الجمعة، نوفمبر 20

يوسف الشاروني.. عميد القصة العربية






في عيد ميلاد عميد القصة العربية الخامس والثمانين
يوسف الشاروني .. كاتب أخلاقيات الزحام وطقوس الحياة المدينيّة

بقلم: اياد نصار

لا أعرف أحداً من كتاب القصة القصيرة العرب ممن بقي منتمياً ومخلصاً لفن القصة القصيرة أكثر من يوسف الشاروني. عندما تذكر القصة، يذكر معها اسم يوسف الشاروني. كأني بإسمه والقصة صنوان لا يفترقان لأي دارس وباحث وقاريء متابع ومتعمق لتاريخ القصة العربية. مرت الذكرى الخامسة والثمانون لميلاده مؤخراً وما زال يحمل الراية ويكتب القصة القصيرة. ندعو له بالصحة والعمر ومزيد من العطاء الذي لم ينضب أو يخفت أو يتراجع منذ أن أمسكت أنامله القلم وخط أول قصة قصيرة له في أواخر الاربعينيات من القرن العشرين. ولكن "الزحام" كان سبب شهرته! فقد أراد أن يعكس موضوع القصة ألا وهو الزحام وأزمة المواصلات والاكتظاظ وبالذات في مدينة القاهرة في قصة ليس في المضمون فقط، بل وفي الشكل أيضاً! فقد نشر قصة "الزحام" سنة 1963 وهي تروي حكاية فلاح جاء للمدينة وعمل سائقاً للأتوبيس. وأسلوب القصة نفسه يتسم بالزحام، حيث حذف حروف العطف وأسماء الوصل فكانت الجمل متلاصقة متزاحمة! كأنما أراد أن تنقل القصة موضوع تزاحم الناس في المواصلات في كل مظهر من مظاهرها. ولقيت القصة إهتماما كبيراً وترجمت لعدة لغات وكانت أحد أسباب شهرته.


بدأ يوسف الشاروني كتابة القصة في السنة ذاتها التي نشر فيها يوسف ادريس مجموعته الاولى "أرخص ليالي" في عام 1954 حيث نشر مجموعته الاولى "العشاق الخمسة" بعد صدور مجموعة إدريس بشهر واحد. ولكنه إبتعد عن الواقعية الاشتراكية التي إنتهجها يوسف إدريس في أعماله. ومن الطريف أن عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين رفض أن يكتب له مقدمة لمجموعته القصصية الاولى في حين كان يفضل يوسف إدريس عليه!


ومن المضحك المبكي أن المجلات والصحف المصرية كالرسالة، وكعادة الصحف والمجلات العربية، رفضت في بداية مشواره الادبي أن تنشر له أعماله، فأخذ ينشر أعماله في مجلة الاديب اللبنانية. ثم ما لبثت المجلات المصرية وبعد أن أخذ إسمه يتردد في الاوساط الثقافية أن أخذت تنسخ عنها وتنشر له قصصه تحت اسم الاديب اللبناني يوسف الشاروني!


فاز الشاروني بجائزة سلطان العويس الادبية في الامارات العربية في دورتها العاشرة للعام 2007 في حقل القصة تكريما له على مساهمته الجلى في نشر وتطوير القصة العربية في العصر الحديث. فقد قضى حياته كلها مخلصاً للقصة القصيرة ولم يقتحم عالم الرواية الا مرة واحدة عام 2006 حينما نشر رواية "الغرق" وهو في الثالثة والثمانين من العمر، والتي تستند الى حادثة غرق العبارة المصرية "المحروسة" في كانون الاول عام1991 . وتصف الرواية الدقائق الحرجة المأساوية التي حدثت فيها كارثة السفينة. وقد ذكرت لجنة التحكيم أنه واحد من أهم رواد التجديد في القصة العربية الحديثة، الذي رصد توترات الواقع وأزمة الإنسان المعاصر في رؤية حياتية مفعمة بالتناقضات والصراعات.


ما زال يوسف الشاروني يكتب بالهمة ذاتها والامل رغم مرور السنوات. وأجمل ما فيه أنه وعلى خلاف ما درج عليه كبار الكتاب عندما يبلغون من السن عتياً، أنهم يعيشون في الماضي ويقتلهم الحنين اليه والترحم عليه، إلا أن الشاروني كتب ذات مرة في مقالة قبل سنتين يقول: "أكتب هذه الكلمات وأنا في الثالثة والثمانين، وأنا أذكر ذلك لأنه يقال إن من هم في مثل هذا العمر لا يعجبهم الحاضر عادة ويولون وجوههم نحو الماضي يلوذون به باعتباره الأنا السعيدة المفقودة".


ولد يوسف الشاروني في عام 1924 في منوف بمصر، لكنه إنتقل مع أسرته الى القاهرة وعمره ثلاث سنوات. وهكذا نشأ في جو المدينة المزدحم الصاخب وتشرب عادات الحياة اليومية بفقرها وطقوسها ومحلاتها الشعبية. وعن سبب تسميته بالشاروني فهو نسبة الى قرية أبيه "شارونة" في محافظة المنيا، وقرية والدته التي شاءت الصدف أن تكون هي أيضاً من قرية اسمها "جزيرة شارونة" وهي عبارة عن جزيرة في وسط النيل.


كان ليوسف السباعي دور في تحويل مسار حياته للابد، فقد إكتشف موهبته عندما كان يتردد على مجلس نجيب محفوظ في كل يوم جمعة، وساعده على الانتقال ليعمل موظفاً في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب بعد أن كان مدرساً للفلسفة. وقد تدرج بالعمل في المجلس الذي صار يسمى بعد ذلك "المجلس الأعلى للثقافة" حتى وصل منصب وكيل الوزارة قبل أن يحال الى المعاش.


وكعادة كثير من الادباء الذين يجربون حظهم باديء الامر في الشعر قبل أن يكتشفوا أنه لا باع لهم فيه ولا ذراع، فقد كتب الشعر النثري الذي سماه النثر الغنائي ونشر ديوانه الوحيد "المساء الاخير"عام 1963 . كتب عددا كبيرا من المجموعات القصصية منذ عام 1954 كان أولها العشاق الخمسة، ومنها ورسالة إلى امرأة 1960، والزحام 1969، وحلاوة الروح 1971، ومطاردة منتصف الليل 1973، وآخر العنقود 1982، والكراسي الموسيقية 1990، والضحك حتى البكاء 1997، وأجداد وأحفاد 2005.


حاز على جائزة الدولة التشجيعية في القصة القصيرة عن مجموعته القصصية (الزحام) عام 1969م، وعلى جائزة الدولة التشجيعية في النقد الادبي عن كتابة (نماذج من الرواية المصرية) عام 1978م، وجائزة الدولة التقديرية في الآداب سنة 2001.

ترجمت أعماله إلى عدد كبير من اللغات العالمية. وكان دائم النشر في مختلف المجلات الثقافية العربية الدورية كالعربي والدوحة وغيرها. وله عدد كبير من الكتب والدراسات والترجمات والتحقيقات والكتابات التاريخية والسير الادبية. وقد كُتب عنه وعن أدبه العديد من الكتب والدراسات باللغة العربية والانجليزية.



ينتمي يوسف الشاروني الى الاتجاه التجريبي في القصة. تسيطر على قصصه أجواء المدينة الصاخبة المزدحمة وهو ما سماه مرة "أخلاقيات الزحام". وتعكس التطور الذي حصل بسبب تطور وسائل المواصلات التقليدية والصحافة ووسائل الاتصال، ولكن هذا التطور جلب معه التناقض والاضطراب، فاصبح الانسان يمر بظروف عاطفية ويتأثر بمؤثرات متناقضة بين الحزن والفرح وبين الامل واليأس وبين الحياة والموت في اللحظة ذاتها التي يتأثر بها بهذه الظروف المتناقضة والحالات الشعورية المختلفة. وقد تأثر في بداية مشواره الادبي بمقولات وفلسفات مدارس الحداثة والتجريب كالسوريالية التي كانت تسعى الى تحطيم الاطر التقليدية للفن والادب وأقامة علاقات جديدة. كما تحفل قصصة بالاجواء الكابوسية والمأساوية. يجمع في قصصه الكثير من متناقضات الحياة اليومية العادية للدلالة على طقوس الحياة المدينية التي تشهد المتناقضات كل يوم، وتعبر عن الاغتراب وتفكك العلاقات الاجتماعية وانكفاء الانسان على ذاته أو محيطه الصغير. يؤمن يوسف الشاروني باسلوب التناص من خلال توظيف الشخصيات التي سبق تقديمها في أعمال سابقة لكتاب آخرين بأعمال جديدة ومضامين جديدة لكنها تتكيء على القصة الاصلية.


وإذا كان الحذاء قد إكتسب شهرة كبيرة بعد حادثة القاء الحذاء على الرئيس الامريكي جورج بوش من قبل الصحفي العراقي منتظر الزيدي‘ فإن يوسف الشاروني قال إنه قد كتب قصة عن الحذاء في عام 1952 يقول أنه تنبأ فيها بثورة يوليو أو تموز 1952! وفي هذه القصة فإن البطل وهو موظف حكومي فقير إعتاد أن يصلح حذاءه بالترقيع، حتى لم يعد فيه مكان صالح لدرجة أن الاسكافي أخبره أنه لا ينفع معه الرتق، وأنه يجب استبداله. وعندما يعود الى بيته يشعر بأن حدثاً كبيراً وعظيماً سوف يقع ويغير حياته.

وبرغم انتاجه الوفير في عدة مجالات كالقصة والنقد والدراسات الادبية والترجمات والسير، إلا أنه مقل في أعماله! قال في لقاء: "أنا كاتب مقل فعلا‏؛ لم أكتب خلال أكثر من عشرين عاما إلا حوالي خمسين قصة قصيرة، بمعدل قصتين أو ثلاث في العام الواحد‏.‏ وترجع هذه الظاهرة عندي إلي عدة عوامل أهمها‏:‏ أنني لا أكتب القصة في جلسة واحدة‏. بالرغم من أن الفكرة العامة للقصة قد تكون واضحة بحيث إنني قد أكتب بدايتها ونهايتها قبل أن أكتب ما بينهما،‏ إلا أن عملية الكتابة بالنسبة لي هي نفسها عملية الإبداع الفني‏. فعن طريق الكتابة والكتابة وحدها تتم اكتشافاتي التعبيرية. كما أحس بأنني لا أتعرف علي شخصياتي الفنية مرة واحدة‏،‏ بل تحدث الألفة بيني وبينها شيئا فشيئا، تماماً كما تلتقي بشخص غريب لأول مرة‏، فإنك لا تعرف عنه كل شئ مرة واحدة حتي يأتي اليوم الذي تعرف عنه فيه أدق تفاصيل حياته‏. لهذا فإنني أكتب القصة مرة بعد أخرى بحيث أعيد نسخها أكثر من خمس وعشرين مرة‏. فتستغرق كتابتها نحو ثلاثة أشهر‏. بل إنها مادامت لم تنشر فإنني أظل أعدل وأبدل فيها ويكون النشر هو طريق الخلاص الوحيد منها‏".




* اللوحة أعلاه بعنوان الصياد وطيور البحر للفنان المصري فاروق وجدي 1997
* نشرت المقالة في جريدة الدستور الاردنية ليوم الجمعة 20/11/2009. فيما يلي رابط المقالة على موقع صحيفة الدستور:
يوسف الشاروني - الدستور الثقافي

والرابط التالي أدناه للانتقال الى الصفحة الكاملة في الجريدة وتحميلها:




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق