الجمعة، مارس 25

أنقذوا "أفكار"

إياد نصار



* نشرت في صحيفة الدستور بتاريخ 23/3/2011
 
أوجه ندائي لدولة رئيس الوزراء ومعالي وزير الثقافة لانقاذ رمز وطني ثقافي عريق اسمه مجلة "أفكار". ارتبطت "أفكار" في ذهني منذ أن تفتحت عيناي على الدنيا ووجدتني طالباً على مقاعد الدرس بنصوص من القصة القصيرة والشعر في الاردن ومضامينها الانسانية ، وجمالياتها اللغوية والاسلوبية ، وكنت أحس بعلاقة حميمة تربطني بها ، واحتفظ بها بين كتبي كمن يخشى على شيء عزيز عليه من الضياع ، فأحببتها وترسخت لها في وجداني مكانة خاصة بوصفها رسالة تحمل الابداع في الاردن. ارتبطت "أفكار" في ذهني ، وأظنها كذلك في أذهان الكثيرين من القراء والمثقفين ، باسماء مبدعينا الرواد الكبار الذين تذوقنا ، وكنا ما نزال نتلمس طريقنا في عالم الكتابة والابداع ، روعة فكرهم وفتنة قصائدهم وبراعة قصصهم ، التي تحمل هموم الفقراء والمتعبين والباحثين عن الحرية في الكلمة ، في وقت كانت كتاباتهم هي الفضاء الوحيد المتاح أمامهم يبثون من خلالها همومهم الحياتية وانشغالاتهم الفكرية ومواقفهم الوطنية. ارتبطت "أفكار" في ذهني بشيء جميل حينما اكتشفت معنى أن يصبح الكتاب رفيقك ، والقلم صوتك ، والكلمة هي الريشة التي ترسم بها حلمك. لقد ارتبطت "أفكار" دائماً بمراحل تطور الابداع في الاردن ، ولعبت دوراً فاعلاً في تقديم ثقافة حداثية تنويرية. ارتبطت "أفكار" دائما بكونها شاهداً على ازدهار الابداع في الاردن ، ورافعاً من روافع الحركة الأدبية. لكن أخشى أن ذلك يوشك أن يصير الان تاريخاً.


أين هي مجلة "أفكار" الان؟ هل رآها أحد منكم منذ فترة؟ أتحدى أن يجدها أي منكم في أية مكتبة تبيع المجلات والكتب ، أو أية وكالة لتوزيع الصحف والمجلات ، أو أن يجدها حتى لدى الاكشاك أو باعة الارصفة. يكاد هذا الرمز الثقافي الاردني الجميل الذي صمد ما يزيد عن خمسة وأربعين عاماً أن يضيع أو يصبح مجرد ذكرى. المجلة شبه غائبة أو مغيّبة.


هل يعقل أن "أفكار" بعد كل هذه السنوات الطويلة من مسيرتها ، وبدلاً من أن تصبح رسالة الاردن الثقافية الى العالم العربي ، لا تطبع سوى ألف نسخة توضع في أدراج وزارة الثقافة لكي يتم توزيعها على الكتاب المشاركين فيها وعلى أفراد وجهات ومؤسسات ثقافية وأكاديمية مختلفة؟ وأغلب من ترسل اليهم المجلة لا ينتظرونها ، فإن وصلت فلا بأس ، وان غابت فلا يدري بها أحد. تخيلوا الف نسخة فقط ، ومع ذلك لا توزع كلها ، بل يبقى فائض منها لدى الوزارة بسبب غياب التوزيع المؤسسي التسويقي الحقيقي. المجلة لا تصل الى القارىء الاردني العادي نهائياً ، وربما قلة قليلة تتابع صدور العدد من غير كتّابه بسبب عدم وجود المجلة في المكتبات ومنافذ بيع المجلات ، واذا كانت المجلة مفقودة من السوق الاردني فهي غائبة بالضرورة عن القارىء العربي أيضاً ، اللهم بعض الجامعات العربية التي تصلها نسخة واحدة بفضل جهود محرريها. وحتى النسخ التي تطبع ويوزع جزء منها ، فإن ذلك يتم بجهود هيئة التحرير الشخصية واتصالاتهم وحتى باستخدام سياراتهم.


لقد شاركت في أواخر الشهر الفائت في ورشة للنقاش حول سبل تطوير "أفكار" بمبادرة من هيئة تحريرها ، وحضرها نخبة معروفة من المبدعين والكتاب والاكاديميين والعاملين في الصحافة الثقافية بحضور عطوفة الامين العام للوزارة ، الذي كان مهتماً بالاستماع الى اقتراحات للنهوض بها. وهي مبادرة يسجل لها الشكر ، وتدل على الرغبة في العمل والتطوير والتواصل مع جمهور الكتاب والمتابعين للشأن الثقافي. وقيلت في الورشة أفكار كثيرة تعبر عن الامال الكبيرة في أن تصبح "أفكار" في مكانة أفضل تليق بتاريخها. ولكن الورشة وضعتنا أمام حقائق إدارية ومالية مذهلة أخشى إن استمرت أن تؤدي الى موت هذه المجلة العزيزة.


ورغم أنه يتوفر لأفكار حالياً هيئة تحريرية جادة في التطوير والتحديث ، ولديها الخبرات الكافية ، والمجلة ما تزال تحظى باهتمام وثقة كثير من الكتاب والمبدعين الاردنيين وبعض العرب الذين يرفدونها بكتاباتهم وابداعاتهم ، ورغم ما سمعناه عن نقص في المواد الثقافية التي تصلها ، إلا أن ذلك ما هو الا نتيجة الخلل المالي والاداري والتسويقي الذي تعاني منه المجلة.


لقد تراجعت الميزانية المرصودة لوزارة الثقافة كثيرا عما كانت عليه من قبل ، وتراجعت المخصصات المتوفرة لكثير من مشاريع الوزارة ، ولكن أفكار ليست مجرد مجلة ، بل جزء من مشروع ثقافي وطني ، يهمنا نجاحه. إن التفكير بتطويرها ضمن ما هو متاح حالياً من موارد وميزانية جهد ضائع لن يغير في الصورة كثيراً. المجلة بحاجة الى رعاية سخية واستقلالية مؤسسية تتجاوز الكثير من المعيقات المالية والادارية. المجلة بحاجة الى قرارات كبيرة إذا أردنا أن تظل أفكار جزءا من الحالة الثقافية في الاردن. تحظى المجلات العربية الثقافية العريقة بدعم حكومي حريص على استمراريتها كأنها رموز وطنية ، يتمثل في تقديم مخصصات مالية في سبيل تطوير امكانياتها ، وتوفير كادر تحريري متخصص ضمن استقلالية ادارية واضحة وامكانيات طباعية وفنية واخراجية عالية ومبان وامكانيات كبيرة للتوزيع واستقطاب الاقلام والمكافآت وإقامة النشاطات والفعاليات ودعم الابحاث والاستطلاعات والمتابعات الميدانية وغيرها. هناك الكثير من الافكار الجميلة التي طرحت في الورشة ، وتتناول تطوير الشكل والمضمون ، وهناك الكثير من الاحتياجات التي تم تحديدها ، وهناك بعض التصورات الواضحة التي تعبر عن رؤية استراتيجية لتطوير أفكار ، ولكن ستظل هذه الافكار والمشاريع حبراً على ورق دون رعاية حقيقية وغير عادية لمجلة أفكار.


أعتقد أنه لا بد من تشكيل لجنة عليا لكي تتولى ومن ناحية استراتيجية وضع الخطط الادارية والمالية والتصورات التي تحرص على الاستقلالية المؤسسية التي تتيح للمجلة حرية العمل ووضع الخطط موضع التنفيذ ، وبما يؤمن لها قدرة أكبر على الحركة والتغيير والتطوير ومواكبة التطورات وتوظيف الامكانيات الطباعية والرقمية الحديثة. أرجو أن تصبح أفكار مجلة الاردن الاولى التي تجدها في كل ركن مثلما تجد مجلة أخرى كالعربي ، وأن يحرص الناس من تلقاء أنفسهم على اقتنائها ، وأن تلعب دورا كبيرا في نشر الوعي والثقافة بين قطاعات المثقفين والطلبة والاكاديميين والمتخصصين والمبدعين والنخب في ميادين الثقافة والفنون ، وأن تصبح ذات حضور معروف على صعيد المنطقة العربية ، وبالتالي تنتقل من كونها مجلة ثقافية أردنية الى مجلة ثقافية عربية كبيرة تعزز حضور أدباء الاردن ومبدعيه ومثقفيه في الساحة العربية.


إن النظرة الادارية التقليدية التي تتذرع بغياب الامكانيات المالية والعجز وعدم مرونة الانظمة والتشريعات والقوانين التي تحكم عمل مؤسسات الدولة ووزاراتها المختلفة لن تقدر على تطوير المجلة الى المكانة المأمولة. المسألة بحاجة الى نظرة شمولية تخرج عن منهج التفكير في داخل الصندوق الى اجتراح قرارات جذرية تؤمن بأهمية الثقافة في بناء الوطن والانسان بحيث لا يبقى حظ الثقافة في آخر سلم الاولويات. ولهذا أتمنى أن تحظى أفكار برعاية خاصة في إطار نظرة جادة تسعى الى جعلها مشروعاً أردنياً الى العالم العربي لنشر الابداع والتنوير.

رابط الموضوع بصحيفة الدستور

رابط الصفحة الكاملة (انتظر قليلاً ريثما يتم تحميل الصفحة)



هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف7:08 ص

    السلام عليكم استاذ اياد الفاضل
    بداية اقدم خالص التهاني على موقفك المخلص لانقاذ تاريخ مجلة قد تبدو مجرد مجلة ثقافية لكنها بالحقيقة رمز لكل فكر اصيل رمز للتشبث بدور الكتاب في حياتنا لطالما رافقتكم هذه المجلة بكل ابوابها خلال سنوات مرت عشتم بداخلها وتصفحتم اوراقها بكل الحب والشوق للمعرفة والشغف بابوابها كيف تهون علينا مجلة اصيلة لم تبخل علينا ولم تتراجع يوما على خدمة الفكر والادب لصالح الانسانية.
    لزاما علينا النهوض بها الى اعلى المراتب وعدم السماح لقلمها بالتراجع كي تبقى مصباحا مشعا للعلم والمعرفة.تشكراتي استاذ اياد على موقفك النبيل واضم صوتى الى صوتك واناشد باقي الاقلام ان تنهض بمجلتنا العريقة حتى تنطلق من جديد وتنفتح بوجهها كل الافق بهذا تظل مفخرة اردنية على مدى الازمان نرفع راسنا بها عاليا.مع تقدير تلميذتك عفاف

    ردحذف
    الردود
    1. لك عفاف فائق الشكر على اهتمامك بموضوع مجلة أفكار العريقة. لكن وضع المجلة المالي والتسويقي رغم رصانتها وقيمتها الادبية العالية أصبح لا يسر عدواً أو صديقاً. ما تزال وزارة الثقافة تقتطع كل يوم المزيد من الميزانية المرصودة لها، ومن كافة مجالات الدعم الثقافي للمبدعين. أرجو ألا تكون هذه المقالة صرخة في واد. شكرا لك عفاف على توقفك الجميل وأضم صوتي الى صوتك في أهمية المحافظة على أفكار ودعمها لتصل كل محب للادب والثقافة في الاردن والوطن العربي. أقدم لك خالص مودتي وثنائي.

      حذف