الاثنين، سبتمبر 11

الزلزال في الادب العربي الحديث

 

على هامش الزلزال الذي وقع في المغرب بتاريخ 9/9/2023

 

الزلزال في الادب العربي الحديث



بقلم اياد نصار

بالرغم من هول الفجائع التي يعاني منها الانسان جراء الزلزال حينما يضرب على حين غرة ، وبالرغم من صور الموت المأساوية التي تتكرر تحت أنقاض وبقايا المباني التي انهارت فوق ساكنيها ، أو تحت كتل الحجر الضخمة التي تحبس أنفاس من بقي منهم على قيد الحياة تحتها يئن في انتظار مرير لعل أحدا يسمع استغاثته الخفيضة فيهب لانقاذه ، وبالرغم من المعاناة التي تأسر العالم حينما تبدأ صور الضحايا وآلام الكارثة وأوجاع الموت والرحيل والتشرد تتبدى للعيان ثم لا تلبث أعداد القتلى والمصابين تتصاعد في ازدياد مخيف، بالرغم من هذا كله، إلا أن الزلزال كظاهرة تراجيدية قاسية رافقت الانسان منذ فجر التاريخ والعمران البشري لا يحظى بانتشار واسع في الادب العربي سواء في الشعر أو الرواية أو المسرح، فقليلة هي الاعمال التي تتناول الزلزال كموضوع رئيسي في العمل الادبي.

 

لا بد من التأكيد أن هناك روايات أو أعمال أدبية معاصرة تتناول تأثير الزلزال على حياة الانسان في الوطن العربي ، إنما قليلة للغاية وليست بحجم الكارثة التي ما تلبث أن تنمحي من ذاكرة الناس حتى تطل برأسها البشع مرة أخرى. لا بل إن هناك اشعاراً ونصوصأ في كتب متفرقة من التراث حول الزلازل.

 

والغريب أنه بالرغم من آثاره الانسانية والاجتماعية والاقتصادية  الفظيعة ، إلا أنه لا يحضر كثيرا في الادب. لربما مرد ذلك أنه ظاهرة قليلة الحدوث. ولربما يعود ذلك الى غياب وسائل نقل المعرفة السريعة ومحدودية انتشار الاخبار وخاصة في الزمن القديم، ففي أماكن كثيرة من العالم يؤرخ الناس أحيانا بزلزال حدث هنا او هناك قبل مئات او عشرات السنين.

 

وقد حاولت في هذا البحث الاشارة الى بعض الاعمال الادبية في الادب العربي وخاصة المعاصر التي تناولت الزلزال كظاهرة طبيعية كارثية  على اعتبار أنه حدث رئيس في الحبكة يخلف الكثير من الاثار والتغيرات في حياة الشخوص بل وفي المجتمع ككل ، فلم أجد لا القليل. هناك أدباء كتبوا عن زلازل من نوع آخر ، كالزلزال الذي اصاب الوطن العربي بعد الربيع العربي ، أو كتبوا عن زلزال الشعر الحر في العصر الحديث ، او كتبوا عن زلازل مجازية كزلزال القلب عند العشق أو زلازل مجازية أخرى كالثورة الصناعية او زلزال المنطقة العربية بعد نكبة فلسطين او بعد نكسة حزيران. إن معظم الاعمال الادبية العربية المعاصرة التي تناولت الزلزال هي من هذا النوع المجازي الذي يجسد انهيارا معنويا أو تغييرا جذريا كأنما يطيح بالبنى القائمة في المجتمع أو يحدث إنكسارا نفسياً أو صدمة فكرية.

 

لعل اول ما يرد الى الذهن عند الحديث عن الزلزال في الرواية هي رواية الروائي الجزائري الكبير الراحل الطاهر وطار "الزلزال" وقد نشرها عام 1974 بعد أقل من عقد على استقلال الجزائر ، وطرح فيها الزلزال الذي أصاب القيم والمفاهيم التقليدية المتوارثة والتي بدأ زلزال التغيير بعد الاستقلال يطيح بها فلم تعد قادرة على البقاء. تجري أحداث الرواية في مدينة قسنطينة الجزائرية المعروفة في الشرق الجزائري بمدينة الجسور لوقوعها على طرفي شاهق صخري أقيمت فوقه جسور المدينة الشهيرة. بطل الرواية إذا صح لنا أن نقول عنه بطل. شيخ يدعى "بو لرواح" الذي يمتلك مساحات شاسعة من الاراضي الفلاحية في سهول المدينة ، وقد سمع أن الحكومة بصدد سن قانون يسمح بالاستيلاء على الاراضي الزراعية وإعادة توزيعها على المزارعين والفلاحين ، فعاد الى قسنطينة رغم أنه وحيد ليس له أبناء يرثونه، إلا أنه أخذ يبحث عن أقارب له لعله يسجل الاراضي باسمائهم في إجراء شكلي يستطيع به أن يحتال على القانون ويكون بإمكانه استرداد الارض. ويرى بو الارواح أن هولاء الفقراء الذين تركوا الارياف بعد الاستقلال ونزحوا الى المدن ليسوا سوى أفاقين، ويتحسر في الرواية على التغيير الذي اصاب وجه المدينة وحال سكانها من الباشوات والاعيان بعد الاستقلال مقارنة بما كانت عليه خلال الاستعمار ويعتبر ذلك هو الزلزال الحقيقي الذي اصاب البلاد. وهو لا يتقبل فكرة الاشتراكية التي تبنتها الدولة بعد الاستقلال فـبالنسبة له المدينة تغيّرت كما لو أنّ زلزالا هزّها وجعل عاليها سافلها .

يردد بو الارواح باستمرار كلما شاهد ظاهرة استغربها "إنّ زلزلة الساعة شيء عظيم..." ويتمنى لو أن زلزالا يطيح بهولاء الفقراء الذي يطمعون بالاستيلاء على أراضيه وأمواله، و يسمّيهم بالأفاقين فتقوم قيامتهم فلا يبقى فيها إلا أمثاله من الأعيان والاغنياء ، "يا سيدي راشد ... اقض على الحكومة و على الفقــراء و العمــال و الطلبة و النقابيين ، أعد بعث أمة جديدة ، ليس فيها سوى نحن ، السادة و الأشراف".

وكتب الاديب الاسلامي في مصر مصطفى محمود مسرحية بعنوان  "الزلزال" ونشرها عام 1963 عندما صدر قرار من الرئيس عبد الناصر بإيقاف مصطفى محمود عن الكتابة في الصحافة. تعبر الشخصيات في أحاديثها الساخرة عن التغير القاتم الذي تحولت معه الاحلام الى أوهام والحقائق الى كوابيس.

يقول أحد شخوص المسرحية: "مفيش حد عارف الحقيقة .. يبقى أعيش في الوهم أحسن .. حتى الوهم مش لاقيه .. مفيش حد بيهنينى عليه .. كل ما أخلق لنفسي وهم ألاقي اللي يصحيني منه و يقول لى اصحى .. اصحى .. أنت موهوم .. و أنت مالك يا أخي .. ما تسيبني في حالي .. لا ازاي .. إصحي .. إصحي .. أنت موهوم .. طيب فين الحقيقة .. مفيش حقيقة .. أنا تعبت .. عاوز أنام .. عاوز أحلم .. أحلم .. حلم طويل ما أصحاش منه."

كما أصدر الروائي المصري احمد السعيد مراد  رواية "الزلزال" وبطلها شاب مصري يتيم فقير هو خالد علوان كان يبيع الفاكهة في شوارع العريش ليؤمن قوت امه وإخوته الاربعة ، ووجد نفسه في خضم حرب مخابراتية عاتية بين عدة أجهزة تستهدف الجماعات المسلحة في غزة.

كل هذه النماذج وغيرها تتناول مفهوم الزلزال بمعناه التراجيدي المجازي في كناية عن زلزال أصاب واقع المجتمع وقيمه ما يقطع الصلة بين الماضي والحاضر وينبي بحجم الخراب الذي حل بيننا نتيجة انهيار القيم.

ومن النماذج القليلة التي تناولت الزلزال بمفهومه الحقيقي، الرواية التي أصدرها الروائي القطري أحمد جعفر عبد الملك. وحتى عندما تناولت روايته كارثة زلزال تركيا الاخير، لم يكتف بذلك بل بدأ الرواية بزلزال مجازي من نوع آخر وهو السرطان الذي دمر حياة البطل وزوجته. اصدر عبد الملك روايته "زلزال حنان"  هذا العام 2023 . وتتناول الرواية الزلزال الذي اصاب حياة مراقب المطبوعات بعد أن أصيبت زوجته بالسرطان وتوفيت به، ثم يأتي الزلزال الثاني في حياته  حينما وقع زلزال تركيا فدمر حياته تماما حيث فقد ابنه وابنته وسائقه ودخل هو في حالة غيبوبة دائمة.

أما الرواية التي تناولت الزلزال الحقيقي كحدث مفاجيء مأساوي بأجوائه الدراماتيكية وأبرزت ما ترك في نفس البطل من تداعيات مختلطة من الافكار والذكريات ومشاعر الخوف والقلق والترقب فهي رواية "رائحة الكلب" للروائي الجزائري جيلالي خلاْص. يجسد الراوي في مفتتح الرواية الاحساس الذي ألم بالبطل الذي استفاق على هزة الزلزال: "أحس في لوعة بقوة غريبة ترفع جسده عاليا ثم تهوي به بلا هوادة ، لكن بدل أن تطوح به في المتاهة المرعبة التي اقتلع قلبه ظلامها الدامس ، دوحت به إلى أن أيقظته فجأة مرتاعاً ".

تضع الرواية القاريء في أجواء القلق والخوف منذ البداية حيث تنهار البناية وينحبس البطل تحت الأنقاض، وعندها يبدأ تيار الذكريات والوعي بالواقع، ولهذا الامر قيمة رمزية عالية، فقد استفاق البطل من الحلم والدفء في عز الليل على واقعة الزلزال، كأنما هي لحظة الشعور باليقظة وضياع الحلم أو الوهم القصير. وهو حبيس الانقاض والظلام موزع الافكار، يباغته السؤال الاهم: ماذا بعد؟ كأنما في ذلك اسقاط على الوضع العام في الجزائر:"لا شيء يمكن رؤيته، لا بصيص نور يتسرب ولو من ثقبة صغيرة في مكان ما، من فوق، من تحت، يسارا أو يمينا عند الظهر أو إلى الأمام، ولا أمل في التحرك فيداه لا تتلمسان إلا جدرانا خراسانية صلبة تحيط به، وتأسره وتقف سدودا منيعة في جميع الجهات الحصار، السجن، الظلام، وهذا الضيق المسيطر عليه فعلا لا في الموضع فحسب وإنّما حتى في الأعماق ثم ماذا بعد ؟"

 

*لوحة ما بعد الزلزال للرسامة الانجليزية الفرنسية صوفي أندرسون (1823- 1903)