الجمعة، يونيو 16

يالو .. هاجس الحرب والمكان والبحث عن الوطن الضائع

 



يالو .. هاجس الحرب والمكان والبحث عن الوطن الضائع

قراءة في رواية (يالو) للروائي اللبناني الياس خوري


بقلم اياد نصار


"أنا لا أكتب من أجلي، بل من أجله وأجل أمه. أريد أن يعود إلي من أجل أمه المسكينة، وعلينا أن نجد لها حلاً لأنها سوف تكون بطلة القصة. أنا لا أحب القصص التي يكون أبطالها رجالاً. بطلة قصتي سوف تكون غابي، بكونيتها وشعرها الطويل الذي يتذهب أمام البحر وعشيقها الخيّاط، ووالدها الكوهنو، وابنها الذي ضيع حياته... سنة كاملة لم أكتب خلالها سوى صفحة... أريد نهاية سعيدة للقصة... أريد نهاية أخرى، أحاول أن أتخيل النهاية المختلفة، لكن خيالي لا يساعدني. أنا لا أملك خيالاً كافياً كي أجد نهاية لغابي تليق بقصة حبها. وإذا لم أجد نهاية القصة فكيف أكتب"..

 

قد يكون هذا الاقتباس أجمل نص في رواية يالو فهو يلخص مأساة بطل الحكاية ومعاناة شخصياتها والنهايات البائسة الحزينة التي تتشابك وتتقاطع مع الماضي والحاضر.. إنها رواية الحرب التي قلبت كل القيم الانسانية وجاءت بالخراب بكل بشاعته. لفت انتباهي عنوان رواية (يالو) للروائي اللبناني المعروف الياس خوري وانتابني فضول كبير لأن يالو تعني لي الكثير غير ما تعنيه الى الياس خوري،  ولأن اسم يالو يختصر تاريخ شعب كامل من المعاناة والنضال ويرمز بالنسبة لي الى أرض الميعاد الفلسطينية التي ترتبط في الذاكرة بالطفولة والجمال والعراقة والحنين والتشرد وارتباط الانسان بالارض المفقودة والتعبير عن الهوية. واذا كانت يالو الفلسطينية تعكس المفارقة بين حطام الارض المسلوبة، والحجارة المهدمة، والانسان الذي يتعلق بذكريات المكان كتعويض عن المكان، حتى صارت هي الوطن الذي يحمله في قلبه مثلما يحمله في حقائب سفره ، فإن يالو اللبنانية هي رواية الحرب بكل آثامها وصورها البشعة وممارساتها اللاأخلاقية وهي التعبير عن كل فظائع الحرب الاهلية وامتهان كرامة الانسان حيث تنجب الحرب مجرميها الصغار والكبار معاً.

 

وفي البدء لا بد من الاشارة الى أن روايات الياس خوري العديدة قد فرضت لها حضوراً بارزاً، ليس في المشهد الروائي العربي، ولكن على الساحة العالمية، حيث ترجمت رواياته الى العديد من اللغات، وكتبت عنها كبريات الصحف في العالم. غير أنه يجدر بالذكر أن خوري قد أفرد الكثير من أعماله للحديث عن الانسان الفلسطيني، وعن المعاناة الفلسطينية، التي تمثلت في النكبة وحياة المنافي والمخيمات البائسة التي شوهت العلاقات الانسانية، ومن أشهر رواياته، وربما الاشهر على الاطلاق، التي تناولت جوانب عدة من معاناة النكبة الفسطينية هي "باب الشمس" التي أصدرها عام 1998، وكذلك ثلاثية "أولاد الغيتو" التي بدأها عام 2016 ، وهي أولاد الغيتو -آدم، وأولاد الغيتو – نجمة البحر وبشكل خاص الجزء الثالث المسمى "رجل يشبهني".

 

بين يالو الرواية اللبنانية وبين يالو القرية الفلسطينية الكثير من صور الحرب، والضياع، والتشرد، والعذاب، وقدرة الانسان على ارتكاب الشر ضد الانسان، وفظائع الانسان في الاستيلاء على حق الاخرين في الحياة والكرامة، والاستلاب، وهاجس المكان المرتبط بواقع المعاناة والمأساة، ولكن بينهما خيط رفيع لا يكاد يبين من الحنين الى الزمن الماضي، والامل في العودة الى الوطن الضائع، الذي لا تخبو جذوته في أعماق النفس، والذي استحال الى ذكريات لذيذة توجع القلب.

 

تجري أحداث رواية يالو في عام 1993، وتنقل صورة وطن ورث حربا طويلة دامية مؤلمة، فانتشر الخراب في كل مناحي الحياة، وجاءت الرواية مثقلة بمشاهد العنف، والخطايا، والاستغلال، والكراهية، والسرقة، والتعذيب.

 

تدور أحداث الرواية خلال الحرب اللبنانية في الفترة ما بين نهاية السبعينات وأوائل التسعينات، في بيروت، وفي باريس، وفي ضيعة بلونة، في جبل لبنان، ثم في غرفة التحقيق والسجن. بطلها شاب سرياني الاصل يدعى يالو أو دانيال وهو وحيد أمه التي تدعي غابي، ولم ير أباه الذي هاجر الى السويد وهو لم يزل في بطن أمه. جده كردي يسمى غبريال هابيل ابيض. وتوظيف الاسم هابيل والاسم أبيض كجزء من اسم يالو يرمز الى براءة ونقاء الاصل والجذور، فهابيل ضحية شرور قابيل، وهي الصورة الاولى في التاريخ لتحولات الشعور بين الاخوة من الخير الى الشر والحقد، وهي ذات الصورة التي تجسدها الرواية لتحولات الشعور بين أبناء الوطن الواحد الذين فرقتهم الحرب.

 

كان يالو خطاطا موهوبا ينم عن الكثير من تباشير الامل والفن، غير أن كل هذه الجوانب الانسانية قد اختفت منذ وقت مبكر بعد أن شارك في الحرب الاهلية بالتحاقه بميليشا القوات اللبنانية في عام 1979. وبعد عشر سنوات يقرر يالو الانسحاب من الحرب لأنه كما يقول "زهقت منها، كنت في البداية مثل جميع الشباب، أريد أن أدافع عن لبنان، وبعد ذلك اكتشفت أنني أحارب فقراء مثلي وأنني سوف أبقى غريبًا مهما فعلت. لأن الإنسان غريب في هذا العالم." لعل هذا يذكرنا ببطل قصيدة شادي التي غنتها السيدة فيروز، فشادي الذي عرف وعاش اللعب واللهو البريء على الثلج اختطفته الحرب. وعند التأمل في الكلمات نكتشف أن شادي هو لبنان الجميل البريء قبل الحرب الاهلية:


ناس ضد ناس علقوا بهالدني
وصار القتال يقرب على التلال
والدني دني

وعلقت على اطراف الوادي
شادي ركض يتفرج
خفت وصرت انده له
وينك رايح يا شادي
انده له وما يسمعني
ويبعد يبعد بالوادي
ومن يومتها ما عدت شفته
ضاع شادي

 

يهرب يالو وصديقه أنطوان الى باريس، بعد أن سرقا أموال الثكنة التي خدما بها، وبعد أن أيقنا أن الحرب ليست حربهما! وباريس هي رمز الحرية، واكتشاف الذات، والبحث عن أعماق الذات الانسانية العامرة بالفنون والانشغالات الحضارية، ولكنها تصبح بالنسبة لهما أرض الافلاس المالي والاخلاقي، والضياع، والتشرد. وتبقى أخلاق الحرب التي دمرت النفوس، وجعلتها خواء حاضرة فيهما، فيسرق طوني صديقه يالو، ويختفي عن الانظار، ويتركه ليعيش مشرداً جائعاً يكاد يموت من البرد في شتاء باريس، فيقيم في محطة المترو في حي مونتنبراس.

 

وفي باريس يتعرف عليه وينقذه من التشرد المحامي وتاجر السلاح اللبناني ميشال سلوم او الخواجة ميشال، الذي يعرف جده الكوهنو أفرام أبيض، فيعطف عليه، ويعيده معه الى لبنان، ويعينه حارساً على بيته في ضيعة بلّونة، القرية الجبلية التي تقع في وسط حرش من شجر الصنوبر. فيقم علاقة جنسية مع زوجته مدام رندة. وفي حرش بلونة، يشاهد يالو صورا كثيرة على تفكك العلاقات الاجتماعية في لبنان، حيث يصبح الحرش ملاذاً لكل الـمحبين والباحثين عن إقامة علاقات جنسية محرمة. وصار كل يوم يرى صور الممارسات الجنسية السرية، التي تجري في السيارات في الحرش. وتتبدل شخصية يالو من مجرد المراقبة إلى استراق النظر، إلى ممارسة الابتزاز والاستحواذ على النساء في تلك السيارات بقوة السلاح. وتظهر أخلاق الحرب مرة أخرى في تصرفات الرجال العاشقين في السيارات، الذين يقدمون النساء المرافقات معهم ليالو نظير أن يتركهم وحال سبيلهم. وصار هو يمارس الجنس مع تلك النسوة.

ولكن يالو وقع في حب واحدة منهن اسمها شيرين ، واستمرت العلاقة عدة اشهر، كان يأخذها فيها الى أرقى المطاعم والكافيهات، حيث ينفق الكثير من الاموال عليها، غير أن شيرين كانت خلال هذه الفترة تعيش تحت وطأة صراع داخلي بين الحب وبين الخوف من يالو لتصرفاته العدوانية الشريرة. إلى أن قررت أن تشتكي عليه للشرطة بتهمة السرقة والاغتصاب. وهنا تأخذ الرواية منحنى آخر فيصبح الجلاد ضحية التعذيب الجسدي والنفسي الذي يخضع للتحقيق والاستجواب بشكل متواصل بدا له أنه بلا نهاية، مما يجعله يفقد صوابه مستعدا لأي اعتراف يريده المحقق كي يخرج من السجن.

 

يعيش البطل حالة من الاغتراب النفسي بعد تجربة الحرب والقتل العبثي، فيلجأ الى الانتقام كرد على فقدان العدالة والاحساس بعدائية المكان، ومن المفارقة انه تنقل بين لبنان وفرنسا ولكنه أحس في كل مرة أن المكان غريب عنه كأنما هو في عزلة سجن كبير، قبل ان ينتقل الى السجن الصغير، ويظل طيلة الرواية يعاني من هواجس المكان كأنما تمثل رحلته البحث بلا طائل عن الاستقرار النفسي أو "الوطن المفقود".

 

ولكن قضيته لدى الشرطة أصبحت أخطر وأشد. فلم تعد المسألة ابتزاز النساء والاغتصاب والاعتداء الجسدي، ولكن جريمة أمنية سياسية إذ يتهم بأنه عضو في خلية متفجرات اسرائيلية تعمل في لبنان. وفي السجن يقاسي كل انواع التعذيب لكي يعترف. ويجبر على كتابة اعترافاته، عدة مرات حتى تتماشى مع رغبة الـمحقق، حتى كاد ينفجر من تكرار الطلب. ففي كل مرة يتحدث عن علاقاته الجنسية والسرقات البسيطة التي كان يقوم بها، ويكشف اسماء النساء اللاتي مارس معهن. وكان لا يصدق كيف أنه يقبع في السجن  لقاء جرائم سرقة تافهة ومن يسرقون البلد خارجه، ولكنه لـم يعترف بتهمة الانضمام إلى الخلية الاسرائيلية إلا بعد أن أخضع لعقوبات غاية في القسوة. وهكذا انتزع منه اعتراف تحت التعذيب.

وفي النهاية، قرر أن يعترف أمام المحقق ليتخلص من شدة العذاب والمعاناة، "أؤكد لك يا سيدي القاضي أنني صرت إنسانًا آخر. أعرف قصتي لأنني كتبتها، وسوف أكتبها من جديد إذا أردتم". وهنا تحدث الصاعقة الكبرى، حينما يرفض الـمحقق اعترافاته، ويعتبرها سخيفة ولا داعي لها لأن أجهزة الأمن ألقت القبض على اعضاء الخلية. ينهار يالو معنوياً وجسدياً. ويُترك قابعا منسياً في السجن على جريمة السرقة واغتصاب النساء!

 

تتحرك كل شخوص الرواية في فضاءات سوداوية تمثل صور الحرب المختلفة: القتل، السرقة، الاغتصاب، العزلة، تعاطي الـمخدرات، التعذيب بطرق وحشية، الاعتداء الجنسي، الحب الكاذب، العلاقات غير الشرعية، الهروب، والاغتراب عن المجتمع. يقول الراوي "حكاية يالو يا سيدي، اسمها الحرب".

 

يالو الفلسطينية هي اسم ورمز وتجسيد لمأساة الحرب.. إنها ضحية الحرب. ويالو اللبنانية هو اسم ورمز وتجسيد للجاني الذي تحوله الحرب الى مجرم صغير يستبيح كل شيء، لأنه يرى الكبار يستبيحون الوطن ويسرقونه من غير أن يراهم خلف قضبان السجن. وهكذا يصبح الجلاد ضحية في الوقت ذاته. رواية الياس خوري هي الوثيقة الانسانية على إدانة كل صور الحرب السوداء التي ينبعث من بين ركامها آهات العذاب والام الضحايا التي لا تجد من يخفف عنها او يمنحها أملا مثلما تصبح النهاية العبثية للضحية والمجرم معاً، فلا خلاص لهما فقد أفسدت الحرب كل القيم النبيلة.