الجمعة، يناير 1

يوميـــــــات


يوميــــات

اياد نصار

السبت
هذا اليوم بالذات أكرهه. أتحول فيه إلى صاحب الصنائع السبع الذي لا يتقن أياً منها. يوم يضج بالحركة والانشغالات اليومية التي لا تستطيع أن تتفاداها. لا ينفع لممارسة طقوس الكتابة أو التأمل أو الاستمتاع بالشمس الصباحية. إنه نقيض الجمعة في كل شيء. يوم الوجود المادي من حياتي. أصحو على أصوات السيارات وحافلات المدارس والشمس التي تقتحم حجرتي من وراء الستارة، فأحس بأن يوماً طويلا ينتظرني وبأن التعاسة آتية، فأتحسّر بمرارة على يوم الجمعة الرائع. أتمهل وأشاغل نفسي بسويعات قليلة أتصفح فيها بريدي وصحيفة الصباح.


أحاول أن أقتطع لنفسي جزءا من هذا اليوم أمارس فيه طقوسي، فما تبقّى سيضيع في الزحام وصخب الحياة اليومي وممارسة الصنائع السبع. لا يخلو الامر من إصلاح شيء في البيت، فالصغار مولعون باللعب والحركة.


أضيق ذرعاً عندما أحتاج صانعاً أو سبّاكاً أو حدادا أو دهّانا. أعرف أن البعد عنهم سعد بحد ذاته! أحتار في كثير من الاحيان أين أجدهم، ولكن عندما أستغني عنهم أراهم في وجهي كل يوم! تكتب لي زوجتي قائمة طويلة من المشتريات –الضرورية- التي لا تتفق مع المعنى القاموسي للكلمة! في هذا اليوم أصير أقرب إلى مزاج الناس ومعاناتهم وتحايلهم على فقرهم ما بين مساومات السوق ولظى الغلاء. وفيه أدخل خفايا عالم التجار، وأتعرف على أساليبهم في إيهام الزبائن، ولكن عقابهم يأتي سريعاً! فأرى مدى الضيق على وجوههم والعصبية التي يورثها لهم زبون صعب المزاج يجعلهم يندمون على اليوم الذي عملوا فيه بتجارتهم!

الاحد
أجزم بأن الكثيرين يشاركونني الشعور بالكآبة من هذا اليوم. أقضي ليلتي الجمعة والسبت في سهر جميل ، وأصحو صباح الاحد وأنا أردد: "إنقضى الخمر واليوم أمر". أعرف أنها ستكون بداية أسبوع ممل. لست من الذين يحضّرون أشياءهم في الليل استعداداً للصباح. لا أريد التضحية بوقت مهما كان قصيراً من غير طائل. وأعرف أن عليّ أن أستيقظ مبكراً على مضض! ولكن متى أطال النوم عمراً؟! لا بد من وقفة أمام المرآة كل صباح لأتفقد أن وجهي ما زال بخير وأن التجاعيد لم تظهر بعد.. أحدق في وجهي لأوقف الزمن عند شباب يهرب سريعاً قبل أن أصحو من الوهم. لي طقوس أمارسها كل صباح منذ أن وعيت على الدنيا ووجدت أن الشَّعَر بات يزداد على جانبي وجهي وذقني وانبثق شاربي. تأتيني كل أفكار الدنيا وأسئلتها الكبرى وأنا أمام المرآة.


وتهلّ في الذهن عشرات الخواطر في ازدحام عجيب. وتعود الذكريات وصور الماضي حية نابضة بالحياة في هذه الساعة التي أقف فيها متثاقلا أمام المرآة. أود لو أعود للنوم وعيني تختلس نظرات الى الساعة خشية أن أتأخر عن العمل. قناع أبيض من الرغوة.. تقف سلمى التي استيقظت قبلي لتشاهد رسومها المتحركة تتأملني بنظراتها الطفولية وتضحك.. لا بد من رشة عطر.. يستيقظ كريم على شذى الرائحة فيمد يده يريد شيئاً، وتفتر أسنانه عن ابتسامة ساحرة. أتفقد حالي لأتأكد أنني حملت معي هاتفين قبل الخروج! آه كم يسلبنا هذا العصر التكنولوجي بقية راحة بال مفقودة.

الاثنين
شارع الجامعة مزدحم في المساء. والالتفاف حول دوّارَي المدينة الرياضية والداخلية مثل مغامرة غير محسوبة! أشعر بالانطلاق عندما أصعد الجسر نازلاً نحو العبدلي. الطريق الى قاع المدينة تثير فيّ دائما الذكريات. وسط عمان دافيء حميمي مثل طفولة تأبى أن تكبر. اختبرت ذلك أكثر ما يكون في الشتاء. حينما يكسو الثلج جبال عمان وروابيها، يبقى قاع المدينة دافئاً عامراً بروح انسانية.


وفي دار صغيرة في شارع السلط مقابل مكتبة المحتسب، ألتقي بنخبة من الاصدقاء. جعل الصديق والشاعر جهاد ابو حشيش من فضاءات ملتقى الروائيين والشعراء والصحفيين. وتدرك أن الامر لا يحتاج الى دور فاخرة ومبانٍ ضخمة لكي يتألق القلم والنشر، وتصبح عمان مركزاً متوهجاً يرفد الثقافة العربية بالابداع. كل ما تريده ناشر بعقلية أديب يؤمن بحرية الكلمة ودور الفن في اخراج كتاب جميل تفرح له كما تفرح لمولود خرج للتو الى الحياة فتحتضنه بين يديك وتتأمله وأنت تتمنى له مديد العمر والانتشار! وتدرك أنك بحاجة الى ناشر يحسن استخدام قنوات الاتصال والاعلام محلياً وعالمياً لكي يصل الكتاب الى القاريء.

الثلاثاء
أنطلق متفائلا بيوم جديد ، فيتلقفني ازدحام خانق يكشف نرجسية الانسان وأنانيته. ترى صور الاحتقان والغضب والتعبير عن أزمات الحياة في زعيق السيارات التي يقودها أصحابها بروح "اللهم نفسي" كمن يجد لذة انتصار في انتهاك قواعد السير. وتفرح عندما ترى أحدا يقدم غيره على نفسه، أو يتبع مبدأ مفاده أن قيادة السيارة سلوك حضاري حتى لو وصلنا متأخرين. أحاول أن أنسى هذا الشعور المضني، فأدير المذياع أبحث عن صوتها الملائكي. وفجأة يخرج الصوت العذب. تثير فينا فيروز الطفولة الكامنة التي لم تقدر أن تخرج من ذواتنا وتلعب وتكبر كما ينبغي فبقيت قابعة فينا. وتصير طفولتنا رمزاً للوطن الذي يكبر فينا. ويعنّ على بالي أغاني الزمن الجميل ومسرحياته التي تعلقت بالذاكرة وأبطالها.. هدى ونصري شمس الدين وأنطوان كرباج ورونزا ومنى مرعشلي وسهام شماس.


في المساء نتخاطف الوقت بين واجب يقتضي زيارةَ الاهل أو مراجعةَ الطبيب التي اعتقدنا أننا ارتحنا من عذابها وانتظارها أو تسوّقَ ملابس الصغار من محلات تعج بالبشر في المجمعات الكبرى ولا ترى أحدا يحمل كيساً! اتخذت لنفسي تقليداً منذ زمن في أيام العمل؛ أحب أن أعود مبكراً في المساء كي أستريح وأردد "ما أحلى العودة الى البيت" لأشعر بنعمة المساء قبل أن يفاجئي صباح مزدحم حافل آخر.

الاربعاء
أجلس أمام ثقب العالم الفضي وأقرأ وأشاهد أخبار قريتنا الارض. أشعر بالأسى وأنا أرى أرواحا تضيع عبثاً في طواحين الدم المجنونة التي صارت عنوان هذا القرن منذ بدايته. أهرب من مشاهد الالم والخوف والترقب الى ملتقى ثقافي عبر الفضاء الافتراضي ، فأسمع صوت صديقي الليبي الساكن منذ دهر في الاسكندرية يقرأ من شعر فاروق جويدة، وأترنم بصوت مثقفة عمّانية تلقي قصيدة عشق صوفية، وأسرح بعيداً مع حسناء الدار البيضاء بلكنتها المغربية الجميلة وهي تطوف بنا في عالم محمد بنيس الاندلسي أو زقاق محمد زفزاف أو الدروب الخلفية في طنجة التي لم تذق طعم خبزها الحافي. ويأتي صوت صديقنا المهاجر من سيدني حاملاً بعذوبته البيروتية شعر أدونيس. ولكن الليلة مزاجها درويشي سيابي. يتساقط المطر في أنشودته الحزينة على الفارس الذي ترك الحصان وحيداً. عالم جميل جديد لم نعرفه من قبل دخل بيوتنا وأدخل معه ألق الشعر بعد أن حاصرته الرواية في كل مكان. في هذا العالم العنكبوتي تحس أن صديقاً لم تره ويجلس في أقصى زوايا العالم أقرب اليك من البشر الذين يشاركونك البناية التي تسكن فيها ويصبح جارك الاقرب الى نفسك.

الخميس
أنتظره بشغف كل اسبوع كما ينتظر إنسان حبيباً بشوق. في المساء أشعر بالتحرر والانطلاق من ربقة أسبوع عمل حافل. ذهبت مع صديق من أيام الدراسة الجامعية الى معرض فني في دارة الفنون. كنا ضمن مجموعة من رفاق الادب والرسم الذين استهوتهم فلسفات المدارس الفنية في فهم تطور الفكر. في عالم الرسم يمكنك أن تتلمس بوضوح كيف تُصنع الافكار الجديدة التي تشكل معالم مستقبل الانسان. اللوحة كما الرواية والمسرحية تفتح لك آفاق الرؤية التي تمكنك أن تستوعب عالماً يقوم على مجموعة من مباديء الفكر والجمال والاحاسيس والتأثيرات النفسية. شغلني وما يزال بعض هذه المدارس كثيراً كالتعبيرية والرمزية والواقعية والسريالية. أعجبتنا اللوحات فلم تعد دقة التفاصيل وقواعد الاشكال ووضوح الخطوط والالوان وتمايزها عن بعضها تعني الفنان كثيراً. بل صار الاهتمام باستكشاف الجانب النفسي الداخلي أو الجانب الفكري أو التأملي لمشكلات الانسان المعاصر هو الاساس. وانتهى المساء في مقهى في اللويبدة على أنغام عود شرقية.


الجمعة

في هذا اليوم ترى عمّان بأبهى حالاتها. تصبح مثل عروس وادعة. أستمتع بساعات الصباح الجميل وأنا أحتسي القهوة. ولكن رائحة الفلافل وطعم الحمص والخبز الساخن لا يقاوم. يقترح الاولاد إفطاراً خارج البيت. نذهب في السيارة. هدوء يعم الشوارع والاخضرار يمتد فوق سهول المدينة وروابيها وهضابها. ندخل المطعم الواسع الجميل في شارع المدينة المنورة، فنرى الناس يملؤون المكان. نستمتع بافطار صباحي وصوت فيروز يظلل أحاديثنا.




الجمعة هو عالمي الذي أهرب اليه. أعتزل الناس وأدخل صومعتي وأرحل مع القلم الذي يأخذني بين دروب القصة والرواية والنقد. وفي الليل عالم آخر جميل لا يقل فتنة عن النهار. يحلو السهر في ليل عمان مع أصدقاء الفكر والادب في المقهى. تدور الاحاديث من كل حدب وصوب، وترتفع سحب الاراجيل البيضاء من حولنا. تملأ رائحة القهوة اللذيذة الجو، وصوت أم كلثوم يصدح "أغداً ألقاك؟ يا خوف فؤادي من غد"، فأتوجس من انقضاء الليل! لا أريد لهذه السهرة أن تنتهي ولا أريد للسبت أن يأتي!

* اللوحة أعلاه بعنوان مثابرة الذاكرة للفنان الفلسطيني صالح المصري
** نشرت جريدة الرأي الاردنية مقالتي أعلاه في الملحق الثقافي ليوم الجمعة الموافق 1/1/2010. يرجى الضغط على الرابط أدناه لرؤية المقالة في الجريدة أو الضغط على عنوان المقالة أعلاه لتحميل الصفحة
يوميات - جريدة الرأي






هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف1:13 ص

    ذكـرى ....الجزائر
    ما الحكيم بالكلام ...بل بسر ينطوي تحت الكلام جبران
    تخطو هذه الكلمات الى فكري كلما رتعت في محاسن ما تكتب أستاذ اياد وليس من أنس يعطف على وحدتي أجمل من أنسي وأنا اقرا لك فأنت تثير الدفين من المشاعروتستجلب حسن المنظور من الكلم فتمسح على قلبي الصامت بلطف ... اما ما خفي فهو الحكمة تستقطرها من خوابي نفسك فتمتعنا..وتمتع بها نسج حواسنا
    يوميــات ...كل ما علق بذاكرتك أنشدته بروعة... فما أروعك وانت بلسانين ...لسان ينطق بالروعة والمعنى والاخر بالمبنى .. صورت بهما مشاهد من الحياة ....فكانت بالاحرى مشاهد من مكنون الذات
    مشاهد تمر عبرها قافلة مكتضة بالاحداث ... يوم يمر وآخر يأتي وكل لحظة فيه تقترن بالراحة أو التعب وبينهما ملامح الثقافة وحميمية الصداقة مع القلم والابداع ...فعلا ابهرتنا بتساقطك الهاطل عبر هذه اليوميات بل وداهمتنا بالق أفكارك ...سخي كان تحررك ومبادئ الفكر والجمال اللذان يصيغان افقك وجميل ايمانك بالحياة وتفاصيلها البسيطة ...بل و رائع كان توغلك في قلق النفس وعبثيتها وتعاطيها مع ظروف العيش ...اما المبهر فكانت طقوسك اليومية التي البستها حلة السحر بهذه الصيغ و تلك الدرر
    واصل الابداع فقلب المشتاق اليه يكثر الامعان في الحياة ليزيد لمعانا وروعة

    اتابعك ...بشغف

    ردحذف