الخميس، مارس 20

ســـيدة المســـــاء


ســـيدة المســــــاء

كنت في السنة الثالثة بالجامعة عندما سمعت باسم الشاعر العراقي ياسين طه حافظ ورأيت دواوينه لاول مرة، فقد أهدى استاذي جوزيف جون الذي كان يدرسنا مادة الشعر الانجليزي في القرن السابع عشر والذي اشتهر باسم الشعر الميتافيزيقي وخاصة قصائد جون دن وجورج هربرت ، اثنين من دواوينه التي كانت قد صدرت حديثا عن دار الشؤون الثقافية العامة التابعة لوزارة الثقافة والاعلام ببغداد. وقد شعرت من خلال قراءة الاهداء على الديوانين انه يعرف استاذي ويكن له كل التقدير والاحترام، وخمنت انه ربما درسه هو ايضا في الجامعة، فقد كان كبيرا في السن وكانت ابنته الوحيدة التي ترافقه في اسفاره وتنقلاته تدرس معنا في نفس السنة.

وقد طلب مني استاذي أن اترجم له بعض القصائد كي يقرأها ويتذوقها فقد كان يعرف عن اهتمامي بالترجمة الادبية، حيث أطلعته على بعض ترجماتي للقصص القصيرة وبعض القصائد من الادب الانجليزي والامريكي. وعندما قدمتها له، فقد سر كثيرا بها وكنا نجلس في المساء نراجعها حيث كان يسألني كثيرا عن المعاني والصور ويناقش معي مضمون القصيدة بالعربية، فقد كان يحرص على ان تصله القصيدة كما هي بنصها وروحها، ولهذا كان كمن يمتحنني ويمتحن فهمي للقصيدة باسلته الكثيرة، ولا زلت احتفظ بتصحيحاته وملاحظاته على الترجمة، وهذا كان يضع على عاتقي مسؤولية كبيرة تتطلب استيعاب العمل والتفكير به مليا قبل الشروع في نقل الفكرة للانجليزية.

وقد أخبرني استاذي فيما بعد أنه كتب لصديقه الشاعر ياسين طه حافظ يخبره بما قمنا به‘ فجاءه الرد بالثناء والتقدير مشفوعا بكتب صادرة في بغداد فيها قصائد مترجمة لشعراء عراقيين ومن ضمنها قصائد مترجمة له كي يقرأها ويتعرف الى عالمه الشعري. وعرفت انه ليس شاعرا وحسب بل مترجما للشعر وكان يرأس تحرير مجلة الثقافة الاجنبية.

وقد وجدت في شعره عالما من الايحاء الرمزي الذي يجمع بين الاساطير ومفردات البيئة العراقية بكافة اشكالها وتوظيف حالات انفعالات الطبيعة واصواتها في قصائد وجدانية عاطفية تمزج بين الحزن الفلسفي والحب التأملي والاحتفاء بجمالية الحب وسحر المرأة الغامض.

ومن ديوانه المسمى " قصائد السيدة الجميلة" فقد اخترت ان اضع هنا هذه القصيدة بعنوان " سيدة المساء" التي تعبر عن عالمه الشعري واسلوبه، ويليها ترجمتي لها الى اللغة الانجليزية.


ســـــيدة المســـــاء

شعر: ياسين طه حافظ


أيتها السيدة التي تضيء الآنْ

أرى الممالك التي أتيتِ منها وأرى

القلاعَ والانهارَ والفاكهةَ التي

جفَّت على الغصونْ


ارى وراء وجهك القبائلَ الضائعةَ،

القرى التي تنام في المساءْ،

ارى البيوت الطينَ والصبيّةَ

البراقّة العينينِ يشتهينَ،

أو يحسِدْنها، النساءْ.


أرى التي من أول النضج أتتْ

وقبّلتها امرأةٌ بارعةٌ عرافّةٌ

فأزهرت تفاحةٌ وطار عصفور من النار

ولاحت شعلةٌ على النهَرْ.


أراكِ بعد أنْ

هاجرت الاشجارُ وامّحت

عشرة انهارٍ وضاعت القرى

واعترضَتْ بوابةُ المساء.


يافعة ً اراكْ

ناضجةً أراكْ

انملُكِ الناعمة المقتدرة

تنضجُ ما تلمسهُ ...

فكل شيء هاديءٌ يحمل خصبَهُ

وصيفَهُ ... وينتظرْ.

مشرقة ما بيننا

تُعَجّلين المدْ

وتخلطين الريح والنجمة والظلام

في هذه الغرفة كل شيءْ

يهدأ، والوجوه بين الضوء والظلِّ

وبين الصمت والكلامْ

هذا المساءُ الابديُّ ساكنٌّ

في أول الليل وفي آخره،

أسمع موسيقى الزمان وأنا أصغي اليكِ،

وأرى الأسى الجميلْ.


تباعَدتْ واختفت القرى

وضاعت الوجوه والأشجارْ.

يلتمع الجمالُ،

هذه بقية الحياة.


أرى الى وجهك عاتباً

أو مُشْفِقاً ، يمنحني محبّةً

وفرحاً أخيرْ.

تعلقّتْ روحيَ بالأنامل الناعمة البيضاء

أريد أن ادنو لها، اريد أن

أبعد من هذا الفناء الناعم البطيْء

هذي سهوب الصمت

قريبةٌ، وهذه بوابة المساءْ.


أمام وجهك النبيل، في بداية

الغيبوبة الشاحبة البيضاء

اظل واقفاً

عوداً يبيساً خاسراً

تعبر من أمامه

أوراقه الخضراء.

عارية الزندين كنتِ، وجهك الجميلْ

مُكْتَتِمٌ وفاضحٌ رغبتَهُ

وقلقَ العبورْ.

يخفت ذاك الضوء،

تحديثينني

عن عِوَزٍ في الروحْ

عن جزر متربة تطفو على الزمانْ

عن كَدَر حَجَرْ.


أيتها العوالم التي انتهت الى التراب عطشاً،

ايتها الازمنة الظامئة اليوم أراكِ كومةً

تجتمعين في حديقة خالية

وراء هذا البيتْ

وظلك الكبيرْ

وراء هذي الغرفة الصغيرة

وراء هذا الوجهْ،

وراء هذي الكأس

واللوحةِ

والنيونْ.


أكل ما ضاع، هنا ينتظر البقيه؟

ينتظر التفاتة غاضبةً

ينتظر انكسارَ ضحكةٍ

ينتظر انطفاءَ هذا الوجهِ

وانطفاءنا؟

ثم نكون في حديقة اخرى،

وراء غرفة اخرى،

ووجهٌ آخرٌ يضيْء؟


ايتها السيدة الجميلة التي احبُّ والتي

أموت في ضيائها،

يا باقةً من زهرٍ مشتعلٍ الى الابدْ

تحملها الرياحْ

من زمنٍ لزمنٍ

من بلدٍ الى بلدٍ،

يا كلَّ ما نملكُهُ

يا كل ما نخسرُهُ

يا إرثنا الوحيدْ

حين يمر الجمع من بوابة المساءْ.


يظل هذا الضوء

ما بين قلبينا

شفاعةً نبيلةً قبل غروب الشمس ..

ترجمة: اياد نصار

The Lady of the Evening

O Lady, you who shines now.

I can see the kingdoms where you came from, the

Citedals, the rivers, and the fruits that

Withered on the branches.

I can see behind your face the lost tribes,
The villages that sleep in the evening;

I can see the mud houses and the bright-eyed girl

Whom women desire

Or envy.


I can see her who came in the dawn of maturity

Whom the wise claivoyant woman kissed

So an apple blossomed, a sparrow came out from the fire,

And a flame twinkled on the river.


I see you from the time when

The trees departed, ten rivers dried up,

The villages were lost,

The gate of the evening stood in the way.


You look grown up to me,

Mature

Your tender and puissant fingers

Bring mellowness to eveything they touch.
Everything is calm, bearing its fertility and its

Summer... and waiting

You look bright among us.

You speed up the floods and

Mix the wind, the star, and the darkness together.

In this room everything settles down; the faces are

Between the light and the shadow,

Between silence and speech.

This eternal evening is calm.

At the beginning of the night and at its end

I hear the music of the years when I listen to you

And I see sorrow

In the beautiful joy.


The villages were separated and gone.

The faces and the trees were lost.

Beauty radiates.

This is the remainder of life.


I see blame in your eyes

Or pity. They endow me with affection

And a last joy.

My soul is affectionately attached to the sweet and white fingers.

I want to come close to them. I want to escape
From this slow and delicate obliteration.
Here, the plains of silence

Are approaching, and here is the gate of the evening.


I remain standing
Before your noble face at the beginning

Of the white and pale fainiting

Like a deprived and dried twig

When its green leaves

Pass in front of it.

You were bare-forearmed. Your beautiful face is
Discreet but revealing a desire

And the worry of traversing.

That light is dying out.

You talk to me about a want of the soul,

About destitute islands, floating over the surface of time,

About the turbidity of a stone.


O, You Worlds which died thirsty.

O, You Thirsty times. I see you today like a heap

Gathering in an empty garden

Behind this house,
And your great shadow is

Behind this small room,

Behind this face,

Behind this chalice,

And the Canvas,

And the fluorescent lamp.


Is it that all that is lost is waiting here for the rest?

Waiting for an angry look,

And a broken smile

Waiting for the dying out of this face
And ours?

Do we find ourselves in another garden

Behind another room

And another face shining?


O, You beautiful lady whom I love,
In whose radiance I die.

You are a wreath of flowers, burning forever, and

Carried by the wind from one time to another,

From one country to another.

You are all we own and
All we lose.

You shall be our only inheritance

When the crowd has crossed the gate of the evening.


This light remains

A nobel mediation between our hearts

Before the sunset.

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف5:26 ص

    السلام عليكم
    تظل متميزا فى اعمالك استاذ اياد ترجمتك للقصيدة موفقة اضفت جمالا لغويا للمعانى واعطت فرصة جميلة لقارىء اللغة الانجليزية ان يطلع على فحوى القصيدة ويتذوق انواع الجمال والوصف الادبي سلمت يداك sincerely your friend Afaf

    ردحذف
    الردود
    1. لك مني وافر التقدير والثناء على توقفك الجميل وتذوقك للقصيدة في ترجمتها الانجليزية. لقد استعدت مع كلماتك ما كتبت وما ترجمت قبل سنوات. لقد أعادت لي كلماتك ذكرياتي الحلوة مع ديوان قصائد السيدة الجميلة للشاعر ياسين طه حافظ كما دونتها في هذه المقالة. لك تحياتي على جميل اختيارك للنصوص.

      حذف