الجمعة، فبراير 29

أليس في بلاد العجائب!


كتبت أليس في مذكراتها عن رحلتها التي دامت أسبوعاً الى روريتانيا وشرقستانيا وتيمورستان عام 2998 م. ومما جاء فيها ما يلي:
يوم السبت: من مذكرات إنتحاري سابق!
عثرتُ بطريق الصدفة على مذكرات "انتحاري" سابق فقرأت فيها ما يلي: كنت عاطلا عن العمل ولا أجد ما اعيل به نفسي، وفي ذات يوم جاءني شاب وقال انه يريد ان يساعدني، وأخذني الى مكان سري وهناك وجدت مجموعة مسلحة صارت تلقي علي دروسا وتقول لي يجب ان تقاتل معنا، ونحن سنعطيك ما تحتاج وننفق عليك. وفي يوم من الايام البسوني لباسا ثقيلا وقالوا ستذهب في تمرين قتالي ولهذا يجب ان ترتدي هذا اللباس، وأخبروني عن الطريق الذي يجب أن اسلكه، وقد كانت هناك سيارات تسير في الطريق بجواري، وفجأة اهتزت الارض من تحتي وصدر دوي انفجار قوي ولم اعرف بعدها ماذا حصل لي فقد صرت اشلاءاً.

يوم الاحد: الصح آفة!
قرأتُ في الصحف وسمعت البيانات التي اذاعتها بعض القنوات الاخبارية والمواقع الالكترونية. وقد لفت انتباهي البيان التالي الذي تناقلته مواقع عديدة: أرجو ممن يقرأ عن هذه الحادثة في الصحف أو يسمع عنها في وسائل الاعلام الا يصفها بالارهابية. لماذا التسرع في وصف مثل هذه العمليات هكذا؟! فما الضير في قتل خمسين او مئة أو حتى الف شخص في سبيل اغتيال شخصية واحدة "فاسدة" مهمة ؟! فهولاء مصيرهم الجنة لانهم قتلوا خطأ وبالتالي نساهم في زيادة اعداد من يذهبون للجنة. لذلك نتمنى منكم ان تتفهموا أن دوافعنا نبيلة للغاية وأننا ضد قتل المدنيين، ولكن قد تضطرنا الظروف لقتل عدد منهم خطأ! فنرجو ان تستمروا في تأييدنا!

يوم الاثنين: غيرة مرضية!
أصبتُ بصدمة مما رأيته في اليومين الاولين فقد راعني أن بعض المقالات تدغدغ عواطف المراهقين والمصابين بعقدة الكراهية لكل من هو مختلف عنهم. ويعبرون عن عجزهم في تقديم مشروع ناجز، بأن يلقوا اللوم على الاخرين، ويجعلوا من أنفسهم ضحايا لا همَّ للعالم الا اضطهادهم! هذه نوع من الغيرة المرضية التي تمثل مرضاً نفسانياً يجعل الانسان مصاباً بالاحباط الاكتئابي ومزاجه دموي لانه يعتقد انه الضحية. وبينما يريح نفسه من عناء البحث والتعب في سبيل انجاز مشروع ناجح ، يغرق في الماورائيات والاخرويات!

يوم الثلاثاء: منطق غريب!
لم أستطع أن أتفهم المغزى من قيام بعض الجماعات بالتعبير عن مشروعهم "الانساني" بضرب التجمعات المدنية أينما كانت! أو تفجير مدن معروفة بتاريخها في مسيرة الحضارة الانسانية والتي من المفروض أنهم يدافعون عنها! حاولت ولكنني فشلت أن أفهم هذا المنطق! لم أفهم سبباً لهذه الاعمال التي ينتقمون بها من تلك المدن التي أسهمت في انجاب العديد من المفكرين والعلماء والكتاب والفلاسفة والفنانين والاطباء.. الخ ولكن ماذا لديهم ليقدمونه بالمقابل ؟ لم أستطع أن أتفهم هذا المنطق الذي يرى ان ذبح البشر وتفجير المدن هو الحل!
يوم الاربعاء: مرتدون!
مما يثير الضحك المرير أن بعض البيانات تعتبر أن كل المواطنين أصبحوا مرتدين وكفرة ويجب قتالهم وقطع رقابهم بلا تمييز! وقد وقع بين يدي بعض هذه البيانات. في روريتانيا تم قتل الالاف من المواطنين الابرياء لانهم مرتدون! فهم قد قبلوا حكم أنظمة الطاغوت! وفي تيمورستان تم قتل مئات الالوف بلا تمييز لحرمان السلطات من أن تنعم بالامن! وفي شرقستانيا قتلوا النساء لانهم سبب الفساد! يبدو لي، واعذروني على سذاجة تفكيري، أن هدفهم أن يبقى الدين ديناً لكوكب بلا سكان!!

يوم الخميس: عودة القرون الوسطى!
استرعى انتباهي شيئاً غريباً عجيباً ولكني لم أستغرب كوني في بلاد العجائب. فأحببت أن أشير اليه في مذكراتي فكتبتُ: سمعت أن هناك من لا همَّ له الا شن حملات وهجمات باستمرار ضد بعض الكتب والمؤلفين الذين يتجرأون ويخرجون عن الحدود! ويصل الامر حد المطالبة بسجنهم ، أو سحب الجنسية منهم ، أو نفيهم ، أو تطليقهم من أزواجهم! في حين أنه لا نسمع لهم كلمة عندما تقوم جماعة ما بقتل المدنيين الابرياء! وقد صادف أثناء وجودي في بلاد العجائب أن نشرت كاتبة رواية تنتقد فيها بعض القيم والسلوكيات الاجتماعية والتصرفات المتخلفة بلغة متحررة عما هو مألوف ، فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها. فهي أكبر خطر على نسيج المجتمع ولا بد من اقامة حبل المشنقة لها!

يوم الجمعة: أليس ترحل عن بلاد العجائب!
تركته أليس فارغا بلا تعليق!

ايـاد

الخميس، فبراير 28

الحب مشروع جرح*


على انغام حر الشوق امتزجنا ليلة
فحملني هواك على وردة للروح
يا طيفا يسكن دمي النازف
يا عراقة المكان والزمان حين تبوح الجروح
تتألق حياة بصوتك الحروف

وتصبح القصائد فضاء الغموض والوضوح.

يا لذة المطر في الخريف
يا ساكنة الحزن في مراكبي
يا احزاني وافراحي
يا شمسا تشعل برد كواكبي
دمعتي في القلب تزهر فراشات
وصحوا شفيف.

ارحل اليك ..
فترحل الى عالمك البعيد ألحاني
أتسلل الى قصرك ..
احمل روعة اللقاء
عيونك دفء القلب
واهاتك لحن المساء
اقف عند عرشك الممدود
بين جمالك وكياني
وأقدم لعينيك أشجاني

* العنوان مستوحى من كتابات غادة السمان

ايـاد

الجمعة، فبراير 22

طقوس عشق صوفية


حين تتكلمين يصمت قلبي في محرابك
صوتك مخملي .. آه من حلو كلامك
كم تكتمين من ضحكة خجلى
فتزيد من إهابك
وأرى حورية البحر في جوابك

حين تضحكين
تنبت أزهارالأقحوان
ضحكتك جواز سفري
الى بلاد الفرح والأمان
ينير القمر شرفة قلبي ..
ويضيء الحرف طاولتي
أرسم صورتك على حواف نافذتي
فتشرق ملامحك يا سيدتي في مخيلتي
ويورق الحب أزهارا في قصيدتي

عندما تتكلمين يملأ عطرك
المكان..
فأمزق خيالي لتشرق في لوحتي
الالوان
كم انت جميلة لذاتك
عشقي صوفي في حضورك..
عشقي متمرد غجري في غيابك..

عندما قلت لي أحبك..صرت أعيش في السماء
تلاشت بيني وبينك مسافات بلا انتهاء
وارتسمت صورتك على كل الاسماء
آه من هذا الفرح يملأ قلبي
كم تصمت الكلمات على شفتي
شوقي يعذبني يا أمرأتي
فامنحيني حبا يطهرني
أريد أن أبوح لكن خواطري لا تسعفني
تصمت الكلمات على شفتي

أقف حبا في وجودك..
يأسرني حضورك
ويركض قلبي لملاقاتك
وحين تشرق حروفك شمسا في الليالي
يخفق قلبي..ويتلعثم على الشفاه سؤالي
أه كم أرثي لحالي
حروفي تاهت في لجة أفكاري
لا أقول سوى قطرات من أنهاري
آه لا أستطيع البوح بعشقي
فأصمت في محرابك


إيـاد

الأحد، فبراير 17

القلب الواشي


قصة ادجار ألان بو

ترجمة ايـاد نصـار


صحيح! عصبي حتى العظم بشكل مروع. كنت كذلك ولم أزل. ولكن لماذا ستزعم أنني مجنون؟ لقد صقل المرض حواسي. لم يدمرها ولم يجعلها بليدة، وفوق ذلك كله كانت حاسة السمع لدي حادة. سمعت كل الاشياء في السماء والارض.. سمعت أشياء كثيرة في الجحيم، فكيف اذن أكون مجنونا؟!


أرهف السمع! وراقب كيف أستطيع أن أخبرك القصة كلها بهدوء وصحة معافاة تدل على سلامة عقلي:


من المستحيل القول كيف دخلت الفكرة الى رأسي لاول مرة، لكنني تخيلتها ذات يوم. لقد طاردتني ليل نهار. لم يكن ثمة دافع، ولم يكن ثمة انفعال. لقد أحببت الرجل العجوز.. لم يخطيء معي ابدا.. لم يوجه لي اهانة في حياتي على الاطلاق، ولم تكن لدي رغبة في أمواله. اعتقد انها كانت عينه! نعم، انها هي! احدى عينيه كانت تشبه عين نسر. كانت عينا زرقاء شاحبة تعلو بصرها غشاوة. كان الدم يتجمد في عروقي كلما وقعت علي.. و شيئا فشيئا قررت أن أسلب الرجل العجوز حياته .. وأخلص نفسي من العين الى الابد.


هذه هي النقطة الاساسية الان. أنت تحسبني مجنونا. المجانين لا يعرفون شيئا. كان عليك أن تراني.. أن ترى كيف تصرفت بحكمة وروية، وأقدمت على العمل بحذر وبعد نظر، وقدرة فائقة على الاخفاء.


لم أكن لطيفا مع الرجل العجوز من قبل مثلما كنت كذلك طوال الاسبوع الاخير قبل أن اقتله. في ذات ليلة في حوالي منتصف الليل، كنت أدير مزلاج بابه، وافتحه بهدوء بالغ!


وعنذئذ عندما أتيح لراسي فتحة كافية، أشعلت مصباحا خافتا لا يتسلل منه أي شعاع للخارج، وصرت أتلصص برأسي.. أووه. كنت ستضحك بالتأكيد لو رايتني وانا أتلصص للداخل ببراعة..حركته بأناة شديدة، كي لا أزعج نوم الرجل العجوز. كانت تستغرقني ساعة كاملة لادخل رأسي كله في الفتحة حتى أستطيع أن أراه وهو مستلق على فراشه! هل يمكن أن يكون المجنون حكيما هكذا؟! ومن ثم عندما يصير رأسي داخل الغرفة، كنت أزيد ضوء المصباح بحذر، بحذر شديد لا سيما حين تبدأ ابرة المصباح بصريرها.


كنت أزيد ضوء المصباح بالقدر الذي يسمح لشعاع يتيم واهن أن يقع على عين النسر فقط.. وفعلت ذلك سبع ليال طوال. كل ليلة عند انتصافها. لكنني كنت أجد العين دائما مغمضة. وهكذا كان من المستحيل أن تقوم بالعمل! لانه لم يكن الرجل العجوز هو الذي يثيرني، لكن عينه الشريرة. وفي كل صباح عندما يطلع النهار كنت أذهب بجرأة الى حجرته،وأتكلم معه بشجاعة.. أناديه باسمه بنغمة ودية من أعماق القلب، اسائله كيف قضى الليل.


لذلك فأنت ترى انه كان عليه ان يكون رجلا عميق التفكير كثيرا ليتوقع مني كل ليلة عند الساعة الثانية عشرة أن اختلس النظر اليه وهو نائم. في الليلة الثامنة كنت أكثر حذرا من المعتاد في فتح الباب. كان عقرب الدقائق في ساعتي يتحرك بسرعة لم أعهدها منه من قبل! لم اكن اشعر قبل تلك الليلة بمدى قدراتي.. ومدى ذكائي الخارق. بصعوبة استطعت أن احتوي شعوري بالنصر.. تفكيري أنني كنت هناك، أفتح الباب قليلا قليلا، وهو يحلم حتى بصنيعي .. بمآثري السرية.. أو أفكاري. ضحكت تماما للفكرة، وربما سمعني لانه تحرك فجأة في فراشه فجأة كما لو أنه جفل من شيء ما.. ربما تظن أنني ترددت حينها..لكن لا.


كانت غرفته في ظلام دامس.. غارقة في السواد اذ كانت مصاريع الابواب محكمة الاغلاق خشية اللصوص. ولذلك عرفت أنه لن يتمكن من رؤية شق الباب.. وبقيت أدفعه بثبات. أدخلت رأسي وكنت على وشك اشعال المصباح عندما انزلق ابهامي على علبة المصباح القصديرية. انتفض الرجل العجوز في الفراش، ووثب عاليا يصيح: من هناك؟ بقيت هادئا في مكاني، ولم أنبس ببنت شفة. ساعة كاملة انقضت وانا متجمد في محلي لم احرك عضلة. وفي أثناء ذلك لم اسمعه يستلقي على السرير مرة أخرى. كان ما يزال جالسا في السرير يصغي السمع مثلما فعلت أنا.. وهكذا ليلة بعد ليلة يظل يصغي الى الموت وهو يراقب الجدار. وعندها سمعت أنينا واهيا .. أدركت أنه أنين الذعر القاتل. لم يكن أنينا من ألم أو أسى..أوه ..كلا! كان صوتا خفيضا مخنوقا كالذي يخرج من أعماق النفس عندما تمتليء رعبا.. أدركت الصوت جيدا، فكثيرا من الامسيات عند منتصف الليل تماما، عندما ينام العالم، كان يخرج مثله من صدري عميقا بصداه المفزع وذعره الذي يذهلني. أقول أنني أدركته جيدا، أدركت بماذا شعر الرجل العجوز، فشعرت بالشفقة عليه رغم أنني ضحكت لذلك من أعماق قلبي. وعرفت أنه بقي مستيقظا منذ أن سمع الجلبة الخافتة الاولى حين وثب في الفراش وسيطرت عليه مخاوفه منذ ذلك الحين.. حاول أن يتخيلها أوهاما بلا سبب..لكنه لم يستطع. كان يقول لنفسه: ليس هناك شيء غير الريح في المدخنة، انه مجرد فأر يعدو على أرض الغرفة، أو حشرة صرار الليل قد اصدرت سقسقة واحدة. نعم كان يحاول أن يريح نفسه من هذه الافتراضات لكن دون جدوى. عبثا يحاول لأن الموت يدنو منه، وقد وقف بشموخ أمامه بظله الاسود وهو يطوق الضحية، فكان تأثير الحداد المحزن للظل غير المرئي هو الذي جعله يشعر بذلك مع أنه لم ير أو يسمع ما ينم عن وجودي داخل الغرفة.


ولما طال انتظاري كثيرا، ونفد صبري دون أمل بأن يعود للنوم ثانية، فقد عزمت أن أرفع ذبالة المصباح قليلا..قليلا. وبالفعل حركتها.. لا تتصور كيف لمستها خلسة .. مجرد لمسة، بالكاد سمحت لشعاع ضئيل معتم مثل خيط العنكبوت ان ينطلق من شق المشكاة ويسقط على عينه عين النسر!


كانت مفتوحة .. واسعة..عريضة جعلتني أكثر غضبا واهتياجا. كلما حدقت فيها أكثر رأيتها متميزة تماما.. زرقاء يعوزها البريق وفوقها حجاب بشع ارتعدت له فرائصي حتى النخاع. ولم أستطع أن أرى شيئا اخر من ملامح وجه الرجل العجوز أو شخصيته فانا قد وجهت بصيص النور غريزيا بلا شعور مني بدقة الى تلك البقعة اللعينة.


والان.. ألم أخبرك بما تعتقده خطأ بالجنون، وهو في الحقيقة حواس مرهفة فوق العادة. اقول لك لقد تناهى الى سمعي صوت سريع خفيض واهن مثل دقات ساعة وضعت في كومة من القطن. أنا أعرف ذلك الصوت جيدا.. كان صوت ضربات قلب الرجل العجوز.. لقد أثارت غضبي بشدة مثل طبل يقرع يحث الجندي على اظهار الشجاعة. لكني حتى تلك اللحظة أحجمت عن عمل شيء، وبقيت هادئا. أخذت أتنفس بصعوبة وأنا أحمل المصباح في سكون عميق. حاولت ما وسعني الجهد أن أبقي الشعاع ثابتا فوق عينه.. واثناء ذلك ازداد ايقاع القلب الشيطاني.. صار أسرع وأسرع..أعلى واعلى.. لا بد أن فزع الرجل العجوز قد بلغ حده الاقصى! أخذ يعلو أكثر، أقول لقد اصبح يعلو أكثر من ذي قبل كل لحظة. هل تصغي الي جيدا؟


بقيت برهة ساكنا لم أفعل شيئا، لكن الخفقان أخذ يعلو أكثر فاكثر! ظننت أن القلب قد انفجر.. لقد حانت ساعة الرجل العجوز! صرخت صرخة عالية وأنا أشعل المصباح للنهاية، وقفزت الى داخل الغرفة.. صاح صيحة واحدة.. واحدة فقط وفي لحظة سحبته الى الارض.. ووضعت الفراش الثقيل فوقه .. هنيهة .. ثم ابتسمت بابتهاج وأنا أجد صنيعي قد تم لهذا الحد. لكن، لبضع دقائق استمر القلب في دقاته بصوت مكتوم.. لم يثرني على أية حال.. فهو لن يسمع عبر الجدار خارج العرفة..وأخيرا توقف.. لقد مات الرجل العجوز. رفعت الغطاء وفحصت الجثة. نعم انه مثل قطعة من الحجر.. ميت تماما.


وضعت يدي فوق قلبه لعدة دقائق، ولم يكن ثمة نبض بالحياة. كان يتمدد جثة بلا حراك. لن تزعجني عينه بعد ذلك. اذا كنت ما تزال تحسبني مجنونا، فستبقى على اعتقادك هذا حال أن اصف التدابير الحكيمة التي اتخذتها لاخفاء الجثة.


كان الليل قد أوشك على اخر لحظات الوداع، فعملت بعجلة، ولكن في صمت. قبل كل شيء قطعت اوصال الجثة.. قطعت الرأس واليدين والرجلين، ثم خلعت ثلاثة ألواح خشبية من أرضية الغرفة، ووضعت كل شيء تحت قطع الخشب، وأعدت الالواح الى مكانها بذكاء عجيب وبراعة نادرة، فلا تستطيع عين بشرية ولا حتى عينه أن تلاحظ شيئا.. لم يكن هناك شيء بحاجة الى تنظيف.. لا توجد بقعة أيا كان نوعها.. لا نقطة دم البتة. لقد كنت حذرا جدا.. حوض الغسيل تكفل بكل شيء.


عندما انتهيت من هذه الاعمال كانت الساعة تشير الى الرابعة صباحا، وما تزال الدنيا مظلمة مثل منتصف الليل. وما ان دق الرقاص معلنا عن الساعة حتى سمعت طرقا على الباب الخارجي المطل على الشارع. ذهبت لافتح بقلب مبتهج خال من الهموم.. ولماذا أخاف الان؟


دخل ثلاثة رجال. قدموا أنفسهم برقة بالغة.. كانوا رجال شرطة. فقد سمع أحد الجيران أثناء الليل صرخة.. وهناك اشتباه بأن عنفا قد حصل، اذ قدمت شكوى الى مركز الشرطة.. وهم. اي رجال الشرطة قد كلفوا بالبحث عن الاسباب. ابتسمت.. ولماذا علي أن اخاف؟ رحبت بالسادة.. أخبرتهم ان الصرخة صدرت مني في حلم مزعج انتابني، وأشرت الى ان الرجل العجوز غائب عن البلاد.. ثم تجولت مع زواري في ارجاء المنزل.. دعوتهم ان يبحثوا كما يشاؤون وقلت: فتشوا جيدا.. أخذتهم أخيرا الى غرفته، أريتهم كنوزه وأمواله باطمئنان وثقة.. لم أكن مضطربا، وبحماس من ثقتي العالية أحضرت لهم كراسي ووضعتها داخل الغرفة ورجوتهم أن يستريحوا من عناء العمل وارهاق الوظيفة، بينما وضعت لنفسي بجرأة جامحة من نصري العظيم مقعدا فوق المكان الذي ترقد فيه الضحية رقدتها الابدية تماما.


كان رجال الشرطة مقتنعين راضين.. لقد أقنعهم سلوكي.. كان هادئا .. متحررا من القلق والارتباك على نحو فريد. فقد جلسوا بينما رحت أجيب بمرح ورشاقة. تحدثوا عن اشياء وتساءلوا من غير تكلف عن اشياء مالوفة.. فجأة بدأت اشعر بالوهن يدب في جسمي الذي تحول شاحبا، وتمنيت لو أنهم يغادرون. أخذ الالم يثور في راسي، وتخيلت طنينا يملأ أذني.. لكنهم ما زالوا جالسين يثرثرون.. أصبح الطنين أشد وقعا في اسماعي.. استمر وصار أكثر وضوحا.. أخذت أتحدث بحرية اكبر لاخلص نفسي من هذا الشعور.. لكنه استمر وازداد حدة.. حتى اكتشفت أخيرا أن الطنين لم يكن داخل أذني!


لا شك ان الضعف قد نال مني الان كثيرا، ودب الشحوب في أوصالي، ورغم هذا فقد تحدثت بطلاقة، وبصوت قوي. لكن الصوت المزعج ما يزال في ازدياد.. وماذا استطيع ان افعل؟ كان صوتا سريعا خافتا .. أعلى من صوت دقات الساعة في غياهب القطن. لهثت لاسترد أنفاسي المقطوعة، ولحسن حظي فان رجال الشرطة لم يسمعوا الصوت. أخذت أتحدث بسرعة اكبر ولهجة متقدة متفجرة.. لكن الضجيج راح يزداد باطراد. نهضت اجادل وأناقش باشياء تافهة بصوت عال وايماءات منفعلة، لكن الضجيج ازداد.. لماذا لا يريدون أن يذهبوا من هنا؟


وقمت أذرع ارض الغرفة جيئة وذهابا بخطوات متثاقلة، وقد اثارتني نظرات الرجال واشعلت في نا رالغضب الشديد.. لكن الضجيج استمر في ازدياده.. يا الهي! ماذا استطيع ان افعل؟


أخذت أرغي وأزبد.. أهذي واشتم.. لوحت بالمقعد الذي كنت أجلس عليه ورحت اصر به صريرا عاليا فوق الواح الخشب، لكن الضجيج ارتفع فوق كل ذلك. اصبح أعلى واعلى! والرجال ما زالوا يثرثرون في مواضيع شتى وبتسمون.


أمن الممكن انهم لم يسمعوا شيئا؟ يا الهي .. كلا كلا! لقد سمعوا! لقد شكوا! لقد عرفوا! اتخذوا من فزعي هزوا وسخرية! هكذا اعتقدت وهكذا اعتقد لحد الان. ومهما يكن من أمر، فان اي شيء هو افضل من هذا الصراع العنيف.. اي شيء يمكن احتماله غير هذه السخرية! لا استطيع ان اطيق ضحكاتكم الزائفة المرائية اكثر من ذلك! اشعر بأن علي أن اصرخ حتى الهستيريا أو أموت.. ها قد رجع الصوت مرة أخرى.. يعلو .. يعلو .. يعلو..! صرخت: أيها الرجال كفاكم تخفيا وخداعا! اني أقر بجريمتي. انتزعوا الالواح الخشبية ها هنا! انها دقات قلبه اللعين!

الجمعة، فبراير 15

انتظــار



إنتظــــار
قصة قصيرة
بقلم : ايــاد نصــار

حين وصلت لم يكن هناك سوى شابين .. كانت الشمس قد ودعت الافق .. والظلام بدأ يتسلل في الزوايا والطرقات. وزعت نظرات متفحصة حولي .. البناية غارقة في صمت مطبق يزيده السواد رهبة .. حفيف أوراق الاشجار المضطربة المنتشرة في المكان أسمعه بوضوح .. المكان خال الا من هذين الشابين اللذين جلسا تحت شجرة قريبة رغم البرد. كانا يتهامسان بصوت خفيض. نظرت الى ساعتي كانت تشير الى السادسة الا عشر دقائق.

أحسست للبرد دبيبا يقتحم مفاصلي، غير أني لم أعبء به .. تحركت خطوتين هنا .. خطوتين هناك .. تلفت في كل الاتجاهات .. نور خافت ما زال يضيء مدخل البناية .. الريح تهب بين الحين والاخر فأنكمش على نفسي من وخزاتها الباردة .. الاشجار تنتفض. لم أدر ان كانت تستعرض صمودها أم تحاول الهرب!

بدأت ملامح الافق البعيد تتلاشى تحت وطأة الظلام الذي ملأ كل شيء. الطريق خالية موحشة. كان يمزق ستار السكون وجلاله أحيانا بعض كلمات مبهمة تنفلت عاليا من حديث الشابين الهامس.

مشيت نحو البناية، وما زلت أتطلع حولي .. أحسست احساسا غريبا بالأنس والدفء. لعله المصباح الخافت على المدخل كان السبب. شعرت أنه نُسي مضاءً ليشاركني انتظاري. دلفت الى الداخل .. لم أتبين شيئا في هذا الظلام الحالك. شعرت برهبة حقيقية أول الامر ما لبثت ان تحولت في نفسي الى ادراك غامض بروعة الضجيج وصخب الحياة مع الناس. مرت برهة وجيزة وبدأت أميز الممر الطويل الخالي. تقدمت بضع خطوات، لكنني خفت أن يأتي وأنا هنا أبحث عنه .. تراجعت واسرعت خارجاً .. صعدت عدة ادراج ثم وقفت على الرصيف. وجدت انظاري تشرد بلا ارادة مني في كل اتجاه، لكنها كانت ترتد خائبة. نظرت الى الساعة. كانت العقارب تشير الى السادسة وخمس دقائق. بدأت أشعر بالقلق والانزعاج. عدت أتفحص الطريق الساكنة.. أتأمل مدققاً في نهاياتها البعيدة لعلي أميزه قادماً. فجأة أحسست كأن شيئا قد تغير .. حانت مني التفاتة الى الشجرة .. كان الصديقان قد ذهبا.

البرد يهاجمني في كل جزء من جسمي، وأنا ما زلت واقفاً .. وضعت الكتاب الذي أحمله على حافة الجدار المنخفض. بدأ القلق الممزوج بالامتعاض من وحشة الانتظار لهذا الذي لم يأت لغاية الان يثير أعصابي. أه ما اقسى الانتظار .. وتذكرت فيروز وهي تغني أحترف الحزن والانتظار..أرتقب الآتي ولا يأتي .. تبددت زنابق الوقت .. أمن الممكن أنه نسي؟ كلا .. كيف ينسى وهو الذي كرر علي بالامس رجاءه حتى تضايقت من الحاحه؟ فلم يكن بحاجة الى كل هذا التأكيد، فنحن صديقان منذ زمن . الساعة السادسة والربع الان .. إني أراقب حركتها البطيئة دقيقة بدقيقة .. لقد تأخر ربع ساعة..احس أنها ساعات طوال. فجأة سمعت اصوات خطوات مسرعة قادمة من بعيد .. حاولت أن أتبين ملامح هذا القادم .. كان بعيدا والظلام قد حصن وجوده. اشتعل في أعماقي بصيص من الامل .. شعرت بشيء من السرور الغامض .. لعله الاحساس بانتهاء هذا الانتظار القاسي. أسرعت الى الكتاب، تناولته بيد ترتجف وخطوت الى الطريق أراقبه. أقترب نحوي أكثر .. فأكثر .. تهللت أساريري .. اقترب اكثر .. ناديت: جمال .. لم يحول جريه نحوي .. تجاوزني .. آه .. وراح يبتعد عني قليلا حتى غاب جسمه في أحشاء الظلام.

اضطربت في مكاني توغل القلق في أعماقي .. لم أعد احتمل الانتظار .. قفز الغضب الى وجهي .. حنقت على صديقي .. قررت ألا ارحمه من تأنيبي .. أهكذا يتركني اذوق عذاب الوحدة؟! وليتها كانت الوحدة وحسب!

الحقيقة أنني منذ ثلاث سنوات لم اصبح دقيقا في شيء في حياتي مثل المواعيد.. لقد جعلتني تلك الحادثة اعيد النظر في اسلوب حياتي اليومي.. كأنما فتحت لي نافذة ارى من خلالها العالم بعيون اخرى .. وأن أفهم الناس من خلال الطريقة التي يعني لهم بها الوقت .. وعرفت أن الزمن هو محور الانسان والحياة وهو ساعة الحضارة التي اما ان تسير بانتظام او تتأخر او تتوقف عن الدوران نهائيا!

كان لي صديق جمعتني به الاقدار منذ سنوات عديدة. لم أكن قد تعرفت اليه جيدا في البداية، فاذا صدف أن التقيته، فلا يتعد الامر تحية مقتضبة وسلاما عابرا.. غير ان لقاءاتنا السريعة تطورت الى أحاديث وجلسات طويلة. كان يعمل بعد العصر في مكتبة يمتلكها أخوه.. كنت أتردد عليه أحيانا وأشعر بالارتياح لحديثه. كان يمتلك شهية لم أر مثلها في حياتي للكلام. اذا انطلق لا يعرف التوقف او الايجاز! فكنت لا أفهم هذا التناقض بين ثرثرته بدون حساب وبين سيف الوقت! وكنت اتساءل اية دراسة سيفلح بها لو لم يدرس الصحافة والاعلام؟! وربما قد نسي كل شيء درسه عنها بعد مرور هذه السنوات ولكنه لم ينس ان يبقى يعيد علينا نحن اصدقاؤه تلك الاسماء الكبيرة التي يحفظها ويروي لنا قصصاً عنها قرأها هنا وهناك المرات تلو المرات! وصرنا نحبه لثرثرته التي إعتدنا عليها أن تملأ الوقت حين لا يكون هناك موضوع اخر للحديث! وقد تصادف ذات مرة أن كنت عنده في المكتبة فدخل رجل يبدو عليه انه من علية القوم او من اولئك الذين يحبون ان يشعروك بأهمية وجودهم. وقال انه حضر على الموعد لرؤية صاحب المكتبة. كان حديثه ينم عن معرفة سابقة به وأن هناك عملاً يجمع بينهما. كانت عباراته تدل على انسان متعلم يعرف كيف يختار مفرداته بعناية، ورغم حرصه على الحديث بلغة رصينة وتكلف ظاهر، فقد وجدت في كلامه شخصية جذابة، وبينما كان ينتظر ، أخذ الرجل يتفحص العناوين والكتب في ملل ظاهر وحركة تنم عن السأم والاضطراب. وما هي الا لحظات قليلة حتى قطع حديثنا بصوت جازم يبدو عليه خيبة الامل: الساعة الان الثانية عشرة وخمس دقائق .. انني ذاهب .. رجاء أن تخبراه أنني حضرت .. ولنكن ولو مرة حريصين على وقت الاخرين ان لم نحرص على وقتنا نحن! وخرج وقد ارتسمت على وجه ملامح كدر وتجهم.

لقد فاجأتنا كلماته وتطلع احدنا بالاخر في استغراب. كل هذا بسبب خمس دقائق! يبدو ان الرجل غريب عن بيئتنا! وارتسمت على وجوهنا ملامح ابتسامة ساخرة!

عدت انظر الى ساعتي .. انها تدق الان الساعة السادسة والنصف .. لا اعرف لماذا أحس أنني غير قادر على مغادرة المكان. ورغم أن هناك أملا باهتا أن يأتي جمال في هذه اللحظات، فقد تسمرت في مكاني، فهو أكد لي انه سيحضر. وصارت تمر الدقائق ثقيلة كئيبة، وأنا اكاد اموت من البرد وارتجف ولكنني أمور بالغضب في داخلي. ولعنت الساعة التي قطع لي فيها وعده وصدقته!

صارت قدماي تهتزان وترتجفان من البرد. وازرقت يداي.. حاولت فركهما ببعض كي أعيد لهما بعض الحرارة.. الريح تعصف بأغصان الاشجار فأسمع لها صوت عراك حزين .. تناولت الكتاب مرة أخرى.. نظرت الى الساعة نظرة خاطفة .. لم انتبه كم كانت تشير. كانت أفكاري مضطربة موزعة. قررت أخيرا بعد تردد أن امضي وليذهب هو الى الجحيم! تذكرت عبارته المعهودة دائما حين يأتي متأخرا كالعادة أو حين يتصل في اليوم التالي: الصداقة المثقلة بالذكريات أثمن من أن تقاس بساعة او بيوم! لقد صارت شعارا معروفا عنه يستخدمه دائما لاسكات من يفكر في لومه او اظهار الغضب من أزمة علاقته بالوقت!

استيقظت من غمرة أفكاري فجأة على المصباح الخافت الذي انطفأ.. ساد الظلام كل شيء حولي.. شعرت برجل يخرج من البناية.. لاحقته ببصري حتى ابتلعته الطريق .. قطرة ماء أحسست بها تسقط على يدي .. ضممت الكتاب الى صدري.. ولم ألتفت الى الساعة وبسرعة وجدت نفسي أعدو أنا أيضا في الطريق تحت قطرات المطر الغزير.

بعد عدة ايام التقيت جمال صدفة. لم أدر ماذا اقول .. استرجعت ذاكرتي تفاصيل ذلك المساء الحزين. أخذ يعتذر وأنا صامت شارد الذهن. كان يعتذر بسرعة ولكني لم ادر تماما ماذا كان يقول .. وفجأة أيقظتني عبارته اللعينة. رفعت بصري .. نظرت في عينيه تركته ومشيت بعيداً .. قطرة ماء ذابت.

لوحة


لوحـــــــة
قصة قصيرة
بقلم: ايــاد نصــار

كل شيء ارتدى لونه الأبيض واختفى تحت وطأة الثلج المتراكم .. السقوف المدببة التي تناثرت على جانبي الطريق كانت تنوء بهذه الكتل القابعة في سكون .. بعض الاشجار التي آنست وجود البيوت حولها وقفت عارية، بدت كأشباح تصارع الفضاء الرمادي. وفي الاعلى كانت قطع الغيوم الداكنة تتداخل وتتمزق بلا انتهاء.

على التلال كانت بعض أطراف الثلج تتحول الى قطرات ماء.. ثم تنحدر ببطء وصمت لتستقر في الطريق. وفي أعلى تلة من بعيد ظهرت بناية ضخمة قديمة كانت تنتهي ببرج مدبب يكاد يلامس الغيوم المثقلة. تخيلتها كنيسة كتلك التي رسمها فان غوخ في لوحته. كان واضحاً أن شبابيك البيوت الصغيرة وأبوابها قد أوصدت بعناية.

يا لرهبة هذا السكون المجلل.. كأنما الموت غشي كل الاشياء الا هذه الخيالات الثلاثة. على الطريق المبللة الموحلة، حيث كانت ما تزال بعض قطع الثلج صامدة، وقد اختلط الطين ببقع المياه الراكدة، كانت ثلاثة خيالات تتجه نحو نهاية الطريق الصاعدة. امرأة تلبس معطفا أسود، منحنية القامة ومعها طفل صغير يلبس قبعة، يبدو أنه ابنها..وبينهما كان كلب صغير مربوط بحبل قد أمسك الطفل بطرفه.

عجباً ما الذي خرج بهم في هذه الساعة في مثل هذا الجو الشتوي البارد؟! الى أين يتجهون؟! ليتني كنت أعرف! حدقت فيهم طويلا. كانت هيئتهم تدل على انكسار يمتزج بالحزن. كأن الايام قد عصفت بهم. تأملت في نهاية الطريق المتلاشية لعلي أرى مقصدهم، لكن البيوت المحتشدة هناك احتوت عيني وحجبت عني ما خلفها.

تركتهم وشأنهم.. عدت الى مقعدي في ركن الغرفة ودفنت رأسي بين كفي. بعد قليل كنت قد نسيت التفكير فيهم.. انشغلت بأمري.. عدت افكر بنفسي.. لم كل هذا؟ انها ليست المرة الاولى.. كلا انني لا أتذكر أي مرة هذه.. الخامسة.. العاشرة.. اكثر .. لاأدري. هكذا هي على الدوام ما أن تنتهي حتى تبدأ من جديد..لكنني لن أقبل أن تستمر.. سأضع حدا لها الى الابد. لم أطقها قط ويكفيني ما ذقته حتى الان. لم أعد احتمل اكثر من ذلك.

فجأة فتح باب الغرفة .. دخل أخي الاكبر .. وقف أمامي.. لم يطل صمته كثيرا: هذا هو اليوم السابع .. ألم تغير رأيك؟! وتوقف هنيهة ثم تابع: عليك ان تكون ألين من ذلك. ليس جديرا بك ان تثور تحت أقل مشكلة. منذ الامس وأنا صامت .. كنت متلهفا لكي ابوح .. أتحدث ..أصرخ.. أثير الموضوع من جديد. رفعت رأسي بتثاقل.

- لماذا علي وحدي أن اصبر وأتحمل؟ لماذا لا يفعلون هم ذلك؟ لماذا لا تقول لها شيئا؟!

قلت هذه الكلمات ودفنت رأسي من جديد بين يدي. ويظهر أن أخي احس بصلابة موقفي فقد خرج دون أن ينبس بكلمة أخرى، وصفق الباب خلفه.
لقد جئت الى بيت أخي الاكبر هاني منذ اسبوع تقريبا. لم أعد احتمل جحيم البيت. لست أدري مصدر هذا الهوس عندها في اثارة المشاكل.. بل لست أدري لماذا تمقتني الى هذا الحد.. لماذا ترميني بين الحين والاخر باتهامات مختلفة، وتفتعل نزاعات بلا سبب حتى يتسنى لها أن أترك البيت؟! لماذا كل هذا العذاب؟! وهآنذا الان عند أخي مرة أخرى.
لقد تزوج منذ عدة سنوات، وآثر أن يقيم في مدينة أخرى مع زوجته الالمانية وأطفاله الثلاثة ليكون قريبا من مكان عمله. ان حياة أخي -هاني- تستحق أن يكتب الانسان عنها رواية، ولو كنت أعرف الكتابة لما ترددت أن أفعل..لكنني أجبرت على ترك المدرسة وأنا في الصف السادس الابتدائي. لقد قالوا أنه لا خير في بقائي فيها، وحكموا بأنه لن تفلح المدرسة في تغيير الحقيقة! وهي أنني غبي! ولم يكن حال أخي الاكبر أحسن من حالي. ترك المدرسة هو ايضا مبكرا مثلي، ولاقى المتاعب ألوانا. ولم يكن يستقر في عمل اكثر من شهرين. كان وما يزال عالي النفس .. مرهف الاحساس.. لا يطيق النقد ولا يتحمل أن يجرحه أحد بكلمة أو يستفز كرامته! فلاقى في سبيل ذلك العنت، ولم يستقر في مهنة! ولكنه استطاع ان ينجو من هذا الجو المتكدر.. فقد هرب الى المانيا!

قضى عشر سنوات فيها لا أعرف حقا ماذا كان يعمل خلالها أو كيف كان يتدبر العيش هناك. كل ما أعرفه عنه خلال تلك المدة الطويلة يغلفه الضباب والغموض.. كأنما قطع مجزوءة من الذاكرة لا تربطها ببعضها اية علاقة. لكن الشوق .. وآه من الشوق.. استطاع أن يتغلب على مرارة تلك الايام التي عاشها معنا.. فعاد بثروة متوسطة وزوجة شقراء!

ولماذا اشغلك معي بقصة أخي.. فلربما نسيها هو نفسه. أما أنا فلن أنساها ما حييت، فانني أكاد أرى حياتي تسير على خطاها! ولكن الى حين. فلن أسمح أن اصبح صورة عن أخي!

نهضت من مقعدي.. رحت أتجول في الغرفة التي كانت في الطابق العلوي من المنزل. وقفت أمام النافذة.. كل شيء في الخارج يبدو لي مثيرا للاشمئزاز والكآبة.. عدت أقف امام اللوحة المعلقة على الجدار من جديد وأتأمل فيها: المرأة وابنها والكلب الصغير.. كنت اتساءل في نفسي.. ما الذي خرج بهم في هذا الوقت، وقد انتشر الرداء الابيض في كل مكان!

لم أقبل بهذه اللحظة الانطباعية كما هي في اللوحة وحسب! بل رحت ارسم في ذاكرتي امتدادات شتى لها.. أتخيل نفسي أسير معهم الى المجهول. كنت أود من أعماقي أن أعرف الى اين يذهب هؤلاء الثلاثة المساكين! وأخيرا لم أدر كيف أقنعت نفسي أن هذه الام ذاهبة لزيارة ابنها الراقد في بقعة ما تحت التراب في اطراف القرية. لم تستطع أن تتركه وحيدا في هذا الشتاء القارس يعاني البرد والعزلة الابدية. أتستطيع أن تترك الثلوج تغيبه في احشائها فوقما فعل به التراب، بينما تنعم بدفء الموقد؟ شعرت بشيء من السرور وأنا اتوصل لهذه النهاية المرضية للوحة. تركتها وحاولت أن اشاغل نفسي عنها. عدت الى التفكير في متاعبي التي لا تنتهي، وحياتي التي استحالت جحيما لا يطاق. أخذت استعيد في ذاكرتي أحداث كل مرة أجد نفسي فيها خارج المنزل. وتذكرت أمي عندما كنت صغيرا. لم تمح اشراقتها من خيالي. تذكرت حبها الذي افتقدته. كانت تشعرني انني كل ما لها في هذه الدنيا. دمعت عيوني وانا اتذكر حنانها الاسطوري. هل يمكن ان تكون هناك أم مثل أمي؟ وما هي الا لحظات حتى كان المعطف يلف اكتافي والحذاء في قدمي! ونزلت الى الصالة بالاسفل. كان أخي جالسا بجانب التلفاز وبجانبه زوجته. اقتربت منه.. أخبرته انني خارج. قال متسائلا: الى أين؟ الى البيت؟ تمهل سأوصلك بسيارتي. همهمت بكلمات مخنوقة وأنا اسير نحو الباب. لا أعرف ان كان قد سمعها أحد غيري! وفتحت الباب وخرجت وأنا اصرخ في داخلي: يكفي .. يكفي .. وتلاشت خلفي نداءات أخي.
مرت سنوات غبت فيها عن الانظار. كنت متشردا هنا وهناك.. عانيت الكثير وكنت دائما أتذكر كلمات كنت قد قرأتها مرة في رواية عن العيش في بلاد تموت من البرد حيتانها! امتهنت الكثير لاعيش ولم أكن أفكر بغير يومي. فالمستقبل صار ترفا وشيئا من العبث التفكير به وأنا لا أجد مكانا أنام فيه. لا احب ان اتذكر تلك الايام وكل ما احبه هو رؤية تلك اللوحة التي لا اعرف اين صار مصيرها الان. ولكن لان قلبي أخيرا فأمسكت قلما وورقة بعد كل هذه الايام الطويلة. كنت أحس اصابعي عاجزة عن الكتابة وفكري كأنما تعطل.. لا أعرف ماذا أكتب.. واخيرا كتبت هذه الكلمات: " أخي العزيز هاني .. اطمئن انني بخير هنا في المانيا وقد وجدت عملا جيدا"!

الاثنين، فبراير 4

قلادة فريدة

قـلادة فريـدة
اياد نصار
انه فارس الشعر حين يذكر الشعراء، وحكميهم حين تذكر التجربة الانسانية التي تصقل الانسان وتجعل منه حكيما. كان وما زال مالىء الدنيا وشاغل الناس. لم يعرف التاريخ العربي شاعرا في حكمته وفهمه لدواخل النفس البشرية التي صاغها اشعارا صارت حديث الالسن وجرت مجرى الامثال. ولم يترك شاردة أو واردة في معرض الحكم التي تمثل قمة النضج الانساني والفهم العميق لنوازع الخير والشر وكل الهموم والالام والامال التي تصيب الانسان الا وأوردها في شعره. وأكثر ما يثير الاعجاب اعتداده بنفسه وشموخه وكبريائه، وحتى وهو في قمة غضبه فهو في قمة عطائه وتألقه ، ولم تزده محاولات حساده الا أنفة أمام من يكيدون له. كانت مطامحه وقوة عبارته وذكائه وقدرته على تأليف الشعر لا تقنع بما دون النجوم. في هذه القصيدة التي تعد من أبدع وأجمل ما قال أبو الطيب المتنبي شعرا، وتظل دائما من أروع ما كتبه الشعراء العرب قديما، فقد وضع المتنبي فيها كل فنه في اللغة والخيال وكل ضروب الشعر وانتقل فيها بشكل مؤثر من موضوع لاخر ما بين الذاتي والعام وما بين الاحساس بالظلم والجفاء وبين الاحساس بالعبقرية التي لا يهدأ لها بال. اكتسبت أغلب أبيات هذه القصيدة شهرة ذائعة لجمالها وبراعتها.

اخترت هذه القلادة الفريدة من نظم ابي الطيب المتنبي للتذوق والتأمل:

وَاحَرّ قَلْباهُ ممّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ
وَمَنْ بجِسْمي وَحالي عِندَهُ سَقَمُ

ما لي أُكَتِّمُ حُبّاً قَدْ بَرَى جَسَدي
وَتَدّعي حُبّ سَيفِ الدّوْلةِ الأُمَمُ
إنْ كَانَ يَجْمَعُنَا حُبٌّ لِغُرّتِهِ
فَلَيْتَ أنّا بِقَدْرِ الحُبّ نَقْتَسِمُ

قد زُرْتُهُ وَسُيُوفُ الهِنْدِ مُغْمَدَةٌ
وَقد نَظَرْتُ إلَيْهِ وَالسّيُوفُ دَمُ

فكانَ أحْسَنَ خَلقِ الله كُلّهِمِ
وَكانَ أحسنَ ما في الأحسَنِ الشّيَمُ

فَوْتُ العَدُوّ الذي يَمّمْتَهُ ظَفَرٌ
في طَيّهِ أسَفٌ في طَيّهِ نِعَمُ

قد نابَ عنكَ شديدُ الخوْفِ وَاصْطنعتْ
لَكَ المَهابَةُ ما لا تَصْنَعُ البُهَمُ

ألزَمْتَ نَفْسَكَ شَيْئاً لَيسَ يَلزَمُها
أنْ لا يُوارِيَهُمْ أرْضٌ وَلا عَلَمُ

أكُلّمَا رُمْتَ جَيْشاً فانْثَنَى هَرَباً
تَصَرّفَتْ بِكَ في آثَارِهِ الهِمَمُ

عَلَيْكَ هَزْمُهُمُ في كلّ مُعْتَرَكٍ
وَمَا عَلَيْكَ بهِمْ عارٌ إذا انهَزَمُوا

أمَا تَرَى ظَفَراً حُلْواً سِوَى ظَفَرٍ
تَصافَحَتْ فيهِ بِيضُ الهِنْدِ وَاللِّممُ

يا أعدَلَ النّاسِ إلاّ في مُعامَلَتي
فيكَ الخِصامُ وَأنتَ الخصْمُ وَالحكَمُ

أُعِيذُها نَظَراتٍ مِنْكَ صادِقَةً
أن تحسَبَ الشّحمَ فيمن شحمهُ وَرَمُ

وَمَا انْتِفَاعُ أخي الدّنْيَا بِنَاظِرِهِ
إذا اسْتَوَتْ عِنْدَهُ الأنْوارُ وَالظُّلَمُ

سَيعْلَمُ الجَمعُ ممّنْ ضَمّ مَجلِسُنا
بأنّني خَيرُ مَنْ تَسْعَى بهِ قَدَمُ

أنَا الذي نَظَرَ الأعْمَى إلى أدَبي
وَأسْمَعَتْ كَلِماتي مَنْ بهِ صَمَمُ

أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا
وَيَسْهَرُ الخَلْقُ جَرّاهَا وَيخْتَصِمُ

وَجاهِلٍ مَدّهُ في جَهْلِهِ ضَحِكي
حَتى أتَتْه يَدٌ فَرّاسَةٌ وَفَمُ

إذا رَأيْتَ نُيُوبَ اللّيْثِ بارِزَةً
فَلا تَظُنّنّ أنّ اللّيْثَ يَبْتَسِمُ

وَمُهْجَةٍ مُهْجَتي من هَمّ صَاحِبها
أدرَكْتُهَا بجَوَادٍ ظَهْرُه حَرَمُ

رِجلاهُ في الرّكضِ رِجلٌ وَاليدانِ يَدٌ
وَفِعْلُهُ مَا تُريدُ الكَفُّ وَالقَدَمُ

وَمُرْهَفٍ سرْتُ بينَ الجَحْفَلَينِ بهِ
حتى ضرَبْتُ وَمَوْجُ المَوْتِ يَلْتَطِمُ


الخَيْلُ وَاللّيْلُ وَالبَيْداءُ تَعرِفُني
وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَمُ

صَحِبْتُ في الفَلَواتِ الوَحشَ منفَرِداً
حتى تَعَجّبَ مني القُورُ وَالأكَمُ

يَا مَنْ يَعِزّ عَلَيْنَا أنْ نُفَارِقَهُمْ
وِجدانُنا كُلَّ شيءٍ بَعدَكمْ عَدَمُ

مَا كانَ أخلَقَنَا مِنكُمْ بتَكرِمَةٍ
لَوْ أنّ أمْرَكُمُ مِن أمرِنَا أمَمُ

إنْ كانَ سَرّكُمُ ما قالَ حاسِدُنَا
فَمَا لجُرْحٍ إذا أرْضاكُمُ ألَمُ

وَبَيْنَنَا لَوْ رَعَيْتُمْ ذاكَ مَعرِفَةٌ
إنّ المَعارِفَ في أهْلِ النُّهَى ذِمَمُ

كم تَطْلُبُونَ لَنَا عَيْباً فيُعجِزُكمْ
وَيَكْرَهُ الله ما تَأتُونَ وَالكَرَمُ

ما أبعدَ العَيبَ والنّقصانَ منْ شرَفي
أنَا الثّرَيّا وَذانِ الشّيبُ وَالهَرَمُ

لَيْتَ الغَمَامَ الذي عندي صَواعِقُهُ
يُزيلُهُنّ إلى مَنْ عِنْدَهُ الدِّيَمُ

أرَى النّوَى يَقتَضيني كلَّ مَرْحَلَةٍ
لا تَسْتَقِلّ بها الوَخّادَةُ الرُّسُمُ

لَئِنْ تَرَكْنَ ضُمَيراً عَنْ مَيامِنِنا
لَيَحْدُثَنّ لمَنْ وَدّعْتُهُمْ نَدَمُ

إذا تَرَحّلْتَ عن قَوْمٍ وَقَد قَدَرُوا
أنْ لا تُفارِقَهُمْ فالرّاحِلونَ هُمُ

شَرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بِهِ
وَشَرُّ ما يَكسِبُ الإنسانُ ما يَصِمُ

وَشَرُّ ما قَنّصَتْهُ رَاحَتي قَنَصٌ
شُهْبُ البُزاةِ سَواءٌ فيهِ والرَّخَمُ

بأيّ لَفْظٍ تَقُولُ الشّعْرَ زِعْنِفَةٌ
تَجُوزُ عِندَكَ لا عُرْبٌ وَلا عَجَمُ

هَذا عِتابُكَ إلاّ أنّهُ مِقَةٌ
قد ضُمّنَ الدُّرَّ إلاّ أنّهُ كَلِمُ

الأحد، فبراير 3

خبز وحشيش وقمر!


خبز وحشيش وقمر!

عندما نشر نزار قباني هذه القصيدة عام 1956 قامت الدنيا ولم تقعد. فقد طالب بعض السياسيين ورجال الدين بمصادرة الديوان الذي يضم القصيدة بين دفتيه وطالب بعضهم بفصل نزار من السلك الدبلوماسي الذي كان يعمل به، وطالب بعضهم بمحاكمته! فهل تغير حال المجتمع العربي كثيرا الذي صورته القصيدة من الاغراق في الغيبيات والتواكل والخمول والسير وراء الاساطير وانتظار معجزات السماء، وهل تغيرت قيم واتجاهات المواطن العربي بعد مرور نصف قرن على هذه القصيدة الناقدة. وهل التحول نحو الفعل اتخذ منحنى ايجابيا؟! أم كان الخمول الذي عابه نزار افضل ؟! عندما قرأت أنه تم استخدام فتاتين مختلتين عقليا لالباسهما أحزمة ناسفة تم تفجيرها عن بعد في وسط بغداد يوم أمس في الاول من فبراير 2008 مما أدى الى وقوع مذبحة مروعة في غاية البشاعة لأناس بسطاء في سوق شعبية للحيوانات الداجنة من قبل جماعات تدعي أنها تريد اقامة المجتمع المثالي في ظل دولة فاضلة تكون المثل الاعلى في التدين والعدل، فقد تذكرت نزار قباني وقصيدته خبز وحشيش وقمر!


عندما يُولدُ في الشرقِ القَمرْ
فالسطوحُ البيضُ تغفو...
تحتَ أكداسِ الزَّهرْ
يتركُ الناسُ الحوانيتَ.. ويمضونَ زُمرْ
لملاقاةِ القمرْ..
يحملونَ الخبزَ، والحاكي، إلى رأسِ الجبالْ
ومعدَّاتِ الخدرْ..
ويبيعونَ، ويشرونَ.. خيالْ
وصُورْ..
ويموتونَ إذا عاشَ القمرْ

ما الذي يفعلهُ قرصُ ضياءْ
ببلادي..
ببلادِ الأنبياء..
وبلادِ البسطاءْ..
ماضغي التبغِ، وتجَّارِ الخدرْ
ما الذي يفعلهُ فينا القمرْ؟
فنضيعُ الكبرياءْ
ونعيشُ لنستجدي السماءْ
ما الذي عندَ السماءْ
لكُسالى ضعفاءْ
يستحيلونَ إلى موتى..
إذا عاشَ القمرْ..
ويهزّونَ قبور الأولياءْ
علّها..
ترزقُهم رزّاً وأطفالاً..
قبورُ الأولياءْ..
ويمدّونَ السجاجيدَ الأنيقاتِ الطُررْ
يتسلّونَ بأفيونٍ..
نسمّيهِ قدرْ..
وقضاءْ..
في بلادي..
في بلادِ البسطاءْ..

أيُّ ضعفٍ وانحلالْ
يتولانا إذا الضوءُ تدفّقْ
فالسجاجيدُ، وآلاف السلالْ
وقداحُ الشاي.. والأطفال.. تحتلُّ التلالْ
في بلادي..
حيثُ يبكي الساذجونْ
ويعيشونَ على الضوءِ الذي لا يبصرونْ
في بلادي..
حيثُ يحيا الناسُ من دونِ عيونْ
حيثُ يبكي الساذجونْ
ويصلّونَ، ويزنونَ، ويحيونَ اتّكالْ
منذُ أن كانوا.. يعيشونَ اتّكالْ
وينادونَ الهلالْ:
" يا هلالْ..
أيها النبعُ الذي يمطرُ ماسْ
وحشيشاً.. ونُعاسْ
أيها الربُّ الرخاميُّ المعلّقْ
أيها الشيءُ الذي ليسَ يُصدَّقْ
دُمتَ للشرقِ.. لنا
عنقودَ ماسْ
للملايينِ التي قد عُطِّلت فيها الحواس "

في ليالي الشرقِ لمّا
يبلغُ البدرُ تمامهْ..
يتعرّى الشرقُ من كلِّ كرامهْ
ونضالِ..
فالملايينُ التي تركضُ من غيرِ نعالِ..
والتي تؤمنُ في أربعِ زوجاتٍ..
وفي يومِ القيامهْ..
الملايينُ التي لا تلتقي بالخبزِ.. إلا في الخيالِ
والتي تسكنُ في الليلِ بيوتاً من سعالِ..
أبداً.. ما عرفتْ شكلَ الدواءْ..
تتردّى..
جُثثاً تحتَ الضياءْ..

في بلادي..
حيثُ يبكي الساذجونْ
ويموتونَ بكاءْ
كلّما طالعهم وجهُ الهلالِ
ويزيدونَ بكاءْ
كلّما حرّكهم عودٌ ذليلٌ.. و"ليالي"..
ذلكَ الموتُ الذي ندعوهُ في الشرقِ..
"ليالي".. وغناءْ
في بلادي..
في بلادِ البُسطاءْ..

حيثُ نجترُّ التواشيحَ الطويلهْ..
ذلكَ السلُّ الذي يفتكُ بالشرقِ..
التواشيحُ الطويلهْ
شرقُنا المجترُّ.. تاريخاً.. وأحلاماً كسولهْ
وخُرافاتٍ خوالي..
شرقُنا، الباحثُ عن كلِّ بطولهْ

في (أبي زيدِ الهلالي)..

الجمعة، فبراير 1

الحب والمطر







الحب والمطـــر

ايـاد نصـار


أقول أحبك
أقول أحبك فليس يكفيني
حبك يطهرني من كل خوف
يحيني كمطر صيف


يا سوسنة
تسلقت حنايا فؤادي
أنت موتي وميلادي
أنت كعشق الناس
في بلادي
للارض وأوراق الزيتون
حبك روعة الدفء
في كانون


أحرقت كل سجائري
وملأت كل دفاتري
كتبت كل أشعاري
لأجل عينيك
اشتقت اليك


ملني تموز
انتظار ومطر وضباب
وشواطيء كئيبة من الغياب
وقلبي احترق شوقأ
وذاب


طيفك مطري ولذة شقائي
في كلماتك أستعذب الآمي
يبست أوراقي
صارت أيامي
شهورا وسنين


صوتك من خلف المسافات
فيه أمل وخلود
حين تضحكين
تفتح السماء ذراعيها
ويهطل الحب مطراً ورعود

بين يدي ملكة الكلمات


بيـــن يدي ملكـــــة الكلمــــــات
اياد نصار

صوتٌ خالدٌ ساحرٌ رقيقُ النبراتْ
هزَّ وجداني صداه
فشدني اليهِ عبرَ أثيرِ المسافاتْ
هو سحرٌ هو آمالٌ هو ابتساماتْ.

عشقتُ صوتَكِ القادمَ من أقصى الجهاتْ
يا امرأةً تأسرُ حباتِ الفؤادِ
عذوبةً ورقةً
فيكِ تتجلى أحلى وأنبلُ الصفاتْ.

ملئَتْ نسائمُ عطرِكِ الكونَ
انوثةً وملامحَ شرقيةً واشاراتْ.
سرحَ الفكرُ في روعةِ عالمِك البهيجِ
وعنّى ذكرُك القلبَ اشجاناً وتنهداتْ.

أناديكِ من وراءِ البحارِ
بينَ لهفةِ القلبِ وضجيجِ الذكرياتْ،
يا ملكةَ الفكرِ يا شفيفَ النغمِ
عبقتْ من بينِ شفتيكِ روحاً الكلماتْ.

منك اقتبستُ الازهارُ سحرَها وعبيرَها
يا سوسنةَ الفؤادِ والاحساسِ والعبراتْ.
كم جمعتنا احاديثُ الهوى والشجنْ
فرحنا نحلقُ في فضاءِ الروحِ والوطنْ
نتناجى أسراراً لنا ولغاتْ.

يا رقيقةَ الاحساسِ عشقتُ اللحنَ مَعَكْ
لن يعرفَ بشرٌ معنى الوصلِ
بين ارواحٍ هائماتْ
الا من كابدَ الشوقَ وعرف سرَ الحياةْ،
وكيف يمكنُ ان تجتمعَ المستحيلاتْ
بين انفسٍ مرهفةِ الحسِّ
وبرغمِ البعدِ
تتجددُ حلاوةُ اللقاءِ مراتٍ ومراتْ.

قالت وردةٌ حينَ تضحكُ
تشرقُ الدنيا وتأتلقُ القسماتْ
وحين تبكي فهي سحرُ الخريفِ
ما أجملَ حين تهطلُ من السماءِ قطراتْ

كلماتُكِ ديوانُ شعري
منكِ ولكِ اسكبُ فني
كم يتوقُ لرؤياكِ القلبُ شوقاً
فتضوع عطراً من ديواني العباراتْ

دائمُ الشوقِ والحنينِ لكِ يا حلمي الجميل
اخشى أن يهربَ الزمنُ وانا مَعَكِ
يا أجملَ امرأةٍ ليس مثلَُها بينَ النساءِ
علماً وفكراً وعظمةً كالملكاتْ.

فيكِ ارى ملكاتِ بعلبك وفينيقيا
وساحراتِ فيلادلفيا وعرائسَ المواكبِ
في صوتِك ألقُ "النبي" حين تتمردُ الارواحُ
وفي غنائِك تنسابُ للعودِ موسيقى ونغماتْ

كم تسائلنا عن السرِّ في هوانا
أهي الارواحُ التقت في سمانا؟
أم خفقتِ القلوبُ حنيناً واشتياقاً في دمانا؟
ام تناجتِ العقولُ انسجاماً وائتلافاً في رؤانا؟
أهو سحرُك أصابني يا سيدتي أم جمالُك ألهمني؟
أشرقتِ القصيدةُ فرحاً بك يا سيدةَ الشعر
وانطلق عبيرُ شذاك يملأُ الدنيا سحراً
بروعةِ الكلمات.