الثلاثاء، يناير 1

تيسير سبول

تيسير سبول
(1939 - 1973)

يبقى تيسير سبول الاديب الاردني الاكثر التصاقاً بالذاكرة رغم حياته القصيرة التي كانت مثالاً للحزن والالم والفقر والمعاناة، ورغم أنه لم يترك سوى رواية قصيرة واحدة لم تتجاوز الاربعين صفحة وديواناً وحيدا يتيماً من الشعر حيث قرر التوقف عن قول الشعر بعده. لقد أصبحت حياته المليئة بفصول المعاناة والمثقلة بهموم الواقع العربي وبالذات هزيمة عام 1967 مثالاً على عمق المأساة التي أصابت الانسان العربي الى حد جعلته يصاب بالاحباط والاكتئاب. لقد أصيب تيسير بصدمة كبيرة نتيجة الهزيمة وبدأت تظهر على ملامحه علامات التعب والإنهيار النفسي والحزن الدفين. وكما خلخلت الهزيمة بنية المجتمع العربي من أساسها فانطلقت بعدها الثورات والانقلابات وحلقات العنف والاغتيال والتغيير الدموي، فقد أصابت تيسير سبول بحزن عميق واضطراب حتى جاءت حرب تشرين عام 1973 التي رأى فيها بداية الامل في الانتصار على ذهنية الهزيمة واسترداد الارض والثقة بالنفس. ولكن نهاية الحرب غير المتوقعة أصابته في مقتل وأفقدته شعوره بالتوازن فقرر الانتحار إحتجاجاً.

ولد تيسير سبول في مدينة الطفيلة جنوب الاردن عام 1939 في أسرة فقيرة من خمسة أولاد وأربع فتيات وكان هو أصغرهم سناً. وكان والده يعمل مزارعاً. أنهي دراسته الابتدائية في بلدته، وفي عام 1951 انتقل إلى مدينة الزرقاء بصحبة شقيقه الأكبر شوكت الذي تعرض للاعتقال بسبب آرائه السياسية. ثم انتقل بعد ذلك إلى عمّان حيث درس في كلية الحسين الثانوية، وكان من الاساتذة الذين تأثر بهم الاستاذ عبدالرحمن الكيالي الذي كان يدرسه اللغة العربية. كما تعرف خلال دراسته الثانوية على صديق عمره الذي بقي وفياً له طوال حياته الاديب صادق عبدالحق، حيث كانت بينهما عدة مناقشات أدبية ومراسلات تدور حول الشعر العربي الحديث مثل قصائد خليل حاوي الذي كان تيسير معجباً به كثيراً. أنهى دراسته في كلية الحسين عام 1957، وكان من أوائل الطلبة في محافظة العاصمة، فحصل على منحة إيفاد إلى الجامعة الأمريكية في بيروت لدراسة الفلسفة. لم تعجبه طبيعة الحياة في الجامعة الامريكية التي رأى أنها لم تكن جادة بما فيه الكفاية وخاصة في تلك الفترة التي كانت تمور فيها التوجهات السياسية اليسارية والقومية والوطنية، حيث شعر أن تلك البيئة ليست جادة بما فيه الكفاية فترك بعثته وقرر الذهاب إلى جامعة دمشق لدراسة القانون. وهناك تعمقت اطلاعاته الواسعة على قراءة الكتب والصحف والمجلات، وبدأ في كتابة الشعر ونشره في بعض المجلات الأدبية في دمشق وبيروت كمجلة الثقافة، والآداب، والأديب. وخلال دراسته في دمشق فقد حاول تيسير الانتحار بعد قصة حب تركت أثرا في نفسه ولكن المحاولة لم تنجح فأدخل على إثرها المستشفى.

تعرف تيسير خلال دراسته الحقوق في دمشق في عام 1961 على فتاة تدعى مي اليتيم. وكانت تدرس الطب في نفس الجامعة عندما نشرت قصة قصيرة في مجلة الاداب البيروتية، عنوانها "الوان" فلفتت أنظاره فسعى للتعرف عليها، وتزوجها بعد تخرجه في عام 1963. وأنجب منها فيما بعد طفلين هما عتبة وصبا. ومما يجدر ذكره هنا أن الدكتورة مي اليتيم ولدت في الكويت من أم سورية وأب بحريني وقد أكملت دراستها فيما بعد في القاهرة حيث تخصصت في طب الاطفال. كما أنها أديبة قاصة وقد صدر لها مجموعة "ملصقات على أبواب دمشق" وقد روت جانباً من سيرة حياة تيسير سبول وخاصة تفاصيل يوم إنتحاره.

تخرّج عام 1962، وعمل في دائرة ضريبة الدخل، ثم قرر ترك العمل الحكومي وبدأ بالعمل في مكتب للمحاماة. سافر مع زوجته إلى البحرين للعمل فيها. ومن هناك إنتقل إلى السعودية التي لم تدم فيها إقامته سوى أشهر معدودة. وفي عام 1964 عاد الى الاردن وفتح مكتباً للمحاماة في مدينة الزرقاء. ثم ترك عمل المحاماة وأغلق مكتبه وإنتقل للعمل في مكاتب الخطوط الاردنية "عالية" ، ومن بعدها إنتقل للعمل الإذاعة، واستمر يقدّم برنامجه الإذاعي (مع الجيل الجديد) بلا إنقطاع لمدة أربعة أعوام إلى يوم وفاته منتحراً بطلق ناري في 15/11/1973 إحتجاجا على النتيجة التي آلت اليها حرب تشرين (اكتوبر) عام 1973، وما تبعها من محاصرة الجيش الثالث المصري نتيجة نجاح الاسرائيليين في فتح ثغرة في خطوط الجيش عند الدفرسوار، وتوقيع وقف اطلاق النار بين الجانب المصري والجانب الإسرائيلي عند ما عُرف بخيمة الكيلو 101.

كتب تيسير سبول الرواية والشعر، والقصّة القصيرة، والتمثيلية المصوّرة، والنقد، والمقالة الصحفية، وترك مخطوطاً فكرياً في العروبة والإسلام. كما إطلع خلال دراسته على العديد من الروايات والكتب الاجنبية في تلك الفترة مثل روايات ايرنست هيمنجواي، والغريب لألبير كامو وكتاب اللامنتمي لكولن ويلسون وروايات فرانز كافكا. كما التقى بالاديب علي احمد سعيد "أدونيس" وزوجته خالدة وزارهما في بيتهما في بيروت ، وعندما جاءا في زيارة الى عمان فقد استقبلهما تيسير في بيته أيضاً.

أصبح بعد وفاته علماً بارزاً من أعلام الرواية ليس على الصعيد المحلي وإنما على الصعيد العربي أيضاً وقد إهتمت بشعره وقصصه القصيرة وبروايته العديد من المؤسسات الثقافية العربية والاردنية. حيث أقام الإتحاد العام للكتاب والصحفيين الفلسطينيين بدمشق ندوة في عام 1989 كُرِّست للحديث عنه وعن أدبه بمناسبة ذكراه السادسة عشرة ، وتحدث فيها عدد من المتكلمين منهم الروائي الاردني الراحل "غالب هلسا". كما خصصت رابطة الكتاب الاردنيين جائزة سنوية للرواية تحمل إسمه، وقد منحت في دورتها الاخيرة عام 2008 الى الروائي الاردني الياس فركوح.

تعتبر روايته الوحيدة "أنت منذ اليوم" والتي فازت بجائزة مسابقة "دار النهار للنشر" في بيروت مناصفة مع رواية "الكابوس" للاديب الاردني أمين شنار من الروايات التي تركت بصمة في مسيرة الرواية العربية. كانت رواية "أنت منذ اليوم" وبطلها "عربي" نقلة نوعية في الرواية العربية بعد الهزيمة حيث حملت معاني الخراب في الحياة السياسية والاجتماعية وعكست التشظي والتفتت الذي أصاب الانظمة والقيم والمعايير في المجتمع العربي الذي كان من نتيجته الكارثة.
"أنت منذ اليوم" كتبها تيسير في الفترة التي تلت حرب حزيران عام 1967 وبداية 1968حيث أن حرب وهزيمة حزيران هو موضوعها وحدثها الابرز. ومن خلال شخصية بطلها المأساوي او التراجيدي تعرض لأسباب الهزيمة باسلوب نقدي تحليلي يبدأ من نكبة عام 1948. تشكل حادثة عودة شقيق عربي وهو ما يزال طفلا في القرية من الجبهة وهو يروي أحاديث عن نفاد الرصاص وعن أوامر الانسحاب بداية الاحساس ببواكير المشكلة وتشكل صدمة لوعيه. تورد الرواية لقطات لمظاهر خراب الواقع خلال السنوات التالية التي قادت إلى الهزيمة مثل خراب الحياة الثقافية، والسياسة الرسمية والحياة الحزبية والعنف الدموي الذي يمارسه الحزبيون والسياسيون ورجال المخابرات الذين عانى عربي من ملاحقاتهم في العواصم العربية. كما تقدم مشاهد تدل على خراب الواقع الاجتماعي على مستوي العلاقات الأسرية وما يعتورها من تسلط وعقد. يطرح تيسير في الرواية أزمة العلاقات الاسرية البطريركية كرمز للتسلط من خلال علاقة عربي بأبيه، وعلاقته بحزبه الذي فصل منه لأنه رفض وصية أحد مفكريه، وهذه كما رآها عربي هي اساس المشكلة فكأن الرواية تدين المجتمع العربي بنظمه وقيمه وتحمله بالتالي مسؤولية الهزيمة.كما صورت الرواية مشهدا يبدو فيه "عربي" وهو ينظر الى الجسر الذي تعرض للتهديم على نهر الأردن ويصف جثة الجندي المرمية قربه والتي تبعث منها الرائحة في صورة رمزية تشير إلى رائحة الهزيمة. نجحت الرواية في تقديم نص يقوم على تفتيت الاحداث والانتقال الفجائي بين صيغ الزمان المختلفة واعتماد اسلوب التداعي والاسقاطات.

أما ديوانه الوحيد الذي سماه "أحزان صحراوية" والذي نشر عام 1968 عن دار النهار اللبنانية فإنه كما يوحي العنوان حالة الحزن التي استوطنت تيسير سبول وبما يرمز اليه مدلول الصحراء في الادب العربي الحديث من اشارة الى المجتمع العربي في خوائه وأرضيته القاحلة. وعندما توقف تيسير عن كتابة الشعر علل ذلك بقوله :"جميع الشعر الذي يكتب لأمة مهزومة، هذه الأيام هو غثاء، ولا أريد ان أزيد على أكوامه غثاء آخر". ومن قصائده المشهورة في ديوانه التي لا يذكر تيسير سبول الا وتذكر معه هذه القصيدة التي تنبأ فيها بقرب نهايته:

أنا يا صديقي‏
أسير مع الوهم، أدري‏
أُيَمّمُ نحو تخوم النهاية‏
نبيّاً غريب الملامح أمضي‏
إلى غير غايةْ‏
سأسقطُ، لا بدّ يملأ جوفي الظلامْ‏
نبيّاً قتيلاً، وما فاهَ بعدُ بآيهْ‏
وأنت صديقي، وأعلمُ... لكن‏
قد اختلفت بي طريقي‏
سأسقط، لا بدّ، أسقطُ..‏
يملأ جوفي الظلامْ‏
عذيرك، بعدُ، إذا ما التقينا‏
بذات منامْ‏
تفيقُ الغداةَ، وتنسى‏
لكم أنتَ تنسى‏
عليك السلامْ‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق