعة قصصية تتكون من 14 قصة قصيرة . وقد ذكر أنه لم يكن ينوي استخدام هذا العنوان، بل كان يريد اختيار اسم أخر ، وقد استعار انجيلاً لهذا الغرض، ولكنه وجد أن الشاعر رديارد كبلنغ قد استخدم أبلغ الاقتباسات التي كانت في باله! إقتبس هيمنجواي اسم عشرة هنود من أغنية شهيرة للاطفال انذاك. نشر هيمنجواي في عام 1925 كتابه الذي ضم مجموعة قصصية بعنوان (في زماننا)، وفيها جاءت قصته الرائعة " مخيم هندي" التي كانت عملا متكاملا. وقد طور في هذه القصة شخصية البطل نك ادم وهو شاب في سن المراهقة، وقد سافر الى قرية هندية وفيها رأى والده الطبيب يجري عملية ولادة قيصرية لامرأة هندية ، وقد دار بينهما حوار عن الموت . ولكن في هذه القصة ، فان الشاب المراهق نك يعود للبيت في عربة السيد جو غارنر وعائلته بعد الاحتفال بعيد الاستقلال الامريكي، وعلى الطريق فإننا نكتشف من الحوار الدائر بين الشخصيات في القصة أنهم شاهدوا تسعة هنود سكارى. وفي كل مرة ينزل السيد جو غارنر من عربته ويقوم بجر الهندي الى جانبي الطريق لكي يستطيع المرور. وحينما يصل البيت يخبره والده أن رأى صديقته برودنس ميتشل مع شاب اخر فيشعر أنه قد تحطم قلبه وانهار حبه. وهكذا تطرح القصة خيانة الحب كموضوع رئيسي في القصة. ولكن على الطريق الذي تجري فيه العربة قبل الوصول للبيت يدور حوار بين أفراد عائلة غارنر يشارك به نك، يبدو فيه مواقف شخصيات القصة التي تطلق التعليقات والمواقف العنصرية الساخرة من الهنود الحمر، كما نلاحظ الحديث عن علاقة الرجل بالمرأة والحب.

كما نلاحظ أن هناك مقارنة بين نموذجين مختلفين لعلاقة الاب أو الاسرة بالإبن. فهناك كارل وفرانك ابناء السيد جو غارنر الذين يأخذان موقف الصراع من بعضهما ويستخدمان لغة شرسة في ايذاء مشاعر بعضهما، وفي نهاية القصة نرى موقفا مقابلا لعلاقة الاب بإبنه كما ظهر ذلك في قصة نك ووالده الذي أظهر كل اهتمام ورعاية بابنه عندما حضر له عشاءه وبقي جالساً الى جانبه. وقد ألمحت القصة الى دور الاب الذي يلعب تأثيرا كبيرا على حياة ابنه من خلال اظهار ظله الضخم على جدار المطبخ ونك جالس يتناول عشاءه.

* اللوحة أعلاه من رسم الفنان الامريكي G. Soto

الجمعة، يوليو 11

الدرب السلطاني

الدرب السلطاني

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

وصلت شبه ميتٍ من الاعياء ، والدنيا عند المغيب. هجموا كلهم عليّ يعانقونني واحداً بعد الآخر ويحدّقون النظر بي. بدت السعادة الممزوجة بالمفاجأة لرؤيتي أدخل من الباب. أخذت نظراتهم تتفرّس في ملامحي، وهم يلمسون وجهي ويدي ويربّتون على كتفي. هذه أول مرة أغيب عنهم كلَّ هذه المدة. أمطرونني بأسئلة من كلِّ حدبٍ وصوب. لكني بقيت صامتاً. كنت متعباً أحس أنني سأقع. توسّلت: "دعوني أنام الآن، وسأحكي لكم كل شيء عندما أفيق".

انتبهوا أخيراً أن الشيخ رجب لم يكن معي. سألوني والدهشة بادية في عيونهم: وأين الشيخ رجب؟ لماذا لم يعد معك؟ بالكاد همهمت والنعاس يغالب جفوني: "أرجوكم عندما أصحو سأخبركم بكل شيء". لم أعرف ماذا حصل بعدها. أتذكر أنني استيقظت وسط ظلام دامس والعرق يتصبب من جبيني. كان حلقي جافاً متشققاً من الظمأ كالارض اليباب بعد موسم جفاف. أردت القيام لكن الانهاك نال مني ، فعدت إلى حضن الظلام. أحسست بدوار غريب. كانت الدنيا تدور من حولي والصور والاحلام تتداخل في رأسي. أمسكت جانب السرير لأوقفها دون فائدة.

"كنت أركب فرسي بمحاذاة الشيخ رجب عبر الطريق الرملية ، والصحراء تمتد حولنا شاسعة جرداء. سار إلى جانبه البدوي صقر قائدُ المجموعة. بقي الفرسان يسيرون معنا حتى قطعنا الجبال الوعرة ، وبدأت الارض تستوي أمام خيولنا. توقفنا للوداع . عادوا من حيث أتوا . تنفست الصعداء. وتابعنا الرحلة.

خرجنا قبل شهر من تل النوار على أطرافِ جبال جَلْعَاد الجنوبية قاصدين زيارةَ جامعِ الازهر. أو هكذا ظننت أول الأمر. هذه أول مرة أخرج من قريتي في حياتي. قريةٌ صغيرةٌ وادعةٌ مرتفعة تطل على أغوارِ داميا والبحرِ الميّت. لم أكن وحدي. كنت أرافق الشيخ رجب .. أستاذي وشيخي منذ أن كنت مع الصبيان في الكتّاب. أرسلني أبي قبل عشرين عاماً إلى الشيخِ رجب ليعلّمني القراءة والقرآن. والدي فلاّح لا يعرف سوى حراثة الارض وزراعتها مع أعمامي وإخوتي الثلاثة الآخرين. كنت آخر العنقود فكنت مدللاً. لم يكن أبي يريد أن أصير مزارعاً مثلهم فصرت مرافق الشيخ رجب منذ ذلك الحين.

قدم الشيخ رجب من نابلس مع أبيه وأمه وهو صغير. قيل أن أباه حمل دمِ قريبٍ له قتله إثر خلافٍ على قطعةِ أرضٍ فكان عليه أن يجلو من بلدتهم خوفاً من الثأر. سكنوا في بلدتنا وصاروا جزءاً منها. منذ أن تفتحت عيناي على الدنيا وأنا أراه إمام المسجد في قريتنا. عندما كنت صغيراً سمعت إخوتي وأمي يقولون إن الشيخ رجب تزوج جميلة ابنة منصور العوض. عاش معها ولكنه لم يرزق منها بأولاد. توفيت جميلة بعد خمسِ سنواتٍ أثناء الولادة وقد مات الجنينُ في رحمها. حزن الجميع عليها كثيراً. ولم يتزوج الشيخ بعدها.

كنا على ما أذكر في بواكير الربيع. لا أعرف في أية سنة بالتحديد، فلم يكن أحدٌ في قريتنا يهتمُّ بالتاريخ. كانت الأيام تمر بطيئةً متشابهة رتيبةً! ولكنني كنت أسمعُ الكبارَ يتحدثون عن قدومِ حملةِ ابراهيم باشا من مصر إلى بلاد الشام لمقاتلة العثمانيين. كنت أسمع كثيراً من القصص عن تلك الحملة ولكنني لم أكن أفهم منها شيئاً! انطلقنا في سيرنا جنوباً عبر أراضي الغور بمحاذاة البحر حتى وصلنا إلى غور الصافي ومن هناك اتجهنا غرباً إلى صحراء النقب حتى وصلنا بئر السبع. الدنيا بعد العصر والسماء صافيةٌ زرقاء ، وما تزال تهبّ نسمة باردة. الأرض جرداء لا شيء فيها سوى الكثبان الرملية وبعض الواحاتِ التي جفَّ ماؤها. كانت بيوت الشعر والماشيةُ تنتشر من حولنا. بدأ الظلام ينشر أستاره. أصرّ بعض البدو أن نبيتَ عِندَهم حتى الصباح. قالوا إن الطريقَ غرباً موحشةٌ خَطِرةٌ في الليل وفيها حيواناتٌ مفترسة. لم نجد مناصاً سوى أن نبيت في ديرتهم. أكرمونا بضيافتهم وأقاموا لنا ليلةً للسَّمَرِ. وكعادته استغلَّ الشيخُ رجب المناسبةَ ليلقي عليهم دروسه المعتادة! كان يتكلم وهو يحرك يده ويمشط لحيته بيده الأخرى. كانت لحيته شقراء مائلةً للحُمرةِ على عادةِ مشايخِ الطُرقِ الصوفية.

في الصباح ودَّعناهم وتابعنا سيرنا غرباً. كانت الطريق طويلةً شاقّةً قائظة من الحرِّ والعواصفِ الرمليةِ. وصلنا غزّةَ بعد العصر. عندما دخلنا المدينة رأينا موكبَ الطرقِ الصوفية. فرح الشيخ رجب بذلك كثيراً واعتبر نفسَه محظوظاً. بقيت واقفاً بجانبه وهو ينظر بعيون مستبشرة حتى مر الموكب من أمامنا. ثم انطلقنا عبر رفح إلى صحراء سيناء. بقينا نسير حتى كاد الواحد منا يسقط عن فرسه من الإعياء. سألنا أحدَ البدو في الطريق فقال إننا على مقربةٍ من ديرةِ الشيخ مسعود.

نال منا التعب والجوع والإرهاق حتى خشينا الهلاك. بدأ الزادُ الذي نحملُه على الدواب ينفد. كانت مسالك الصحراء الوعرة بين الكثبان والرمال مثل المتاهة. قررنا أن ننزلَ لدى الشيخ مسعود لنرتاحَ ونتزوّدَ بما يجود به علينا به من الماء والزاد. كان من عادة رجاله أن يلتقوا ليلاً في مجلسه فجلسنا معهم تلك الليلة. أخذ الشيخ رجب يلقي عليهم حديثه المعتاد. كان يحب الحديث عن الموت والعذاب والقبور لترهيب السامعين، ولا ينسى أن يذكر أننا في آخر الزمان وقد تقوم الساعة قبل أن يطلع علينا النهار!

التفت إليّ الشيخ رجب في آخر الليل عندما بدأ ينفضُّ الجالسون وقال: يجب أن ننهض مبكراً غداً يا سلامة. يجبُ أن ننطلقَ قبل صياح الديك! فلما سمع ذلك الشيخ مسعود أمر بعض فرسانه أن يرافقونا في الغد عند خروجنا. انطلقنا مبكرين والظلام ما زال في رحم الطريق. سار صقر بجانب الشيخ ليحكي له عن الطريق إلى القاهرة. أحسست أنه كان خبيراً بمسالك الصحراء وواحاتها ولصوصها! بقينا نسير ونحن نتبع الفرسان حتى صارت الطريق أمامنا سهلةً مستوية. ودّعناهم ورأيت الشيخ ينزل عن حصانه ويعانق صقر. شعرتُ بشيء من الخوف في داخلي.

سرنا عبر الطريق البري بموازاة البحر. أخبرني الشيخ أننا سنسير على الدرب السلطاني حتى الوصول إلى القاهرة. كان طوال الطريق يروي لي القصص والأخبار. لا زلت أتذكر تلك القصص الغريبة عن المماليك التي رواها الشيخ. يختمها وهو يبتسم ابتسامة ترسم حدود النهاية ويقول "يا غلام، أعطه ألف درهم"!‏

كانت رحلة طويلة وشاقة، ولكننا كنا ننزلُ لنستريحَ كلما بلغنا مدينة أو موضعاً. بقينا نسير ونبيت أسبوعاً. كان الشيخ رجب بلحيته الحمراء وبلاغته ووقاره يستجلب إهتمام الاخرين وترحيبهم. وعندما كانوا يعرفون أن وجهتنا هي الجامع الازهر، فقد كانوا يزيدون في الاهتمام لأخذ البركات والدعوات. بل يعطوننا ما نطعم به دوابنا أيضاً! شعرت أننا كنا محظوظين بهذين الحصانين اللذين تحملا معنا كل مشاق الرحلة بصمت وتسليم!

بدت معالم المدينة تظهر لنا شيئاً فشيئاً ونحن على مشارف القاهرة، فأحسست بالاضطراب. كان الشيخ رجب يتحدث عنها كثيراً في الكتّاب، ولكني سأراها لأول مرة في حياتي. كنت متشوقاً لذلك كثيراً. عندما دخلتها تملكتني الدهشة فوق ما كنت أتصور. بالنسبة لقريتنا والبلاد التي مررنا بها، كانت هي مختلفة .. كبيرةً واسعةً عامرة، تحس فيها بالضياع. تمتلىء بالناس وضجيجِهم. لم أعرف في حياتي شيئاً كمثل هذا من قبل. كانت المدينة تعج بالبشر من كلِّ صنفٍ ولون. مساجدُ كثيرةٌ ومحلاتٌ ودكاكينَ وأسواقٌ ورجالٌ ونساءٌ وباعةٌ ومتسولونَ وشيوخٌ يلبسون العمائم. سحرتني المآذن الكثيرة التي تشق عنان السماء. رأيت رجالاً يلبسون ملابس لم أر مثلها في حياتي ويضعون على رؤوسهم طرابيش حمراء! خشيت أن نضيع في زحمة الناس فلم أتوقف لحظة عن السؤال عن الطريق إلى الجامع! لم يتوقف الشيخ رجب بل ظل سائراً كأنما يعرفها!

وصلنا الأزهر بعد العصر. تهللت أسارير الشيخ وظهر عليه السرور. لقد تحقق حلمه أخيراً بالوصول اليه. شعرنا برهبة ونحن ندخل من أبوابه. أخذنا نتطلع في مبانيه وحجارته ومآذنه وقبابه وأقواسه. كان كبيراً ضخماً يثير في النفس الخشوع. شعرتُ بالوجل ونحن نقف أمام تاريخ عريق. حلقات الدروس تنتشر هنا وهناك في زواياه وأروقته. كنت أنظر في أرجاء الجامع وأتأمل تفاصيل بنائه وطرازه، عندما لكزني الشيخ بحركات من يده وعيونه أن أُسرع بالصلاة! صليت ولكن ذهني بقي مشغولاً بهذا المبنى الضخم الذي رسمت له صوراً في خيالي. صورٌ متلاحقةٌ عادت من زوايا النسيان. ولكن ليس الخبر كالعيان!

في اليوم التالي رأيت الشيخ رجب يجالس شاباً في مقتبل العمر في أروقة المسجد. استغربت من يكون ويبدو أنه لاحظ الحيرة في عيوني. قال يقدمه لي: متولي.. طالب علم يحضر بعض الدروس التي يلقيها الشيخ حسن في الفقه. رحّب بنا متولي كثيراً. شاب في العشرينات مشرق الملامح مبتسم الوجه. أصر علينا أن نذهب معه إلى بيته بالقرب من الجامع. قال إن أهلَه يعيشون في الاسكندرية ، وأن والده أرسله ليتعلمَ كي يصبحَ قاضياً. كنا نسير والشيخ متولي يشرح لنا عن حي الجمّالية. كنت أستمع وأنا أتأمل الطرقات والأسوار والأبواب والجدران وأرى الزحام وأسمع الأصوات تتداخل في بعضها. بدأت أشم رائحة البخور التى تنتشر فى المكان. وفجأة راعني مرور بعض الغرباء بملابس لم أر مثلها في حياتي. قال متولي هولاء بعض الفرنجة من فرنسا الذين استقروا هنا بعد أن رحلت القوات التي جاءت مع نابليون. لم أفهم ماذا كان يقول. التفتُ إلى الشيخ رجب لعلي أجد في عيونه إجابة. كان يبدو عليه الاستغرابُ أيضاً. لم نفهم ماذا قال متولي. بقينا صامتين خشية أن يضحك من جهلنا! شعرت أنني غريب عن الدنيا هنا. بدت لي تل النوار من عالم آخر. عدت أنظر إلى الشيخ رجب. كان ذهنه مشغولاً بأمرٍ ما فبدا أنه قد سرح بفكره بعيداً. بدأت أشعر بشيء غامض يولد في أعماقي. كانت كلماتُ متولي مثلَ صدمةٍ لم أفق منها تماماً، ولكنها فتحت طاقة في عقلي.

عرض علينا متولي أن نقيم معه كونه يسكن وحيداً في البيت، ولكننا رفضنا. مرّ أسبوعان ونحن نقضي جل وقتنا ما بين الجامع والحي الذي نقيم فيه. لقد انفتح أمامنا عالم آخر لم نكن نعرفه. تعرف الشيخ رجب خلال هذه الفترة على بعض المشايخ الذين يقدمون دروساً في الجامع. كان يخرج في بعض الأيام بعد صلاة العشاء بصحبة بعضهم إلى بيوتهم القريبة منا. في أحيان كثيرة كان يذهب وحده. لاحظت أن الشيخ بدأت تستهويه الزيارات. بدا لي أن الحياة في القاهرة أعجبته. وفكرت أن ذلك لكونه وحيداً منذ وفاة جميلة العوض.

في الاسبوع الاخير أحسست بشيء غامض بداخلي. لم أعرف ما هو بالضبط، ولكن شيئاً يوحي بأن أمراً ما يدور في ذهن الشيخ. لم يذكر ذلك لي أو يلمح له. ولكنني أحسست به. عندما كنت أساله عن موعد العودة، لم يكن يقطع في إجابته بيوم محدد. بقينا نؤجل عودتنا أياماً حتى استبد بي الحنين لتل النوار. وذات مساء قال لي إنه يريد أن يتكلم معي بموضوع. قال إنه يريد أن يفاتحني به منذ أيام ، ولكنه كان يتردد ويؤجل حتى يتأكد من الموضوع ذاته. قال إنه يتهمّم منذ عدة ليال بالحديث عنه، ولكنه يخشى من موقفي تجاهه. أثارت كلمات الشيخ الترقب والتوجس في نفسي. قلت له: تكلم يا شيخ.
قال إنها سنية يا سلامة. لم أستوعب الامر. قلت له مستغرباً: سنية؟ ماذا تقول؟ سمعت طرقاً على الباب ساعتها فذهبت لأرى من يكون، فرأيت متولي عند الباب وإلى جانبه امرأة. تفاجأت كثيراً ولم أعرف ماذا أقول. سمعت صوت الشيخ ينادي من الداخل تفضل متولي أنت وسنية. بقيت واقفاً مكاني وأنا لا زلت لم أستوعب الامر. أحس الشيخ رجب بالحيرة ترتسم على وجهي. قال إنه طلب منه أن يجد له امرأة أخرى. بقي الشيخ يتحدث وأنا غير مصغٍ له. ثار بداخلي إحساس بالخوف وأنا أفكر بالعودة وحيداً عبر الصحراء. في صباح اليوم التالي استيقظت باكراً وتسللت دون أن أودعهم وأنا أحلم بالعودة إلى تل النوار! شعرت بجرأة غير مألوفة. وأحسست بنضوج لم أختبره من قبل".
* اللوحة أعلاه بعنوان الطريق الى قلعة القاهرة للمستشرق والرسام الاسكتلندي دايفيد روبرتس (1796-1864) وقد رسمها عام 1840

الأربعاء، يوليو 9

مستشرقون


محطات استشراقية

بقلم اياد نصار

تأخذ الدراسات المتعلقة بأعمال وكتابات ورحلات ولوحات ومغامرات المستشرقين جانبا كبيرا من اهتمام الدوائر الاكاديمية والجامعية في كافة أنحاء العالم ، مثلما تأخذ نصيباً من اهتمام المثقفين بتحليل الدوافع التي كانت وراء رحلات المستشرقين والدراسات التي قدموها إثر رحلاتهم تلك الى الشرق، سواء أكان الشرق الاوسط أو الاقصى أو الادنى، أو في أعماق القارتين الافريقية والاسيوية. كما حظيت المؤلفات التي تضمنت مشاهداتهم وانطباعاتهم والاسهامات اللغوية او الفكرية أو الفنية أو الادبية وغيرها التي قدموها لتراث الشرق وتاريخه وأدابه وكل ما يتصل به باهتمام ودراسة العديد من الباحثين العرب والاجانب كونها تتناول فترة مهمة من تاريخ الشرق حيث كان هناك فقر شديد أو غياب في المصنفات والمؤلفات من جانب كتاب ومؤرخين من أبناء الشرق ذاته والتي تغطي الفترة من القرن السابع عشر وحتى بدايات القرن العشرين. ففي غياب الكتب والدراسات الموثقة النابعة من الشرق ذاته والتي تتناول تلك الفترة التي شهدت اتصال الشرق بالغرب في بداية عصر الاستعمار الغربي منذ انطلاق الحملات الاسبانية والبرتغالية للاستكشاف والاستعمار ، فقد سدت اعمال المستشرقين فراغاً فكرياً . وللدلالة على ذلك فإن كتاب عبدالرحمن الجبرتي (عجائب الآثار في التراجم والاخبار) يكاد يكون الوحيد باللغة العربية الذي أرّخ لحملة نابليون بونابرت على مصر ضمن سياق فترة تاريخية مهمة من تاريخ مصر والتي غطاها هذا الكتاب والتي امتدت مئة سنة بين بداية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر. ولكن طبيعة الخدمات التي قدمها المستشرقون للدوائر الغربية نتيجة ارتباط بعضهم بالجيوش الاوروبية أو الشركات الاستعمارية الكبرى وخاصة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر أو بأجهزة الاستخبارات الغربية أو عملهم كدبلوماسيين وجواسيس او مبعوثين القت بظلال الشك على اسهاماتهم. كما ان الكثير من دراسات المستشرقين أثارت حولها ردود فعل متباينة بين مشكك فيها لأنها قدمت الشرق بصورة رومانسية حسية ترتبط بالغموض والمرأة والجنس أو بصورة فيها تشويه للشخصية العربية من حيث اظهار التخلف والجمود ، وبين مرحب بها لأنها كشفت اللثام عن الكثير من المخطوطات العربية وساهمت في ترجمتها أو تحقيقها أوحفظها في المتاحف ، أو في تقديم دراسات أدبية ولغوية عن المجتمعات الشرقية أو الادب العربي وتعريف الغرب به، او المساهمة في طباعة ونشر المصادر العربية والكشف عن الكثير من الاثار والمعالم التاريخية التي كانت طي النسيان.

نماذج مختصرة مختارة من حياة وأعمال بعض المستشرقين:

- يوهان لودفيغ بركهارت Johann Ludwig Burkhardt :

رحالة ومستكشف سويسري قضى عدة سنوات يتعلم اللغة العربية والاسلام. كان يقدم نفسه على أنه مسلم من الهند. قام برحلة بدعم من جمعية في لندن من أجل اكتشاف الاجزاء الداخلية من افريقيا. وفي طريقه الى القاهرة فقد مرّ بشرق الاردن وهناك سمع عن مدينة عجيبة منحوتة في الصخر. فأثاره الفضول لرؤيتها والتعرف عليها. ولكي لا يثير شك السكان المحليين من البدو بنواياه فقد إدعى أنه جاء لكي يقدم قرباناً عند قبر النبي هارون على قمة أحد الجبال في مدينة البتراء. وقد تقرب من السكان المحليين من خلال تعلم وملاحظة عاداتهم ولغتهم لكي يعرف عن تلك المدينة التي يتحدث الجميع عنها ولم يرها. وهكذا تمكن من رؤية جانب من مدينة البتراء التي كان أغلب معالمها مدفوناً تحت الرمال ومنسية لسنوات طويلة قبله. وأدرك أنه اكتشف كنزاً ثمينا فقام برسم لوحات اسكتشات للمدينة وأرسلها للنشر في اوروبا، فكان بذلك أول من أعاد اكتشافها عام 1812 بعد ان كادت تنسى وتضيع تحت الرمال.

- ريتشارد فرانسيس بيرتون Richard Frances Burton :

رحالة وعسكري أنجليزي كان يدعى الكابتن . كانت له مواهب كثيرة فقد قيل أنه كان جندياً وجاسوساً وكاتباً وشاعراً ومترجما حيث ترجم جانبا من كتاب الف ليلة وليلة وكتاب كاما سوترا وهو أول كتاب هندي قديم حول أدب الحب والجنس بالسنسكريتية . كما كان مستكشفاً جغرافياً ودارساً للمجتمعات العرقية والاثنية وعالما لغوياً. وقد قيل أنه كان يتكلم 29 لغة. ومع ذلك فقد قيل أنه رسب في امتحان الجيش البريطاني اللغوي حول اللغة العربية. كان يعمل مع الجيش الانجليزي في الهند من خلال عمله لدى شركة الهند الشرقية الاستعمارية البريطانية . وقد تمكن من خلال اقامته لسبع سنوات بالهند من التعرف على نمط حياة المسلمين في الهند وعاداتهم ، كما درس الاسلام ونجح بدخول مكة متخفياً وأداء الحج. وقد ذهب بعد ذلك الى عدن في اليمن ثم الى سواحل افريقيا بتكليف من الجمعية الجغرافية الملكية وقد كاد أن يموت من العطش في الصحراء في اثيوبيا، ولكنه أوشك أن يقتل في الصومال حينما هاجم مخيمهم مجموعة من رجال القبائل وقد قتل بعض رفاقه وأصيب في سهم اخترق خده وقد ترك ذلك أثرا بارزا في وجهه طوال حياته وكان واضحا في صوره التي رسمت له بعد ذلك. ولكنه تمكن من اكتشاف منابع النيل حيث تمكن من الوصول الى بحيرة تنجانيقا ومن ثم اكتشاف بحيرة فكتوريا برفقة صديقه المستكشف جون سبيك برغم الصعوبات التي لقياها في الرحلة كالامراض الاستوائية وضياع المؤن والعدة التي كانا يستعينان بها وقد عمل في اواخر حياته كقنصل بريطاني في دمشق في سوريا. وهناك التقى بالامير عبدالقادر الجزائري الذي كان منفياً ويقيم في دمشق.

- لورنس العرب Lawrence of Arabia :

توماس ادوارد لورنس ولكنه عرف باسمه الاكثر شهرة وهو لورنس العرب. ولد عام 1888 وتوفي عام 1935 وقد ذاعت شهرته كثيرا ، وكتب عنه الكثير من الكتب . كما تم تقديم سيرة حياته في فيلم سينمائي مشهور شارك في بطولته الفنان عمر الشريف الى جانب أليك جينيس وأنطوني كوين وبيتر توول. خدم لورنس العرب كضابط ارتباط بريطاني في صفوف قوات الثورة العربية الكبرى التي قام بها الشريف حسين بن علي أمير مكة خلال الحرب العالمية الاولى للتخلص من حكم الاتراك العثمانيين. وقد حكيت حوله الكثير من القصص والاساطير حول أدواره كرجل عسكري وخبير متفجرات وجاسوس وكاتب وسياسي وخبير بطبيعة حياة وعادات المجتمع العربي البدوي. وقد قيل أنه كان أكثر واحد بين المستشرقين الذي تمكن من اتقان اللغة العربية باللهجة البدوية واللباس وعادات البدو وتقاليدهم وممارستها. كان يعمل في مكتب الاستخبارات البريطاني في القاهرة ، وعند قيام الثورة العربية عام 1916 فقد أنتدب للعمل مع الثوار في مكة وسار مع طلائع القوات العربية شمالاً نحو الاردن وسوريا. وكان له دور كبير في تفجير الحاميات التركية بفضل خبرته في المتفجرات. وقد تعرض دوره الى تفسيرات متناقضة بين من يقول أنه كان يحاول املاء الدور البريطاني من خلال اتصاله بالامير فيصل نجل الشريف حسين، وبين اتهامات بريطانية بأنه كان يدافع عن مواقف الامير فيصل بقوة وكان يدعو الحكومة البريطانية للاخذ بها. روى الكثير عن أحداث الثورة وحياته بين العرب وعن دوره مع قوات الامير فيصل في كتابه الشهير الذي أصدره عام 1926 بإسم (أعمدة الحكمة السبعة).

- يوجين ديلاكروا Eugene Delacroix :

رسام فرنسي مشهور ينتمي للاتجاه الرومانسي في الرسم . ولد عام 1798 وهي السنة التي نزلت فيها قوات نابليون أرض مصر، وتوفي عام 1863 وهي السنة التي شهدت اعلان الرئيس الامريكي ابراهام لينكولن وثيقة تحرير العبيد ومن ثم انتشار الحرب الاهلية الامريكية. قضى أربعة أشهر من حياته في المغرب في عام 1832 مما أثر على أسلوبه الفني كثيراً حتى نهاية حياته. كان معجباً بنمط الحياة في المجتمع العربي في شمال افريقيا ورسم الكثير من اللوحات عنه يقال انها وصلت مئة لوحة مثل لوحة (نساء الجزائر) و (دراويش طنجة) و (عربي يسرج حصانه) و (خيول عربية) و (مناوشات بين فرسان عرب في الجبال) و(صيد الاسد). وبهذا شكلت هذه اللوحات اضافة جديدة للدراسات الاستشراقية. وقد كان معجبا بأنماط العادات واللباس في شمال افريقيا ، وقد اعتبرها المكافيء للمرحلة الكلاسيكية التي شهدت ازدهار روما واثينا . ومن المعروف أنه اشتهر برسم لوحات ذات مضمون سياسي تنتقد بعض المذابح والاحداث العسكرية في عصره آنذاك. ومن أشهر لوحاته لوحة ( الحرية تقود الشعوب) التي رسمها عام 1830 م.

* اللوحة أعلاه بعنوان مولاي عبدالرحمن سلطان المغرب من رسم الفنان يوجين ديلاكروا عام 1845 م.