الجمعة، يوليو 23

الابرياء في الخارج: فلسطين في عيون مارك توين


الابرياء في الخارج: فلسطين في عيون مارك توين
نظرة استشراقية طافحة بالسذاجة والسخرية والكراهية
بقلم: اياد نصار

هذا كتاب قديم في أدب الرحلات ، ولكنه خطير بمحتواه وأحكامه ، التي تكتنفها السذاجة والمبالغات الانفعالية والسخرية المقيتة والكراهية من كاتب مشهور ، عرف عنه التحول في مواقفه وتوجهاته من تأييد الإمبريالية إلى معاداتها ، ومن النقد الديني إلى النزعة المحافظة المدفوعة بتأثير ديني. وللدلالة على خطورة الكتاب ، يكفي أن نعلم أن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو ، كما ذكرت صحيفة هآرتس ، حمل معه فقرتين من الكتاب ، في عام 2009 ، إلى واشنطن ، لتقديمهما إلى الرئيس الأميركي باراك أوباما ، عل اعتبارهما دليلاً دامغاً ، ومن كاتب أمريكي مشهور ، له وزن كبير في تاريخ الأدب الأميركي ، وينتمي إلى مرحلة تاريخية تسبق الصراع العربي ـ الإسرائيلي ، ونشوء القضية الفلسطينية ، ما يشي بموضوعيته ، حيث لم يكن النزاع قائماً ، آنذاك ، لإقناعه ، كما يزعم ، بزيف الحق الفلسطيني وتهافت الاتهامات التاريخية لليهود باغتصاب فلسطين وتهجير الفلسطينيين ، على اعتبار أن فلسطين كانت مهجورة ، كما تردد الحركة الصهيونية ، قبل وصول المهاجرين اليهود الذين أقاموا المستعمرات الزراعية الاستيطانية.



قام الأديب الأميركي المشهور مارك توين 1835-1910 ، واسمه الحقيقي صامويل لانجهورن كليمنس ، برحلة إلى الأراضي المقدسة مع مجموعة من الحجاج الأميركيين (حوالى أربعين شخصاً) ، في عام 1867 ، مروراً بمدن شواطئ البحر الأبيض المتوسط ، كطنجة في المغرب ، ومرسيليا في فرنسا ، ومنها ـ براً ـ إلى باريس ، وجنوة والبندقية وفلورنسا وروما ، ثم ـ جنوباً ـ إلى صقلية في إيطاليا ، وأثينا والقسطنطينية (إسطنبول) ، مروراً بمضيق البوسفور ، حتى وصل مدينة أوديسا ، على البحر الأسود ، في روسيا ، آنذاك ، ثم ـ عودةً ـ إلى مدينة سميرنا (أزمير) في تركيا ، ومنها إلى سوريا ولبنان ، حيث زار دمشق وبيروت وبعلبك ، حتى وصل فلسطين. وقد دأب مارك توين على إرسال مشاهداته في هيئة مقالات أسبوعية لزاوية في صحيفة ألتا كاليفورنيا. وعندما عاد إلى الولايات المتحدة نشر مقالاته في كتاب سماه "الأبرياء في الخارج" The Innocents Abroad ، وأصبح من أكثر كتبه انتشارا ، رغم شهرته روائياً وقاصاً ، خاصة بعد روايته "مغامرات توم سوير" ، التي يروي فيها مغامرات طالب مدرسة ذكي ومتمرد على القيم الاجتماعية المحافظة ، ومغامرات زميله المتشرد ، واسمه هاكلبري فًن. وفي ما بعد ، عاد مارك توين وكتب رواية "مغامرات هاكلبري فن" ، التي جعل هاكْ بطلها عندما صار رجلاً ، فكانت رواية كبرى في تاريخ الأدب الأميركي المعاصر في نقد واقع الحياة في المجتمع الأميركي المحافظ ، بسخرية ، وطرح مشكلات العبيد ومعاناتهم ، والمعاملة المهينة التي كانوا يلاقونها ، ونقد النفاق الاجتماعي.


قام مارك توين بعد عودته بعدة من جولات في عدد من المدن الأميركية ، وألقى محاضرات حول مشاهداته ، وكان مجرد الإعلان عن أنها حول زيارته ، إلى الأراضي المقدسة ، سبباً للحضور الكثيف للجمهور ، ولانتشار واسع للكتاب. وفي إحدى المحاضرات التي ألقاها ، وكانت بعنوان "مخرب أمريكي في الخارج" ، انتقد تلك الطبقة من الأميركيين البسطاء ، الذين يسارعون إلى زيارة المعالم الرئيسة في المدن ، ويجمعون بقايا من حجارتها ، فقال متهكماً: "ما تم جمعه من حجارة من بيت كولومبس في إيطاليا يكفي لبناء بيت من أربع عشرة ألف قدم"، ولكن المدن الحقيقية ، كما يقول ، لم تعد كذلك ، فهم إنما يحملون معهم أساطير الماضي ، وليس الواقع الحالي.


وسجل توين ، في الكتاب ، مشاهداته خلال الرحلة ، بلغة ساخرة جارحة ، أحياناً ، وضمنه القليل من جوانب الإعجاب ، والكثير من النقد لنمط الحياة والثقافة والتقاليد والفن في المدن التي زارها ، وعقد المقارنات بينها وبين نمط الحياة والثقافة في الولايات المتحدة ، بما يعكس ثقافته ونمط حياته في مواجهة أنماط لم يعتد عليها من قبل ، وشكلت تجربة جديدة غير مألوفة بالنسبة له.


يحتوي الكتاب ، الذي يجمع ما بين السيرة الذاتية والسرد الروائي ، على كثير من المقارنات التي تنطوي على تصورات وقناعات متناقضة بين تجارب مارك توين ومشاهداته الأماكن المشهورة ، وما كتبه آخرون عنها والرد عليهم. وقد امتاز بأسلوبه المعروف في السخرية المضحكة والنقد المر والإسهاب ، مع الاقتباس من الكتاب المقدس ، وخاصة في الجزء المتعلق بفلسطين ، التي زار جانباً من مدنها وقراها وسهولها وجبالها ووديانها وكنائسها وأديرتها ، حتى غادرها إلى الإسكندرية ، عائداً إلى الولايات المتحدة.


وكما هو مألوف في النقد الأدبي في تفسير معاني الرحلة في الأدب الروائي ، فإن الرحلة تصبح رمزاً يشير إلى رحلة اكتشاف الذات والآخرين ، وتجربة خوض الحياة ، بعيداً عن رتابتها واعتياديتها في الوطن ، واتساع الأفق نتيجة المؤثرات الجديدة ، وتكوين خبرات مغايرة خلالها ، حتى تصبح الرحلة بمعنى الولادة الفكرية للمؤلف ، والسفر في أعماقه لاكتشاف الذات وأوهامها السابقة. إلاّ أن الكتاب لا يعكس تطوراً فكرياً كبيراً ملحوظاً طرأ على أفكار مارك توين نتيجة الرحلة ، بل بقي ينطلق من سذاجة الصدمة أمام كل ما هو مختلف في المدن التي مر بها ، ومن كثير من الكراهية والاستغراب من ممارسات السكان المحليين ، وعدم تفهم أسبابها ودوافعها أو إدراك التباين في التطور الصناعي والحضري بينها ، واستمر في استخدام اللغة الجافة الجزافية التي تعمم الأحكام.


يظهر توين ، كما قال أحد النقاد ، بمظهر الأبله البريء ، خاصة في عدم تقديره منجزات الحضارات السابقة ، أو أعمال الفنانين العظام ، مثل مايكل أنجلو ، التي لم يبد تجاهها أي تقدير. بل إنه عاد باكتشاف جديد ، يقوم على أن الكثير من الرحالة الأميركيين لا يقولون الحقيقة عما يجري في الخارج ، ويجمّلون الصورة ، وينقلون إلى القارئ الأميركي ما يرضي تشوقه ، وليس ما هو واقع فعلاً. كما عكست أفكار توين بعضاً من التصورات التي كانت شائعة في الغرب عن الأراضي المقدسة ، والتي اشار إليها المؤلف في معرض حديثه عن بعض كتب الرحالة ، سواء اتفق معها أو اختلف ، ولكن مجمل الصورة التي قدمها عن بلاد الشام عامةً ، وفلسطين خاصةً ، كانت بالغة السوء. وفي أحيان كثيرة يتحول السرد إلى السخرية من سكان المدن والقرى التي زارها ، والذي يستحوذ على جانب كبير من الكتاب. كما يلجأ كثيراً إلى اسلوب المبالغات في إظهار ضيقه بما يشاهده ، فتجده يصف فلسطين بأنها المكان الأكثر وحشة وعزلة وبشاعة.


لا بد من الإشارة إلى أن مارك توين قام بالرحلة عقب انتهاء الحرب الأهلية الأميركية 1861-1865 بسنتين ، وكان ، آنذاك ، في الثانية والثلاثين من عمره. ولا شك أن أجواء الحرب ، والقلق على مستقبل الوطن والتمسك به وبقيمته ومنجزاته وتاريخه ، مقارنة بغيره ، والدفاع عنه أمام نهضة البلدان الأوروبية الأخرى ، وهدوء الحياة فيها أثرت فيه ، علاوة على انطباعات الشباب ، التي غالباً ما تميل إلى ردة الفعل الانفعالية المتطرفة.


تتحدث الفصول ، من السادس والأربعين إلى السادس والخمسين ، عن ذلك الجزء من رحلته ، الذي شمل فلسطين ، منذ لحظة دخولها ، من عند منبع نهر الأردن في دان وبانياس ، ومن ثم منطقة باشان ، التي تضم الجولان والعرقوب جنوب سوريا ولبنان ، عند التقائهما بفلسطين.


ولم يكن ما قاله من نقد تهكمي مرير يقتصر على فلسطين وحدها ، فسوريا التي وصلها من قبل ، وصف قراها بطريقة تنم عن التعصب والكراهية والاستعلائية. وحتى لو سلمنا أن بعض المشاهد حقيقة ، فإنه لم يحاول التعرف على أسباب هذه الحالة البائسة ، التي كان يعانيها السكان العرب في ظل حكم الدولة العثمانية المريضة المنهكة بالحروب والبيروقراطية والسلطة الهرمية المتخلفة ، والتي أدت إلى إفقار السكان في المناطق الخاضعة لسيطرتها ، وتخلفهم. قال ، في وصف حياة قرية سورية: "ترى ، فجأة ، طفلاً عارياً يمد يده للاستجداء ويقول بغشيش. إنه لا يتوقع سنتاً واحداً ، ولكنه تعلّم أن يشحد قبل أن يتعلم أن يقول أمي ، ولا يستطيع ترك ذلك ، الآن... القرية السورية أكثر منظرْ مؤذْ في العالم".


يمعن توين في الوصف بطريقة تنم عن التعالي والازدراء. "جلس ، هذا الصباح ، خلال الإفطار ، التجمع المعتاد للبشر القذرين ، وانتظروا أن تلقي إليهم الفتات ، نظراً لبؤسهم. لقد ذكروني بالكثير من الهنود الحمر. جلسوا في صمت وصبر لا يكل ، يراقبون حركاتنا بتلك الوقاحة المقيتة ، التي هي ، فعلاً ، من صفات الهنود ، والتي تجعل الرجل الأبيض عصبياً وهمجياً يود إبادة القبيلة بكاملها". ويضيف: "لهولاء البشر صفات أخرى. فالحشرات تأكلهم ، والأوساخ قد غطت أجسادهم تماماً. والأطفال في حال يرثى لها. فعيونهم ، جميعاً ، ملتهبة". ويعلق بكلمات تفوح منها العنصرية قائلاً: "هل تتخيلون أن أما أميركية يمكن أن تجلس ، مدة ساعة ، وطفلها في يديها ، وتدع المئات من البعوض تدور ، حول عينيه ، كل هذا الوقت ولا تفعل شيئاً؟"


ورغم أنه يروي في كتابه تفاصيل رحلة الحج إلى الأراضي المقدسة ، إلا أنه يتطرق ، بين حين وآخر ، إلى الكثير من حوادث التاريخ ، ومرجعيته ـ في ذلك ـ هي نصوص الكتاب المقدس ، خاصة العهد القديم. كما يتطرق إلى بعض الأحداث والمعارك المهمة التي جرت في فلسطين خلال الحروب الصليبية ، تحت جزء يسميه "أسطورة". حيث يقول إنه اجتاح أوروبا الاقطاعية ، آنذاك ، هوس ديني ، يتعلق برغبة كل قادة أوروبا في السيطرة على كنيسة القيامة ، وخوض حروب دينية من أجلها.


يتحدث مارك توين عن مشكلة المواصلات والتنقل ، التي شكلت مبعث قلق بالنسبة له عندما علم أنه لا توجد ، في فلسطين ، خدمة نقل الركاب المسافرين ، وأن من الصعوبة الحصول على مترجمين فوريين ، أو الحصول على دواب للمرافقين. "في القسطنطينية أبرق الجميع إلى القناصل الأميركيين في الإسكندرية وبيروت لإخبارهم أننا سنكون في حاجة إلى مترجمين ووسائل نقل. لقد كنا فاقدي الأمل ، وكنا سنأخذ خيولاً ، أو حميراً ، أو جمالاً أو كناغر ، أو أي شيء".


ينم حديث مارك توين عن نوع من خيبة الأمل ، التي أحس بها ، هو والحجاج الذين معه ، نتيجة تصوراتهم الخاطئة التي حملوها معهم قبل الزيارة ، فلم يشعروا بابتهاج أنهم اقتربوا من دخول الأرض التي قطعوا كل هذه المسافات لزيارتها. كتب ، يقول عن رفاقه: "كانوا على مبعدة ساعة واحدة من حدود الأرض المقدسة ، غير أنهم بالكاد بدؤوا يقدرون أنهم يقفون على الأرض التي طالما قرؤوا عنها ، وبدأت الأسماء التاريخية تنفض عنها الغبار". وفي رأي مارك توين فإن دان هو حد فلسطين من الشمال ، وبئر السبع حدها في الجنوب ، ويقول: "إن هذا هو ما يدل عليه القول المعروف: من دان إلى بئر السبع. وهذا شبيه بقولنا: من ماين إلى تكساس "أي من الشمال إلى الجنوب" ، ومن بالتيمور إلى سان فرانسيسكو ، "أي من الشرق إلى الغرب". وذكر أنه لو تم تقسيم ولاية ميسوري فإنها تساوي ثلاث فلسطينات.


شعر توين بالذهول أمام مساحة فلسطين الصغيرة مقارنة بالولايات المتحدة ، ولكن الذي أثار دهشته وعكس سذاجة تفكيره واحتكامه إلى معايير ثقافته التي تحكم على الآخرين والعالم من خلالها ، هو أن لفلسطين هذا التاريخ العريق ، برغم مساحتها الصغيرة. "لقد كانت أفكاري جامحة كثيراً. لقد ارتبطت الكلمة فلسطين ، في ذهني ، على الدوام ، بصورة غامضة لبلد كبير بحجم الولايات المتحدة. لا أعرف لماذا ، ولكن هكذا بدا لي الأمر. وأغلب الظن أن سبب ذلك كان ، باعتقادي ، أنني لم أتخيل أن بلداً صغيراً يمكن أن يكون له مثل هذا التاريخ العريق". غير أنه يستدرك ، فوراً ، لينقلب إلى التهكم الساخر: "لم تتغير فلسطين ، منذ تلك الأيام ، لا في أخلاقها ولا عاداتها ولا عمارتها أو شعبها".


ومن المقارنات الغريبة التي يوردها قوله: "إن الرجال العرب حسنو المظهر ، ولكن النساء العربيات لسن كذلك، نحن كلنا نؤمن بأن مريم العذراء كانت جميلة ، ومن غير الطبيعي أن نفكر في غير ذلك. ولكن هل يفترض ذلك فينا أن نسير على المنهج نفسه ، ونعد نساء الناصرة الحاليات جميلات؟"


ترد كلمة بغشيش ، بلفظتها ، في الكتاب ، للإشارة إلى أشياء لم يكن من الممكن تحقيقها من دون إعطاء مبلغ من المال نظير الحصول عليها ، وإنه لم يكن سوى البغشيش من سبيل لذلك. ويستخدم الكلمة كثيراً عند حديثه دائماً عن العرب الذين يمر بهم في سوريا وفلسطين ، وإنه لا همّ لديهم سوى استجداء المال من الزوار.


وفي صورة تدعو إلى الضحك من سذاجته ، فقد تفاجأ عندما رأى أن السلطان العثماني رجل عادي في حجمه. يقول: "إن الملوك هنا غير أولئك في أوروبا وروسيا وإنجلترا. هنا تفقد العبارة كل أولئك الملوك عظمتها". ويشبه الملوك ، هنا ، برؤساء قبائل الهنود الحمر المتوحشين ، كما يصفهم ، الذين يعيشون على مرأى من بعض ، والذين يعدون ممالكهم كبيرة إذا بلغت خمسة أميال مربعة، ولهذا اعترف بأنه لا بد أن يحجم تصوراته عن فلسطين لتكون واقعية أكثر. "يكون المرء انطباعات ضخمة في اليفوع ، والتي يبقى يكافح من أجلها طيلة حياته". غير أنه لم يتمكن من أن يتخلص منها ، حتى بعد عودته.


وحول تجربته مع الأديرة الكاثوليكية في فلسطين ، والتي هزت قناعاته التي نشأ عليها ، فقد كتب: "لقد نشأت على كره أي شيء كاثوليكي ، وأحياناً ، ونتيجة لذلك ، فقد وجدت أنه من الأسهل أن تكتشف الأخطاء الكاثوليكية أكثر من الفضائل". ويقول: "لكن هناك شيئاً واحداً لا أود نسيانه أو التغاضي عنه ، وهو العرفان بالجميل الذي ندين به ، أنا وكل الحجاج ، إلى آباء الكنيسة في فلسطين ، فأبوابهم دائماً مفتوحة ، وهناك ، دائماً ، ترحيب بمن يدخل... ومن دون هذه الملاجئ المضيافة فإن السفر في فلسطين متعة لا يجرؤ أقوى الرجال على القيام بها.


ولم تنج كنيسة المهد ، في بيت لحم ، من نقده المتعسف ، حيث ذكر أن "طراز بناء مغارة الميلاد كان يفتقد الذوق ، وتلك هي السمة البارزة في كل الأماكن المقدسة في فلسطين". ولم ينج ، كذلك رعاة الكنيسة ، من نقده: "ومثلما هو الحال في كنيسة القيامة ، فإن الكهنة في كنيسة المهد كانوا يعبرون عن الشعور بالحسد ويفتقدون لمسة الإحسان". وقال ، مصوراً الجو العام على نحو يفيض بالشكوى ، ويبتعد بالمكان عن الروح الإيمانية التأملية: "لا يمكن أن تستطيع أن تفكر ، هنا ، على نحو يثير فيك الإلهام والتأمل مثل أي مكان آخر في فلسطين ، فالشحادون والمقعدون والرهبان يحوطونك ، ولا يجعلونك تفكر سوى في البغشيش". ولهذا لا يخفي سعادته الكبيرة بمغادرة بيت لحم إلى القدس ، بعد أن زار قبر راحيل ، وابتعد عمن وصفهم بـ"جيوش الشحادين وباعة القطع الأثرية".


لم تكن هذه المرة الأولى التي يلجأ مارك توين فيها إلى السخرية من العرب ، فقد ذكر في روايته "هاكلبري فن" ، التي كتبها بعد سنوات عدة من الرحلة ، أنه تم طلاء العبد الأسود الهارب عبر نهر المسيسبي باللون الأزرق ، وتصويره مهرجاً في السيرك كي يتمكن من الهرب ، وقد وضع عليه لوحة تقول "العربي المريض" ، وإلى جانبها كتب يقول: "ليس مؤذياً عندما لا يفقد عقله".


وما يلفت الانتباه هو ميل مارك توين إلى التشكيك ، دائماً ، في ما كتبه الرحالة الآخرون ، وتسفيه قناعاتهم ، واستغرابه منها بناء على تجربته هو. والسؤال الذي يطرح نفسه: ما الدافع لكذبهم جميعاً؟ وما الذي حصل لمارك توين حتى فرح بمغادرة فلسطين غير آسف أو متحسر على مغادرتها ، برغم كل ما فعله وتحمله للوصول إليها؟ "ربما تقتضيني الحكمة الشائعة أن أصطنع كذبة لطيفة وأقول إنني تركت فلسطين عن غير رغبة مني. إنهم يتظاهرون بقولها. ولذا أشك في كلام كل من يقول ذلك. وأقسم إنني لم أسمع أياً من حجاجنا الأربعين يقول شيئاً من هذا القبيل". تفيض الكراهية من كلماته بطريقة فجة ، حتى في لحظة وداعه الأض المقدسة ، في قوله: "فلسطين مقفرة وغير جميلة. ولماذا تكون غير ذلك؟ هل يمكن للعنة الرب أن تجمّل أرضاً؟".


وأنا أعتقد أن الحالة النفسية لمارك توين ، بسبب البعد عن الوطن ، خاصة أنه قضى سنتين بعيداً عن نمط الحياة والثقافة التي تعودهما ، يضاف إلى ذلك حالة الفقر والتخلف التي كانت سائدة في المنطقة تحت الحكم العثماني ، والمفارقة الشديدة بين حال مدنها وقراها ، وحال المدن الأوروبية التي زارها ، لعبت ، كلها ، دوراً في شعوره بالصدمة استناداً إلى تصوراته غير المنطقية ، التي حملها معه ، ما جعله يلجأ إلى اللغة التهكمية ، كقوله: "من بين كل البلدان التي تمتاز بالمشاهد الكئيبة الفظيعة ، فإن فلسطين هي رائدتها، تلالها مقفرة ، وخاملة الألوان ، وبلا ملامح جميلة الشكل. وديانها صحاري يرثى لحالها المزرية ، والبحر الميت وبحيرة طبرية يقعان في منتصف أرض ممتدة وواسعة من التلال والسهول ، حيث لا تقع العين على أي منظر حسن. كل تضاريسها قاسية خشنة ، إنها أرض كئيبة ، بلا أمل ، ينفطر لها القلب".


إن وصف فلسطين ، على اعتبارها أرضاً يباباً ، بهذه الطريقة ، لا يمكن أن يكون صحيحاً أبداً ، خاصة في ظل ازدياد رحلات الحج إلى الأراضي المقدسة في عصره ، والتي كان مارك توين نفسه أحد حجاجها.


بعد كل هذا ، لا عجب أن وجدت الحركة الصهيونية في الكتاب كنزاً توظفه لإظهار أن فلسطين كانت مهجورة من السكان ، وأن من عاشوا فيها ليس سوى مجموعات متناثرة من الفقراء البؤساء ، الذين تركوها خراباً آلاف السنين. ولهذا احتفى اليهود بالكتاب كثيراً ، لاسناد دعاويهم في أن بريطانيا "منحت أرضاً بلا شعب لشعب بلا أرض".


يحتاج دحض المزاعم في الكتاب إلى الكثير من الجهد والبحث التاريخي ، وتقديم الأدلة التي تفند الادعاءات الصهيونية. ويكفي ، في عجالة ، أن نقول إن الفترة ما بين زيارة مارك توين فلسطينَ في عام 1867 ، وقيام أول مؤتمر وطني فلسطيني في سنة 1919 ، ضد اليهود وسلطات الانتداب البريطاني ، في إشارة إلى بروز وعي واسع بخطورة الهجرة اليهودية ، وسلب الأراضي.. هذه الفترة تبلغ حوالى خمسين عاماً. فهل تحولت فلسطين ، فجأة ، من بلاد مقفرة من السكان إلى بلاد تمور بالحراك وبالثورات التي تعبر عن استشعار الخطورة ورفض المخططات للاستيلاء على فلسطين؟ كما أنه من المعروف أن فلسطين تشتهر بكثرة القرى والبلدات والتجمعات الزراعية ، من شمالها إلى جنوبها ، بشكل كبير جداً ، حتى لا تجد شبراً إلا وهناك قرية فلسطينية وبإسمها العربي. ومن ينظر إلى خارطة فلسطين يدهشه هذا الكم الهائل من مواقع القرى التي ، لو رمينا إبرة ـ عشوائياً ـ على الخارطة ، لوقعت ـ في كل مرة ـ في موقع قرية فلسطينية. إن حجم القرى الفلسطينية والبيوت التي استولى عليها اليهود ، على إثر نكبة عام 1948 ، يدل على كثرتها الهائلة ، وعلى مدى الكثافة السكانية فيها ، والدليل على ذلك أن عدد الفلسطينيين قبل النكبة بلغ مليوناً ونصف المليون نسمة.


إن معظم شعب فلسطين ، قبل النكبة ، كان من الفلاحين المرتبطين بالأرض والزراعة ، وبيوت الحجر والبيارات والبيادر ، وليسوا متنقلين أو طارئين على المكان. والمفارقة أن اليهود ، وبرغم هجراتهم الهائلة بالألوف ، التي سهلها الانتداب البريطاني ، خاصة من أوروبا ، وشجعتها الحركة الصهيونية ، وقدمت لها المال ، لم يبلغوا حجم سكان البلاد الأصليين وقت النكبة. كما لا يذكر التاريخ أن هذا العدد الضخم من الفلسطينيين قدم إليها مهاجراً من دول أخرى ، كما فعل اليهود. فمن أين ، إذن ، جاء الفلسطينيون لولا أنهم عاشوا على أرضها عبر التاريخ؟ إن الأبرياء الذين اغتصبت أراضيهم ، فعلاً ، في الخارج.

* بورتريه مارك توين بريشة جيمس بكويث
* نشرت المقالة في ملحق جريدة الدستور الثقافي ليوم الجمعة 23/7/2010 .

رابط المقالة

رابط الصفحة الكاملة pdf





هناك 3 تعليقات:

  1. غير معرف9:50 م

    مارك توين ...تجاذبته المظاهر بدل ان تجذبه الاسرار
    الفكر الراشد ...تصور جميل طالما منحته وساما لأسماء كبيرة ,غير مدركة بان تداعيات أفكارهم ,تسقط غالبا تحت سطوة التصورات ,وصيد الخواطر,وانطباعات اللحظة . لكن الجهد المبذول من قارئين جادين , وكتاب بارعين , في نفض الغبارعن اسهامات هذا الفكر,يصبح المنقذ الوحيد لما نتلقاه ,بعيدا عن جهوزية الافكار ,أو تعليبها بمضامين يصوغها الانفعال اللحظي . جهد تتبين ملامحه من خلال ربط قرائن التاريخ بمعطيات الحاضر, و رؤى المستقبل , فيصبح العمل منمنمة بارعة الوصف ,جادة التسارير.
    الاستاذ اياد نصار لم يكتف بالايماء حول ما رسمه مارك توين عن ابريائه , بل جهر بما استشفه , متمكنا من عمق الكتاب انبعاثاته ,وتجاذباته مع الامس والحاضر, والامر تجلى في مقالة, اراها حبكة مميزة في نقد الصانع والصنعة ...الصانع مارك توين الذي تعامل مع ما رصده بعقلية متجهمة ,يغلب عليها طابع التسرع والانفعال الآني ,وفلسطين الصنعة , التي وردت بملامح حزينة في كتاب مقفر ,اكثر من القفر الذي تمكن منه ,وهو يزور تلك الارض التي منحها التقديس تهكما لا وصفا.
    (التعميم خاطئ بما فيه مقولتي هذه) قالها مارك توين , واضن العبارة مناسبة تماما ,لكي نلبسها رداء لانطباعاته ,وقد جاء صَبْغُها باسلوب الدهشة مفهوما ,مقارنة بمعاييره التي نسجت عباءته الفكرية , لكن غيرالمفهوم كما تفضل الاستاذ اياد نصار ,هو اطنابه في رسم التفاصيل بطريقة يغلب عليها الانفعال, اضافة الى سقوطه في فخ التعميم ,كأن كل ما شاهده هو... فلسطين
    ويبدو أن مارك توين كان تحت تأثير الصدمة التي أفرزها التباين الصارخ ,بين ما توقعه حول فلسطين,وما رآه، وكأنه رحل اليها , ظاناً نفسه سيطرق ابواب حدائق بابل اقصد فلسطين ..المعلقة , فوجدها حدائق مقفرة , كتب على اطلالها (الابرياء في الخارج), كتاب منحه الكثير من العنصرية والسذاجة ,والقليل من الواقعية.
    ان مارك توين لم يكن ناقدا هنا بل كان انطباعيا ,أو فلنقل وقائعيا ,بدل ان يكون واقعيا والفرق بين الامرين كبير,حيث قام بنقل المظاهر التي أثارته بشكلها البالي ,بدل أن يخضعها للرؤية العميقة ,وهنا فان كل ما سيخرج عن منظومته الفكرية والعاطفية سيكون مآله التهكم ,ولو اعتمد كل المستشرقين نهجه, لكانت الصور المنقولة من طرفهم أقتم مم هي عليه الان. كما أستغرب كون فكره الهجين الناتج عن مشاهداته ورحلاته جاء منغلقا, تطعمه المظاهر, بدل ان تكون هويته الجديدة بوتقة انصهار تؤهله لفهم العالم بمنظوره الواسع.
    ب، فاطمة
    الجزائر

    ردحذف
  2. غير معرف9:51 م

    اننا نفهم جيدا توجهه الساخر في نقد قضايا المجتمع, لكن من يريد صنْع فكر, يكون قوتا للاخرين, عليه ان يصنعه عبقريا, فكر لايسفه من اي مظهر, بل يرعاه في وعاء معرفي, يجعل مضمونه في كف البحث والاستقصاء, لا التشويه والاقصاء. هذا التصور المؤذي الذي أنتجته آلة مارك توين العقلية, هو بمثابة وأد لصورة حية, في عمق الحيـــاة, فاما ان يتماوج القارئ ويتماهى مع هذه الصورة في حالة تلق جاف, يرعاه اسم كبير هو في مرتبة الوثوق والتصديق, واما ان يكون القارئ عبقريا يؤمن بضرورة الرؤية الناضجة البعيدة عن اية مشاعر مؤقتة, والتي قد تنتج موجة كراهية لا مبرر لها, وبينهما اقبع انا كقارئة بسيطة, وجدت صعوبة التفاعل مع مشاعر مارك توين العنصرية, فانا بنت الارض التي لم أولد بها, كما أنني لست بالعبقرية التي يمكن بها شطف واعادة نحت ما يكتب, بشكل آخر لائق.وهنا تبرز حاجتي لمثل هذه الافكار النقدية, أفكار اذهَل امامها, كي يحفل عقلي بعدها
    أرى أن على الكاتب الانتباه دوما الى ضرورة مراعاة من هم تحت رعايته الفكرية, وأن يكون كلامه عميقا منطقيا, ينفذ بالقارئ الى الحقيقة, وان اضطر للنقد, فليتبين ملامحه جيدا ,وليخضعه للتمحيص بعيدا عن أية ذهنيات مكدسة, تكون غالبا نتاج العقل الباطن,الذي يهيئ الامور غالبا كما يشتهي لا كما هي عليه.
    جميل ان يقوم مارك توين باستقصاء الاخر, لكن ان ينهب احلام التواقين الى المعرفة, بتصورات حول أرض هي اكبر من توقعاته ...جريمة, أرض رآها بعيون ضيقة ,لو اقتلعها وترك احساسه يعمل, وفكره يوجه, وقلمه بمصداقية يرسم, لكان انطباعه اكثر تهذيبا او فلنقل اكثر عمقا, كما أن من لا يفتح قلبه للارض, فالارض لن تمنحه الاسرار, و ستكون رحلته جحيما يأكله, بدل أن تكون فرصة لمراجعة اليقينيات الخاطئة, باختصار .. مارك توين تجاذبته المظاهر بدل ان تجذبه الاسرار
    صحيح ان اكبر منتصر في العالم هي الحضارة, وأن التأثر بمظاهرها كان سببا في الباس فلسطين ذلك الرداء الرث, وصْفِ نساءها بالجمال المترهل, ومظاهرها بالتخلف المستعصي, الا ان الحضارة تاريخ ايضا, والا كيف لمساحة صغيرة ان تحتضن كل هذا التاريخ ,وتترصع بكل هذه القدسية؟ كان هذا سؤال مارك توين, الذي بدى كالاكتشاف المذهل لديه.
    ان مارك توين رغم حضوره المميز الفذ, الا أنه يملك عقلية ساخطة في ثوب تهكمي, ساخطة على كل ما لا ينتمي الى مملكتها الفكرية المخملية, او من لا يجاور مستوياتها الجمالية, غير آبهة باختلاف المعايير والمنظومات البشرية, وغير معترفة بان الفكر المبدع هو الذي يصنع ,وليس الذي يعيد الصناعة, والا كيف يمكننا العيش من غير ان نتلمس الجمال في كل مظاهر الحياة, ولو اتبعنا مقاربته سننتحر على اعتاب ما نعيشه من مظاهر مقفرة, تقتات منها البشاعة على حد وصفه. صحيح ان عيننا المصادِقة للواقع يجب أن ترصد الظاهر كما هو, لكن نظرة الباطن اليها لا يجب أن تكون بنفس العين التي نترصدها بها.
    الاستاذ اياد نصار عايش الكتاب كحالة تأملها بعمق, حيث انتبه الى ان ردة الفعل الانفعالية الواضحة كان لها أثرها على مدى حساس جدا, حيث يُعتبر الكتاب الان وثيقة تدمغ شطحات الصهاينة وكأنها دليل لا يقبل التشكيك, دليل يثبت ان فلسطين ارض صُبت عليها لعنة السماء, وقد يكون اليهود هم هديتها ونحن لا نعلم؟ وقد اجاد الاستاذ اياد فعلا صياغة الحجج المبطلة لما ورد, وهذا ما احسه فكرا حيا يناظر ويناضل لاجل معرفة خالية من السذاجة المفضوحة.
    امنح تقديري للاستاذ اياد نصار, والى جريدة الدستور هيئة واقلاما, فهي تمنح الفرصة لمبدعين سيكون لهم الدور في زعزعة الذات, ومنحها فرصة التعرف على حقيقتها من غير ان تتصيدها افكار مزعزعة.

    ب . فاطمة
    الجزائر

    ردحذف
  3. غير معرف2:26 م

    دان هو الاسم التوراتي (الصهيوني الان) لتل القاضي والذي يعتبر جزءا من الجولان السوري المحتل.
    كثير مما ذكره توين عن الرهبان والقرى والشحاذين ما زال موجودا حتى الان.
    بعيدا عن اي تاويل ايديلوجي لخدمة السياسة الصهيونية، فانني كفلسطيني جاب بلاده بحثا عن تراثها اتفهم ما كتبه توين.
    لسنا بحاجة لتجميل الوقائع قديما او الان

    ردحذف