السبت، يناير 31

مجنون


مجنون

قصة قصيرة
بقلم: اياد نصار

عندما قرر كاتب هذه القصة أن يكتب عني وعن مسألة جنوني فقد ضحكت باديء الامر بصوت عالٍ وظننت أنه يمزح. ثم عندما وجدت أنه لم يضحك إزاء قهقهتي، فقد قطبت حاجبي ومسحت شاربي وعدلت من نظارتي فوق أنفي وقلت: يبدو أنك جننت مثلي لتفكر حتى مجرد تفكير أن تكتب عن إنسان بل شبه إنسان فقد عقله. لا أقول هذا خوفاً من أن يعرف الناس عن علتي أو معاناتي. لم أعد أهتم لذلك. لم أخفيه سوى مرة واحدة ولكنني لم أفلح فيها! لم يعد الجنون شيئاً معيباً في أيامنا هذه. كل إنسان ينتابه الجنون في لحظة ما. بل ربما كثيرة هي هذه اللحظات التي تنتابنا. فلماذا تريد أن تكتب عني إذا كنا جميعاً نحس أننا قد جننا مما نراه ونسمعه؟ ربما أن لدي الجرأة لأقول أنني قد جننت، وربما أن غيري يخشى أن يواجه الناس بحقيقته. ولكني أصبحت أطلال ذكرى، أو بقايا حلم منهار، فماذا ستكتب عني؟ لم يعد يهمني ما ستكتبه فلم يبق لدي ما أشتري به الصحيفة التي ستنشر كتابتك! لم يبق لدي سوى قصاصات وأوراق صحف إصفرت منذ ربع قرن. هل أستحق أن يُكتب عني الان شيء؟ كنت أريد أن أكتبه بيدي لا أن يكتبه الاخرون. هل بقي متسع للكتابة عن جنوني الان؟ وهل هناك ما يستحق المحاولة؟ هل فقدت عقلك مثلي، أم أنه لم تجد ما تكتب عنه سوى بؤسي؟! وما قيمة الكتابة الان؟ ألا توافق معي أن ما يجري أغرب من الخيال؟ بل ضرب من الجنون ذاته؟

حاولت نزع الساعة من معصمي كي أشعر أنني تهيأت لجدال طويل. كان ما يزال يحدق بي وأنا أعدل النظارة فوق أرنبة أنفي وأحاول سحب نفس طويل من الارجيلة. لكنها يبدو خمدت فيها الروح. كنت أستنشق الهواء بعمق فتنتفخ أوداجي وتحمر عيوني وأنا أنظر بأمل الى الرأس المغطى برماد أبيض محترق علها تعود للحياة وتحمر الجمرة فوق دخان التنباك. من سيهتم بي وبجنوني؟ لقد حاولت إخفاءه عنهم الاسبوع الماضي كي يقبلوني. ولكن يبدو أن رعشة يدي ونظراتي فضحتني. ناديت على تيتو كي يستبدل لي الجمرة الذائبة. كان مشغولاً بتقديم الطلبات للرواد. بعد قليل جاء ومعه علبة حديدية صدئة يحمل فيها جمرات مشتعلة. أمسك بالملقط وأزاح الجمرة الذائبة جانباً ثم أخذ واحدة كبيرة ووضعها فوق كومة التبغ. بقيت أسحب نفساً وراء الاخر وأستنشق الدخان علها تحمّر مرة أخرى بدون جدوى. قلت لتيتو أن يصلحها. أمسك بطرف الانبوب ووضع قطعة بلاستيكية وأخذ يسحب أنفاساً قوية. بعد لحظات إحمرّت الجمرات وخرجت من فمه كتل من الدخان الابيض الكثيف.

الصالة طويلة واسعة جدرانها معتمة قليلاً من آثار الدخان، ومقاعدها الخشبية قديمة مهترئة مسودة عند زواياها. الصالة شبه فارغة الا من بعض الرجال الذين بدا عليهم الهرم وتعب السنين كأنما يودعون الحياة ببطء وصمت. وهناك تلفاز بالابيض والاسود في زاوية الصالة. يغني ناظم الغزالي "أقول وقد ناحت بقربي حمامة أيا جارتا هل تشعرين بحالي". عدد قليل من الجالسين يلبس بدلة وربطة عنق ومعطفاً ثميناً ، ولكن أغلبهم يلبسون أسمالا عتيقة. يتحدثون بكلمات وهمهمات قليلة وعيونهم في الورق الذي بين أيديهم. كل شيء في المكان قديم. بعض الصور بالابيض والاسود في إطارات باهتة معلقة على الجدران. تركها اصحابها شاهدة على أن المكان كان ذا عز في يوم من الايام. يدور تيتو بين الجالسين بفناجين القهوة وكاسات الشاي في صينية بائسة. تيتو شاب مصري ما يزال في أوائل العشرينات. يعمل في هذا المقهى منذ ثلاث سنوات. صار يعرف كل الرواد باسمائهم وألقابهم. لا أتذكر متى صرت زبوناً مقيماً هنا ، ولكنه منذ دهر بعد أن عدت من فرنسا. لا يوجد مكان آخر أذهب اليه سوى هذا المكان. لقد قبلني كما أنا بكل علاتي بدون رتوش. لا أعلم لماذا أطلقت على تهامي إسم تيتو. ولكن كان الكل يسمعني أناديه تيتو فصاروا ينادونه مثلي.

ما قيمة أن تكتب عني؟ ومن سيهتم بي؟ لم أترك باباً إلا وطرقته عبثاً. أنا رجل هامشي أعاني منذ ربع قرن. كثيرون يعرفونني ، وكثيرون يعرفون أنني أجلس هنا طوال اليوم. لقد ماتت أحلامي ودفنتها بيدي. لم أعد أريد أن أكون صحفياً أومحرراً أو كاتباً أو حتى زوجاً! أريد أن أكون موظفاً.. عاملاً بأي شيء ولأي شيء لأشتري ما أدخن به. حتى سجائري الرديئة استلفها من الاخرين. ما قيمة رجل يستجدي مصروفه من أخته المتزوجة؟ تمنع أولادها من أشياء كثيرة لكي تعطيني. لم يبق لي مكان في الدنيا سوى قاع بيت درج صنعت منه بفضل الواح خشب محطمة مغبرة غرفة أنام بها آخر الليل. آه كم تغيرت الدنيا. قبل سنوات طويلة كنت أكثر واحد يبدو متأنقاً.. لم يخل الامر من رغبة في لفت انتباه فتاة أو إثارة إعجابها! لم أعد أذكر الان آخر مرة حلقت فيها ذقني! بلى تذكرت!

قبل أسبوع ذهبت لمقابلة مسؤول كبير بحثاً عن وظيفة، فطلبت من أختي أن تعطيني كي أشتري شفرة للحلاقة! لقد توسط لي عدد كبير من أصحاب النفوذ والاقلام عنده. قلت في نفسي وأخيراً ستقدر أن تستأجر بيتاً وتشتري سجائرك! بقيت أفكر بالموعد أياماً وأنا كلي أمل أنني ساجد أخيراً وظيفة أستقر بها. لقد عشت ربع قرن صدفة. لقد ماتت كل أحلام المستقبل ولم يبق سوى قصاصات أحتفظ بها في حقيبتي. يجب أن أبدو بمظهر جيد أمامه. سأكذب هذه المرة وأقول أنني بصحة جيدة. سأستخدم كل براعتي الصحفية لأدهشه بثقافتي كي أحظى بالوظيفة. لا يهمني نوع الوظيفة مهما كانت. سأعمل كاتباً لعرائض المستدعين لو إقتضى الامر! الكل يعرف ما مررت به. يعرفون أنني أعيش على حبوب مهدئة. لقد دخلت مرة المستشفى من نوبة حادة. لم أستطع أن أدفع ما طلبوه مني. بقيت الشرطة تبحث عني أياماً وأخيراً كتبت تعهداً أن أدفع المبلغ خلال أسبوع وإلا سأدخل السجن. نهضت مبكراً ولبست ملابس فادي سراً وخرجت كي أصل مع بداية النهار في الموعد المحدد. لقد تعودت على مشي المسافات الطويلة.

حملت معي حقيبتي الممزقة وخرجت. حقيبتي لا تفارقني. صارت وطني الذي أحمله أينما ذهبت. فيها ذكرياتي ومقالاتي التي كتبتهتا منذ ربع قرن. فيها قصاصات وأوراق صحف إصفرت واهترئت. عندما يستيقظ فادي ويعرف أنني لبست ملابسه سيغضب ويزبد ويشكوني لأمه ولكنه في النهاية سيسكت إحتراماً لخاله! فهل بعد كل هذا تريد أن تكتب عني؟ أنا مخلوق صغير خارج من إحدى الروايات الاسبانية فمن سينتبه لي؟ أرجوك لا تفعل عني فلن يحفل بي أو بقصتي أحد.

عندما دخلت مكتبه الفخم قال لي إن هاشم بك إتصل به لأجلي. وإن الاستاذ عادل من مكتب الوزير وصى علّ كثيراً ، وإنه سيبذل جهده لمساعدتي. فرحت وأنا أسمع كلماته. ساعة الفرج قد حانت أخيراً. قال لي إنه ليس هناك شاغر حالياً ولكن... وقبل أن يكمل هززت رأسي .. لقد إنكسر شيء ما بداخلي.. صرت خبيراً بكل أنواع الاجابات هذه! لم تكن صدمة فقد تعودت عليها. كانت خيبة أخرى تضاف الى سجلي الطافح بالخيبات. قال لي إنه بامكاني التقدم بطلب لترخيص بسطة في السوق الشعبي، أو التقدم بطلب لصندوق المعونة الوطنية وهو سيدعمه من خلال معارفه! نظرت اليه والمفاجأة عقدت لساني. لقد قبلت حتى أن أكون ساقياً للشاي لديهم أما أن تصل الامور هذا الحد؟ وآذلاه .. وهل تظن أنني جننت نتيجة صدفة جينية؟! قال لي الطبيب إن أعصابي لم تحتمل كل هذا البؤس.

لقد صار يعطف علي تيتو ويقدم لي الشاي والقهوة دون مقابل. صرت زبوناً دائماً أقضي الساعات هنا. ولكن أين سأذهب؟ بيت أختي صغير لا يتسع لصغارها العشرة، وزوجها حالته تثير الحزن والشفقة، ومع ذلك تحملتني. لا أعرف لولاها أين كنت الان. أخي الاكبر لديه بيت كبير ولكنه لا يسأل عني الا أيام العيد. بعد أن توفيت أمي وأنا في الجامعة لم يبق لي سوى أختى الفقيرة. كانت أمي تقول لي أن أبي كان يوصيها عليّ دائما قبل أن يموت. لم أعرف أبي ولا أتذكره. مات وأنا لم أبلغ بعد سنتين.



كل الذين أعرفهم أصبحوا في مواقع مهمة، وأنا بقيت هنا. كل الذين تخرجوا معي صاروا يقبضون بالالاف! لست غاضباً من أحد. ولكن هل ضاقت الدنيا بصحفي مجنون مثلي؟! كلما أنشئت صحيفة جديدة كنت أعمل فيها، ثم أكتشف أنهم يريدون أن يدفعوا لي مرتباً تافهاً بالاقساط. لقد وضعت كل نظرياتي وأحلامي منذ زمن في حقيبتي المهترئة في سبيل أن أجد مكانا لي. لقد عملت حتى في صحافة التسويق والسياحة! عندما تخرجت كنت أحمل في حقيبتي روايات جمال الغيطاني ودواوين أحمد مطر وكتب هيكل، وأتخيل نفسي كاتباً معروفاً. سأكتب عن أي شيء الان لأجل أن أعيش. عندما تخرجت كنت ثائراً متمرداً أريد أن أغير العالم بقلمي. آه كم كنت غبياً. لقد هاجمت السفارة ذات يوم لأن طوابير المهاجرين كانت تنتظر تحت الشمس الحارقة ساعات خلف أسوار عالية مغلقة بدون جدوى. فاتصلوا بي وأعطوني تأشيرة! شعرت أن باب الامل قد إنفتح لي. كانت رحلة الميلاد والموت معاً. كنت دائماً أنظّر عن فلسفة الوجود والاختيار والزمن. كان كل شيء يستحق المحاولة والتجريب. كم كنت معجباً بالبوهيميين الذين يجربون كل شيء بروح الفنان! لقد أتعبني هوى حسناء باريسية وكلفني كثيراً. كانت الليالي تتحول الى أحلام وخيالات تحت ضباب الدخان المتصاعد وأنا أتعاطاه من يدها. كان كامو يقول "لن تكون سعيداً ابداً اذا بقيت تبحث مم تتكون السعادة، ولن تعيش أبداً إذا بقيت تبحث عن معنى الحياة". فماذا تريد أن تكتب عني الان؟ وهل بقي فيّ شيء يستحق الكتابة بعد؟ أخبرهم أن عمران مهران قد إنتهى.


* اللوحة أعلاه بعنوان رجل جالس بجانب الصبار للفنان المصري سمير رافع (1926 - 2003)

هناك 5 تعليقات:

  1. احييك كثيراً على هذا الموقع وعلى هذا المتنوع الشهي من قصة ورواية وروابط مهمة جداً واتمنى لك النجاح المستمر وكذلك التوفيق
    بسام

    ردحذف
  2. تحياتي لك بسام. اشكرك على كلماتك اللطيفة ومرورك الجميل. أتمنى استمرار زياراتك للموقع والاطلاع على المواد التي يضمها. مرحبا بك

    ردحذف
  3. غير معرف5:17 ص

    لن تكون سعيداً ابداً اذا بقيت تبحث مم تتكون السعادة،

    شدتني هذه الجمله كثيرا..

    حقا مماتتكون السعاده؟؟دائما أسأل

    نفسي هذا السؤال..

    هل السعاده هي راحة البال أم الغنى

    والمال أم الحب ؟؟؟؟

    يقولون السعاده مسأله نسبيه يختلف

    معناها بين بني البشر فمنهم من يرى السعاده في المال ومنهم من يراها في الحب ومن هم من يراها في الشهره والصيت الحسن ومنهم من يراها وهم القله في راحة البال...

    وأنت يااياد مامفهوم السعاده لديك؟

    لن تكون سعيداً ابداً اذا بقيت تبحث مم تتكون السعادة،>>>>


    ربمــــــــــا.........





    قصه جميله ورسالتها أجمل ...

    شكرا ايها المبدع.....







    تحياتي/شروق

    ردحذف
  4. كلمات رائعة ومعبرة تعكس عمق تذوقك للقصة وإحساسك العميق بأحد محاورها الاساسية. اسعدني مرورك اللطيف وقراءتك الواعية للنص. أتمنى استمرار زياراتك وتعليقاتك الجميلة. أهلا بك شروق

    ردحذف
  5. غير معرف11:48 م

    اجمل ما قيل في السعادة
    صحة جيدة وذاكرة سيئة

    ردحذف