الجمعة، مارس 25

حفل توقيع وقراءات نقدية في مجموعة "قليل من الحظ"




     حفل توقيع وقراءات نقدية في مجموعة "قليل من الحظ"
                في المركز الثقافي العربي


يقيم المركز الثقافي العربي في مقره بجبل اللويبدة في عمّان في السابعة من مساء السبت الثاني من نيسان (إبريل) المقبل، حفل توقيع وقراءات في المجموعة القصصية الجديدة "قليل من الحظ" للقاص والناقد إياد نصار. ويُقدِّمُ كل من الناقدين حسين نشوان وسلطان الزغول قراءتين في المجموعة التي صدرت مؤخرا عن دار فضاءات للنشر والتوزيع. 
الدعوة عامة

 

قراءة في قصيدة الجمر - صحيفة الرأي

نصار يقرأ ثنائيات النار والنور عند (أبو صبيح)



عمان- الرأي- في ورقة بعنوان (قصيدة الجمر لجميل أبي صبيح: البحث عن الخلاص بين ثنائيات النار والنور)، قال الناقد إياد نصار إنّ عبارات أبي صبيح الشعرية تنساب لتنسج حكاية أو سرداً في موضوعها العام، وتتردد موسيقى بإيقاعها، وتتكدس فيها الصور والرموز والإشارات والتلميحات التاريخية المكثفة لتقدم نصاً غنياً يضع القارىء أمام عمل يمتاز بالنفس الطويل في تجسيد الأفكار المجردة في صور مركبة تجمع ما بين مكون حسي منحوت من البيئة الصحراوية وتابع شعوري.

وأضاف نصار، مساء أمس في رابطة الكتاب الأردنيين، إنه، وبالرغم من صغر حجم الديوان الذي يقع في حوالي السبعين صفحة، إلا أنه ينطوي على بناء فني ذي جماليات لغوية وشعرية تنم عن رؤية متأنية واعية أشبه ما تكون بعمل النحات المتأمل الصبور الذي يرى عالمه متجسداً في وعيه قبل أن ينحته في الحجر، مضيفاً أنه بناء يقوم على إبراز جماليات الصورة الشعرية وتوظيفاتها وإيقاعاتها الحركية وظلالها اللونية لتقديم رؤية فكرية تتناول ما يشغل تفكير الإنسان من معاني تجربة العيش والألم ومكابدة المعاناة داخلياً وخارجياً وانكسار الأحلام والوحدة والرغبة في قهر يباب البيئة المحيطة التي لا تورّث غير الاحتراق بلا طائل، والهروب من سطوة المكان الذي يقتل الروح الى الخلود الفني المتمثل في البحث عن الحرية في الإبداع والتسامي فوق إشكاليات اللغة المعاندة.

وقال إنّ قصيدة الجمر كتاب ينقل متلقيه إلى عالم دانتي في الجحيم، مستدركاً أنه جحيم أرضي منذ بدايته وحتى نهايته، ويمور بالعاطفة والأحاسيس، بل يؤكد سيطرة الشاعر على النص ووعيه بالفكرة التي يأخذها الى آماد أبعد من الاستكشاف.

وشرح نصار أنّ الديوان تسيطر عليه بحكم إقامة الشاعر لسنوات طويلة في الخليج وخصوصاً في قطر أجواء البيئة الصحراوية التي تستحضر صور النار والجمر والحمم والجراد والمضارب والخيام، ولم يتعجب نصار من أن تظل مفردة الجمر والنار تتردد كثيراً، مبيناً أنها بلغت، على سبيل المثال ما يزيد عن ثلاثين مرة في الجزء الأول ، في حين لم ترد صور الماء والبحر والثلج إلا نادراً، وغاب عنها صور الأشجار والأمطار.

وقال نصار إنّ الجزء الأول من «جمر الطريق» تغلب عليه الذاتية ويعنى بإبراز قسوة الحياة وسط الجحيم بمعناه المكاني والإنساني، ولذا تخلو من وجود البشر وخصوصاً المرأة أو مظاهر حياة الإنسان الأخرى، فكل ما حول المتكلم الذي تحترق يداه على المقود وسط حريق الطريق الطويل يستدعي في وعيه صور معاناته المختلفة. وتمثل نصار بالنص: (يقفز ملتهباً في الطريق/ الطريق الطويل الطويل الطويل.. الطريق المدى/ حممٌ من مضاربِ بدوٍ، خيامٌ من الجمر تُشْرِعُ/ أبوابَها تحت جمر الجراد الزّحوف/ في لظى البيدِ يوقدُ رمضاءَها ويَهلُّ رفوفاً تحطُّ عليها رفوف..).

وقال: (لئن كانت «جمر الطريق» تعبيراً عن معاناة العيش في حر الصحراء، إلا أنها ترمز إلى رحلة الإنسان في طريق الحياة حيث الجدب الذي يشير إليه الجراد، وحيث العذاب الذي يفوق الاحتمال الذي ترمز إليه النار)، مضيفاً أنّ هذا الإنسان الذي يحترق ليصنع الفن المتمثل في الشعر، تعلو من حواليه قصور، كأنما يتحول موته إلى حياة بالنسبة الى الآخرين.

وبيّن نصار أن أبا صبيح في الجزء المسمى «جمر الظل»، يبني مشهده على زاوية أوسع من الرؤية التي تخرج عن التجربة الذاتية الى مشهد يمور بكل صور الحياة والحركة والآخرين، مضيفاً أن الشاعر في هذا الجزء قدم تنويعاً على صور الحياة المختلفة، وخرج الى فضاء مجازي تأملي يتجاوز حدود الصحراء، فلم تعد مقتصرة على الإحساس الذاتي الداخلي بمعاناة العيش، بل رأينا- كما قال نصار- القصيدة تنحو الى تقديم رؤية كونية تعنى بكل تفاصيلها من قارات وجزر وشواطيء وبراكين وأنهار وبحار وأشجار وطيور وسماء ونجوم وليال وغيرها، مضيفاً أن الشاعر وظّف ثنائيات متضادة: كالظلال والضوء، النور والعتمة، الحياة والموت، النهار والليل، النار والثلج، الروح والجسد، مبيناً أنّ توظيفات معاني النار والجمر بقيت طاغية على النص. وقال إنّه رأى في هذا الجزء الظل يصبح رمز الخلاص المفقود الذي لا يجيب.

وقال إنه إذا كان الصوت في «جمر الطريق» يصف الأشياء ويعبر عن الحالات النفسية بضمير الغائب للدلالة على غياب الصوت الإنساني، فإن المتكلم في «جمر الظلال» يحكي بضمير المخاطب ويبدو أكثر إحساساً بالأمل، حيث يفتتح الجزء الثاني بمناداة الظل ليكون مانح الحياة في غابة الموت.

وتذكر نصار القصيدة المشهورة للشاعر روبرت فروست الذي توفي في العام 1963 بعنوان «النار والجليد»، مبيناً أنه بالرغم من قصر تلك القصيدة التي تتكون من تسعة أبيات، إلا أنها طرحت قضية مصير الإنسان والكون ضمن إطار فلسفي يستند الى تصورات دينية.

وقارب نصار بين القصيدتين، واجداً في قصيدة فروست ما في قصيدة أبي صبيح من الثنائيات المتضادة للرغبة والكراهية والنار والجليد والحياة والدمار، مضيفاً: لكننا نرى توظيف قصة الطوفان التي تقول إن الله دمر الأرض في المرة الأولى بالماء خلال الطوفان، ولكنه في الوقت ذاته أحيا فيها الإنسان، وكما فعل أبو صبيح في الجزء الأخير من الديوان، فقد استوحى فروست فكرة الحياة من قلب الموت، والثلج وسط الحريق من الجزء المسمى الجحيم في ملحمة الكوميديا الإلهية لدانتي، حيث يبقى أكثر الخاطئين وهم الخائنون في قوالب من الجليد حتى أذقانهم وهم وسط جهنم. وقال نصار: مثلما ربط فروست نهاية الكون ونهاية الحياة بالنار، عبّر أبو صبيح عن تخوف مماثل، فالنار رمز الفناء والتلاشي وفقدان الوجود والألم والاحتراق، إلا أنها التجسيد المتقد العنيف للرغبة الخفية، إنها قوة التدمير والفناء والجدب، وهي رمز العاطفة والانتشاء. وتوخى نصار من ذلك رسم تشابه بين نهاية الحياة بالماء كما أرادها فروست عند سكون العاطفة لتكون مانحة الحياة مرة أخرى، ورغبة أبي صبيح في أن يمنحنا الظلُّ بعضَ الخلاص.

وقال: في ظل هذه الصور يبدو أهل الخليج بلا هوية سوى البياض الذي هو لون ثيابهم، لكنهم خارج الفعل والتاريخ مثل صخور كلسية ويرحلون الى شواطيء مختفية على سفن نخرات كما يصفها والنار تزحف الى عالمهم تريد تدميره من أول الماء حتى آخره. برغم هذه الصور المشحونة بالعاطفة والحرقة، إلا أنها لا تحمل أية مشاعر سلبية أو ضغائن حين يعد نفسه واحدا منهم لكنه يحمل همومهم ويسعى أن يدافع عنهم ، كأنما يرجو أن يصير صقراً ينفض عنهم غبار الزمن.

وشرح نصار أنّ الشاعر يوظف في القصيدة تقنيات مختلفة تتنوّع ما بين الوصف والمناجاة والتساؤل، وتعكس نبرة متقلّبة بين الإحساس بالتحدي والانكسار والعبثية، وتنطوي على تلميحات وتأملات فلسفية تتناول معنى الحياة والشعور بالخواء والوحدة.

وقال إنّ شعر أبي صبيح يعتمد أكثر ما يكون على الخيال في تكوين صور شعرية تقوم على توظيف الغرائبية والفنتازيا والسريالية وإقامة علاقات غير مألوفة بين الدلالات، ومجاورة ما لا يتجاور في الواقع، وتصبح المشاهد الغرائبية المستمدة من البيئة الخارجية مجرد انعكاس للعالم الباطني، وهو لا يكتفي بتكوين تشكيلات بصرية سريالية منفردة بل تتكدس الصور حتى تصبح القصيدة مثل لوحات فنية متتالية تنم عن رغبته اللامتناهية في توظيف قدرة المخيلة على الابتكار.

وأضاف نصار إنّ الجزء الثالث المسمى «جمر الشمس» يفتتح وعلى خلاف الجزئين السابقين بتقديم رؤيا وتنبؤات مهّد لها بأمنيات ورغائب في نهاية الجزء الثاني، وهنا نرى تحولاً بارزاً في التحول من الصور المحسوسة التي تعكس حالات العالم النفسي الداخلي الى مستوى تجريدي يقوم على توظيف صور معنوية غير محسوسة. وقال نصار إن الشاعر في هذا الجزء يبحث عن الخلاص في كلماته وعن حريته في الشعر الذي يستطيع إعادة بناء العالم المنهار ما يمنح الإنسان حريته، وأضاف نصار: يبحث الشاعر عن الأمل فيدرك أنه ليس سوى في نبض حروفه التي تستطيع أن تجعل البحر جليدا وأمواجه غابة كريستال. وهكذا يشرع في بناء ما يسميه مملكته من النور والكريستال.

وقال نصار: يقدم الجزء الأخير رؤية خلاص الإنسان على هيئة ثنائية تتمثل في الشمس والشعر، الشمس منبع النور والضياء تمطر بأنوارها كل جمر يأتي به الأفق، وتمحو من النار عنصرها ومن الجمر جمرته، وأما الشعر فيمحو قلق الكلمات ويتسامى بالإنسان كأنما يصعد الى السماء نحو الحرية والنور. وما يلفت الانتباه كما قال نصار أن خاتمة الديوان تفيض بلغة شعرية إيقاعية تتجسد في مناجاة صوفية تستلهم إشارات تراثية.

وكانت الورقة دللت بنصوص شعرية حلل فيها نصار أسلوباً ولغة وظلالاً أرادها الشاعر أبو صبيح الذي تمتد مسيرته مع الشعر عبر ما يزيد عن ثلاثين عاماً احترمها نصار وقال إن الشاعر قدّم خلالها تسعة دواوين وعدداً كبيراً من اللقاءات والأمسيات والندوات الشعرية، رافقها حضور تجلى في الحوارات الصحفية التي تلقي الضوء على تجربته الشعرية، وفي عدد من الدراسات والتأملات النقدية حول منجزه الإبداعي من قبل عدد من الأقلام في الأردن والعالم العربي في الصحف والمجلات الثقافية العربية.

رابط الموضوع

رابط الصفحة الكاملة







قراءة في قصيدة الجمر

نصار: عبارة أبو صبيح الشعرية تنساب لتنسج حكاية في موضوعها العام





أمسية ناقشت "قصيدة الجمر" في رابطة الكتاب الأردنيين

عمان - قال القاص والناقد إياد نصار إن مسيرة الشاعر جميل أبو صبيح مع الشعر طويلة وغنية "عبر ما يزيد عن 30 عاما قدّم خلالها 9 دواوين رافقها عدد من الدراسات والتأملات النقدية حول منجزه الإبداعي محليا وعربيا في الصحف والمجلات الثقافية".

واستعرض في الأمسية التي نظمتها رابطة الكتاب الأردنيين أول من أمس، بدايات أبو صبيح التي كانت مع ديوان "الخيل" العام 1980، ثم "البحر" العام 1983، ثم الديوانان الثالث والرابع "تماثلات" و"الهجرات" في العامين 1986 و1989 وفي السنة التالية صدر كتابُه "الأمطار" وفي العام 1999 صدر ديوانُه "أشجار النار". وفي العام 2004 صدر ديوانُه التاسع المسمى "قصيدةُ الجمر" ضمن اصدارات وزارة الثقافة".

وأضاف أنَّ الشاعر "على خلاف عناوين دواوينه التي تتكونُ من كلمة أو كلمتين، فإن عبارتَه الشعرية تنسابُ لتنسج حكاية أو سرداً في موضوعها العام، وتترددُ موسيقى بايقاعها.

وسلط الضوء على ديوان "قصيدة الجمر " الذي رآه "ينطوي على بناء فني ذي جماليات لغوية وشعرية تنم عن رؤية متأنية واعية أشبه ما تكونُ بعمل النحات المتأمل الصبور الذي يرى عالمَه متجسداً في وعيه قبل أن ينحتَه في الحجر، وهو بناء يقوم على التوظيف المكثف للصورة الشعرية وايقاعاتها الحركية وظلالها اللونية".

واعتبر نصار الاستهلال في الديوان مفتاحاً لفهمه، الذي ينطوي على أمرين: الأول هو الجو العام للقصيدة بأجزائها الثلاثة حيث لا شيء يلوح في الافق سوى أمواجِ طوفان، لكنه طوفانٌ ليس فيه سوى نيران ودخان، ويعبّرُ عن الخراب الذي أتى على كل شيء حتى كادَ أن يفتكَ بالانسان.

والأمرُ الثاني هو الاشارة الى عالم ابو صبيح الشعري في هذا الديوان الذي سنتعرف عليه لاحقاً ويتشكل من فسيفساء تصنع ُلوحات كونية تستند الى كل عناصر الطبيعة وخصوصاً الجمر والنار ورموزهما في الشعر".

ولفت الى أنه "تسيطرُ على القصيدة بحكم اقامة الشاعر لسنوات طويلة في الخليج وخصوصاً في قطر أجواءُ البيئةِ الصحراوية التي تستحضرُ صور النار والجمر والحمم والجراد والمضارب والخيام".

ولا يستغرب نصار أن تظلَ مفردةُ الجمر أو النار "تتردد حيث بلغت ما يزيد عن ثلاثين مرة في الجزء الاول، في حين لم ترد صور الماء والبحر والثلج الا نادرا، وغاب عنها صور الاشجار والامطار، ويغلب على جملته استخدام الفعل المضارع الآني كأنما تحدثُ الاشياء أمامَنا لأول مرة الآن، ونرى صورَها المتلاحقةَ المتتابعةَ، كأنما نعيشُ التجربةَ ونحس بها كما أحس بها وتركت اثراً عميقا لا يُمحى من وعيه".

وتطرقَ إلى الجزء المسمى "جمر الظل" حيث يبني الشاعرُ مشهدَه على زاويةٍ أوسعَ من الرؤية التي تخرجُ عن التجربة الذاتية الى مشهد يمورُ بكل صور الحياة والحركة والاخرين"، لافتا إلى أنَّ الشاعر في هذا الجزء قدم "تنويعاً على صور الحياة المختلفة، وخرجَ الى فضاء مجازي تأملي يتجاوز حدود الصحراء، فلم تعدْ مقتصرةً على الاحساس الذاتي الداخلي بمعاناة العيش، بل نرى القصيدة تنحو الى تقديم رؤية كونية تُعنى بكل تفاصيلها".

وبين نصار في ورقته "البحث عن الخلاص بين ثنائيات النار والنور"، أنَّهُ اذا كان الصوت في "جمر الطريق" "يصف الاشياء ويعبر عن الحالات النفسية بضمير الغائب للدلالة على غياب الصوت الانساني، فإن المتكلمَ في "جمر الظلال" يحكي بضمير المخاطب ويبدو أكثر احساساً بالأمل حيث يفتتح الجزءُ الثاني بمناداة الظل ليكونَ مانحَ الحياة في غابة الموت".

واستذكر قصيدةَ للشاعر الأميركي روبرت فروست الذي توفي في العام 1963 بعنوان "النار والجليد"، مبينا أنَّهُ رغم قصر تلك القصيدة التي تتكون من تسعة أبيات، إلا أنها طرحتْ قضيةَ مصير الانسان والكون ضمن إطارٍ فلسفي يستندُ الى تصورات دينية".

وبين أن ابو صبيح يوظف في القصيدة ذات التفعيلة "تقنيات مختلفة تتنوّع ما بين الوصف والمناجاة والتساؤل وتعكس نبرة متقلّبة بين الاحساس بالتحدي والانكسار والعبثية"، مؤكدا أنها تنطوي على تلميحات وتأملات فلسفية تتناول معنى الحياة والشعور بالخواء والوحدة.

وفي ديوانه السابق "أشجار النار"، اعتبرَ أبو صبيح ان الشاعر عاد في إلى "أحدِ أساليبه المعروفة وهو تكرار استخدام الكلمات أو الجمل ذاتها أحياناً بشكل متتابع في المقطع نفسه أو تظل تتردد في نهايات المقاطع الشعرية ما يعطي توكيداً للفكرة ويلفت انتباه القارئ الى بناء الشكل العام للقصيدة".

وبين أن شعر ابو صبيح على تقديم صور شعرية تقوم على توظيف الغرائبية والفنتازيا والسوريالية وإقامة علاقات غير مألوفة بين الدلالات، ومجاورة ما لا يتجاور في الواقع، وتصبحُ المشاهد الغرائبية المستمدة من البيئة الخارجية مجرد انعكاس للعالم الباطني، وهو لا يكتفي بتكوين تشكيلات بصرية سوريالية منفردة بل تتكدس الصور حتى تصبح القصيدة مثل لوحات فنية متتالية تنم عن رغبته اللامتناهية في توظيف قدرة المخيلة على الابتكار:

مدارس غاباتُ نارٍ تفحُّ عصافيرَ جمرٍ طليقة
عصافيرُ تفترسُ الصحوَ حتى تقيء وتهوي الى حُفَرِ النار
تخضرُّ في عتمة الضوْء.

وختم نصار "تنتهي "جمرُ الظل" بأمنيات ورغائبَ تبدو مستحيلةً كأنما تريد أنسنةَ النار وتحويلَ جمرِها لتصير أقحواناً. توحي الامنيات بأنها تؤسس لرؤية شعرية تستشرف المجهول وتحلم بعالم آخر غير هذا الذي قدمته حيث النارُ تصير سلاماً".

رابط الموضوع بصحيفة الغد الأردنية
 
رابط الصفحة الكاملة
 
 

أنقذوا "أفكار"

إياد نصار



* نشرت في صحيفة الدستور بتاريخ 23/3/2011
 
أوجه ندائي لدولة رئيس الوزراء ومعالي وزير الثقافة لانقاذ رمز وطني ثقافي عريق اسمه مجلة "أفكار". ارتبطت "أفكار" في ذهني منذ أن تفتحت عيناي على الدنيا ووجدتني طالباً على مقاعد الدرس بنصوص من القصة القصيرة والشعر في الاردن ومضامينها الانسانية ، وجمالياتها اللغوية والاسلوبية ، وكنت أحس بعلاقة حميمة تربطني بها ، واحتفظ بها بين كتبي كمن يخشى على شيء عزيز عليه من الضياع ، فأحببتها وترسخت لها في وجداني مكانة خاصة بوصفها رسالة تحمل الابداع في الاردن. ارتبطت "أفكار" في ذهني ، وأظنها كذلك في أذهان الكثيرين من القراء والمثقفين ، باسماء مبدعينا الرواد الكبار الذين تذوقنا ، وكنا ما نزال نتلمس طريقنا في عالم الكتابة والابداع ، روعة فكرهم وفتنة قصائدهم وبراعة قصصهم ، التي تحمل هموم الفقراء والمتعبين والباحثين عن الحرية في الكلمة ، في وقت كانت كتاباتهم هي الفضاء الوحيد المتاح أمامهم يبثون من خلالها همومهم الحياتية وانشغالاتهم الفكرية ومواقفهم الوطنية. ارتبطت "أفكار" في ذهني بشيء جميل حينما اكتشفت معنى أن يصبح الكتاب رفيقك ، والقلم صوتك ، والكلمة هي الريشة التي ترسم بها حلمك. لقد ارتبطت "أفكار" دائماً بمراحل تطور الابداع في الاردن ، ولعبت دوراً فاعلاً في تقديم ثقافة حداثية تنويرية. ارتبطت "أفكار" دائما بكونها شاهداً على ازدهار الابداع في الاردن ، ورافعاً من روافع الحركة الأدبية. لكن أخشى أن ذلك يوشك أن يصير الان تاريخاً.


أين هي مجلة "أفكار" الان؟ هل رآها أحد منكم منذ فترة؟ أتحدى أن يجدها أي منكم في أية مكتبة تبيع المجلات والكتب ، أو أية وكالة لتوزيع الصحف والمجلات ، أو أن يجدها حتى لدى الاكشاك أو باعة الارصفة. يكاد هذا الرمز الثقافي الاردني الجميل الذي صمد ما يزيد عن خمسة وأربعين عاماً أن يضيع أو يصبح مجرد ذكرى. المجلة شبه غائبة أو مغيّبة.


هل يعقل أن "أفكار" بعد كل هذه السنوات الطويلة من مسيرتها ، وبدلاً من أن تصبح رسالة الاردن الثقافية الى العالم العربي ، لا تطبع سوى ألف نسخة توضع في أدراج وزارة الثقافة لكي يتم توزيعها على الكتاب المشاركين فيها وعلى أفراد وجهات ومؤسسات ثقافية وأكاديمية مختلفة؟ وأغلب من ترسل اليهم المجلة لا ينتظرونها ، فإن وصلت فلا بأس ، وان غابت فلا يدري بها أحد. تخيلوا الف نسخة فقط ، ومع ذلك لا توزع كلها ، بل يبقى فائض منها لدى الوزارة بسبب غياب التوزيع المؤسسي التسويقي الحقيقي. المجلة لا تصل الى القارىء الاردني العادي نهائياً ، وربما قلة قليلة تتابع صدور العدد من غير كتّابه بسبب عدم وجود المجلة في المكتبات ومنافذ بيع المجلات ، واذا كانت المجلة مفقودة من السوق الاردني فهي غائبة بالضرورة عن القارىء العربي أيضاً ، اللهم بعض الجامعات العربية التي تصلها نسخة واحدة بفضل جهود محرريها. وحتى النسخ التي تطبع ويوزع جزء منها ، فإن ذلك يتم بجهود هيئة التحرير الشخصية واتصالاتهم وحتى باستخدام سياراتهم.


لقد شاركت في أواخر الشهر الفائت في ورشة للنقاش حول سبل تطوير "أفكار" بمبادرة من هيئة تحريرها ، وحضرها نخبة معروفة من المبدعين والكتاب والاكاديميين والعاملين في الصحافة الثقافية بحضور عطوفة الامين العام للوزارة ، الذي كان مهتماً بالاستماع الى اقتراحات للنهوض بها. وهي مبادرة يسجل لها الشكر ، وتدل على الرغبة في العمل والتطوير والتواصل مع جمهور الكتاب والمتابعين للشأن الثقافي. وقيلت في الورشة أفكار كثيرة تعبر عن الامال الكبيرة في أن تصبح "أفكار" في مكانة أفضل تليق بتاريخها. ولكن الورشة وضعتنا أمام حقائق إدارية ومالية مذهلة أخشى إن استمرت أن تؤدي الى موت هذه المجلة العزيزة.


ورغم أنه يتوفر لأفكار حالياً هيئة تحريرية جادة في التطوير والتحديث ، ولديها الخبرات الكافية ، والمجلة ما تزال تحظى باهتمام وثقة كثير من الكتاب والمبدعين الاردنيين وبعض العرب الذين يرفدونها بكتاباتهم وابداعاتهم ، ورغم ما سمعناه عن نقص في المواد الثقافية التي تصلها ، إلا أن ذلك ما هو الا نتيجة الخلل المالي والاداري والتسويقي الذي تعاني منه المجلة.


لقد تراجعت الميزانية المرصودة لوزارة الثقافة كثيرا عما كانت عليه من قبل ، وتراجعت المخصصات المتوفرة لكثير من مشاريع الوزارة ، ولكن أفكار ليست مجرد مجلة ، بل جزء من مشروع ثقافي وطني ، يهمنا نجاحه. إن التفكير بتطويرها ضمن ما هو متاح حالياً من موارد وميزانية جهد ضائع لن يغير في الصورة كثيراً. المجلة بحاجة الى رعاية سخية واستقلالية مؤسسية تتجاوز الكثير من المعيقات المالية والادارية. المجلة بحاجة الى قرارات كبيرة إذا أردنا أن تظل أفكار جزءا من الحالة الثقافية في الاردن. تحظى المجلات العربية الثقافية العريقة بدعم حكومي حريص على استمراريتها كأنها رموز وطنية ، يتمثل في تقديم مخصصات مالية في سبيل تطوير امكانياتها ، وتوفير كادر تحريري متخصص ضمن استقلالية ادارية واضحة وامكانيات طباعية وفنية واخراجية عالية ومبان وامكانيات كبيرة للتوزيع واستقطاب الاقلام والمكافآت وإقامة النشاطات والفعاليات ودعم الابحاث والاستطلاعات والمتابعات الميدانية وغيرها. هناك الكثير من الافكار الجميلة التي طرحت في الورشة ، وتتناول تطوير الشكل والمضمون ، وهناك الكثير من الاحتياجات التي تم تحديدها ، وهناك بعض التصورات الواضحة التي تعبر عن رؤية استراتيجية لتطوير أفكار ، ولكن ستظل هذه الافكار والمشاريع حبراً على ورق دون رعاية حقيقية وغير عادية لمجلة أفكار.


أعتقد أنه لا بد من تشكيل لجنة عليا لكي تتولى ومن ناحية استراتيجية وضع الخطط الادارية والمالية والتصورات التي تحرص على الاستقلالية المؤسسية التي تتيح للمجلة حرية العمل ووضع الخطط موضع التنفيذ ، وبما يؤمن لها قدرة أكبر على الحركة والتغيير والتطوير ومواكبة التطورات وتوظيف الامكانيات الطباعية والرقمية الحديثة. أرجو أن تصبح أفكار مجلة الاردن الاولى التي تجدها في كل ركن مثلما تجد مجلة أخرى كالعربي ، وأن يحرص الناس من تلقاء أنفسهم على اقتنائها ، وأن تلعب دورا كبيرا في نشر الوعي والثقافة بين قطاعات المثقفين والطلبة والاكاديميين والمتخصصين والمبدعين والنخب في ميادين الثقافة والفنون ، وأن تصبح ذات حضور معروف على صعيد المنطقة العربية ، وبالتالي تنتقل من كونها مجلة ثقافية أردنية الى مجلة ثقافية عربية كبيرة تعزز حضور أدباء الاردن ومبدعيه ومثقفيه في الساحة العربية.


إن النظرة الادارية التقليدية التي تتذرع بغياب الامكانيات المالية والعجز وعدم مرونة الانظمة والتشريعات والقوانين التي تحكم عمل مؤسسات الدولة ووزاراتها المختلفة لن تقدر على تطوير المجلة الى المكانة المأمولة. المسألة بحاجة الى نظرة شمولية تخرج عن منهج التفكير في داخل الصندوق الى اجتراح قرارات جذرية تؤمن بأهمية الثقافة في بناء الوطن والانسان بحيث لا يبقى حظ الثقافة في آخر سلم الاولويات. ولهذا أتمنى أن تحظى أفكار برعاية خاصة في إطار نظرة جادة تسعى الى جعلها مشروعاً أردنياً الى العالم العربي لنشر الابداع والتنوير.

رابط الموضوع بصحيفة الدستور

رابط الصفحة الكاملة (انتظر قليلاً ريثما يتم تحميل الصفحة)



الجمعة، مارس 11

خليل قنديل.. كتابة نبض الشارع



خليل قنديل..كتابة نبض الشارع

اياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الرأي ليوم الجمعة 4/3/2011

يطل خليل قنديل على قرائه كل يوم ليكتب السهل الممتنع في قضايا ثقافية واجتماعية وإنسانية واسعة الطيف، بلغة تنطوي على درجات من التصريح والتضمين ومستويات التحليل المختلفة، بحيث تبدو ظاهرياً أقرب إلى لغة القارئ العادي، وليس القاص ذي العبارة الرشيقة الذي عرفناه أو الأديب المتخصص في اختيار كلماته من معجم أحاديث الإنتلجنسيا.


وتتراوح إضاءاته ما بين مشكلات التخلف، والتنمية، وهبوط الذوق الفني، وهيمنة مفاهيم الصمت، والعلاقات النفعية، والمماحكات، وتسطيح القضايا، وتزييف الوعي، وانتشار ظواهر التسلق، والمجاملة في الأوساط الأدبية، التي تنحدر بمستوى الإبداع، وتحيل الفعاليات الأدبية إلى مناسبات احتفالية كرنفالية دون إضافة قيمة تسهم في نهضة إبداعية حقيقية.

قنديل قريب من نبض الشارع، ويكتب من عمق معاناة الناس التي يشعر بها، ويكتوي بمظاهرها التي يقتنص منها دائما موضوعات لكتاباته اليومية. ولكن ما يستحق الإشادة أن قنديل قاص مخضرم ومخلص لفن القصة منذ ما يزيد على ربع قرن. قليلون هم من لم تغوهم الرواية في هذا العصر رغم جوائزها الكثيرة، ورغم الاحتفاء "الأسطوري" الذي يلقاه الروائيون أحيانا، وأجد لزاماً هنا أن أشيد في هذا المقام بقلعة القصة الأردنية الأخرى التي بقيت صامدة في وجه رياح الرواية، يوسف ضمرة، الذي يطل علينا بين حين وآخر، بإرادته القوية، ونفسه المرهفة، وعطائه الموصول، ليقدم إبداعه ونظراته النقدية العميقة، والتفاتاته اللغوية الجمالية.

يمتاز أدب خليل قنديل بأنه أدب الحياة الشعبية بكل واقعية صرفة ينقل تفاصيلها وأمكنتها ونماذج شخصياتها وموروثاتها وأساطيرها ومقولاتها وتصوراتها وخرافاتها. وتقدم قصصه القصيرة صورا بالغة الدقة من نمط معيشة الناس ومعاناتهم وهواجسهم ورغباتهم وأوجاعهم وأسلوب تفكيرهم. تمور قصصه بالحركة والصوت والروائح ويركز على الوصف الذي ينقل تأثير العالم الخارجي على الإنسان ليكون البديل الذي يرسم المعاناة النفسية الداخلية.

شخصياته القصصية من النوع الذي تراه كل يوم في الشوارع والأزقة والأحياء الشعبية وبيوتها القديمة التي تبدو مألوفة، لكن قصصها اليومية المكرورة تتلمس بشكل مكثف أوجاع الفقراء والمهمشين وتأثير المكان فيهم.

وصف الناقد فخري صالح أسلوبه بقوله: "تغلب على قصص خليل قنديل الواقعية الخشنة والوصف التفصيلي الدقيق لمشاعر شخصياتها ومونولوجاتها، كما إن القاص، في سياقات أخرى، يعيد سرد الحادثة الواقعية في إطار العجيب والغريب والسوريالي والاقتراب من روح الطبيعة العاصفة المدمرة، ما يذكّر بالقصة والرواية القوطيتين ممثلتين بكتابات أبي القصة الأميركية، وربما في العالم كلّه، إدغار ألن بو".

احتفت الأوساط الأدبية في الأردن بصدور مجموعة قنديل الأخيرة "سيدة الاعشاب"، حيث رأت فيها تجسيدا فنياً يرصد تفاصيل العلاقة الدقيقة بين ثلاثية المكان والإنسان -خصوصاً المرأة- والميثولوجيا الشعبية.

إنها قصص تشبه حكايات الكبار التي كنا نسمعها في طفولتنا بقدرتها على توظيف عنصرَي التشويق والنهايات بما يوثق الفلكلور والأدب الشفاهي الشعبي حول قضايا الحياة اليومية التي تجمع ما بين الخرافة والأسطورة والحلم. يقول في ذلك: "عليّ أن أعترف أنني مدين لسلالة من الأجداد والأعمام لهم رشاقة نادرة في اصطياد المفارقة وتوظيفها في بدهية السرد الشفاهي.. ومن تلك الذاكرة الشفاهية، حصلت على بداهتي التي تميزني بين الأصدقاء، وربما كتابياً".

اهتم قنديل في مجموعاته القصصية جميعها بمادة الحياة اليومية والتفاصيل الصغيرة للناس في الأسواق والشوارع والأدراج والأزقة. وهو يعتمد في عمله القصصي على الملاحظة الدقيقة لحركة هؤلاء الأفراد. وبرأيه فإن "القاص الذي لا يمتلك العين الصقرية القادرة على التقاط أدق التفاصيل، والعلاقة الفانتازية ما بين التفاصيل، فاشلٌ بامتياز". ولهذا يشعر أن هذا المنجم ما يزال بكرا يحتاج إلى استكشافه: "لي العديد من القصص والحكايا مع شوارع لم أكتبها، وقصص أخرى لساحات عامة وأسواق، وربما أشجار، وصباحات جميلة أبقيتها حبيسة فِـيّ لأنها لي أنا".

لذلك تميز قنديل في "سيدة الأعشاب" كعادته في التقاط التفاصيل الدقيقة وتوظيف المقولات والأساطير الشعبية في إعادة الحياة لجوانب صغيرة في حياتنا التي كثيرا ما نمر عنها فلا تستوقفنا، لكنها تستوقف عين القاص الدقيقة. ورغم قلة كتاباته القصصية وانشغالاته الصحفية والحياتية، إلا أنه ما يزال منحازاً لصف القصة.

مما يجدر ذكره أن قنديل، الذي عُرف عنه روح النكتة والدعابة والفطنة وطبيعته الاجتماعية الساخرة أحياناً والتي تضيق ذرعاً بالرسميات في اللقاءات الطويلة التي لا يحتملها، بدأ مشواره القصصي العام 1983 مع "وشم الحذاء الثقيل"، الذي صدر عن رابطة الكتاب الاردنيين، ثم مجموعة "الصمت" عن اتحاد كتاب وأدباء الامارات العام 1991، ثم "حالات النهار" العام 1995، وفي العام 2002 أصدر مجموعته الرابعة "عين تموز".

وقد احتفت رابطة الكتاب الأردنيين في العام 2006 بصدور أعماله القصصية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، متضمنة مجموعاته الأربع السابقة، والتي كتب قصصها على مدار ربع قرن من الزمان، وذلك بإقامة حفل توقيع للكتاب وأمسية تحدث فيها روائيون ونقاد حول مضمون أعماله وتجربته القصصية. وفي العام 2009 نال درع أمانة عمان بمناسبة صدور مجموعته القصصية الأخيرة "سيدة الأعشاب" في العام 2008 والتي صدرت عن وزارة الثقافة ضمن مشروع التفرغ الإبداعي، وقد أقيم لكتابه حفل توقيع في بيت تايكي حضره وزير الثقافة الذي ألقى كلمة أشاد فيها كثيراً بالقاص خليل قنديل. كما تحدث فيه أدباء عن تجربته الإبداعية.

قنديل، الذي وُلد في إربد العام 1953، واسمه الحقيقي خليل محمد العبسي، صاحب مشوار طويل مع الأدب والصحافة، فقد عمل لسنوات طويلة سكرتيراً لاتحاد كتاب وأدباء الإمارات العربية المتحدة. كما عمل في الصحافة منذ ثمانينات القرن العشرين، وما يزال يعمل في صحيفة "الدستور".

ينتظر القراء من قنديل، مزيدا من الإبداع القصصي الجميل، والعطاء الصحفي البارع الذي يقتنص الجوهر بوعي قنديل المغرم بالبحث عن حكمة العيش وخلاصة التجربة الكامنة في ثنايا مواقف الحياة، التي قد نمر عليها مرور الكرام، لكن قنديل يقدمها في كلمات ذات إضاءت فلسفية واجتماعية تحمل الهم والرغبة في التغيير المجتمعي الإيجابي.

رابط المقالة بجريدة الرأي

رابط الصفحة الكاملة بجريدة الرأي



الثلاثاء، مارس 1

نساء العتبات بين اشكاليات النقد السياسي والبناء الروائي


 


"نساء العتبات" للروائية العراقية هدية حسين
بين اشكاليات النقد السياسي والبناء الروائي

إياد نصار

* نشرت في جريدة النهار اللبنانية يوم الثلاثاء 1/3/2011

بعد عدد من الروايات والمجموعات القصصية التي امتدت بين عامي 1993 و2010 تأتي رواية "نساء العتبات" للروائية والقاصة العراقية هدية حسين في سياق مهم، ليس على صعيد طرح قضايا المرأة وحسب، ولكن ضمن معالجتها بمنظور تحليلي لجملة من المشكلات الانسانية والاجتماعية والسياسية التي تورّثها الديكتاتورية أولاً، وثانياً باعتبارها شهادة توثيقية تمتليء بصور الحزن والموت والخراب، وتؤرخ لمرحلة حاسمة من تاريخ العراق المعاصر، وتطرح في ثناياها عواقب الاستبداد السياسي وويلات الحروب، التي تدمر النسيج الاجتماعي، وتفتك بالبشر، وتهدم الاحلام، وتضع الناس في تقويم الزمن الخطأ، ليدفعوا الثمن من حياتهم ومستقبلهم، وتفتح الباب على عذاب الهجرة والنفي والغربة. تلخص الرواية رغم صفحاتها القليلة - 210 صفحات من القطع الصغير- مأساة العراق "بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة.. الحروب، الخوف، عسكرة الحياة، رعب الموتى على ذويهم، سوق الرجال الى جبهات القتال، وموتهم أو عودتهم معوقين، أو فقدانهم". واذا كان من خصوصية للرواية فهي انشغالها بالتعبير عن جوانب شتى من بؤس المرأة تحت وطأة الحرب وتداعياتها وتأثيراتها النفسية العميقة على المرأة العراقية التي لا تجد خلاصاً، لا قبل الحرب ولا بعدها.

يثير عنوان الرواية مثلما يثير غلافها الكثير من التساؤلات. فمن هن نساء العتبات؟ وهل قررت هدية حسين، التي طالما طرحت قضايا المرأة في أعمالها دون أن تتبنى خط التوجهات النسوية في الادب، أن تغير اتجاهها؟ تساؤلات لا بد منها. ولكن تبقى صورة الفتاة ذات الملامح الطفولية الغامضة حاضرة في الذهن، لنكتشف أنها تستولي على أحداث الرواية بقصتها؛ أنها (أمل) الضحية التي ماتت صغيرة وتركت لغزاً خلفها، وهي (أمل) بطلة الرواية التي تعيش معاناة، تذكّر بمعاناة خالتها التي رحلت وأورثتها اسمها.

تستحضر العتبات في الذهن رموزاً ومعانٍ كثيرة، وتكتسب مستويات متعددة من التوظيف في الرواية. العتبات مرادف للقصص المغمسة بالوجع في البيوت الفقيرة، والزقاق الموحلة، والاماكن الكئيبة، وبوابة للدخول الى عالم الخيبة وسوء الطالع والمعاناة، ورمز لعالم النساء المهمشات اللواتي يضحين بكل شيء لأجل رجل مفقود، يحلمن أن يعود ذات يوم. وهي التجسيد الحي لصور تعبيرية من الحرمان والفقدان والانتظار، والنافذة التي نطل منها على المشهد: منمنمة من قهر وخوف ضمن لوحة فسيفساء أوسع تشمل الوطن كله. وفي مستوى آخر، تصبح عتبات عصر جديد يحمل معه الخوف والدم ودمار الحرب المادي والنفسي.

تحمل كل واحدة من نساء العتبات في ذاكرتها قصة بؤس. تتعدد القصص وتفاصيلها، ولكنها تؤكد في النهاية حقيقة مفادها أن المرأة ضحية كل مغامرات الرجل، بدءأ بالحرب وانتهاءً بأوهام حب الجسد. تدفع كل امرأة في الرواية الثمن من عمرها وأحلامها وحريتها، وترهن نفسها ومصيرها الى رجل، لكن الرجل "الحلم" لا يأتي، وهكذا تموت روحها قبل أن يموت جسدها. هناك أمل وجمّار وفطومة وصفية وأم عدنان وصبرية، وغيرهن، والاسماء لها في الرواية دلالات ترميزية عالية.

تؤكد حكايات نساء العتبات، كما ترى البطلة، الحقيقة المرة: لقد حوّل النظام بحروبه البلد الى سجن كبير ليس فيه سوى النساء البائسات والرجال المفقودين: (جبّار) - زوج أمل والضابط في الحرس الجمهوري- اختفى في الحرب ولم نعد نسمع أخباره، وأبوها (مصطفى) اختفى منذ سنوات طويلة خلال الحرب العراقية الايرانية، واختفى (زهير) المكلف برعايتها أثناء هروبها الى عمان عن مسرح الاحداث، ومات (ماجد المرهون) زوج خادمتها جمّار، وقتل (مريوش) زوج أم عدنان بصاروخ سقط على منزلهم، ومات ابنها في حرب الكويت، وقتل ابن فطومة الاكبر في الحرب، وأعدم الثاني لأنه رفض التطوع. واختفى المعلم أبو محمود لأنه وضع طبقاً لاقطاً على سطح بيته. وللسخرية لم يبق أحد من الرجال حياً الا المجنون! عاد من الأسر في ايران بعد أربعة عشر عاماً ليجد زوجته قد تزوجت أخاه!

يدرك القاريء منذ الجملة الاولى أنها رواية الحرب، وأن الحرب حاضرة فيها في كل تفاصيلها. فهناك اشارة في أول الرواية وآخرها الى سقوط التمثال في ساحة الفردوس، مما يستحضر في الذهن سقوط النظام عندما وصلت طلائع المارينز الى بغداد. بل إن الشخصية الراوية التي تسرد بضمير الأنا العليمة تستهل حكايتها بالحديث عن الهروب من بغداد الى عمان. وهكذا ترسم افتتاحية الرواية ملامح المكان والزمان، ولكنها ملامح ملطخة بالدماء وممزوجة بقصص الالم ومنذرة بالعواقب حين تختار امرأة أن تحيا خارج السرب.

تبدع الرواية في تجسيد بشاعة الحرب ودمارها وفجائعها وعبثيتها على نحو مؤثر. ولعل ما قاله والد أمل، الذي لا نراه في الرواية، وكان يعمل أستاذاً في الجامعة عندما أخذوه للحرب، ولم يرجع منذ ذلك الحين، هو أبلغ تعبير: "نحن حطب الحروب، وسنحترق بنارها لنضيء مجد الحكام الزائف".

تؤرخ الرواية لأيام الحرب الواحدة والعشرين حتى يوم التاسع من نيسان الذي سقطت فيه بغداد. غير أن عملية تأريخ الحرب، تتخذ في الرواية شكل العناوين الاخبارية، التي تبقى تظهر كل يوم. وإن تكن سمّتها الكاتبة "عناوين المحرقة الجديدة"، إلا أن هناك إفراطاً في توظيف الارشفة التاريخية، مما ينزع بالرواية نحو التقريرية. وعند تلك اللحظة تغيب القصة الاساس في الخلف لتفسح المجال لعناوين الحرب التي اتخذت خطاً أسود غامقاً لأن تبرز. وبالرغم من كل الاهوال التي تصفها الرواية، والاحداث العسكرية خلال أيام الحرب، وما رافقها من أعمال نهب وقتل وتشريد، والتي تؤرخ لها، إلا أننا لا نجد في طول الرواية أو عرضها كلمة واحدة تصف القوات الغازية بالمحتلة، أو تصف ما جرى بأنه احتلال، وتبقى البطلة أغلب الوقت صامتة لا تبدي رأيها فيما يجري.

تقوم الرواية على توظيف مواقف المفارقات والمتناقضات لابراز النقد السياسي وإدانة الحرب، حيث تصف الاحداث بأنها "أم الكوارث" في اشارة ساخرة من "أم المعارك" التي أطلقها النظام على حرب الخليج الاولى. ولعل قصة زواج أمل من الضابط الذي يكبرها بثلاثين عاماً هي إدانة للحرب التي أخذت الشبان للقتال، فلم تعد قادرة على التواصل مع من هم في مثل سنها، لأنهم لا يستطيعون منحها الامان أو الحلم. وحينما عرض جبار على زوجته أن تقرأ الكتب في مكتبته، والتي تضم كراريس حزبية، وكتباً سياسية، فقد أعرضت عنها في رفض رمزي للحرب، وكل ما يمت للنظام بصلة.

غير أن هدية حسين تضع دائما كلمات النقد السياسي في فم شخصياتها باسلوب يحيل الشخصية الى مجرد حاملة أفكار ذات بعد رمزي، تنم أفعالها وكلماتها عن مواقف مفروضة على النص. أمل العروس التي تدخل قصر زوجها الذي بدا مثل الجنة بالنسبة لها، وبدلاً من أن تعبر في أول ردة فعل لها عن السعادة حينما رأت غرف القصر الباذخة، فإنها تترك كل شيء، وتنشغل في التفكير بقضية أخرى على نحو غريب: "إذا كان هذا قصر ضابط في الحرس الجمهوري، ترى كيف تكون قصور الرئيس المنتشرة في المدن العراقية؟". وحينما ترى النياشين والأوسمة التي حصل عليها جبار من معارك سابقة، لا يخطر في بالها سوى القول: "كم من الدماء سالت لكل قطعة من هذه القطع؟".

ورغم أن البطلة تبقى متحفظة وخائفة في أغلب الاحيان، فإنها تترك دور ممارسة النقد السياسي لخادمتها القروية البسيطة، التي لا تفلح في استدراج أمل، وتعوض الرواية عن ذلك فنياً بافراط جمّار في النقد الى حد كبير، في اشارة ضمنية الى أن هذا هو حديث كل الناس المقموعين الذين لا يتاح لهم التعبير في الوطن. تصفها أمل بأنها أكثر معرفة منها ببواطن الامور، لتعزيز مصداقية نقد جمار للنظام. تصبح جمار الصوت الناطق باسم البطلة، كأنما هو صوتها الغائب وجرأتها المفقودة. شخصية جمّار في الرواية لا قيمة فعلية لها على مسرح الاحداث سوى أنها حاملة أفكار بامتياز، تهرّب من خلالها البطلة ومن وراءها الكاتبة أفكارهما. تحمّل جمار النظام مسؤولية كل المآسي. وعندما تذكر جمّار كلمة عفريت، تتذكر أمل قول أمها "عفريت الحروب يتلبّس الرئيس، وسيضيع آلاف الاباء مثلما ضاع أبوك". ما يثير الاستغراب أننا لا نسمع منها ولا كلمة واحدة، تنتقد جهات أو أطرافاً دولية بعينها، ويلمس القاريء بوضوح أن الرواية تتبنى موقفاً دافعه تحميل النظام كل المسؤولية التاريخية، علماً بأن الرواية لا تذكر صدام حسين بالاسم نهائيا، بل تبقى تتحدث عنه بالاشارة والرمز.

تصر الكاتبة أن تمسك القاريء من يديه كي لا يضيع في تفاصيل الرواية! وكأنني بها لا تثق في قدرته أن يدرك تفاصيل الرواية دون تدخل منها في تقديم ايضاحات تفسد أحياناً انسيابية السرد. تقول الراوية "أمل" عن زوجها: "زوجي ضابط كبير في الحرس الجمهوري يدعى جبار منصور، يكبرني بثلاثين عاماً، تزوجته في ظروف عصيبة سأتوقف عندها لاحقاً"، وتقول في موضع آخر "تلك الطفلة هي خالتي التي ماتت قبل ولادتي، حينما كانت أختها صفية (أمي فيما بعد)". وعندما ترصد البطلة التحولات التي اصابت شخصيتها وحتى جمال وجهها، فإنها تتذكر رواية أوسكار وايلد "دوريان جراي". وبدلا من أن تدع القاريء يتخيل التشابه بين تحولاتها وتحولات دوريان جراي من الجمال الى البشاعة، أو يبحث عن الرواية ليقرأها ويكتشف أوجه التشابه، فإنها تترك السرد جانباً لتحكي لنا قصة دوريان جراي! كما أن الاسلوب الذي تروي فيه أمل حكاية "إلزا" في رواية "ابنة الحظ" لايزابيل الليندي يحمل الرغبة في شرح كل التفاصيل للقاريء، كي لا يضيع في اكتشاف أوجه الشبه بين الحكايتين. تقول بلغة ناقد في أثناء روايتها: "عن تلك الحياة المرتبكة القلقة تدور أحداث رواية "ابنة الحظ" لايزابيل الليندي، شخصيات كثيرة وعالم شائك وجدتني أسير فيه على خطى إلزا سوميرز"!

توظف هدية حسين في بنائها الروائي اسلوب الاخراج المسرحي والرواية داخل رواية. فالبطلة الساردة تجلس في سيارة الاجرة العائدة من عمان الى بغداد. تسترخي وتعزل نفسها عن محيطها، وتأخذ بمشاهدة الفيلم سيء الاخراج كما تقول الذي لا يراه أحد سواها. إنه شريط ذكريات حياتها بكل تفاصيله وأوجاعه وأحلامه المنهارة. وهكذا تبدأ مشاهد الشريط بالتوالي باضطراب مشوش يعكس ذاتها المتشظية من شقة في تلاع العلي في عمان، وهناك تبدأ معه أحداث رواية داخل رواية.

عثرت أمل بالصدفة على رواية في مكتبة في وسط البلد، وحين قرأتها اكتشفت أنها تروي قصتها وقصة عائلتها. لا تعرف كاتبتها ولكن جذبها ما كتب على غلافها حول معنى الحياة في وحدة وصمت. وبرغم الدقة في تصوير الشخصيات ونقل تفاصيل الاحداث، إلا أن كاتبة الرواية لم تجسد شخصيتها كما ينبغي لأنها لم تفهمها كما تقول. تحكي الرواية داخل الرواية عن المتغيرات التي مر بها العراق كالحروب، وتأثيراتها على الناس بما تنطوي عليه من الموت والفقد والمآسي وقصص الحب الخائبة.

يتواصل استخدام اسلوب الرواية داخل رواية، فقد حملت أمل معها من بغداد رواية "ابنة الحظ" الاكثر قرباً الى نفسها، والتي تحكي قصة الزا سوميرز التي أحبت خواكين مورييتا، على أمل أن ينقذها من البؤس، غير أنه يتركها وقد حملت منه، لمصير مجهول تلاقي فيه المرض والاحساس بالضياع والخديعة، مختبئة على ظهر المراكب، حتى يرسل لها الحظ حكيما صينيا يساعدها على الشفاء بالاعشاب. تبقى الزا تدور بين المدن في الغرب الامريكي وترى قصص المعاناة والاحلام الواهمة التي يبحث أصحابها عن الذهب، بينما تبحث هي عن (رجلها) الهارب بلا طائل، حتى تكتشف أنه قاطع طريق ومطلوب للعدالة.

يظهر بشكل واضح أوجه التشابه بين حكاية إلزا وحكاية أمل التي تهجر بؤس أسرتها، باحثة عن أحلام الغنى في الرجل الذي اختارته، فتجد نفسها غريبة منفية خارج العراق وحيدة، الاّ من خادمتها الحكيمة جمّار، مثل الزا والحكيم الصيني. توظف هدية حسين النص الروائي المقارن لتؤكد مدى معاناة المرأة في كل مكان، وانها في جوهرها واحد وإن اختلفت التفاصيل.

تسرد جمّار حكايتها على سيدتها في توظيف جديد للرواية داخل الرواية. يفيض حديث جمّار بالآم الغربة والحنين الى الوطن، ولا تقل مأساتها عن مأساة أمل. تبرز حكاية جمار تغلغل الظلم في الثقافة الشعبية، ومعاناة المرأة الضحية دائماً في كل نظم الاستبداد، واستباحة حقوق الرعية وانتهاك كرامة الانسان من قبل السلطة، سواء أكانت رئيس دولة، أم شيخ قبيلة.

ويعكس القلق المسيطر على تفكير أمل من تصرفات خادمتها جانباً من شخصيتها، التي تشربت مفهوم السلطة. تشعر بقلق لأن جمّار أخذت تنسى أصول التصرفات أمام سيدتها كما كانت تفعل في بغداد، وصارت ترفع التكلف بينهما. يعز على أمل أن ترى سلطتها تضمحل. وهكذا تدرك ما تفعلته الحرب والغربة من تحولات في العلاقات الاجتماعية. ومرة أخرى توظف الرواية قصة رواية "شعب يوليو" للكاتبة نادين غورديمر لتؤكد هذه الحقيقة.

أما من جانب آخر، وعلى صعيد البناء الروائي في نقطة تماس مع الاسلوب، فيلمس القاريء أن هناك قفزات سردية في الرواية، حيث يتم التجاوز عن مفاصل مهمة في الحبكة لأجل أن تكون كل الاجواء مأساوية وحزينة، وكأنه لا تولد في أجواء الحرب قصص للحب وما ينشأ عنها من تداعيات. فعلى سبيل المثال، هناك قفزة في السرد تختصر الكثير من الصراعات النفسية والعائلية والاجتماعية مما يمكن أن يجري أو يقال؛ فعندما توقف جبار بسيارته الفارهة ليقل أمل التي كانت تنتظر حافلة تأخذها الى الجامعة، ينتقل بنا السرد فجأة بعدها الى زواجها من جبار. هناك صراع درامي يمكننا أن نتخيل أنه قد حدث بينها وبين ذاتها، وبينها وبين أمها والاخرين، وخاصة أننا نعرف أن أمها لم تكن راضية عن العرس. كما تم اغفال جانب مهم آخر تماماً، وهو ظروف جبار، وخاصة أنه متزوج ولديه أولاد، وكان يمكن أن تضيء جوانب الصراع بين الواقع والحلم. كما لم تكرس أي اهتمام بنقل صور من حياتها الجديدة بعد زواجها مباشرة، لنلمس التغيير في حياتها، بل مرّت عنها مرور الكرام، لتثبت أن القصر كان مجرد سجن بالنسبة لها. فقد أهملت تلك الفترة من بداية زواجها، واكتفت بالقول: "ستخفت الدهشة بعد عدة شهور، وأعتاد على ما أرى، فلم يعد يبهرني شيء، بل صرت أرى بوضوح قضبان القفص الذي دخلته بإرادتي ورميت مفتاحه في بحر عميق".

وعلى صعيد آخر، أعتقد أن هناك اختزالاً للحدث في الرواية على حساب تحليل الشخصية التي تقوم به الشخصية ذاتها بطريق البوح المباشر. وما أعنيه هنا أن الاحداث عادة في الروايات تلعب دوراً مهما ودالاً للقاريء في فهم التحولات التي تطرأ على الشخصيات، وهو ما يسمى بتطور الشخصية من خلال التغيرات التي تطرأ على وعيها وتصرفاتها وأفكارها. غير إن التحولات التي تطرأ على شخصية أمل ونظرتها للاخرين ولمعاني الحياة المختلفة، نتعرف عليها من خلال حديثها هي عن هذه التحولات التي طرأت عليها، كعالم نفسي يحلل شخصيتها بدلا من الحدث. فبدلاً من التركيز على سرد الاحداث والمواقف والصراعات والتصادمات مع الشخصيات الاخرى، كزوجها وأمها، بما يتيح للقاريء أن يتلمّس بشكل شفيف غير مباشر طبيعة التحولات التي تطرأ على نظرتها الى هذه الشخصيات، أو مواقفها، نلاحظ أنها تنوب عن القاريء في تحليل هذه التحولات في شخصيتها!

ترسم الرواية تدريجياً ملامح شخصية أمل ونمط تفكيرها المختلف عن أمها وعن باقي النساء، اللواتي وقعن تحت وهم القناعة، والقبول بالامر الواقع، والاحلام التي تدور حول فقدان الرجال من حياتهن بسبب الحرب. لا تريد أمل أن تكون جزءاً من ماضيها أو مكانها الذي عاشت فيه، ولا أن تكون جزءاً من تاريخ أمها. ولهذا عندما ركبت سيارة جبار وهي تغادر بيتها قالت: "وداعاً لأوجاع الماضي".

تعيش بطلة الرواية في عالم من الصمت الذي تسمع فيه نداء روحها الداخلي، وتعيش مع شخصيات الروايات التي تقرأها، فهي "الضفاف الاكثر أماناً" بالنسبة لها! وتجسد لغة الرواية الانيقة صراع بطلتها النفسي بين قناعاتها وتمسكها بالجانب المادي الشكلي كما تقول عنه.

تبدع هدية حسين في تطوير شخصية البطلة الساردة. ونلمس منذ الصفحة المائة والتسع والعشرين، أي بعيد منتصف الرواية، تحولاً مهما في شخصيتها، ويبدو أنه مؤشر على عودتها الى الواقع. غير أننا نلاحظ أن هناك تسارعاً ملحوظاً في السرد في الصفحات الاربعين الاخيرة من الرواية، حيث نحس الرغبة الجامحة في الخروج من الصمت، الذي كانت تعيشه الى البوح المتسارع المتمثل في سرد تفاصيل الحياة اليومية وأحاديث نساء العتبات، حيث تسرد ماضي كل واحدة منهن!

تنتهي الرواية من حيث بدأت: تعود أمل مع جمّار عبر الطريق الصحراوي برغم المخاطرة الى بغداد. وقبل أن تغادر عمان تبيع خاتم الزواج في اشارة الى اختفاء جبار من حياتها. يتراءى لها أن وجه أمها يسير معها عبر زجاج السيارة. وهنا تصبح الام الملاك الحارس في اعلان رمزي عن عودتها الى بيئتها وتقبل أفكارها وتضحياتها. تطرح الرواية مسألة وهم الخلاص المادي الفردي، في تأكيد على فشل الحلول الذاتية في ظل الازمات الكبرى كالحروب.

يمثل المشهد الاخير من الرواية موقفاً رمزياً بالغ الاهمية يطرح التساؤلات بأسلوب تعبيري، حيث تقف أمل أمام خزانة السيوف ورؤوس الغزلان المقطوعة والمحنطة في قصرها المدمر، وتستذكر حكاية رواية "ابنة الحظ" حين وقفت الزا بجانب الراس المقطوعة وقالت: "انني الان حرة"، وتتخيل أنها تقف بجانب رأس جبار المقطوعة دون أن تستطيع أن تحس أو تصرخ أنها صارت حرة.

رابط المقال بجريدة النهار اللبنانية