الثلاثاء، أغسطس 31

حوار مع جريدة الغد


نصار: أتقصى تفاصيل معاناة الإنسان في صورها المختلفة
ما أزال مؤمنا بقدرة الأدب على التأثير في الآخرين

حاورته: عزيزة علي


عمان - يرى القاص إياد نصار أن قدرة الأدب على التأثير في الآخرين تأتي من قدرته على تمكين القارئ من معاينة ما يمر به الإنسان من أزمات حياتية ووجودية وفكرية في نمط إبداعي.


نصار الذي صدرت له مجموعتان قصصيتان هما: "أشياء في الذاكرة" في العام 2008، و"قليل من الحظ" في العام 2010 يؤكد أن دافعه للكتابة هو اهتمامه بقضايا الإنسان المعاصر وأزماته النفسية والاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، وإفرازاتها من القلق والصراعات والضياع والموت.


فنصار عاش حياة لم تخلُ من المعاناة والألم، ورغم ذلك لم يفقد الإيمان بالتغيير والقدرة على صناعة مستقبل أفضل من خلال نشر الثقافة وتنمية الوعي والبحث عن الحل لأزمة الإنسان المعاصر في المستقبل لا في الماضي.


يهتم نصار بفن القصة القصيرة كتابة وترجمة ونقداً، بالإضافة إلى دراسة القصة القصيرة والرواية في الأدب العربي الحديث، كما قام بترجمة العديد من القصص القصيرة والقصائد من الأدب الانجليزي والأميركي.
وفي الحوار التالي، نحاول الإطلالة على تجربة نصار الأدبية:

• هل لنا بإطلالة على الأجواء التي دفعتك لكتابة "قليل من الحظ"؟

- أنا شديد الانتباه الى تفاصيل معاناة الإنسان بصورها المختلفة، خصوصا في تمثلاتها النفسية التي تغتال روحه وسعادته، وتسلبه الأمل في أن يصنع حلماً أو حتى وهماً أو هاجساً يعطي لحياته معنى. وأظن أن هذا لا بد منه لمن أراد كتابة القصة. لقد مرّ الوطن العربي عموماً، والاردن خصوصاً، ومنذ أوائل التسعينيات، بتحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية شديدة الوطأة وذات تأثيرات مادية وفكرية ونفسية عميقة ليس على الانسان في الفئات المحرومة وحسب، بل حتى على الانسان العادي.


لا تنحصر هذه التأثيرات في البيئة المحيطة المباشرة، بل تعمل على مبدأ الدوائر الآخذة في الاتساع مع تطور وسائل الاتصال والإعلام، حيث لا تقتصر صور البؤس والشقاء والحرمان المادي والعاطفي على المكان الذي يعيش فيه الكاتب.


لقد صرنا مواطني قرية كونية واحدة تبعث فينا إحساساً حقيقياً بالتشاؤم من اتساع مشهد المعاناة، وأعتقد أن القصة والرواية العربية اصبحت الان تحمل مضامين عالمية وذات توجهات انسانية متأثرة بهذه الاجواء، مع المحافظة على خصوصية المكان، وتنحو في الوقت ذاته الى تأكيد النزعة الفردية ضمن إطار الهوية.


دافعي للكتابة دائماً قضايا الانسان المعاصر وأزماته النفسية والاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، وإفرازاتها من القلق والصراعات والضياع والموت التي صارت تتسم بها حياة الانسان وخصوصاً في المجتمعات التي ينهشها العنف والتطرف في مستهل القرن الحادي والعشرين، وبما تنطوي عليه من اضطراب وتمزق وخديعة وإحساس بالخوف واغتراب عن المكان. أعتقد أنني لست صنيعة تاريخي وبيئتي فقط، بل قراءاتي وثقافتي في اطار إنساني.

• لديك مجموعتان قصصيتان، ما الذي يمكن أن تؤشر إليه كاختلاف بين الاثنتين؟

- المجموعة الأولى "أشياء في الذاكرة" حاولت أن أغوص من خلال قصصي في منجم تجاربي الذاتية عبر مراحل حياتي المختلفة، لأن الماضي والطفولة المهدورة والمدرسة التي تغتال البراءة، وبدء تكوين الوعي في محاولة لإثبات الذات، ومظاهر التحول الارتدادي الماضوي كما نعيشه الان، كلها حافلة بالمواقف التي تحمل الكثير من تأملات الحياة.


لقد عايشت حياة لم تخلُ من المعاناة والألم، ولكني لم أفقد الايمان بالتغيير والقدرة على صناعة مستقبل أفضل من خلال نشر الثقافة وتنمية الوعي والبحث عن الحل لأزمة الانسان المعاصر في المستقبل لا في الماضي، وما يتطلبه ذلك من احترام الذات والاخرين وتقدير الفن والجمال وكل أنماط العمران البشري.


لقد شعرت في هذه المجموعة أن لدي الكثير لأقوله من واقعي وتاريخي وطفولتي وبداية تفتحي على الواقع ومراراته، وعن تطور المجتمع الاردني، وعن فلسطين التي تشكل هاجساً دائماً بالنسبة لي، فيما انطلقت في مجموعتي الثانية إلى فضاء عربي أوسع. فتناولت مشكلات مجتمعاتنا العربية التي تتعرض ثقافتها الى تغيير قسري نحو الانغلاق وضيق الأفق.

• برأيك، ما هي الرسالة التي يجب أن يحملها من يقدم على فعل الكتابة؟ وكيف ترى من يستسهل هذا الفعل؟

- أنا ممن يقولون بأن على الكتابة أن تخرج من الذاتية المفرطة والتجريبية الشكلية الى تبنّي قضايا الانسان ومشكلاته، ومن مقولة الادب في خدمة الايدولوجيا الى الادب في خدمة الإنسان.


وأعتقد أن قدرة الادب على التأثير في الاخرين تتأتى من خلال قدرته على تمكين القارئ من معاينة ما يمر به الانسان من أزمات حياتية ووجودية وفكرية في نمط ابداعي، ومن ثم يضفي عليه نوعاً من التفهم القادر على حفز تفكير الاخرين وادراكهم الذي يتجاوز مجرد الاهتمام بالتفاصيل أو ايجاد مادة للكتابة.


أعجبني ما ذكره القاص والروائي الاميركي ستيفن ملهاوزر في حديثه حول قوة القصة القصيرة التي تمكنك "أن ترى العالم في حبة رمل". يجب أن تنحاز القصة الى تلك الجوانب من حياتنا التي تنطوي على أحلام منهارة، أو آمال مؤجلة، أو آلام مستبدة، أو أشواق مكبوتة، أو مقادير تفرض علينا أعباء حتمية لا مفر من مواجهتها، لأن فيها تحت السطح عالماً من التأملات. يجب أن تدفع الكتابة القارئ الى طرح التساؤلات والى تشكيل رؤية تساعده على التأقلم مع الحياة.


أظن أنه حري برسالة الكتابة ألا يكون دافعها مجرد ابداء التعاطف مع جوانب المعاناة الإنسانية وحسب، بل ينبغي أن يتجاوز الكاتب حدود الرغبة الى التأمل الحقيقي الذي يحرك الفكر والقلم معاً في ما تنطوي عليه ظواهر الاشياء، والى محاولة فهم البعد النفسي والرؤية الفلسفية لما يجري. إن تفهّم تجارب الاخرين لازم قبل الكتابة عنها، حتى لو اتخذت تجاربهم مساراً مختلفاً عما نريده، أو عبرت عن ظروف قد لا نتفق مع بواعثها.


يشكل بؤس الإنسان بحد ذاته منذ بلزاك وجوستاف فلوبير واميل زولا والى اليوم ورغم تعدد المدارس الفكرية للقصة مادة غنية للادب اذا اتخذ الكاتب من منطق "من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر" أساساً لفهم السلوك الانساني الذي سينعكس على شكل معمارٍ روائي أو قصصي. وأعتقد أنه يمثل، بغض النظر عن كل العوامل الاخرى التي تعطي النص خصوصية، مقياس التعبير عن الانتماء الى الانسان ككائن ضعيف وجبارٍ، ورائع ورتيب، وجانٍ وضحية في آنٍ معاً.

• في أحد مقالاتك تحدثت عن ضعف وفقر المصطلح عند المبدعين، ما رأيك في الضعف والفقر الثقافي لدى من يطرح نفسه مبدعاً؟

- أعتقد أنه يمكن تشبيه المسألة بوجهي العملة الواحدة اللذين لا ينفصمان. فمن ناحية اللغة، أقرأ بين الحين والآخر نصوصاً على قدر من الخطية الاحادية التي تعبر عن بساطة في التناول الإبداعي، وعن الميل الى توظيف اللغة المعلبة في قوالب ممجوجة التي تنم عن فقر معرفي، وعن تجاهل حقيقة تعدد الرؤى والطروحات وأوجه الحقيقة التي لا تنتهي وتعقيد المواقف والمعطيات، فتشعر أن المبدع يتعامل مع النص والقارئ في تبسيط شديد لا يستقيم مع واقع الحياة.


كما اقرأ العديد من النصوص أحياناً التي لا تستطيع أن تثير فيك نوازع الجماليات اللغوية، ولا جاذبية الفكر في سبره الإبداعي العميق لفلسفة الحياة، لأنها تفتقر الى مساحات لغوية واسعة قادرة على تجسيد الشخصيات بحالاتها النفسية المعقدة المتغيرة وانشغالاتها الفكرية ونوازعها الداخلية، ووصف تفاصيل الاشياء، والتعبير عن انطباعات المكان وتأثيراته والمتغيرات التي طرأت عليه.


تتضح المشكلة أكثر في النصوص التي تصبح انعكاساً لحوار واقعي من غير أي جهد بارز في تلوين النص بظلال الوصف والذكريات والتداعيات والتأمل. لذلك قلت بأن المبدع يحتاج الى منهجية فاعلة في بناء المعرفة وتنمية اللغة بكل أنواع المفردات المترادفة والمتقاربة والمتضادة لتجاوز مأزق اللغة في رصد الاشياء والمواقف والحالات المعقدة المتداخلة وجعلها أكثر تأثيرا في القارئ.


ومن ناحية الثقافة، فهناك تقوقع لدى بعض المثقفين على المكان والذات، فلا يقرأ بجديّة ولا يتابع الا ما يقع بطريق الصدفة أو الاهداء في الساحة المحلية، وكأن الابداع العربي يتوقف عند حدود المدينة. وهناك تراجع على صعيد القراءات الثقافية المتعمقة في تاريخ الاداب العالمية الاخرى وحركات النقد والمدارس الفكرية المتنوعة، إلا ما كان ينتمي لجهة ايدولوجية معينة. ويمكنك أن تلمح ذلك في غياب أي تيار أو حركة أو مدرسة كما كان يتم على صعيد الادب العربي في مطلع القرن وحتى منتصف السبعينيات.


هناك جهود فردية متناثرة وغير قادرة على إحداث تأثيرات ثقافية عامة في المجتمع بسبب هذا النمط من التفكير الذي يشبه الجزر المتقاربة المتباعدة في الوقت ذاته.

• تطرقت المجموعة "قليل من الحظ" إلى قضايا عديدة يدخل فيها البعد النفسي، لماذا تطرقت إلى هذه القضايا، ثم ألا ترى أنها تحتاج إلى جهد مكثف في عالم النفس؟

- أميل الى القصة التي توظف الإيحاءات والتلوينات النفسية، والإشارات، وصور المكان التي تعكس الحالات الجوانية للشخوص، وتبرز المفارقة الإنسانية. أميل الى القصة التي تستكشف عالم الانسان الداخلي أمام المتغيرات الخارجية، وتفتح مساحة من التأمل أمام القارئ ازاء الحياة. إن التزام الإنسان بقيمة ذاته والمثل والقيم المستندة الى وعيه، ورفض تدخلات قوى الظلام والميتافيزيقيا تستحق أن تكون موضوعاً للإبداع على اختلاف أجناسه. لدي اهتمام منذ أيام الدراسة الجامعية بالقراءات النفسية، ومنهج النقد المستند الى التحليل النفسي ليس في إطار فرويدي ولكن في إطار أوسع وأشمل لمن جاؤوا بعده.



رابط الحوار في الغد الثقافي

رابط صفحة الغد الثقافي / نسخة pdf


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق