الأربعاء، مايو 6

اليزابيث ستراوت: رواية في مجموعة قصصية





















فازت روايتها بجائزة بوليتزر للسرد لعام 2009
اليزابيث ستراوت: رواية في مجموعة قصصية

بقلم: اياد نصار

فازت الروائية اليزابيث ستراوت Elizabeth Strout بجائزة بوليتزر للاعمال الروائية لعام 2009 عن روايتها المسماة "أوليف كيتردج" Olive Kitteridge وهي رواية تتألف من مجموعة من ثلاث عشرة قصة قصيرة مترابطة متسلسلة تجري أحداثها في بلدة صغيرة من ولاية ماين في الولايات المتحدة الامريكية. ولهذا أطلق عليها "رواية في مجموعة قصصية". تقع المجموعة في 270 صفحة وصدرت عن دار راندوم للنشر. وهي الرواية الثالثة للمؤلفة بعد روايتها الاولى المسماة "ايمي وايزابيل" التي نالت عنها جائزة صحيفة لوس انجليس تايمز لأول عمل روائي عام 1999. كما كانت تلك الرواية أيضاً إحدى الروايات الست التي تأهلت للفوز بجائزة أورانج للسرد النسائي عام 2000 في المملكة المتحدة ، وبعد روايتها الثانية المسماة "تحمّل معي" التي صدرت عام 2006.

ولدت اليزابيث في عام 1956 في مدينة بورتلاند التي تعد العاصمة الثقافية والاقتصادية لولاية ماين وقد حصلت في عام 1982 على بكالوريوس في القانون من جامعة سيراكوز بالولايات المتحدة في تلك السنة التي نشرت فيها أول قصة قصيرة لها. وتعيش حالياً في نيويورك مع زوجها وابنتها ، وتعمل في تدريس الادب والكتابة في كلية مانهاتن في نيويورك. وقد نشرت قصصها ورواياتها في عدد من المجلات ومن أهمها النيويوركر.

تعيد مجموعة اليزابيث ستراوت الجديدة الحياة الى مجمتع هامشي فقير في بلدة تجسد روح نيوانجلاند على الشاطيء الشرقي للولايات المتحدة حينما يأتي الاصدقاء ويتكلمون لهجات نيوانجلند المألوفة. ولكن الرواية تخلق عالماً من الكآبه الذي يشعر فيه الاباء بالحنين المؤلم الى أبنائهم ، ويرثي الازواج حال علاقاتهم الزوجية التي صارت باردة يملؤها سوء الفهم. أما بطلة المجموعة التي أخذت اسمها منها هي "أوليف كيتردج" وهي إمرأة ذات طابع ريفي بالمعنى الحرفي للكلمة. "أوليف" معلمة رياضيات متقاعدة تنتقد وترفض التغيرات التي تصيب بلدتها الصغيرة "كروسبي" على ساحل ولاية ماين ، وفي العالم بشكل عام، ولكنها تفشل في رؤية التغيرات في الشخوص المحيطين بها: عازفة الموسيقي التي تسيطر عليها قصة حب قديمة ، وكذلك تلميذها السابق الذي فقد الرغبة في الحياة ويفكر بالانتحار فتساعده للتغلب على ذلك ، وكذلك ابنها كريستوفر المتخصص في علاج أمراض القدمين الذي ترهبه وتخيفه تصرفات أمه "أوليف" بحساسيتها غير المنطقية ، وزوجها الصيدلي هنري الذي يجد أن إخلاصه للزواج قد أصبح نعمة ولعنة في آن واحد، ولكنها تقف الى جانبه حينما يتعرض لنوبة تقعده عن الحركة.

تعتبر أوليف وعائلتها الشخصيات الرئيسية في نصف القصص تقريباً. وتضع كثير من القصص اوليف في مركز الاحداث. كما تلعب دوراً في القصص الاخرى ، سواء فرعياً أو عابراً. ويمكن أن تقف كل قصة لوحدها، ولكن إذا جمعت مع بعضها فإنها تصبح رواية أوليف كيتردج. وبينما يصارع سكان بلدتها مشاكلهم الصغيرة والكبيرة ، تتوصل اوليف الى فهم عميق لذاتها وحياتها بطريقة لا تخلو من الالم والصراحة القاسية. وتقدم اوليف كيتردج نظرات عميقة في الوجود الانساني وصراعاته ومآسيه ومباهجه. كما نكتشف أن الحياة في بيئة البلدة الصغيرة ليست مملة أو بسيطة كما نتخيل بفضل قدرتها على تجسيد وتطوير الشخصيات في الرواية.

تجري أحداث إحدى القصص في مراسيم الدفن لرجل مات والتي تكتشف زوجته للتو خيانته لها فتسعى أوليف للتخفيف عنها. قصة أخرى تروي أحداث عملية اختطاف رهينة في مستشفى. وفي قصة أخرى يفاجيء عاشق قديم عازفة بيانو في احدى الردهات مما يتسبب في اضطرابها ووقوعها تحت تأثير ذكريات قديمة مؤلمة. وفي قصة أخرى تزور أوليف التي تجسد دور الام المسيطرة ابنها القلق وزوجته الحامل الدكتورة "سو" كثيرة الجلبة والشكوى. تنطوي أغلب القصص على نوع من الخيانة. وبعض منها يقدم قصصاً رومانسية هشة بعيدة الاحتمال للحب. ولكنها تقدم فضاءً واسعاً للتجربة الانسانية.

في القصة الافتتاحية المسماة "صيدلية" يظهر فيها هنري وهو يتذكر تلك الايام التي كان يدير فيها محلاً في البلدة ولكنه إضطر لبيعه لسلسلة محلات كبيرة. كما يتذكر أنه قبل عشرين عاما دعى مساعدته الشابة دينيس وزوجها الى العشاء في تحد لرغبة اوليف. ويحتل العشاء مساحة عدة صفحات بسبب جو العدائية فيه. أوليف تقدم أطباقاً من الفاصوليا المخبوزة والكاتش اب لهم كمقبلات بينما يحاول هنري الاستمرار في الثرثرة بعصبية واضحة.

يربط وجود اوليف كيتردج القصص الثلاث عشرة فيما بينها والتي تروى في تسلسل زمني. ولهذا نرى اوليف وهنري يكبران ويكبر معهما ابنهما كريستوفر ويتزوج ويسكن بعيداً. وعندما نشاهدها لاول مرة في المجموعة فهي امرأة كبيرة في منتصف الاربعينات. ومن خلال سرد الاحداث في المجموعة تصبح تلك المعلمة التي على أبواب التقاعد التي بلغت ما يزيد عن الستين ولكنها مثل جسم كوني لديه قوة جذب مركزية هائلة. لكنها ليست شخصية لطيفة. فالتلاميذ يخافون منها. ولم ترققها السنوات. يقول لها إبنها بكل فظاظة: "تستطيعين أن تجعلي الناس تشعر بشيء فظيع". وبعد أن تتبادل الشكوى مع صديقة لها تقول بتذمر: "كم هو لطيف دائما أن تسمع مشاكل الاخرين". ولكن تصرفات اوليف على هذا النحو تعود الى تعرضها للاكتئاب الذي عانت منه سنوات بعد وفاة والدها منتحراً.

ولكن مع توالي القصص ، تبدأ صورة أخرى معقدة مركبة للمرأة بالظهور. فصحيح أن أوليف ترمي ابنها بعبارات جارحة ، لكنها تحبه أكثر مما تستطيع إحتماله. وزوجها رجل طيب ، لكنها تجد عناءً في التعبير عن حبها له. تنتابها حالات مزاجية عاصفة مثلما تنتابها كذلك نوبات ضحك عميق مفاجيء. ولهذا يخافها الكثيرون ويحبها قليلون ولكن الجميع يحترمها. إنها شخصية براغماتية ترى أن الانفعالية والعاطفة شيئاً من الحماقة. وربما ينظر اليها البعض على أنها باردة المشاعر. ففي أحد المشاهد يعتقد أحد الاصدقاء أن اوليف تعاني ويسأل: ألا يجعلك ذلك تشعرين بالغضب؟ فتجيب اوليف لا معنى للغضب فما حصل قد حصل.

لديها حس بالتعاطف مع الاخرين وحتى الغرباء. ففي إحدى القصص تنفجر اوليف بالدموع عندما تقابل إمرأة مصابة بفقدان الشهية العصبي، وتقول لها: "أنا لا أعرفك ، ولكن ايتها السيدة إنك تحطمين قلبي. إنني أتضور جوعاً أيضاً. لماذا تظنين أنني آكل كل قطعة حلوى تقع عيناي عليها؟" فترد الفتاة وهي تنظر الى هذه المرأة الضخمة ورسغيها ويديها الكبيرتين: "أنت لا تتضورين جوعاً". فتقول أوليف: "بلى ، كلنا نتضور جوعاً". وهكذا نجد أن لديها قدرة مذهلة لتضع نفسها في مكان الاخر والاحساس بأزماتهم ، ولكنه تعاطف يخلو من الانفعالية. إنها تدرك أن الحياة وحيدة وغير عادلة. وأن الحظ وحده يأتي ببركاتٍ مثل زواج طويل أو موت مفاجيء. وهي تدرك المرات التي ندمت فيها كما تعي فشل الاخرين وآمالهم الواهية.

وبينما يتبلور إدراك اوليف لذاتها وتعاطفها مع الاخرين خلال الكتاب فإنه يتطور كذلك لدى القاريء. ويمتاز أسلوب ستراوت بالاسلوب الحر غير المباشر حيث يروي الرواي بضمير الغائب ويستخدم أحيانا نفس الكلمات أو الأوصاف أو النبرة التي تستخدمها شخصية ما. إذ يقول الراوي: "أزهرت الزنابق في تألق سخيف" في إحدى جمله الوصفية ، ولكن كلمة سخيف هي كلمة مألوفة ترد كثيراً على لسان اوليف.

إن المتعة التي تتأتى من قراءة "أوليف كتردج" تنبع من الاحساس بالتعاطف مع الشخصيات المعقدة وليست تلك التي تثير الاعجاب دائما. وهناك لحظات تسير فيها الرواية نحو التعاطف مع وجهة نظر تلك الشخصية بطريقة أكثر قوة وتأثيراً وإمتاعاً. هناك إدراك كبير أنه يتوجب علينا أن نحاول أن نفهم الاخرين حتى لو لم نقدر أن نطيقهم!

تجري أحداث روايتيها السابقتين "تحمّل معي" و "ايمي وايزابيل" في منطقة نيوانجلاند وتطرح نفس القضايا: شؤون العائلة، والاقاويل في بلدة صغيرة، والحزن. وتمزج في روايتها الاخيرة ما بين نَفَس الرواية التأملي الطويل وبين الرؤية الخاطفة للقصة القصيرة. وتلقي الضوء على ما يفهمه الناس عن الاخرين وما يفهمونه عن أنفسهم من خلال الانتقال من حكاية الى أخرى، ومن زاوية الى أخرى للحدث.

وحين سئلت في مقابلة أجريت معها عام 2001 عن الفترة الزمنية التي استغرقتها في كتابة روايتها "ايمي وايزابيل" قالت إن كتابة الرواية لديها عملية طويلة تستنفذ طاقتها وإنها تأخذها عادة ما بين خمس الى سبع سنوات. ولهذا فقد كتبت القصة القصيرة لسنوات عديدة لأنها أحبت القصة القصيرة ولأنها أكثر قدرة على الامساك بها من الرواية. ولكن هذا الاحساس ربما تغير بعد أن كتبت رواية ايمي وايزابيل. فالرواية بدأت فكرتها كقصة ، وأخذت تكبر وتكبر قبل أن تدرك أنه من الضروري تحويلها الى رواية. وقد لاحظت أن أسلوبها بدأ يتغير وجملها وتعبيراتها بدأت تتغير ، وحتى اسلوبها السردي بدأ يتغير حتى أصبحت تشعر أنه من الصعب عليها أن تكتب قصة ، وقد استمر هذا الاحساس معها ثلاث سنين.

وعن شخصيات رواياتها تقول أنها تشعر بارتباط حميمي معهم وكأنهم جزء من حياتها وحتى عندما لا تمسك القلم لتكتب فان شخصياتها تعيش معها دائما. لقد اصبح الامر مثل الاطفال الصغار الذين لا تتركهم يذهبون للمدرسة لوحدهم الا عندما تنتهي من الكتاب وينشر ويبدأ الناس في استقبال شخصياتها. عندها تشعر أنه يمكن أن تتركهم في العالم لوحدهم.

أما عن مسألة الابداع والموهبة فتعتبر ان الموهبة في الكتابة ليست الا الجهد الشاق في تثقيف الذات ، وأما الموهبة فهي قدرة الكاتب على التخلص من الزيف فيما يكتب واعادة كتابة الاشياء والجرأة في التخلص مما لا يرضى عنه.

* اللوحة أعلاه للفنان العراقي د. صبيح كلش بعنوان قلب مهزوم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق