الاثنين، فبراير 28

ثنائية الجسد والجسر في "حوض مالح" لحسين نشوان


ثنائيــة الجســد والجســر

في "حوض مالح" لحسين نشوان

إياد نصار

* نشرت في ملحق جريدة الدستور الثقافي بتاريخ 25/2/2011

جاءت تجربة الرواية الاولى "حوض مالح" لحسين نشوان الصادرة مؤخراً ناضجة، وذات بناء روائي يرتكز الى عدد من الاساليب السردية، التي تتداخل بايقاع كابوسي حداثي في جو من الغموض والتشظي، لتقديم رؤية تستند الى قراءة الواقع من منظور مختلف للتاريخ والسياسة.

تتسم "حوض مالح" بالتكثيف، والابتعاد عن تقنيات السرد التقليدية، وعدم الانشغال بنقل التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية للشخوص، وتنهج أسلوب تجريد الاشياء والاحداث في إطار تحليل التاريخ، والانتقال بالسرد من إطار وصفي زمني الى إطار نفسي فلسفي، يحطم كلاسيكية المكان والزمان. نجح نشوان في طرح عدد من القضايا المختلفة التي ترتبط بالتاريخ، والحروب، والاحتلالات، والاديان، والصراع على الارض، والهوية، والغربة، والنفي، والتشرد، والتراث الشعبي، والحب، وثقافة الجسد، ومفارقات الحياة، في بناء سردي يتخذ من القضية الفلسطينية منذ النكبة وحتى الوقت الحاضر إطاراً، ومن الفلسطيني الذي تتشظى ذاكرته بطلاً يعيد صياغة المأساة من جديد.

تبرز في الرواية، رغم صفحاتها القليلة، جملة من التقنيات السردية، التي تتعاقب وتتداخل باستمرار، في إطار لغة ايحائية ذات تلوينات نفسية، وإسقاطات تاريخية وسياسية. وتمزج ما بين اسلوب استرجاع الذكريات، والهلوسات والكوابيس والاوهام، والتداعي الحر للافكار، والفانتازيا، وتوظيف اللغة العامية في الحكايات الشعبية الفلسطينية، في سياق يعكس أجواء طقوسية العادات والقيم الشعبية، ما يعبر عن الجو العام للمشهد الروائي، عبر مرحلة طويلة من تاريخ المنطقة القديم، وتوظيف اسقاطاته على الزمن الراهن، لتقديم رؤيته عن معاناة الانسان في هذه البقعة التي أشار اليها الراوي بـ "حوض مالح".

ويكتنف أسلوب الراوي الانتقال الفجائي بين صيغ الزمن المختلفة في نمط فانتازي، يبدو متفقاً مع شخصية الراوي، ونمط تفكيره في الغموض، والاحساس بالعجز، والشك في روايات التاريخ، وتصورات الانسان، والثوابت الاجتماعية والدينية. ولعل أهم ما يشير الى تفكير الراوي وقناعاته قوله لسارة: "الأشياء التي تطمس هي الأهم". وظّف نشوان أيضاً أسلوب الحوار الموجز بطريقة غير تقليدية. يبدأ الحوار فجأة بين الشخصيات، دون مقدمة، أو تفاصيل عن المكان والزمان، ولذا ليس مهما بين من ومن يجري الحوار، بقدر ما هو مغزى الحوار في السياق العام للرواية.

وظّف نشوان خبرته في مجال كتابة النصوص المسرحية، وخاصة المونولوج، في الغوص في الجانب النفسي الداخلي للشخصية بأبعاده المختلفة. وأثرى النص بالتأملات للتحرر من هزيمة الماضي وكوابيسه، وإعادة تقديم تجربة الحياة باحباطاتها وانكساراتها من زاوية أخرى، وقراءة الاحداث ضمن سياقها، بعيداً عن المقولات الجاهزة والموروثات الشعبية، وخاصة تلك المرتبطة بالسياسة والدين والتراث.

يتسم السرد بتضمين النص مستويات مختلفة من النقد والسخرية والاشارات، ومقاربة القضايا الكبرى، بأسلوب يفتح عيني القاريء على حقائق جديدة، تدفع للتأمل واعادة التفكير. ورغم موضوعها المرتبط بالقضية الفلسطينية، إلا أن الرواية ابتعدت عن المعالجات الرومانسية أو العاطفية في ندب الماضي والحنين اليه، بل إن الكثير من جوانب الماضي صارت محل نقض وشك واتهام. تشتمل الرواية على مقدار كبير من نقد الذات وقيم العقل الجمعي والتراث، دون أن تتخلى عن ابراز دور الجلاد وتحميله المسؤولية التاريخية عن الجريمة، "أنا ضحية الحكاية. أعرف قاتلي ولا أعرفه، تلتبس عليَّ الأمور".

يؤكد الراوي أن أوراق مخطوط الرواية ليست له، وأن لونها صار مصفراً مثل وجه الميت، في استحضار مبكر لهاجس الموت، وصوره التي تهيمن على أجواء الرواية. ويثير الانكار التساؤل عن أهمية شخصية الراوي المحيرة. إنه في العتمة بلا هوية أو اسم، راوٍ مجهول أمام الرواية، التي صارت هي الاساس، وهو، في الوقت ذاته، مركز الضوء يقدم من خلاله الكاتب عالمه الروائي، ومن خلاله يعود الاخرون الى الحياة بخسارات الماضي ومراراته.

يروي الرواية بطلها الذي يبقى اسمه مجهولاً، وهو في حالة غيبوبة، ويدرك القاريء أن أهميته تكمن في النظر اليه بوصفه شخصية رمزية تشير الى الفلسطيني المشرد. كتب الراوي وهو على سرير المرض في مستشفى في ألمانيا الى صديقته سارة: "أكتب لك يومياتي من المنفى إلى المنفى. أتابع الأخبار ضمن مربع أبيض، أقلب القنوات بسرعة، هكذا أمرّ على الوطن فتغشاني رائحة الموت.. سأموت غريبا".

يرد عنوان الرواية، لأول مرة، في الصفحة 65 ، أي في منتصفها تقريباً، ما يفسّر أهمية الاشارة مكانياً وزمانياً، في كونها كناية عن بقعة تجد نفسها دائماً في خضم الظلم والاحتلال، وهذا هو ما تعنيه الرواية، من أن هذه البقعة، على جانبي حوض حفرة الانهدام، قد شهدت كل حروب الدنيا، وتعاقبت عليها كل فصول المأساة. "تباً لأرض لا ترتوي من الدم، وتراب لا يشبع من لحومنا.. اختلط دم الضحايا ودم الجلادين في نسلها". يشير السرد الى المؤرخ الاغريقي هيرودوتس، الذي راح يضحك، عندما رأى المآسي فوق هذه البقعة، فقال "كل الحروب وقعت في هذا الحوض المالح".

تحكي الحبكة قصة ثلاثة أجيال من عائلة فلسطينية بطريقة دراماتيكية مؤثرة، حيث عبر النازحون النهر المهدم، وعلى الجسر ضاعت أخت البطل زينب، مما تسبب في جرح لم يندمل للأم، أصابها بالجنون، حزناً على فقدانها، حيث ظلت تبحث عنها وتتأمل رجوعها. تلعب الاخت المفقودة دوراً مهماً في حياة الراوي، ويبقى مسكوناً بصورة ضياعها، الذي يبدو بالنسبة له أنه جزء من كارثة أكبر. يقول أحدهم "أختك ضائعة؟! وماذا أفعل لك؟! الكل ضائع!"، في اشارة الى ضياع البلاد برمّتها، والى مسؤولية الجلاد.

يحصل الراوي على موافقة السفارة الالمانية على اللجوء السياسي، وهناك يعاني شعوراً طاغياً بالحزن والغربة والنفي في مخيمات اللاجئين من كل الجنسيات. وخلال متابعته للنشاطات الثقافية، يستمع صدفة الى باحثة يهودية تتعاطف مع الفلسطينيين، وتفضح مسؤولية الاسرائيليين عن النكبة، وترى أن مصطلح "النكبة" لا يشير الى مسؤولية الجاني، مثل مصطلح "التطهير الاثني". ويكتشف الراوي قرب النهاية أن الباحثة لم تكن سوى أخته المفقودة التي عاشت عند أسرة يهودية، بعد اختطافها، وتخصصت في التاريخ، وأدركت الكارثة التي حلت بالشعب الفلسطيني. ما يعني ضمناً أن حجم الكارثة يدفع الانسان، مهما كانت منطلقاته، الى الاقرار بالجريمة التاريخية.

تنتهي الرواية، كما بدأت، بمشهد الراوي ميتاً بعد عملية جراحية في الرأس، في إشارة رمزية الى الفشل في الخروج من قيود الماضي المثقل بالهزائم والذكريات المريرة، وفي اشارة الى تزييف الحقائق واعادة صياغة الوعي، ومحاولة القفز عن الهوية الى عالم آخر، والى الرغبة في تغيير الوعي من خلال الكتابة الابداعية على أمل تجاوز الماضي بلا طائل.

إن مفتاح رواية "حوض مالح" مرتبط بفهم شخصية الراوي. تجري كل أحداث الرواية في ذاكرته قبل أن يموت، ويستعيد فيها تاريخه وتاريخ عائلته، ويتذكر باضطراب الكثير من الاحداث والاسماء والاماكن التي ارتبط بها. والمكان مشكلة الراوي، فهو موزع بين عالمين وحياتين وهويتين، لا يعرف إن كان حياً، أم ميتاً.

والراوي في الأساس روائي يفكر بكتابة روايته، التي تبقى حلماً يراوده، ولا يستطيع انجازه، فالكتابة مغرية لكنها ليست سهلة، إذ تعيد الموتى الى الحياة بحيلة الحكاية، لكنها لا تستطيع تغيير قدرهم، ويظل الراوي، مكبلاً مثقلاً بمرارات الحكاية التي يوظفها نشوان كناية عن النكبة، وينتقل بنا عبر التاريخ من حكايات الكنعانيين وأساطيرهم، وقصص الفراعنة والتقاط موسى، والخروج، والتيه، وموجات الغزو التي مرت على هذه البلاد ولم تتوقف. "خلق كثير يتدافعون على الجسر.. أغذ الخطى.. أركض.. أريد العودة بسرعة لكتابة رواية جديدة".

يرد استخدام كلمة "الجسر" في الرواية كثيراً، ويحمل معان ودلالات مختلفة، ومن ناحية أخرى تركز الرواية على المشكلات الاجتماعية والسياسية وأوجه التخلف والأزمات المرتبطة بالجسد، لتؤكد أن الجسر والجسد هما اساس مشكلتنا التاريخية والحضارية. ترد كلمة الجسر في الرواية في سبعة عشر موضعاً. والاساس الذي انطلقت منه هو الجسر على نهر الاردن. وترتبط صورة الجسر في ذهن الراوي مثلما ترتبط في ذهن الضحايا بصور الجثث والموت وماء النهر المختلطة بالدماء.

تتناول الرواية المعاني الرمزية المختلفة الاخرى للجسر. يصبح الجسر رمزاً لمصير الفلسطيني، حيث لا يمكن العودة الى الماضي، مثلما صارت العودة على الجسر مستحيلة، وتغيير المصير لم يعد ممكناً. وتصبح الكتابة هي الوسيلة الوحيدة لإعادة معايشة الحياة من جديد، ورمز استرداد الحرية والقدرة على تغيير المصير.

تدين الرواية الحرب باعتبارها "فضيحة العقل". وهنا تأتي أهمية الجسر الذي كان يجب ألا يسمح له العالم بالانهيار، فهو صمام الامان للعالم الذي غرق في مصائبه، في إشارة الى أن القضية الفلسطينية هي سبب لما اصاب العالم من أحداث، أوقعته في لجة الحروب والدمار والعنف. "التاريخ يلعب بنا، سقط الجسر، وقعت الكرة الأرضية على رأسها وأصابها النزيف، ترنحت قبل أن يُغشي عليها. الناس تاهوا في الهذيان".

يشير انهيار الجسر الى انقطاع الصلة القسري بين الارض والانسان، مثلما يشير الى انقطاع الصلة بين الماضي والحاضر، والى الانتقال من عالم الحياة الى عالم الموت، ويعني انهيار الاحلام وفقدان أي أمل في العودة، مثلما يعني الوقوع في الهاوية، في اشارة الى الانحطاط والدمار، والدخول في أزمة حضارية طويلة من التيه والموت. وفي أكثر من موضع يكرر الراوي رؤيته في أن "الجسد والجسر دمرا عقول الناس وأكبادهم". تتخذ لغة الخطاب جانب التحليل الفلسفي والتاريخي "كل هزائمنا تبدأ من الجسر وعند الجسد". ولهذا السبب لا عجب أن تكون آخر فقرة اختتمت بها الرواية هو ابراز رغبة الراوي في إعادة كتابة المأساة من جديد، ما يشي بالرغبة في إعادة مسار الاحداث التي أدت لكل هذه الهزائم، حتى يصحح دور الجسر والجسد في المعادلة.

ومثلما قدمت الرواية الجسر، ككناية عن مستويات مختلفة من الأزمات في علاقة الضحايا مع الارض والجذور والتاريخ والماضي والمستقبل، وما يكتنفها من اضطراب وانقطاع، فإن الجسد حاضر في الرواية، وعلى مستوى أوسع، وبمستويات ودلالات لغوية وثقافية واجتماعية وعاطفية وحسية مختلفة.

شكل الجسد أحد اسباب الهزيمة، فقد انتشرت خلال حرب عام 1948 وفيما بعد في حرب عام 1967 موجة خوف جماعية بأن الجنود ينتهكون عرض النساء ويقتلونهن، مما زاد من وتيرة التهجير. يتذكر الراوي حينما كان طفلاً كيف صار الجسد سبباً للهزيمة. تقول والدته: "اليهود يسلبون المرأة شرفها"، فيقول: "لم أستطع وقت قالت أمي ذلك معرفة قصدها.. اكتشفت وأنا ألتفتُ خلفي أنني أعرف معنى الرحيـل والمنفى مبكراً".

يشكّل الجسد في الرواية في أحد تمثيلاته صورة عن معاناة الانسان بين نقيضين: الحلم وقسوة الواقع، الرغبة في التحرر من قيود العقل الباطن وقصور الجسد، كما يشير توظيف الجسد الى الكبت، وسطوة الثقافة الجمعية، ومحددات الممكن، وتابوهات الموروثات الدينية والاجتماعية، وفشل الانسان في تحقيق الذات، وعجزه عن التحرر من الالم.

وعن ثقافة قمع الجسد التي تهدم أي فرصة للمرأة في أن تعيش الحب وتعبيراته العاطفية المختلفة، فإن الرواية تستحضر مأساة المرأة عبر الاجيال لأجل صون الشرف. تجسد قصة قطر الندى ومشعل، التي تحولت الى مغناة فلوكلورية، معاناة المرأة التي تعيش تحت حد سيف ثقافة الشرف. وتتبدى قمة السخرية حين نرى أن هذا الهاجس الذي يستبد بالرجل حتى يقتل المرأة، لا يدفعه لتغيير مسار الهزيمة صوناً للشرف. وتتجلى المفارقة عندما يصبح قتل المرأة ليس مجرد موقف ذكوري فحسب، وإنما قناعة نسائية أيضاً. "تزم إحداهن شفتيها الغليظتين: تسلم يدها، المرأة تورث الألم والخوف لسلالتها وتورث العار، البنت سترت عيبها وعيب أهلها".

يتحول الاحساس بالهزيمة والعار الى رغبات محمومة، يعوّض فيها الرجل من خلال الجنس عن شعوره بالمهانة في محاولة للتغلب على الاحساس بالقهر والخوف. "الهزيمة تغير عادات الحب، تثير الشبق والهوس والجنون، تحمل أصحابها وزراً ثقيلاً يُستفرغ بالجماع". ويشبه الراوي الجنس بالحرب، يعبر فيهما الذكور عن رغبتهم في ترك بقع دم على الضحايا، وعن رغبتهم في الاحساس بالقدرة على منح الحياة وسلبها. "الرجال يتركون قصص بطولاتهم لعتبات نساء يخصبن أسطورتهم بدم الولادة ونزيف الأضحية".

يرى نشوان أن الجسد مشكلة متأصلة وأزمة حياة ليس فقط على صعيد البنى الفلسطينية، لكنها مشكلة عربية متأصلة في التراث والعقل الجمعي. "سأكتب عن جابر الذي هو قيس، ووضحا ليلى، أو عنتر وعبلة، لكن هذا سيوقعني في مطبات كثيرة لأن الحب فضيحة، يوقظ أبواب جهنم، يصيب العقل بالجنون".

رابط المقال بجريدة الدستور الأردنية

رابط الصفحة الكاملة (انتظر قليلاً ريثما يتم تحميل الصفحة)



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق