الجمعة، أكتوبر 29

الفجوة لباربرة كينغسولفر.. حين يختلط التاريخ بالخيال


فازت بجائزة أورانج البريطانية للرواية النسوية لعام 2010

"الفجوة" لباربرة كينغسولفر.. حين يختلط التاريخ بالخيال
اياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الدستور الاردنية يوم الجمعة 29/10/2010
قالت الروائية والشاعرة والناقدة الكندية مارغريت أتوود، ذات مرة: "تستطيع النساء أن تكتب الرجل، لكن الرجال لا يستطيعون كتابة المرأة، لأنهم ينسون، عادة، الرأس"! وأظن أن الروائية الامريكية، باربرة كينغسولفر Barbara Kingsolver ، قد كتبت بطلها الرجل، هاريسون شيفرد، من أعلى رأسه الى أخمص قدميه، في سياقه التاريخي، بشكل جميل يعبر عن ملامح تلك المرحلة الممتدة من عشرينيات القرن العشرين الى خمسينياته، ما استحقت معه أن تنال جائزة أورانج للرواية النسوية. وعندما سئلتْ ـ في مقابلة، مع صحيفة وول ستريت جورنال ـ لماذا اختارت أن يكون البطل رجلاً، قالت إنها أرادت بطلاً يستطيع أن يخرج من قلب الثورة المكسيكية، ويزج بنفسه في الحرب العالمية الثانية، ثم يعود الى الولايات المتحدة، في فترة ما بعد الحرب، وأنه لم يكن من الممكن أن تقوم بذلك، عندئذ، امرأة.

فازت كينغسولفر بجائزة أورانج البريطانية للرواية النسوية المكتوبة بالانجليزية، في دورتها الخامسة عشر للعام 2010 ، عن روايتها "لاكونا" Lacuna، والتي تعني "الفجوة". تسعى الجائزة، التي بدأت في العام 1996، الى تشجيع الادب النسوي. وقد فازت بها، في دورتها الاولى، الروائية الانجليزية، هيلين دَنمور، عن روايتها "سحر الشتاء"، أما في العام الماضي ففازت بها الروائية الامريكية، مارلين روبنسون، عن روايتها "البيت".

تنافس على الجائزة، هذا العام، عدد كبير من الروائيات من مختلف دول العالم الناطقة بالانجليزية. وقد تأهلت لقائمة الترشيحات الابتدائية، كما الحال في جائزة مان بوكر البريطانية للرواية، عشرون رواية. وفي المرحلة الثانية، تأهلت للقائمة القصيرة ست روايات من الولايات المتحدة وبريطانيا وترينداد، وكان من بينهن هيلاري مانتل، التي شاركت بروايتها "قاعة الذئب"، التي فازت بجائزة مان بوكر نفسها في العام 2009. تألفت لجنة التحكيم من خمس نساء، ما بين ناقدة وروائية وصحفية ومحررة ومعدة برامج اذاعية.

ذكرت كينغسولفر، في حوار عقب فوزها، أنها بدأت تشتغل على روايتها في شهر شباط، من العام 2002 ، بعد أشهر من حادثة الحادي عشر من أيلول، التي أثارت شهية مؤلمة للكتابة حول غربة الفن والسياسة في الولايات المتحدة. وذكرت أنه كان هناك ذاك الشعور الذي سبق أن عانته الولايات المتحدة، حين تم فصل الفن عن السياسة، في الفترة التي عرفت باسم المكارثية، نسبة الى عضو مجلس الشيوخ، جوزيف مكارثي، الذي كان يؤكد تغلغل العناصر المعادية للولايات المتحدة، في الداخل، وما تبعها من ملاحقة الأدباء والفنانين والكتاب، بتهمة نشر الافكار الشيوعية واليسارية، أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، خلال الحرب الباردة.

أما الروائية فبلغت، هذا العام، الخمسين من العمر، وقد درست باديء الامر موسيقى، ثم تحولت الى علوم الاحياء، عندما وجدت أن "ست وظائف تمنح، سنوياً، للموسيقيين فقط، بينما يذهب الباقي للعمل في ردهات الفنادق". تابعت دراستها حتى حصلت على درجة الماجستير في علوم البيئة والنشوء البيولوجي، كما نالت درجة الدكتوراة الفخرية، في عام 1994. أما على صعيد منجزها الابداعي، فقدمت ست روايات، كانت آخرها "الفجوة" التي نحن بصددها.

بدأت كينغسولفر مسيرتها في العام 1988 برواية "أشجار الفاصوليا"، ثم رواية "أحلام الحيوانات" (1990)، ثم "خنازير في السماء" (1993)، ثم رواية "كتاب الغابة السامة المقدس" (1998)، و"صيف إعجازي" (2000). وقد حصلت على جوائز عدة، وتكريم عن كتبها، وعن مساهمتها في بعض القضايا البيئية.

تجمع رواية "الفجوة" ما بين الحقائق التاريخية والخيال وإدخال شخصيات تاريخية حقيقية، في الحبكة، لبناء العالم الروائي لشخصية هاريسون شيفرد، الذي نلتقيه، أول مرة، وعمره اثنا عشر عاماً، يتعلم السباحة على شاطيء يوكوتان، ويحاول اكتشاف كهف، أو فجوة، تحت الماء، يطلق عليها اسم لاكونا. ولاكونا كلمة اسبانية تعني الفجوة، أو القطعة المفقودة، أو الفراغ بين شيئين، أو الممر المؤدي الى كهف خفي.

يمثل العنوان استعارة لكثير من الفجوات، في حياة هاريسون، وله عدة من دلالات ثقافية وسياسية، في الرواية، سواء بالنسبة لبطلها أم بالنسبة للآخرين، وهناك جسور مفقودة بين ثقافات مختلفة، وهناك اسئلة تبحث عن اجابات، في ظل صراعات أيدولوجية محمومة، بين الرأسمالية والشيوعية، وصل تأثيرها عمق المكسيك الريفي. وهو، أي العنوان، يشير الى الفراغ بين الحقيقة والزيف، أو الفجوة بين الوقائع التاريخية وما يتم استرجاعه من ذكريات.

يمكن تصنيف الرواية ضمن النوع الذي يهتم بتناول حياة البطل الشاب، وتعليمه، وتطور شخصيته نحو النضوج. وقد انتقد بعض القراء والنقاد الرواية في ميلها الى اعادة كتابة التاريخ، وتقديمه بطريقة تبدو فيها النبرة التعليمية. ورغم أنه لا شيء، في الرواية، بلا معنى، إلا أن هناك بعض المواضع، في نهاية الرواية، حينما يخفت صوت الشخصيات، ويصبح الحوار وسيلة للمؤلفة لكي تتكلم الى القاريء مباشرة.

تغطي الرواية الفترة ما بين 1929 و1951، وتعد عملاً ذا نزعة ملحمية يسعى الى اعادة قراءة التاريخ بمنظور معاصر. تسرد الرواية قصة بطلها الذي يعيش بين عالمين وهويتين وثقافتين ووالدين منفصلين، يسعى كل منهما خلف نزواته وطموحاته، من خلال مذكراته ورسائله وقصاصات الصحف، بالاضافة الى ما ترويه سكرتيرته المخلصة، فيوليت براون، التي تسد روايتها بعض الفجوات في روايته.

ولد هاريسون في العام 1916، لأب أمريكي يعمل موظفاً حكومياً، وقد انفصل عن زوجته المكسيكية سالومي، التي أخذت الطفل معها الى المكسيك، وهي تأمل في الزواج من عشيقها الذي يملك شركة للنفط. ورغم أنها تعيش، هي وابنها، في مزرعته، في جزيرة بيكسول الصغيرة، قبالة شاطيء المكسيك، إلا أن لديه مخططاً آخر غير الزواج منها.

تقوم سالومي ـ مع استحضار الدور الذي لعبته سالومي في التاريخ ـ بدور العاشقة اللعوب، التي تسعى الى إثارة إعجاب الرجال، على أمل أن تتمكن من الزواج من أحدهم، وبالتالي تأمين سبيل عيشها، وعيش ابنها، وقد وجدت بغيتها في رجل أعمال أمريكي أطلقت عليه اسم "انتاج النقود". في أحد الظهيرات، وبينما كانت الام تستعد لموعد غرامي، فإنها تصف زوج المستقبل المحتمل بأنه "أغنى من الذهب"، فيرد عليها هاريسون: "لا بد أن لديه شروق الشمس، في جيوبه، والرحمة في حذائه". فتنظر الام ـ ساعتها ـ اليه، وتقول، في شهقة عالية: "لعل من الافضل أن تدون، في مفكرتك، قصة ما حصل لنا في المكسيك". وتعطيه الجملة الاولى: "في البدء كانت القرود الصائحة"، وهي بالطبع الجملة ذاتها التي تبدأ بها الرواية، والاستعارة لها معان عديدة تم توظيفها للاشارة الى الكذابين، وأصحاب الاشاعات، وفيها اشارة الى مكارثي نفسه، الذي خلق حالة من الهلع في صفوف الامريكيين، بادعائه الاختراق الشيوعي، والى الصحافة الصفراء، والدعاية الاعلامية.

بعد موت أمه، غير المتوقع، يجد هاريسون نفسه وحده في هذه الحياة، فيعمل في خلط الدهان لرسام الجداريات دييغو ريفيرا، ولزوجته الرسامة فريدا كالو، وهما من شخصيات الرواية الرئيسة. يشعر هاريسون بالتعلق بفريدا، كما لو أنها الاخت الكبيرة أو الام المفقودة بالنسبة له. فريدا رسامة مشهورة، ذات حيوية ونشاط، فاتنة ومغوية، لكنها مستبدة سريعة الغضب. تبدو صغيرة الحجم، وخضعت لعدة من عمليات بعد الحادثة التي أصيبت بها، لكنها بقيت تعاني عرجاً في المشي. ويبدو من اللوحة التي رسمتها لنفسها، أنه قد ظهر لها شارب، ونما الشعر بين حواجب عينيها. إنها ـ كما يقول التعبير الفرنسي: "الجميلة البشعة". تظهر معاناتها في لوحاتها التي لقيت تقديراً من محبي الفن.

فريدا ودييغو ماركسيان يحلمان بمجتمع لا طبقي. ولهذا فلم يستأجرا خادماً في بيتهما، في مدينة غواناجواتو، في وسط المكسيك، لكنهما أدركا أن التقاط الجرابات عن الارض، أو غسيل الملابس الداخلية المتسخة، ليست من مهام الفنان! وسرعان ما ملآ البيت بجيش من الخدم والطهاة والسائقين والحراس الشخصيين، الذين ضاق بهم.

كما نلتقي، في الرواية، شخصية سياسية غير متوقعة. إنها ليست من صنع الخيال، بل حقيقية، من التاريخ. فخلال الفترة، ما بين عامي 1937 و1939 كان لدى الحراس، في المنزل، ضيف قصير بدين، ذو جبهة عريضة وشعر أشيب، وينام بملابس فاخرة لمعرفته بأنه قد يقتل، وهو نائم، وموته في ملابس عادية سيكون من شأنه الحط من كرامته. إنه ليف (ليون) تروتسكي، المنشق السوفييتي الشيوعي، وخصم ستالين. وشخصية تروتسكي هي الشخصية الرئيسة الرابعة، من بعد هاريسون وفريدا ودييغو. وتقدم الرواية تصويراً دقيقاً لعملية اغتياله، التي قام بها عملاء الامن السري، الذين بحثوا عنه، في كل مكان، الى أن تمكنوا من رصده في المكسيك، ومن ثم قتلوه وعائلته هناك. ورغم معرفة القاريء بالنهاية التي تنتظره، إلا أن جمالية السرد تجعله متشوقاً لمتابعة التفاصيل.

تشكل قصة هاريسون الاطار العام لحبكة الرواية، التي تبدأ وتنتهي بها. وتمثل شخصيته النقيض الذي يظهر نقائص الآخرين. ويمكن تقسيم الرواية، زمنياً، الى أربعة أجزاء تلخص المراحل التي مرت بها حياة البطل من خلال التنقل والاقامة بين الولايات المتحدة والمكسيك. يغطي الجزء الاول السنوات من عام 1929 الى عام 1932 وتجري أحداثه في المكسيك. وتبدع المؤلفة في تصوير المشاهد والاصوات وحتى الروائح بكل حيوية.

أما الجزء الثاني فيغطي السنوات من 1932 الى 1934، حيث أعادته أمه الى أبيه، في واشنطن، الذي أرسله، بدوره، الى مدرسة عسكرية. تطرح الرواية معاناة البطل في أسرة لا تريده، وعند ذاك يبدأ في كتابة مذكراته. يشهد هاريسون فترة الكساد العظيم، ويسجل الكثير من تفاصيل الاحداث، في الثلاثينيات، وموقف الرئيس هربرت هوفر، غير المكترث تجاه المشكلات الاجتماعية والاقتصادية.

وفي الجزء الثالث، الذي يغطي الفترة من 1935 الى 1941، يعود هاريسون الى المكسيك، ولكن ـ هذه المرة ـ طباخاً وطابعاً في منزل ريفيرا. لا يعرف تروتسكي ولا مساعدته، جين فان هيجنورت، الا القليل من الاسبانية، فيتولى هاريسون القيام بالترجمة. يمضي البطل جزءاً كبيراً من وقته مع فريدا وريفيرا وتروتسكي، ويصبح قريباً من كل واحد منهم، بطريقته الخاصة، لكنه غير مغرم بتوجهاتهم السياسية. فلا تحس أنه له رأياً محدداً في الشيوعية، كما تراه غير مهتم في مناقشة المشكلات والاضطرابات، لكنه مهتم في مراقبة كيف يتعامل تروتسكي مع الناس. وبعد سنتين يختلف تروتسكي مع ريفيرا، ويترك المنزل، فيقرر هاريسون الالتحاق به، من غير سبب واضح، حيث يلاقي تروتسكي حتفه بعد سنة.

وفي الجزء الرابع، والاخير، والذي يمتد من عام 1941 والى عام 1951 ، فإنه ـ ومن بعد مقتل تروتسكي ـ يصبح كل الناس الذين كانوا في محيطه موضع شك، فترسل فريدا هاريسون الى الولايات المتحدة، وهناك يبدأ في كتابة روايات اعتماداً على مذكراته التي ضاع جزء منها. يصبح هاريسون كاتباً مشهوراً تتحدث الصحف عن رواياته، كما وقّع عقداً لتحويلها الى فيلم. كتب هاريسون روايتين تاريخيتين، لكنه يجد نفسه موزعاً بين عالمين، وأحيانا ضائعا في مساحات فارغة. وهنا تأتي أهمية سكرتيرته، فيوليت، التي تشارك في سرد الرواية، وسد الفجوات في مذكراته، ويغدو لصوتها أهمية كبيرة تزداد مع تطور الاحداث.

يجذب هاريسون انتباه لجنة مكافحة النشاطات المناهضة لأمريكا، فقد عاش في بيت مع شيوعيين، منذ كان صبياً. وهكذا تلاحقه المباحث الفيدرالية، ويكفي أنه نصف أمريكي، وأنه عمل مع ريفيرا وتروتسكي، لكي يتم اعتباره غير مناسب للخدمة في الجيش الامريكي. وهكذا يلغى عقد فيلم روايته بزعم أنها ذات محتوى مناهض لأمريكا.

تتجاوز المؤلفة محددات هذا النمط، من السرد، من خلال المذكرات والرسائل وقصاصات الصحف، بابتكار شخصية البطل وتستخدمه راوياً بضميرالأنا. ورغم أن الراوي يبقى يتحدث، طيلة الوقت، لكنه يبدو أكثر اهتماما بالناس حوله، فلا يتحدث عن نفسه الا ما ندر، وبصيغة ضمير الغائب أو يستخدم اسما مستعاراً، ما يزيد من صعوبة الامر، على القاريء، في رسم معالم الشخصية، وادراك طبيعة تكوينها النفسي، وفهم ماضيها والمؤثرات الكبرى التي صاغت مصيرها. ذكرت فيوليت أن هاريسون مثل المصور الذي يوثق أحداث حياته، بحيث لا يُرى في الصور كافة!

بطل الرواية رجل عادي يمتلك رؤية للحياة، غير أنه ضحية الظروف. تتقاطع دربه مع رموز الفن والسياسة. يبدو هاريسون، في بداية الرواية، ولداً خائفاً، ضعيف القلب، ليس له سوى القراءة في الكتب، وكتابة المذكرات التي رافقته طيلة حياته، وحتى نهايته المأساوية، حيث يختفي أثناء السباحة في المحيط، بالقرب من مكسيكو سيتي.

لاكونا مهرجان من الكلمات الجميلة، وهذا ما أكسب الرواية جمالياتها. قوتها في لغتها، وتجسيد شخوصها، بحالاتها المختلفة على صعيد الابعاد النفسية والاجتماعية والسياسية والفكرية والعاطفية. وقد أجادت المؤلفة صوغ حبكتها. يتسم أسلوب كينغسولفر بأنها تكتب النثر بروح الشعر، وتضمنه الكثير من التداعي الحر للافكار والهواجس، التي تجري في ذهن البطل. كما يتسم الحوار بالجاذبية والواقعية والقدرة على التأثير في القاريء. ويمتاز وصف الاماكن والناس، في الرواية، بسلاسة وايحائية كما في مفتتح الرواية: "في البدء كانت القرود الصائحة. كانت تبدأ صياحها، دائماً، في الساعة الاولى للفجر، حينما تأخذ قبة السماء بالتحول الى البياض. كانت تبدأ بصوت قرد واحد: صوت همهمته وزمجرته متناغم قوي، مثل حد المنشار. كان هذا يثير الآخرين قربه، ما يدفعهم أن يصيحوا، معه، بنغمة صوته المتوحشة. وحالاً كانت القردة الاخرى تعيد ترديد الصوت من على الاشجار الاخرى وحتى الشاطيء البعيد، حتى تمتليء الغابة بصوت زئير الاشجار! كان يحدث هذا كل يوم. اعتقد الصغير وأمه أن هذه هي الشياطين تصرخ بين الاشجار، تتقاتل حول حقوقها الاقليمية في أكل لحوم البشر"!

تبرز الرواية الجانب الانساني في شخصياتها، خاصة تروتسكي، أكثر من الصورة السياسية المعروفة عنه معارضاً ومنشقاً. كما تفضح الرواية تلك الحقبة في التاريخ الامريكي، الذي اتسم بأخذ المعارضين والادباء والفنانين كبش فداء في حرب إيدولوجية قذرة. فعندما يصبح هاريسون محل ملاحقة، فإنه يفكر بكتابة روايات مسلّية، لكن فيوليت تبقى تسأل أسئلة من مثل: "كيف يمكن أن يكون رسم صورة عن الحزن شيئاً مناهضاً لأمريكا؟"، وعندما يجبره الناشر على توقيع افادة تنكر أي ارتباط له بالشيوعيين، فإن محاميه، آرثر غولد، يقول: "يمكنك توقيع ذلك. لكنني سأخبرك شيئاً عن تاريخ يجري صناعته.. أنت تجبر الناس أن تتوقف عن طرح الاسئلة، وقبل أن تعرف سيكونون قد ألغوا علامة السؤال.. لا شجاعة، لا أفكار جديدة لإصلاح ما خرب على هذه الارض".

تنطوي الرواية على حجم كبير من التاريخ الذي يجري مزجه مع قصة حياة البطل، ويصبح كله أقرب للتصديق بدلاً من الخيال، كأنما جرى فعلا. كما تتناول الرواية تأثير التاريخ في الحاضر والمستقبل، وترصد التحولات، لدى الانسان، تحت المؤثرات السياسية والاجتماعية، وتطرح مسائل مهمة مثل اللجوء الى العنف، والتفكير المستقل، وتوظيف عالم الخوف في السيطرة على الاخرين، وما أحدثته القنبلة الذرية الاولى من تغيرات، في العالم، وقوة الرأي العام، ودور الاعلام في فرض القناعات.

تنتقد الرواية، بشكل قوي، تأثير وسائل الاعلام الجماهيرية في الناس، والالوان التي يشاهدون بها الاشياء، ويكونون انطباعاتهم وأفكارهم عنها، الى أن يفكر الجميع في الطريقة ذاتها. يقول آرثر غولد: "إنه المذياع الذي تشاهده. المذياع يجعل كل انسان يشعر الشعور ذاته، في الوقت نفسه. وبدلاً من ملايين الافكار المختلفة، هناك سيطرة نفسية كبيرة واحدة". ولهذا كثيراً ما يلجأ ناشر روايات هاريسون الى تغيير عناوينها لتناسب مزاج الجمهور!

رابط المقال بصحيفة الدستور
 
رابط الصفحة الكاملة (يرجى الانتظار قليلا ريثما يتم تحميل الصفحة)
 
 
 

رأي نقدي في قصص على خشبة المسرح


رأي نقدي في قصص على خشبة المسرح

نشرت صحيفة الاتحاد الاماراتية في الملحق الثقافي ليوم الخميس 28/10/2010 تحقيقاً أجراه الزميل توفيق عابد بعنوان
أول تجربة مسرحية أردنية لتقديم قصص قصيرة على الخشبة
إخراج النصوص من سباتها الورقي

وقد كان لي شرف المشاركة به.
كتب يقول: "لأول مرة تتجرأ فنانة أردنية بمسرحة قصص قصيرة بحضور مؤلفيها حتى يصبحوا شاهدين ومتفرجين ومتورطين في قصصهم التي كتبوها بمحض خيالهم بما فيها من إيحاءات وإسقاطات سياسية واجتماعية. فقد قدمت أسماء مصطفى كمخرجة وراوية وفريقها، بربط درامي لمفلح العدوان أربع قصص على المسرح الدائري في عمان بعنوان “قصص على الخشبة” في ختام فعاليات ملتقى القصة القصيرة.

ويتحدث نص “شوارع المدينة” لعدي مدانات عن ذاكرة عمان والحنين لبيوتها وحاراتها وأزقتها القديمة، فيما يعرض نص “من ثقب العالم” لسامية عطعوط ذكريات الطفولة ويطرح سؤالا مهما هو “هل يمكن رؤية العالم من خلال جريدة؟”. أما نص “النهاية المحتملة لدنجوان آخر” لرسمي أبو علي فيحكي عن مثقف يورط صاحبه البسيط أثناء جلوسهما في مقهى بحب سيدة جميلة ليجد نفسه في مواجهة مسدس الزوج، فيما يكشف نص “عرض مسرحي” للعراقية هدية حسين ممثلين مشهورين يفتعلان السعادة في زواجهما لكن نهايتهما تكون الطلاق.

ووصفت أسماء مصطفى مبادرتها بالمغامرة والمحاكاة في محاولة لطرح فيض الدهشة الكامن في المتن القصصي، وقالت: "أحببت إن أخوض تجربة “قصص على الخشبة” ليكون القاص جزءا من الجمهور ونحن من يحكي قصته". وأضافت: "لقد نقلنا من خلال رواة مختلفين كل قصة من سباتها ككلام على الورق لتكون حية بشخوص موجودة وأخرى قمنا بتخيلها لإعطاء القصة بعداً ثالثاً".

وعقب العرض قال القاص عدي مدانات: "أعتقد أن الفنانة أسماء مصطفى نجحت إلى حد ما وحافظت على روح القصة ولو اقترب بطلا العمل وهما فهد باكير وفارس البطوش في ملابسهما وهيئتهما وحوارهما الحنون الخاص بشوارع عمان من روح القصة وما صور فيها وما رسم لنجحت المسرحية أكثر". ورأت سامية عطعوط ان الفنانة أسماء مصطفى نجحت في إيصال المعنى المراد من القصة التي تطرح إشكالية مواجهة الإنسان لعصر العولمة وتعامله مع التكنولوجيا شعوره وانفراده في العالم الكبير دون أن يتمكن من مجاراته.

أما الناقدة الدكتورة رفقة دودين فرأت أن مسرحة القصص وإعادة إنتاجها بالإفادة من إمكانات المسرح تجربة تستحق الالتفات بوصفها وسيلة لتوريط المتلقي وإشراكه في تلقي النصوص وإنتاج دلالاتها من جديد تمكننا قياس تقبله وحضوره على صعيد الذائقة والجماليات وسمة التأويل الاجتماعية.

وقالت: "إن هذا الطقس الاستثنائي يكسر في الواقع الحدود التي نقيمها عادة باتجاه جامع النص لكن القصة تبقى الأصل ومسرحتها تنويع عليها في لعبة توهم وتورط جميلة".

من جانبه وصف القاص محمود الريماوي “قصص على الخشبة” بأنها "مبادرة جيدة لمسرحة القصص قلما حدث مثيل لها فقد لاحظنا إقبال وتفاعل الجمهور مما يدل على تعطشه غير أنها في النهاية كانت نوعا من الأمسية القصصية أكثر من العرض المسرحي". وقال إن "الديكورات والأغاني كادت أن تتفوق على أداء بعض الممثلين". وانتقد الريماوي ضعف صوت الممثلين لكنه استدرك القول إنها "بداية تستحق أن تستكمل فقد نجحت أسماء مصطفى نسبيا في مغامرتها ولها فضل المبادرة".

ورأى الناقد إياد نصار أن تقديم نص قصصي على المسرح يحقق انتشاراً جماهيرياً لفن القصة بين جيل الشباب الذين تجذبهم الفنون البصرية والأدائية في عصر هيمنة الصورة والصوت على الفنون الإبداعية.

وقال: "لقد قرأت ثلاثاً من القصص وحينما شاهدتها ممسرحة شعرت أنها تدل على فهم كبير لمفهوم الحكاية من قبل الفنانة أسماء مصطفى واستيعابها لاشتراطات القصة من حيث تكثيف الموقف الإنساني وإبراز الدهشة والتعبير عن المفارقة وتجسيد أزمة الشخصية".

وأوضح أن معالجة الشخصية وتقديمها لم يكن ناجحا تماما من قبل الممثلين لقلة الخبرة في تقديم المعاناة الشخصية من الداخل وتقمص الدور والاكتفاء بالتركيز على المظهر الخارجي كالملابس والديكور.

ورأى أن الحوار كان رتيبا أو يميل للصوت العالي للفت انتباه الجمهور وقال إن مسرحة قصة شوارع الروح باهتة للغاية.

تاريخ النشر: الخميس 28 أكتوبر 2010

رابط التحقيق بموقع صحيفة الاتحاد

 

السبت، أكتوبر 23

ماريو بارغاس يوسا.. عودة الى البدايات الباهرة


ماريو بارغاس يوسا.. عودة الى البدايات الباهرة
اياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الرأي الاردنية يوم الجمعة بتاريخ 22/10/2010

ينتمي البيروفي، ماريو بارغاس يوسا، الى مجموعة من الكتاب، الذين أخرجوا أدب أمريكا اللاتينية من العزلة، ورتابة الاجواء المحلية، التي امتاز بها القرن التاسع عشر، الى العالم كله. ومن هولاء خورخي لويس بورخيس، وخوليو كورتزار، وكارلوس فيونتس، وغابريل غارسيا ماركيز. ويعد بارغاس يوسا من أبرز الكتاب الذين ساهموا في إعادة الحياة الى الرواية الامريكية اللاتينية وتجديد روحها.

كتب ماريو بارغاس يوسا أكثر من ثلاثين كتاباً، ما بين روايات ومسرحيات كوميدية وغيرها، لكن تأثير رواياته الخمس عشرة نابع من تناولها للابعاد التاريخية والسياسية للاحداث في بلده، وفي دول أمريكا اللاتينية الأخرى، من مثل رواية "محادثة في الكاتدرائية" التي أصدرها في العام 1969، وتناولت الظروف السياسية في البيرو تحت حكم الدكتاتور مانويل أودريا في الخمسينيات، وروايته "موت في الانديز" (1993) التي تركز على العنف في عالم قديم متخلف، كأنه ما يزال يعيش اساطير الحضارات القديمة الدموية، وحيث الحياة بائسة في مجتمع على هامش العالم الحديث، وتروي مآسي القتلى الذين سقطوا نتيجة أعمال ميليشيا جماعة "الدرب المضيء" الماوية في البيرو، وتعكس تعاطف بارغاس يوسا مع المضطهدين والمسحوقين في محنتهم. وقد ترجمت رواياته الى إحدى وثلاثين لغة من بينها العربية.

كان بارغاس يوسا في شبابه نوعاً من الثوري اليساري الغاضب. كان اشتراكياً، ومن المعجبين بجان بول سارتر، وصديقاً لكوبا الثورية. لكنه أخذ يتحول منذ منتصف الثمانينيات الى اليمين. وأصبح الان من سكان لندن المعروفين، ومن المدافعين عن النظام الرأسمالي بوصفه النظام العملي الوحيد المتوفر حالياً، وصار من أشد الداعين الى الليبرالية الديمقراطية. ويذكر التاريخ أنه قاد مظاهرة كبيرة في ليما، العام 1987، ضد خطط الرئيس الأسبق للبيرو، آلان جارسيا، الداعية الى تأميم قطاع واسع من النظام المالي.

ينظر كثير من الكتّاب في العالم العربي، بشيء من الارتياب الى التحول في مواقفه من تأييد الفكر اليساري والاعجاب بثورة كاسترو في كوبا، الى اليمين، حيث صار لا يخفي ايمانه باقتصاد السوق، والليبرالية. وظهرت خلافات الى العلن في السنوات الاخيرة في بعض المناسبات بين بارغاس يوسا والرئيس الفنزويلي اليساري شافيز، كما أن هذا الكاتب صار في السنوات الاخيرة دائم الانتقاد لنظام كاسترو في كوبا، وأثار أيضاً حفيظة صديقه، الروائي المكسيكي أوكتافيو باث، عندما وصف النظام السياسي في المكسيك، الذي كان يسيطر عليه، الحزب الحاكم الوحيد في وقت من الاوقات، بقوله إنه "نظام الديكتاتورية المثالية".

بدأ ظهور بارغاس يوسا روائياً في العام 1962، حينما صدرت روايته الاولى تحت عنوان "المدينة والكلاب" بالاسبانية، وكان عمره ستة وعشرين عاماً، ويقال أنه راجع مخطوط روايته، التي بلغ عدد صفحاتها 1500 صفحة، وإعادة كتابتها من جديد، واختصرها الى الثلث تقريباً، ثم وجد في برشلونه ناشراً، يعد أهم ناشر للكتب باللغة الاسبانية. أما ترجمتها الانجليزية، التي صدرت العام 1967، فحملت العنوان الذي عُرفت به عالمياً وهو "زمن البطل". وكلمة "الكلاب" في العنوان الاسباني تستخدم بطريقة تحقيرية، وتشير الى طلبة السنة الاولى في أكاديمية ليونسيو برادو العسكرية، وقد اعتمد فيها الروائي على تجربته الخاصة حينما كان طالباً في الكلية نفسها.

نالت الرواية شهرة واسعة منذ صدورها، حيث حازت على جائزة في برشلونة في العام نفسه، وعلى جائزة النقاد الاسبان في العام التالي، وكان استقبالها النقدي كبيراً، وتراوح بين تقدير شفافية النقد الاجتماعي لدى الروائي، وبين قدرته على استخدام أساليب حداثية. وقد قال مرة، "لقد أحببت وليم فوكنر، لكنني قلدت هيمنغواي". كانت الرواية دقيقة في تصويرها للاكاديمية خصوصاً، وللفساد في المؤسسة العسكرية عموماً، لدرجة أن السلطات أحرقت ألف نسخة منها، وأدانتها بوصفها خطة من الاكوادور للتقليل من شأن البيرو. وهكذا ضمن الاستقبال العدائي انتشاراً للرواية، ومبيعات جيدة!

تسرد "زمن البطل" قصة جريمة قتل. يخبر طالب في الكلية العسكرية عن مرتكب جريمة بين زملائه الى سلطات الكلية، فتقرر عصابة من الطلبة تدعى "الحلقة" أن تسكت صوته. تُظهر الاسباب التي تذكرها العصابة، وكذلك التفسير الذي تقدمه السلطات لتبرير الموت على أنه حادثة عرضية، ثقافة الصمت والخوف في عالم يسيطر عليه الجيش. أراد بارغاس يوسا أن يفضح جانباً من الثقافة العسكرية آنذاك، حيث تعلم الكلية طلبتها كيف يعيشون ضمن هياكل وأنظمة هرمية تقوم على إطاعة الاوامر، وحماية السمعة بأي ثمن، وعدم الاخبار عن خطأ أو تقصير. ورغم أن مواضيع الرواية مستمدة من المجتمع البيروفي، إلا أنها تمثل قضايا عالمية تدور حول الهيمنة الذكورية، والسرية، والجيش، والجنس، وتجارب الحب الاول، وتحديات الانتقال من الطفولة الى الرجولة.

كل شخص في الكلية له لقب يعرف به، ولا يستخدم الاسم الاصلي الا في حالة البرتو فيرنانديز "الشاعر"، وريكاردو آرانا "العبد". وفي القصص التي تجري في الماضي، فإنه يتم استخدام اسم الشخصية المجهولة الحقيقي، لكننا لا نعرف ما لقبها الذي تعرف به في الحاضر. ولا يتم الكشف عن هويتها الا في النهاية، مما يضيف غموضاً آخر الى الشخصية.

تفتتح "زمن البطل" في الليل بالمزاح وإطلاق النكات والعبث، بين أربعة رفاق مراهقين في سنتهم الأخيرة في الكلية، وتنتهي بالقتل. تضم عصابة "الحلقة" جاكوار القائد، وكافا، وجامبوا، والبرتو "الشاعر". يعد "جاكوار" أكثرهم قسوة. وهناك شخصية "العبد" المهمة في الرواية والتي تمثل الضعيف والجبان المستعبد. أما المكان الذي يجتمعون فيه فليس سوى مرحاض بلا نوافذ، ليقرروا، من خلال رمي حجر النرد، من منهم سيسرق اجابات إمتحان الكيمياء. النجاح مهم بالنسبة لهم لأجل التخرج. يتفق الطلبة مع كافا على القيام بذلك، ويخططون لابعاد الطلبة المناوبين، كي يمر دون أن يلحظه أحد، عن طريق إعفاء بوا وكيورلي من دورة المراقبة بحسب قرعة النرد.

وبينما كان "الشاعر" يشغل الضابط هوارينا في نقاش ميتافيزيقي غريب، بعيداً عن مكانه الطبيعي، يرى "العبد" فجأة كافا يدخل مبنى الكلية. وخلال عملية الاقتحام، يكسر خطأ زجاج نافذة، مما يؤدي الى اكتشاف سرقة الامتحان، فيتم حجز الذين كانوا يقومون بالحراسة تلك الليلة، في الثكنات، وتلغى إجازاتهم، حتى يعترف المسؤول عن ذلك، أو يقوم شخص بالاخبار عنه. لم يكن "العبد" الذي اصبحت حياته جحيماً، بسبب الاساءة التي تهطل عليه من قبل القسم، وتحديداً من عصابة "الحلقة"، حراً. وفي الفترة الاخيرة، أرسل "العبد" صديقه "الشاعر" الى بيت حبيبته تيريزا للاعتذار اليها عن عدم حضوره موعداً بينهما. وبسبب سرقة الامتحان، فقد أُحتجز "العبد" مرة أخرى. يطلب "العبد" من "الشاعر" أن يكتب رسالة الى تيريزا، لكنه يرفض، فيشعر "العبد" بخيبة الامل، وبالغضب من استمرار منعه من رؤيتها، ويظن أن الفرصة قد جاءته لنيل ما يريد، إذا أخبر عن مضطهديه، فيعمد الى إخبار الضابط هوارينا عن كافا، وينال بذلك تصريحاً بالخروج.

في نظر العصابة، ووفق الثقافة السائدة في الكلية، فإن إفشاء الاسرار والاخبار عن المخطئين يعد اسوأ جريمة يمكن أن يرتكبها طالب ضد زميل له. يقسم قائد المجموعة على أخذ الثأر. يصاب "العبد" خلال المناورات العسكرية، مما يؤدي الى موته بشكل مأساوي، وتعلن الكلية أن موته نتج عن حادثة عرضية.

يقول جامبوا: "كيف يستطيع أن يظل على ثقته العمياء بالسلطة بعد الذي حدث؟ لعله كان من المعقول أكثر لو أنه جارى الاخرين. لقد كان الرائد جاريدو حتماً على حق حينما قال إنه يجب تفسير القواعد والانظمة وفق الظروف السائدة، وأن الاهم من ذلك كله أن تحافظ على أمنك ووظيفتك".

يعيش "الشاعر" صراعاً أخلاقياً في داخله؛ هل يجب كشف الحقيقة أم السكوت عن القاتل. وفي النهاية يخبر قادة الكلية أن وفاته لم تكن مجرد حادثة، وإنما جريمة قتل ارتكبها "جاكوار". تفتح الكلية تحقيقاً في الموضوع، وعندما تدرك أن هذا من شأنه الاساءة الى سمعة الكلية، وكشف الفساد فيها، فإنها تقرر تعليق التحقيق، وعد موته حادثة غير مقصودة. وعندما يدرك "جاكوار" خطأه، ويعترف به، فإنه يكون قد فات الاوان، لأن الكلية أغلقت الملف وعدّت الامر حادثاً خلال المناورات. وهكذا لا يتعرض أحد للعقوبة، ويتخرجون، ويذهب كلٌّ في سبيله. يمكن القول أن "العقوبة" النفسية المتمثلة في الصراع الداخلي تأخذ حيزاً كبيراً، وتفرض نفسها على تفكير الشخصيات، وتغير من نظرتهم الى أنفسهم، والى الاخرين حولهم، والى معنى الحياة بشكل عام.

إحدى القضايا التي تشغل ذهن بارغاس يوسا دائما هو الصراع بين الاب والابن، الامر الذي عالجه من زوايا عدة. لا يختلف السيد آرانا والد ريكاردو "العبد" عن والد البرتو "الشاعر". هجر زوجته مرات كثيرة، ولديه عدد من العشيقات. بالنسبة لريكاردو فهو أب غائب. وعندما يصاب ريكاردو بالرصاص، وهو على فراش الموت في المستشفى، يهمس والده الى البرتو عن التحدي الذي واجهه في جعل ابنه رجلاً، "لم يكن من السهل صناعة رجل منه، إنه مجرد ابني". يود الاب تصديق أن الكلية قامت بالشيء المناسب تجاهه، لمنحه شعورا بالرضى عن الذات، وتعزيز قناعته القديمة بأن كل ما فعلته زوجته وخالته اديلين أضعفَ الجانب الرجولي فيه. يفعل السيد آرانا كل شيء، إلا التفكير في تقصيره في تنشئة ابنه، أو فهمه بالشكل الصحيح.

تؤكد الرواية أن الانتقال من عالم البراءة الى عالم الخبرة، أو من عالم المراهقة الى الرجولة، لا يمكن أن يكون من دون ثمن، وأنه لا بد أن تنكسر القشرة التي يظن كثيرون أنها تحمي الانسان، وتغنيه عن خوض تجاربه الخاصة، كما توجّه الرواية نقدا شديداً الى نظام التعليم، من خلال ابراز الفساد والبيروقراطية التي تصيب المؤسسات التعليمية. تحتوي الرواية على مشاهد تظهر حجم القسوة وامتهان الكرامة التي يمارسها الطلبة في الكلية العسكرية، والتي يعكس قبول ادارتها بها نوعاً من الرضا عنها. تصور الرواية تلميذين صغيرين يلاحقهما تلميذان كبيران، ويجبرانهما أن يقعيا على الارض، وأن يتصرفا ككلبين في وضع تزاوج.

من المواضيع الرئيسة التي طرحتها الرواية، الصدام بين الضمير الفردي والمؤسسة، وحالة الفرد الذي يجد نفسه بمواجهة أوامر المجموعة. كما تعد الرواية نموذجاً قوياً في تصوير مثالية الشباب وسذاجتهم أحياناً أثناء خوضهم تجربة الحب الاول.

يقوم بناء الرواية على تناول مفارقات عدة، وليس فقط الاختلاف بين الحياة العسكرية والمدنية، كما تمثله الكلية والمدينة، اللتان تبدوان عالمين منفصلين، فهناك مستويات أعمق وأكثر تعقيداً من التضاد في شخصيات أبطالها. وهناك مفارقة مهمة بين الشك واليقين، حيث تبدو شخصياته غير قادرة على تقرير مصيرها، أو تحديد موقفها، بل تصبح أسيرة الظروف والمواقف والبيئة.

كان القاص والروائي الامريكي هاري سيلفستر من أوائل الكتاب الغربيين الذين انتبهوا الى أهمية الرواية الاولى لبارغاس يوسا، وقيمتها الفنية، وهو من أوائل من كتب عنها عقب صدورها، فقد كتب في العام 1966 مقالة في "نيويورك تايمز" يتناول فيها بالتحليل شخصية "جاكوار"، والتحولات التي طرأت عليه. وقد أشاد فيها يومها بالكاتب الشاب ذي الموهبة الذي استطاع أن يستفيد من تجربته في الكلية العسكرية بكتابة غير نمطية، تمزج بين الواقعية والتجارب الذاتية، لكنها لا تقع أسيرة النمذجة. كما يقدم أمثولة أخلاقية بعيداً عن اسلوب الوعظ المباشر، ولكن من خلال اختيارات شخصياته. ومن هنا جاء التطور في شخصية "جاكوار"، الذي أدرك خطورة جريمته، فبادر الى الاعتراف بها. نلمح في الرواية تأثراً بوجودية سارتر من خلال الاقتباس الذي يستهل به بارغاس يوسا روايته.

أسلوب الرواية غير تقليدي، حيث لا تسير أحداثها بنسق زمني متتابع، وهو نمط فضّله كتاب فترة الطفرة الروائية لامريكا اللاتينية الذين كانوا معجبين بالحداثيين، من مثل فرجينيا وولف، وجيمس جويس، ووليم فوكنر. تقدم الرواية وجهات نظر متعددة من زوايا مختلفة، وتنتقل بين صيغ الزمن المختلفة، كما يتحول ضمير الراوي من الغائب الى المتكلم. ورغم أن الرواية قليلة الاحداث، إلا أن تطور أسلوب السرد عند بارغاس يوسا يشد القاريء للمتابعة حتى النهاية. يجري السرد في الوقت الحاضر بضمير الغائب، ويتحول الى ضمير المتكلم في حالة البرتو، وفي الوقت نفسه، يجري سرد ثلاثة مسارات في الماضي معاً عن ثلاثة أشخاص في الكلية.

تبدو الرواية غامضة ومعقدة في البداية، حيث تتداخل وجهات النظر المختلفة. يحب ثلاثة رجال مرأة واحدة لها ثلاثة أسماء مختلفة هي ثيريا، وتيريزا، وتيري. لا يكشف السرد في الماضي لقب الشخصية الحالي في الحاضر، مما يزيد من التشوش والتعقيد. هناك خيوط مختلفة للحدث تسير في حبكات مختلفة، يضيف بعضها معان جديدة الى القصة، وبعضها يموت دون أن يضيف شيئاً.

ربما تبدو الرواية عادية، لكن أسلوب السرد وتطور الحبكة فيها على درجة عالية من النضوج، حيث تتطور الشخصيات الرئيسة بشكل كبير. ويدفع السرد القاريء الى أن يأخذ جانب "الشاعر" أكثر من جانب "جاكوار" طيلة الرواية، غير أنه في النهاية يظهر "جاكوار" "الشرير" شخصية أفضل مما كنا نظن، مما يجعلنا ندرك مخاطر افتراض الحقيقة.

وقعت الرواية في هنات فنية، مثل كثير من الروايات الاولى، التي تعتورها مشكلات البدايات، فهناك مشاهد غير ضرورية، وتراخٍ في ايقاع السرد أحياناً، والرغبة في قول أكثر مما يجب، ليس فقط عن الكلية التي تشكل قلب الرواية، ولكن عن المجتمع البيروفي عموماً، وصعوبة التمييز بين أصوات بعض الشخصيات. واذا كانت الرواية قد نجحت في تطوير الشخصيات من الذكور، فإن الشخصيات النسائية فيها بقيت هامشية، أحادية الجانب. تبدو تيريزا شخصية مكتملة الجوانب، ليس بسبب تطويرها من جانب المؤلف، ولكن لأنها تخوض ثلاث قصص للحب مع ثلاثة رجال في آن معاً.

كان عمر بارغاس يوسا ستة وعشرين عاماً عندما كتب هذه الرواية، وبالتأكيد فإنها ليست أفضل ما كتب، إلا أنها كانت تبشر بولادة موهبة عملاقة ستفتح نوافذها لاحقاً على أبعاد أعمق وأحداث أكثر تأثيراً.

رابط المقالة بجريدة الرأي
 
رابط الصفحة الكاملة (يرجى الانتظار ريثما يتم تحميل الصفحة)
 

عالم بارغاس يوسا بين التاريخ والسياسة والنقد الاجتماعي



عالم بارغاس يوسا بين التاريخ والسياسة والنقد الاجتماعي
اياد نصار

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الدستور يوم الجمعة بتاريخ 22/10/2010

ينسب بعض النقاد الفضل في قيام الموجة الثانية من طفرة الازدهار، في أدب أمريكا اللاتينية، الى روايات البيروفي، الحائز على جائزة نوبل للأدب هذا العام، ماريو بارغاس يوسا Mario Vargas Lliosa. بدأت الموجة الاولى للطفرة على يد المكسيكي كارلوس فيونتس، في عام 1958، بروايته "حيثما يكون الهواء صافياً"، ثم جاء الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز، بروايته الشهيرة "مئة عام من العزلة" في عام 1967.

لا يقل اهتمام ماريو بارغاس يوسا في النقد السياسي والاجتماعي، في إطار من إعادة اكتشاف تاريخ أمريكا اللاتينية، وتقديمه، في كتاباته الروائية، عن كتاباته الاخرى، غير السردية. وتجسد قصة حياته ذاتها، وما مر بها من تطورات ونجاحات واخفاقات، وتجاربه السياسية، وانتاجاته الادبية، وكتاباته الصحفية، هذا الانشغال الدائم بقضايا الحرية، والاضطهاد، والتخلف، والصراعات السياسية، والديكتاتورية، والفساد، وإعادة كتابة التاريخ الكولونيالي الاستعماري، وما بعده خلال فترات حكم العسكر الطويلة، في صوغ أدبي على درجة عالية من النضوج الفني والعمق. وتقدم رواياته نظرات نقدية عميقة، وإن اعتراها التحول، في حصاد التجربة الانسانية، وصمود الثقافات الوطنية أمام محاولات الطمس، من خلال التحليل المستند الى رؤية فكرية، تؤمن بالحرية، وتبرز أزمات مجتمعات أمريكا اللاتينية المنكوبة، بالصراعات المسلحة، والفقر، والتحولات الراديكالية العسكرية، وتسبر غور الثقافة الشعبية السائدة، والمقولات الاجتماعية التي تولد العنف والاستبداد في المجتمعات المتخلفة. لذا يشار الى بارغاس يوسا بأنه الضمير الوطني للبيرو. تنطوي كتاباته على رؤى عميقة حول معاني الحياة، والحرب، والحب، والجنس، والاخوة، والانسانية بطريقة ذكية، وتنم عن منهجية وثقافة ذات توجهات انسانية عالمية، وبأسلوب فريد جذاب.

ظهرت مجموعته الاولى من القصص القصيرة، المسماة "الرؤوس" في عام 1959. وعندما ظهرت روايتاه: "المدينة والكلاب" و"البيت الأخضر"، في عامي 1962 و1966، ومن ثم ترجمتاهما الى الانجليزية في عامي 1967 و1969، فقد صار ينظر اليه على اعتباره معجزة رواية أمريكا اللاتينية، الجديدة، وحلم ازدهارها القادم، نظراً لأن عمره ـ عندما صدرت "المدينة والكلاب" ـ كان ستة وعشرين عاماً. من غير الواضح ما هو السبب الذي حدا به، أو بالناشر، الى تغيير عنوان روايته الاولى، في الترجمة الانجليزية، الى "زمن البطل"، رغم أنه قد يكون معبراً أكثر. وقد قال، مرة: "لقد أحببت وليم فوكنر، لكنني قلدت هيمنجواي".

بنى بارغاس يوسا عالمه الروائي، من خلال تطويع أحداث شخصية وتاريخية، باستخدام أساليب متقدمة، توظّف تعدد الاراء، ووجهات النظر، بعيداً عن السرد الخطي الاحادي. تجري أحداث أغلب رواياته في البيرو، وتعكس دور الاحتجاج الاجتماعي للرواية التي تفضح الفساد، والهيمنة الذكورية، والتمييز العرقي، والعنف، إلا أنه يؤمن أن على الكاتب ألاّ يلجأ الى الوعظ، أو التنازل عن الاهداف الجمالية لصالح الدعاية الايدولوجية.

وفي هذا الصدد، وعند الحديث عن المؤثرات التي شكلت عناوين اهتمامات بارغاس يوسا السياسية والاجتماعية، ونظرته الى بدايات الرواية الامريكية اللاتينية، لا بد من التطرق الى الادب، خلال المرحلة الكولونيالية الاستعمارية، وما بعدها، مع بزوغ شمس الاستقلال، في الثلث الاول من القرن التاسع عشر. خدمت مدينة ليما، عاصمة البيرو، التي كانت تعرف ـ في القرنين السادس عشر، والسابع عشر ـ لدى الاسبان، بأنها مدينة الملوك، بوصفها مركزاً انتقالياً، للتنقيب عن الفضة، في الانديز، ونقله الى اسبانيا. ومع سقوط الامبراطورية الاسبانية، ومع نفاد الفضة السهلة الاستخراج، فقد تراجع دور ليما. وبرغم من أن المحتلين الاسبان دمروا مكتبات حضارة الانكا، إلا أن المثقفين من الهنود، ومن الاصول الاسبانية، حاولوا استعادة أكثر ما يمكن من أدب البيرو ما قبل الاستعمار. وهكذا نقلت الى الاسبانية مجلدات عدة من أساطير الانكا، ومعتقداتهم، ومعابدهم، وشخصيات أبطالهم التاريخية والاسطورية، التي استمد منها، بارغاس يوسا الكثير، في رواياته.

في روايته الشهيرة "موت في الأنديز" التي أصدرها في عام 1994، فإنه يبني عالماً يسيطر عليه الخوف والموت، في منطقة مناجم في جبال البيرو، ويقدم مأساة اجتماعية سياسية، يشهد العريف، "ليتوما"، فصولها، حيث تستحضر الرواية الكثير من الاساطير والمؤثرات الثقافية التاريخية، المستمدة من حضارة الانكا، في عالم عدائي، تحت تهديد مقاتلي جماعة "الدرب المضيء"، الماويين.

تجرأ ليتوما على سؤال الدكتور بول ستيرمسون، في منجم لاسبيرانثا، عن الآبووات. فقال: "إنهم آلهة الموت، أرواح مرتفعات السلسلة وجبالها ـ قال البروفيسور، وهو يشعر بسعادة التحدث في أمر يبدو أنه يداعب طرف لسانه: "كل مرتفع في الانديز، مهما كان صغيراً له إلهه الحامي. وعندما جاء الاسبان، وحطموا الآلهة والهواكات، وعمّدوا الهنود، ومنعوا العبادات الوثنية، ظنوا أنهد قضوا، بذلك، على تلك العبادات. والحقيقة أنها ظلت متداولة، عبر اختلاطها بالشعائر المسيحية. والآبووات هم الذين يحسمون شؤون الحياة والموت على هذه الأراضي، ونحن مدينون لهم بوجودنا، هنا، أحياء، يا أصدقائي. فلنشرب كأساً كاملة، حتى آخر قطرة، على شرف آبووات منجم لاسبيرانثا".

عندما ترك الاسبان أمريكا اللاتينية، نهائياً، في عام 1830، كانت الأوضاع في قمة البؤس والفقر، وفي داخل البلاد، عاش الهنود الحمر في دائرة مغلقة، من الفقر، بدأت مع الحكم الاسباني، وما زالت حتى وقتنا القريب. ظل الهنود، حتى تسعينيات القرن العشرين، يشكلون طبقة الفلاحين الفقراء، المعدمين، في المجتمع البيروفي، وقد فتكت بهم الامراض، مثل الكوليرا، في التسعينيات، والامية، والفقر. ولا تخلو روايات بارغاس يوسا تقريباً من شخصيات تستمد أصولها منهم.

باستثناء بعض الاسماء القليلة، مثل جوانوت مارتوريل، من بلنسية، في اسبانيا، في القرن الخامس عشر، الذي يعتبر رائد بواكير الرواية الحديثة، في أوروبا، وفكتور هوغو، الذي قرأ بارغاس يوسا روايته "البؤساء" في أثناء وجوده في الكلية العسكرية، فإن الرواية ما قبل جوستاف فلوبير، ووليم فوكنر، كانت، في نظره، بدائية. جرّب كتاب أمريكا اللاتينية، من بعد خروج الاسبان، الاساليب الرومانتيكية في السرد، قبل أن يتبنّوا شكل الرواية الواقعية. وتصف هذه الروايات، التي تسمى روايات الارض، أو الروايات المحلية، أراضي أمريكا اللاتينية، وحياتها الريفية، بتفصيل شديد.

حملت الروايات في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ملامح مدرسة الواقعية والطبيعية. وقد جعلوا الرواية تخدم غرض التوثيق، في حين أن الروائي الحداثي، كما كتب بارغاس يوسا، عن ذلك، مرات عدة، يستخدم ما توثقه الرواية: كالمشاعر، والاحداث، والحقائق ... الخ لصنع الفن. يقول في كتابه "طقوس دائمة": "يعتمد كل شيء، أساساً، الشكل، وهو العامل الحاسم في تقرير ما اذا كان موضوع ما جميلاً أو بشعاً، حقيقة أم زيفاً.. على الروائي أن يكون فناناً قبل كل شيء، وصانعَ أسلوب محترف لا يكل ولا يتسرب اليه الفساد".

يؤكد بارغاس يوسا على أهمية مشاركة الكاتب في ما يجري من حوله، وفي مجتمعه، من نشاطات، وألا يبقى حبيس مكتبه، ظاناً أن دوره هو أن يؤلف، وحسب. وربما هذا يفسّر، في جانب منه، انخراطه في السياسة، كثيراً، واستمرار تحركاته وجولاته الى أماكن مختلفة من العالم، فقد سبق أن زار الاردن، وفلسطين، والعراق، والكونغو، وايرلندة الشمالية، وأماكن أخرى كثيرة، خاصة دول أمريكا اللاتينية. يقول: "يجب ألا يتحول الكاتب الى تمثال، أبداً. لم أحب، في حياتي، فكرة أن يبقى الكاتب في مكتبته، معزولاً عن العالم، مثلما كان يفعل مارسيل بروست. أحتاج أن أبقى على اتصال مع العالم، ولهذا أمارس الصحافة".

جمعت مقالات بارغاس يوسا، عن الحرب، في العراق، والتي كتبها لصحيفة "البايس" الاسبانية، في كتاب بعنوان "يوميات العراق" (2003). كما سافر مع ابنته مورجانا، وبصحبة مصور، الى فلسطين في عام 2005، وسجل انطباعاته في كتاب بعنوان "اسرائيل / فلسطين: سلام أم حرب مقدسة؟" (2006). لقي الكتاب ردود فعل مختلفة بين الجالية اليهودية، في أمريكا اللاتينية. وقال بارغاس يوسا، في مقابلة صحفية، بعد صدوره: "أصبحت اسرائيل دولة قوية ومتعجرفة، وإن دور أصدقائها أن ينتقدوا سياساتها بشدة".

وفي معرض حديثه عن أعماله القادمة، بعد فوزه بجائزة نوبل، قال إن إطلاعه على قصة بطل وطني ايرلندي، يدعى روجر كيسمنت، في بداية القرن العشرين، بينما كان يقرأ في سيرة حياة الروائي البريطاني جوزيف كونراد، أوحى له بفكرة روايته التي يعمل عليها، الان. كان كيسمنت معارضاً للحكم الانجليزي لبلاده، ومن أوائل الاوروبين الذين شاهدوا فظائع الاستعمار في افريقيا، خاصة ممارسات الجيش البلجيكي ضد المدنيين، وكتب تقارير تفضح هذه الممارسات. لعبت التقارير دورا مؤثراً، لاحقاً، في القيام بمراجعة داخل الجيش البلجيكي. كما دافع كيسمنت، أيضاً، عن الحقوق المسلوبة لهنود حوض الامازون. لكن الانجليز ألقوا القبض عليه في عام 1916، وشنقوه بتهمة الخيانة العظمى.

التحق بارغاس يوسا بخلية شيوعية، في صباه، وهرب مع صديقته البوليفية، التي كانت تكبره سناً، وهي جوليا أوركويدي، وتزوجها. ومن واقع هذا الزواج، الذي استمر تسع سنوات، كتب بارغاس يوسا، في ما بعد، روايته "الخالة جوليا وكاتب النص". ورغم أنه يعد من أهم الكتاب في الدول الناطقة بالاسبانية، إلا أنه بدأ مسيرته الادبية في أوروبا، وبالذات في فرنسا، حيث انتقل، بعد زواجه، الى باريس، عندما شعر أنه لن يستطيع كسب قوته في البيرو، بوصفه كاتباً جاداً. وفي فرنسا عمل بارغاس يوسا أستاذاً للغة الاسبانية، وصحفياً لوكالة الانباء الفرنسية، ومذيعاً في الاذاعة والتلفزة الفرنسية، في أوائل الستينيات. حصل على الجنسية الاسبانية، وانتخب في عام 1996 عضوا في الاكاديمية الاسبانية. عاد في عام 1975 ليستقر في البيرو، منهياً بذلك المنفى الاختياري الذي فرضه على نفسه، وخاصة أن الديكتاتورية العسكرية، التي بدأت سنة 1968، في بلاده، حينما استلم الحكم الجنرال فرانشيسكو موراليس بيرمديز، انتهت في عام 1980.

دهش التحولُ في قناعات بارغاس يوسا السياسية، من يساري متعاطف مع الثورة الكوبية، ومهاجم ـ بضراوة ـ للامبريالية والطبقية في رواياته، الى اليمين الليبرالي، خصومه، وجعل من الصعب النظر الى أعماله من زاوية واحدة. ويمكن تلمس عملية التحول الايدولوجي التدريجية في رواياته ما بين أعماله المشهورة الاولى، من مثل "البيت الأخضر"، و"محادثة في الكاتدرائية"، وأعماله اللاحقة، من مثل: "موت في الأنديز" و"حفلة التيس". أكدت روايته "حفلة التيس" التي أصدرها في عام 2000 أن "السياسة هي أحد أكثر الشياطين الذين فجروا فيه الابداع". كان بارغاس يوسا مرشحا محافظاً، عن الجبهة الديمقراطية للانتخابات الرئاسية في البيرو، في عام 1990، لكنه هُزم، فيها، على يد البرتو فوجيموري، ذي الاصل الياباني. وقد ضم كتابه المسمى "سمكة في الماء" في عام 1993 مذكراته، وخاصة حملته الفاشلة للرئاسة، التي كان كثير من الناس يتوقع أن يفوز بها أمام مرشح غير معروف، نسبياً.

كانت روايته الاولى، "زمن البطل"، التي أصدرها في عام 1962، سبباً في تعريف العالم بروائي جديد، يمتلك موهبة روائية حداثية، تستلهم اسلوب وليم فوكنر، وتيار الوعي، كما في أعمال فرجينيا وولف، وجيمس جويس. تعد الرواية صورة مصغرة للمجتمع البيروفي. وأشارت دراسات عدة الى موقف الرواية القوي، في النقد الاجتماعي والسياسي. وطبقاً لنظرية بارغاس يوسا، فإن الشياطين الشخصية والاجتماعية والتاريخية تعطي معنى للرواية، وتتحول الانشغالات، في العقل الباطن، خلال عملية الكتابة، الى قضايا جوهرية بالنسبة للروائي.

واذا كانت "زمن البطل" تبرز، من خلال موقفها الجريء، فساد المؤسسة العسكرية الخفي من جهة، والهيمنة الذكورية، في المجتمع، من جهة أخرى، فإنه في رواية "البيت الاخضر" في عام 1966، عاد الى تجارب طفولته وشبابه. تضم الرواية المعقدة مكانين رئيسين: الاول مدينة ريفية، والثاني الغابة، وهي بيئة عدائية، لكن فيها جاذبية وتحدياً. سافر، في عام 1957، مع مجموعة من علماء الاثار الى الغابة، وشاهد كيف يتم اجتذاب الفتيات الهنديات للعمل في البغاء على الشاطيء. قصة "البيت الأخضر" قصة بيت للدعارة، احترق وتهدم، وأعيد بناؤه من جديد.

أما رواية "حرب نهاية العالم" التي صدرت في 1981، فتحكي قصة ثورة ضد الحكومة البرازيلية، في أواخر القرن التاسع عشر، والرد الوحشي الذي قامت به السلطات. هناك متعصب ديني معروف باسم المستشار، ومعه جماعة كبيرة من الاتباع والتلاميذ، من المهمشين، في المجتمع. جاء في الرواية: "كان صوته مقنعاً، يصل روح الشخص من دون أن يجتاز رأسه، وحتى بالنسبة لشخص مخبول مثل جواو الكبير، فقد بدا مثل عشبة عطرية، شفت الجروح القديمة الاليمة. وقف جواو، هناك، يستمع له متسمّراً في المكان، من دون أن يرمش، وقد حركته الكلمات التي كان يستمع لها حتى النخاع، مثلما حركته موسيقى الصوت الذي كان يردد هذه الكلمات. كانت هيئة القديس تتوارى، أحياناً، خلف الدموع في عيني جواو. وحينما تابع الرجل مسيره، فقد بدأ يتبعه، تاركاً مسافة بينهما، مثل حيوان خائف".

تتحرك رواية "تاريخ مايتا"، أو "الحياة الحقيقية لأليخاندرو مياتا"، التي أصدرها في عام 1983، في عدة مستويات سردية. تتناول الرواية فشل ثورة ماركسية لينينية، يقودها الكهل تروتسكيست أليخاندرو مايتا في جبال الانديز. وقع مايتا في الأسر، وأعدم مساعده الثاني، فاليجوس. يُجري الراوي، لكونه روائياً في القصة، مقابلات مع عدد من الناس، الذين يعطون شهادات متناقضة، حول شخصية مايتا. وفي النهاية يدرك القاريء أنه، في أثناء تأليف الرواية داخل الرواية، فإن الراوي قد اخترع حياة مايتا، وقلّل من قيمة كتابة التاريخ وقراءته.

تابعت روايته "حفلة التيس"، التي صدرت عام 2000، اهتمام المؤلف السياسي في التاريخ الحديث لأمريكا الجنوبية، وتجري أحداث الرواية في جمهورية الدومينيكان، في عام 1961 والتي يحكمها الديكتاتور رافائيل ليونيداس تروجيلو. عادت أورانيا شابرال الى مدينة سانتو دومينغو لزيارة والدها المريض، وهو عضو مجلس شيوخ سابق، وخادم مطيع للديكتاتور. "وكم من المرات رجعت الى البيت حزيناً؛ لأنه لم يتصل بك، وخائفاً؛ لأنك لم تعد ضمن حلقة المقربين منه، وأنك قد صرت ضمن المراقبين؟" وفي النهاية فإن كابرال فقد حظوته.

يصور بارغاس يوسا تروجيلو مثل سوبرمان منتشٍ بقواه السياسية والجنسية، والذي يكاد يعبده رجاله الشياطين القساة، الذين يعملون في سراديب التعذيب. بنى بارغاس يوسا الرواية، مثل قصص الرعب، التي تقود القاريء الى قلب الظلام.

في رواية "الطريق الى الجنة" (2002)، هناك الاشتراكية فلورا تريستان التي تهجر زوجها لتدافع عن حقوق النساء، وحفيدها، الرسام بول غوغان اللذين تجذبهما الافكار العظيمة والصورة المثالية للحياة. تكرس فلورا وقتها لخدمة الانسانية، وإقامة جنة العمال. يترك غوغان الحضارة الاوروبية، وعائلته، خلفه، في باريس، ليعيش في تاهيتي كأنه في جنة مدارية.

أشار خوزيه ميغيل أوفيدو، وهو أحد أهم نقاد أعمال بارغاس يوسا، الى أن الحرية، دائماً، تكون مرهونة بالبيئة، أو بالمواقف التي يعبر فيها الضغط الاجتماعي عن نفسه، مما يجعل رواية بارغاس يوسا نوعاً من الرواية الوجودية، التي تتحكم فيها الظروف القاسية، والثورة غير المنطقية بالابطال الذين يجدون أنفسهم في موقف قاهر.

وأخيراً، ورغم أن بارغاس يوسا واقعي، من حيث الشكل، إلا أنه ليس كذلك، في أسلوب السرد، فهو لا يؤمن بالراوي الكلي العليم، وإنما يؤمن بأن يدع شخصياته، تحكي قصصها من خلال توظيف تعدد الاصوات، وتداخل صيغ الزمن، ويمزج، في رواياته، بين تيار الوعي، والاحلام، والانعكاس، والتأملات، بالاضافة الى توظيف أجواء العنف، والجريمة، والغموض، والحرب، ومآسي التاريخ وأساطيره المخيفة، في عالم يعكس أجواء الحب المحاط بالشر والسوداوية، ويصوغ نسيجاً روائياً فنياً فريداً يقوم على ثلاثية التاريخ والسياسة والنقد الاجتماعي.

رابط المقالة بصحيفة الدستور

رابط الصفحة الكاملة (انتظر قليلاً ريثما يتم تحميل الصفحة)


مشاركة نقدية في تحقيق حول الادب البوليسي


مشاركة نقدية في تحقيق حول الادب البوليسي في صحيفة "الغد"
الادب البوليسي نشأ في الغرب وما يزال يبحث عن معادل عربي

إعداد وتقديم: القاص والروائي جمال القيسي

عمان- القصة البوليسية، التي تنتمي إلى مصطلح أوسع هو "الأدب البوليسي"، يتأخر حضورها في الأدب المحلي الأردني، ويبقى بروزها عربيا مرهوناً، وفق كتاب ونقاد، إلى التعامل معها على اعتبار أنها "أدب أقل".


وبينما يزدهر "الأدب البوليسي" في "منشئه" في الغرب، ويعزّز تفوّق السينما والدراما التي تستند إلى "الروائع الأدبية"، تخفت كذلك الثيمة البوليسية في الفنّ المرئي العربي، باستثناء بعض الأعمال الدرامية مثل المسلسل السوري "الهشيم"، وأخرى مصرية قليلة مأخوذة من ملفات المخابرات المصرية لصالح مرسي.

التفوّق الغربي يتأكد بأنّ روائية أردنية، تحمل الجنسية الأميركية، هي ديانا أبو جابر، استفادت من الاحتفاء الغربي بالأدب البوليسي، فخاضت غماره واشتهرت بروايتيها "الجاز العربي" و"هلال". ونالت رواية "هلال" جائزة بن سينتر للقصة الأدبية للعام 2004، وجائزة مؤسسة بيفور كولمبس، كما صنفت الرواية بين أفضل عشرين رواية للعام 2003 من قبل صحيفة "كريشيان ساينس مونيتور" الشهيرة. في حين نالت رواية "الجاز العربي" جائزة كتاب أوريغون ورشّحت لنيل جائزة بين فولكر.

والمقارنة شديدة الميلان نحو الغرب، فمن المعروف أنّ الأديب الأميركي إدغار الن بو (1809-1894) يعدّ رائد القصة البوليسية وأستاذها المنظر لها في كتابه المنشور 1852 "حكايات الغموض والخيال والرعب"، ومنه انتقل بذلك الفنّ الصعب إلى اوروبا.

لم تكن أوروبا لتهزأ بهدية الن بو، فتلقفها البريطاني آرثر كونان دويل (1859ـ 1930) الذي ابتدع شخصية "شرلوك هولمز" التي برزت لأول مرة في العام 1887 فى رواية "غرفة مطالعة سكارلت"، و"الآنسة دورثي سايرز" (1893 ـ 1957) وأبدعت فيها أجاثا كريستي التي كانت تتعمّد خداع القارئ، وتخرق قواعد القصة البوليسية.

أستاذ الأدب والنقد في جامعة البترا د.خالد الجبر يحيل تفوق الأدب البوليسي في الغرب إلى أنّ المجتمعات هناك وصلت تشريعاتها إلى "درجة من التعقيد والتشابك"، موضّحا أنّ "علم الجريمة تجذر وضرب فيها، وأصبح له مساقات تدرّس في الجامعات مثل علم الجريمة والعقاب وما يسمى بعلم النفس الإجرامي. ويذهب إلى أن ذلك جاء "استجابة لما عليه حال الجريمة وتنوعها واختلاف أدواتها" في الغرب، فيما يجد أنّ الوطن العربي، والردن تحديدا ـ لم يشهد الجريمة المتنوعة والصارخة إلا في العقدين الأخيرين.

أما الروائي والسيناريست المصري المعروف بلال فضل، فيعتقد أنّ المسألة تعود إلى "إحجام الكتاب عن التطرق للأدب البوليسي بسبب عدم التفات النقاد إلى كتابه". ويؤشر بذلك إلى أمثلة في مصر، حيث كتبها إبراهيم عيسى وأحمد خالد توفيق، لكتها تجارب "لم تنل النقد الذي تستحقه"، وفق قوله.

ويقول مؤلف مسلسل "أهل كايرو" الذي عرض في رمضان الماضي بتصريحه إلى "الغد" إنّ غالبية الكتاب في العالم العربي لا تخرج رواياتهم وقصصهم عن التمسك بزمام الحالة الشخصية، أو تلك التي تستند إلى ما يرتبط به الكاتب من علاقات خاصة/ عامة، أو ما يعرف بـ "الرواية الاجتماعية". ويشير إلى أنّ كثيرا من الكتاب العرب يعتمدون على مقولة ماركيز "اكتب عما تعرف"، متناسين، برأيه، أنّ ماركيز ذاته كتب "وقائع موت معلن" التي يجد فضل أنها "رواية تشويقية متماهية مع الوجهة البوليسية إلى حد كبير".

وحول التساؤل المشروع بحتميّة أنّ الأدب مرتبط بالراهن، ولا بدّ أن يعكس مرآة الواقع، يرى الجبر أنّ الحال مختلف لدينا، لاعتقاده أنّ الروائيين خصوصا لا يعتمدون في أعمالهم الجانب الاستقصائي البحثي، وإنما "يتوكأون على عصا المخيلة والعاطفة"، معتبرا أنّ ذلك "لا يكفي في زمن بات للرواية فيه مصادرها العلمية والبحثية".

وبات تشكل الأدب في العالم العربي عموما، بحسب الجبر، يتوخّى الشهرة أكثر مما يبتغي تناول قضاياه الداخلية، مبينا أنه لذلك برزت أصوات تعود إلى التاريخ، ونبش شخصياته المرتبطة في حقب معينة فيه للوصول إلى التميز، على حساب الارتهان إلى اللحظة التي على الأدب أن يقول فيه كلمته الجريئة في الذي يقع من حوله.

القاص والناقد إياد نصار يفسّرغياب الأدب البوليسي، عربيا، بأنه "يستلزم وجود مجتمع مدني متطور، يمتاز بتعقيد الحياة المدينية، وتضارب المصالح، والصراعات حول المادة والمكانة التي ينشأ عنها بالضرورة، مشكلات وجرائم ذات دوافع مختلفة".

ويستدرك أنّ المجتمع العربيّ حتى وقت قريب كان يمتاز بأنه مجتمع ريفي قروي، ومدنه صغيرة، مبيّنا في المقابل أنّ الأدب البوليسي يعتمد على فكرة انتشار الجريمة حتى تصبح مظهراً مألوفاً من مظاهر حياة المجتمعات.

بيد أنّ فضل يرى أن الرواية والقصة إذا أحسن الكاتب حبكها ورسمها وجعلها مرآة صقيلة تحاكي نبض الناس، وتحترم عقولهم لن يلاقوها إلا بالقبول والاعتراف، ذاهبا أنّ ذلك يسهم آنذاك في تشجيع الكثير من الكتاب على طرق الأدب البوليسي وعبوره إلى عقل وقلب القارئ والمشاهد. إلا أنّه يعتقد أنّ الكاتب العربي يرتطم جهده بـ "الإهمال النقدي"، الذي هو رافعة من روافع الأدب، مبينا أنه من قبل "سلب وجرّد من حقوق الملكية الفكرية والأدبية التي يحظى بها كتاب العالم".

وتتعدد القراءة في أسباب غياب الأدب البوليسي، إلى حد أن يرى نصار أن لذلك علاقة بأمور تقنية، وأخرى بالكتابة الحديثة، مبينا أنه أمر يحتاج إلى ثقافة واسعة بعمل الأجهزة والمرافق والمؤسسات، كالفنادق والمستشفيات، والمحاكم، والبنوك، والمطارات، والموانئ، والسجون، وأدواتها كالطائرات والسفن والمال وغيرها.

ويضيف إلى ذلك المعرفة الدقيقة بأدوات الجريمة والقتل، كالأسلحة والسموم، وتوظيفها في القصة أو الرواية، وحتى إلى معرفة أكثر دقة بالأنظمة والقوانين، وكذلك خبرة في التعامل معها.



الثلاثاء، أكتوبر 19

لغة التواصل الصامت في عالم الوحدة


"من يؤنس السيدة" لمحمود الريماوي

لغة التواصل الصامت في عالم الوحدة

اياد نصار

* نشرت في جريدة النهار اللبنانية يوم الثلاثاء 19/10/2010


تقدم الرواية الأولى للقاص والصحافي محمود الريماوي، "من يؤنس السيدة" التي صدرت العام الماضي عن "دار فضاءات" في عمّان بناءً روائيا جذاباً في بساطته الشكلية من حيث الاحتفاء في جو تشيكوفي بتفاصيل حياة الانسان العادي، التي تستحق أن يُكتب عنها، بحيث تصبح القضايا الكبرى في الظل، لكنها باقية لا تمحى من الذاكرة، وتؤثر بشكل جسيم في حياتنا، بل وترسم مصيرها، ومن جانب آخر، تركيزه على الجانب التأملي لعالم النفس الداخلي، التي تعيش صراع الوحدة، واستيعاب الدروس في ختام تجربة حياة طويلة، بما يكتنفها من التفكير العميق في معنى حياة الانسان الموزعة بين الحاضر والماضي والمستقبل لشخصيتين رئيسيتين، وبطلة أخرى من نوع آخر، لا تقل أهميتها في الرواية عن البطلتين الأخريين، ألا وهي السلحفاة، التي تصبح محور الاهتمام طيلة الرواية. ويبدو الانشغال واضحاً عبر فصول الرواية العديدة بالبحث عن طرق التعبير والتواصل الأكثر فعالية.



يقوم بناء الرواية على تعدد الاصوات السردية، وخصوصاً ذلك الصوت الذي يأخذ فصلا قصيراً، لكنه في ظني من أكثر الفصول امتاعاً، وهو الذي ترويه السلحفاة ذاتها. تكمن أهمية الرواية في تناول حياة الانسان العادي، وهي في هذه الحالة وعلى نحو ليس مألوفاً كثيراً، امرأة عجوز سبعينية تدعى حسيبة أم يوسف، في إطار محيطها اليومي البسيط الذي تملأ جانبا كبيراً منه جارتها ورفيقة عمرها أم عوني، وذلك الحاضر الغريب المتمثل في السلحفاة، التي تكاد تعكس صورة البطلة إذ تنظر الى نفسها في المرآة.


يقوم السرد على توظيف البحث في أعماق النفس البشرية أكثر من انشغاله بالأحداث الكبرى التي تشكل مفاصل الحبكة المألوفة. وإذا كان بعض النقاد يعتبرون ذلك نوعا من السرد الثقيل الذي يتبع نسقاً هادئا بطيئاً، إلا أن تداعي الذكريات وحوار الشخصيات يغوصان في المعاني الكبيرة لأحداث كبرى عصفت بالمنطقة، وغيرت من سيرة حياة أبطالها وطموحاتها وأحلامها الضائعة. تفتتح الرواية باقتباس من مجموعة قصصية سابقة للمؤلف. يتضح في هذا الاقتباس استغراب الراوي من سلحفاة بطيئة تستطيع أن تكبح أشواقها، وتضع قناعاً صلداً لضميرها الشفاف. ويبدو أن المؤلف يواصل ارتياد ذلك الأفق الذي سبق أن قدمه في مجموعات قصصية سابقة مثل "رجوع الطائر" و"سحابة من عصافير" ليؤكد أننا نستطيع في خضم الحياة أن نعيش تجربة تعلم فريدة من نوعها، من كائن فريد حول معاني الصبر واختمار التجربة والدأب وتنمية أساليب مواجهة الحياة.


يضع الراوي القارئ في قلب الحدث بدون مقدمات، بتقديم شخصية البطلة مباشرة في أولى كلماته: "السيدة السبعينية بالكاد رأت سلحفاةً في سنيِّ عمرها الطويلة". يتضح في ما بعد أن هذه العلاقة المفقودة لسنوات طوال بين المرأة والسلحفاة، كان يمكنها أن تغيّر من مسرى حياة المرأة في ما مضى ومرّ بها من تجارب، بدلالة ما سيجري للمرأة من تطور في وعيها، وبداية إدراك عميق لفلسفة الحياة بعد الرؤية الأولى؛ سلحفاة تدب من غير أن ينتبه لها أحد للدلالة على انشغال الآخرين بهمومهم ومشكلات حياتهم، ونقد جانب مهم من جوانب الحياة المعاصرة المتمثل في عدم المبالاة والانشغال بالذات على حساب البيئة والآخرين، حينما يعيش الإنسان في وسط لا يعيره اهتماماً، فتمر التفاصيل والجزئيات عابرة مجهولة، فلا وقت للإنسان ليتأمل فيها مما يوحي بنقد السلوكيات المعاصرة.


تعقد الرواية مقارنة بين بطلتها الانسانية، وهي السيدة السبعينية، وبين بطلتها الحيوانية، وهي السلحفاة، فيما ينطوي على نقد لعالم الانسان. تبرز السلحفاة كنقيض للإنسان تكشف عريه وضعفه وخوفه وشكوكيته. فكما يقول الراوي فإن السلحفاة مخلوق صغير "يدبّ ببطء واستقامة نحو هدف غير معلوم، لا يلتفت الى الوراء كحال البشر وبعض الحيوانات، وبدا هاربا من خطر يكمن وراءه، دون أن يلوذ بشيء غير اندفاعه الى الأمام". في حين أن السيدة تسير هائمة بلا هدف محدد تواجه خوفها وضعفها ووحدتها بالعودة الى الماضي وذكرياته.


تبرز الراوية أهمية الاتصال وأدواته ولغته، ليس بين البشر وحسب، بل بين البشر والحيوان. ولعل الفصل الذي ترويه السلحفاة حول شعورها بالوحدة، وافتقادها الى أمها، والخوف الذي تعيشه بين أقدام البشر، يثير في النفس مشاعر التعاطف والتفهم. أما أم يوسف فلم تكن تعجز في الماضي عن مناداة أي حيوان أو طير باستخدام نداء صوتي ما، بل كانت عندما يفشل صوت ما، تلجأ الى نداء صوتي آخر. وحين تصمت السلحفاة ويسود البيت سكون، تقلق أم يوسف من أن ضيفتها تأسرها معها بهذا السكون، وهي التي تأملت أن تؤنسها، فالسلحفاة في نظرها صارت مثل طفلة صغيرة وحيدة، وهي اشتاقت لتلعب دور الأم. يبدو الاتصال هنا في أرقى درجاته حينما تهم أن تحتضنها كالأم، بل وتمارس دور الأم حينما تقف أمام السلحفاة وتمشي ببطء كي تتبعها مثلما فعلت عندما كانت تعلم أطفالها المشي.


تكتشف أم يوسف أنها يفوتها الكثير لتتعلمه في طريقة تواصلها مع هذا الكائن على رغم كل خبراتها وتجاربها. وقد سلطت الرواية الضوء بشكل واضح على مفهوم مهم في معنى التواصل، مفاده أن لكل إنسان أو حيوان أسلوباً للتواصل، ويجب عدم التقليل من فهم الأشياء الصغيرة البسيطة حولنا. تسأل حسيبة السلحفاة بابتسامة، فتهز السلحفاة رأسها ويلمع بريق في عينيها الناعستين. بالنسبة الى حسيبة هذا البريق يمثل بريق الحياة والاستجابة: "أهل الحارة لا يدرون شيئاً عن السلاحف". لكن الأمر أعمق من ذلك، فهم لا يعرفون شيئاً، ولكنهم يتفلسفون ويثرثرون حول كل شيء يخطر ببالهم. وسيثيرون كل ما أمكنهم من أسئلة تتخيلها عن ماهية حياة السلحفاة ليس حباً في المعرفة بل لقتل الوقت في حياة رتيبة مكرورة.


تهتم الرواية بالتأكيد على لغة التواصل في الحي، ليس بين السيدة والسلحفاة وحدهما، بل تقدم نماذج من علاقات الجيران وتوتراتها الصغيرة وتكتيكاتها الغريبة. عندما يأتي ابنها ماجد وعائلته لزيارة السيدة، فهناك مشاعر خفية من عدم الارتياح ما بين زوجة ماجد وحماتها، في حين تتسم علاقة السيدة حسيبة بجارتها المسيحية أم عوني بالدفء والقوة والصدق، مما مكّنها من أن تصمد ما يزيد على سبعة وعشرين عاماً. وتكاد تعوضها عن حضور أبنائها العابر في حياتها في هذه السن. "الأولاد يأتون عندما يأتون زواراً، ولا يلبثون أن يرجعوا مهرولين الى بيوتهم". تنادي السيدة حسيبة على جارتها باعتبارها مثل ابنتها، ولكن الجارة تعترض وتقول لها إنها قد أصبحت جدة في الخامسة والخمسين، وتحيطها بذراعيها وتقول لها نحن أختان على دين المحبة والنية الصافية.


يقدم الراوي ملامح شخصية السيدة ببطء تدريجي للقارئ يناسب بطء إيقاع الحدث، وخصوصاً أن بطلتي الرواية الرئيسيتين تتصفان بالبطء المتوقع منهما: السلحفاة والسيدة. تقيم الرواية علاقة مقارنة بينهما لإبراز أوجه الاختلاف والتقارب، لكنها تعقد اتصالا روحيا بينهما، فعندما تتوقف المرأة تتوقف السلحفاة، آنذاك يحدث أول اتصال، وتفكر السيدة عندذاك في حاجتها الى من يؤنس وحدتها. يساور المرأة شعور أن حياتها على وشك التبدل، وأنها لن تكون وحيدة بعد اليوم مع مخلوق لن يزعجها بصوته أو بحاجته للطعام والشراب دائماً.


يحس القارئ بذلك الاهتمام من الكاتب بتجسيد الانطباعات الأولى، واللقاءات الأولى، وما تتركه في النفس من أثر. وتقدم الرواية مقاربة ممتعة وشيقة لتفاصيل اللقاء الأول بين السيدة والسلحفاة. تحول اللقاء فرصة لاستعادة الذكريات. وصار الأمر أشبه بالذاكرة التي تشحن من جديد بعدما كانت فارغة إلا من صور وترجيعات قديمة. سرد دقيق يهتم بتفاصيل الأشياء، وينقل البعد النفسي المتمثل في أحاسيس الشخصية ومخاوفها وهواجسها، ويخلق انطباعاً حول التوتر الذي يهيمن على العلاقة بينهما. كما ينقل السرد مشاعر الخوف والرهبة والاستيحاش التي أصابت السيدة عندما خرجت السلحفاة من مكانها وهي تصلي، ومشاعر الفزع التي انتابتها.


تتميز الرواية بقدرتها على سبر غور شخصية السيدة أم يوسف وإبراز احتياجاتها الإنسانية النفسية التي فقدتها خلال رحلة العمر، وتلقي الضوء على الشعور بالاغتراب والعزلة والضياع والوحدة الذي تعاني منه. ولكن الأهم هو ربط مشكلاتها الناشئة عن الفراغ والعزلة وغياب الطمأنينة بمشكلة النكبة والتشرد من فلسطين وما نتج عنها من فقدان الأماكن والأصوات وسلام الروح. ونراها في الوقت نفسه مشوشة الذاكرة، فلا تفرق بين ما سمعته وبين ما رأته، تسير مشتتة الذهن لمجرد التجوال والتقاط الأخبار من غير غاية لإبراز الحاجة الى التواصل الإنساني.


للرواية قيمة توثيقية شعبية مهمة للقرية الفلسطينية، إذ تضعنا في الجو عشية النكبة في عام 1948 وتفاصيل دخول العصابات اليهودية للقرى الفلسطينية وبدء عملية التهجير من قريتها (بيت نتيف) الى (بيت أُمّر) الى مخيم (عقبة جبر) بأريحا الى مخيم الحسين في عمان: "..لقيت أكبر ترويع وأعظم كراهية من أشخاص غريبي الوجه واليد واللسان". وهكذا وجدت السيدة نفسها لاجئة. هذه الكلمة التي تكرهها ويقشعر لها بدنها وتعدها صفة ذميمة طال عهدها مثل معاقة أو مريضة. كما تصف الرواية طقوس الفلاحين في فلسطين ما قبل النكبة في استخدام ما كان يسمّى راجمات الألغام، وكذلك الموكب الصوفي برجال العدة وراياتهم الخضراء من قرية السيدة والقرى المجاورة حين يخرجون الى مقام النبي بولس للاستسقاء وهم يحملون الدفوف ويقرعونها ويتمايلون بالأدعية من الضحى الى المغيب والبنات تسير خلفهم تقلدهم وهن يأكلن الخبز بالسمن والسكر والقطين. ثم ينتظرون نزول المطر وهم يشعرون بالسعادة أن السماء كانت أقرب اليهم. يلعب الماضي دورا كبيرا في الرواية بالنسبة الى الشخصيات، فنعود بالذاكرة الى ماضي السيدة حينما كانت طفلة في فلسطين قبل النكبة في عام 1948. لكن الراوي يعمد الى عقد المقارنات بين عالم البشر والحيوان بعدما قُتل الضبع في قرية السيدة عندما كانت طفلة، ليبين المفارقة ويربط مسار حياتها بمسار قضية بلدها: "لم ترَ بعد ذلك ضباعاً ولو من بُعد رأت بشراً أشد سوءاً من ضباع ووحوش، منهم أولئك الذين هجّروها من بيت نتيف تحت حراب البنادق".


تهتم الرواية بإبراز إيقاع الحياة في مدينة الزرقاء وسماتها. إيقاع بطيء رتيب مغرق في الانتظار. بيد أن هناك الروح التعاونية التي تساعد الناس على التأقلم. فالعجوز تساعد في تفلية الأرز والعدس وتكييف بنطلون أو تقصير ثوب، وفي المقابل تقوم أم عوني بكل ما تستطيع من باب المشاركة الإنسانية الوجدانية في الفرح والحزن. الشجيرات المزروعة في داخل بيتها تكسر جفاف الزرقاء وتمتص غبارها. كما تبين الرواية طبيعة رتابة الأشياء ومصير الانسان البائس والمحتم بين خيارات محدودة لا يمكن رفضها.


تتسم لغة السرد بالطابع الشعبي الذي يمزج ما بين الفصيح والعامي المستمد من صميم الواقع الاجتماعي. الكلمات بسيطة مفهومة من واقع أحاديث الناس اليومية في الأحياء الشعبية والزقاق والاسواق. تبتعد لغة الرواية عن التحليلات الفلسفية للتغيرات والأحداث الكبرى التي أثرت في مصير شخصياتها أو المدينة التي تعيش فيها. لكن المقارنات والمفارقات التي تجسدها ببراعة تدفع القارئ الى التفكير فيما وراء السطور وإدراك تأثير القضايا الكبرى على الإنسان البسيط. لغة الحوار واقعية عادية مألوفة بما تشتمل عليه من توظيف للأمثال والمقولات الشعبية وتضمين المفردات التي تشير الى أسلوب الحياة في زمن ماض قريب.


رابط المقالة بجريدة النهار



الأحد، أكتوبر 17

رؤية نقدية على الجزيرة


رؤية نقدية على الجزيرة
حول قصائد شربل داغر ولوحات محمد العامري
اياد نصار

أجرت "الجزيرة نت" معي حوارا حول رؤيتي للأمسية الشعرية الفنية التي جمعت بين الشاعر اللبناني شربل داغر والفنان التشكيلي الاردني محمد العامري أمس في المركز الثقافي العربي في عمان في تعبير عن التمازج والتكامل والتفاعل بين الشعر والفن التشكيلي. وقد ألقى داغر في الامسية بعضاً من قصائده النثرية من مجموعته الاخيرة التي صدرت هذا العام "القصيدة لمن يشتهيها"، بينما كان هناك في الوقت نفسه معرض فني يضم لوحات بريشة الفنان الاردني محمد العامري مستوحاة من قراءته لقصائد شربل داغر. وفيما يلي نص التقرير الذي نشرته الجزيرة في أخبار الثقافة والفن ليوم الاحد 17/10/2010:

القصيدة والريشة يمتزجان في عمّان
كتب توفيق عابد:
تحت عنوان "الغبطة في الكلام.. المتعة في التصوير"، جاءت الأمسية الثقافية التي شهدتها العاصمة الأردنية السبت ونظمها المركز الثقافي العربي بالتعاون مع الدائرة الثقافية بأمانة عمان، حيث قدم الشاعر اللبناني شربل داغر شهادة إبداعية تناولت تجربته الشخصية ومنظوره الذاتي تجاه القصيدة، وذلك بحضور عدد من الشعراء والروائيين والنقاد.


كما تضمنت الأمسية معرضا للفنان التشكيلي محمد العامري استوحى لوحاته الـ18 من قصائد الشاعر بطريقة امتزجت فيها الريشة بالقصيدة، في حين سيقدم الشاعران يوسف عبد العزيز وموفق الملكاوي مساء اليوم الأحد نماذج من إنتاجهما الشعري. وفي كلمته قال داغر "إخالني في الكتابة مثل مرتزق أو كاتب مأجور، وهذا ما يحررني منه الشعر ويجعلني ألهو في ما أعمل.. أخادع وأراوغ أو أبني وأدقق..".

وأضاف "في الشعر لم أكلف بمهمة ولم ينتدبني أحد لواجب بعينه، وما أتوق إليه فوق أجنحة الحروف، وهذا ما جعل الشعر عندي يرتبط بالرغبة، فالقصيدة مثل جسدي الآخر".

لمن يشتهيها
وقرأ داغر قصائد من مجموعته الجديدة "القصيدة لمن يشتهيها" نقتطف منها:

لا تحتفظ القصيدة بسير رحلتها
بما أنها غابة ملتمّة على خطوات غائبيها
الواقفين أمام أغصانها
رافعين إصبعا أمام لوح مدرسي
بحجة أنهم أضاعوا في المنام صنادلهم
فطاروا من دون أجنحة
وكتبوا من دون طبشور
عن طفولة سبقتهم إلى مخابئ الغياب.

وعقب الأمسية قال داغر للجزيرة نت إن الكتابة "تتسم بمعرفة مسبقة مطلوبة ومرغوبة، فالكاتب يكتب ما ينتظره القراء، والقارئ ينتظر ما يأمل قراءته، وهذه نظرة وجيهة إلا أنني أطلب من الكتابة الشعرية غربة واكتشافا لأصوات غامضة، كأن يلتقي الغريب بالغريبة وسط الزحام".

اشتباك وتجاور
من جانبه تحدث الفنان التشكيلي محمد العامري للجزيرة نت فقال إن لوحاته "علامة من علامات الاشتباك والتجاور والتفارق مع قصائد شربل، وهما روحان تشتبكان في جغرافيا العشق ومحاولات جادة لاستدراج الحياة للناس". واعتبر التجربة محاولة لاستدراج الأسئلة المناكفة لدى الجمهور تقدم متعتين: "لذة الكلام ومتعة الرسم".

ووصف العامري مشروعه بأنه مغامرة، وقال "حين قرأت قصائده وجدت لغة نظيفة.. لغة مهذبة وأنيقة، كما وجدته يرسم كوادر سينمائية تتحرك عبر سطور القصيدة".

نضوج
من جهته يرى الناقد إياد نصار وجود تجانس بين لوحات الفنان العامري وقصائد داغر من خلال التركيز على العين في مخاطبة الجانب الحسي البصري، ولاحظ أن مفردات العين تتكرر في مقاطع من القصائد مع اللوحات التي تسعى لإقامة علاقة مع المتلقي في تأملها والإحساس بأنه جزء منها وليست مجرد انعكاس لذاتية الشاعر.

وقال نصار للجزيرة نت إنه "لمح تعددية تأويل المشهد عبر مستويات الدلالة والتعبير المختلفة، فقد حاول العامري استكشاف إمكانيات اللوحة في تجسيد روح القصيدة، كما أنه لمس كناقد نضوجا فنيا استوعب روح القصيدة، كما أعطتنا لوحاته -مثلما هي اللغة- إحساسا بالغموض".

وحول قصائد شربل يرى نصار أنه يرفض الشعر الذي يصبح انعكاسا لذات الشاعر في تمرده وصعلكته وهذيانه بحيث يعبر عن عالمه الذاتي ولا يقيم علاقة مع القارئ أو الفنون التشكيلية الأخرى، إلا أن ذاتيته برزت واضحة برغبته في أن يصبح طائرا يحمل الشعر وجمالياته.

وقال إن قصائد داغر تخلو من التهويمات اللغوية النرجسية التي تسيطر على قصيدة النثر، ولها إيقاع خاص تصنعه المفردات المتجانسة المتجاورة كلوحة فنية تعتمد على مخاطبة الملكات البصرية لتكوين الفكرة، بدلا من الإغراق في المعاني الذهنية الموغلة في الحزن أو التشاؤم أو الموت.

* اللوحة أعلاه من ريشة الفنان محمد العامري

رابط التقرير على الجزيرة نت

الأحد، أكتوبر 10

«قاب قوسين» صحيفة ثقافية الكترونية جديدة


صدور "قاب قوسين"
صحيفة ثقافية الكترونية جديدة للابداع العربي  

تصدر ، اليوم ، صحيفة ثقافية إلكترونية ، تُعنى بالآداب والفنون ، وتحمل عنوان: "قاب قوسين". وتتضمن الصحيفة ، في إصدارها الأول ، تقارير ونصوصا ومقالات لكوكبة من المبدعين والأدباء العرب ، من بينهم الشعراء: فوزي كريم ، فايز صياغ ، يوسف أبو لوز ، وطاهر رياض ، والقاصين: سعيد الكفراوي ، سعود قبيلات ، جمال ناجي ، خليل قنديل ، هدية حسين ، زياد خداش ، محمد اشويكة ، مصطفى النفيسي ، أحمد النعيمي ، وهشام البستاني.


وتتضمن" قاب قوسين" تقارير عن فوز البيروفي ماريو فارغاس يوسا بجائزة نوبل للأدب ، وعن مظفر النواب و"عزلته" ، والكاتب الشبح الذي يختفي وراء بعض الأسماء الأدبية اللامعة ، وبورتريه عن القاص المغربي إدريس الخوري ، وتقريرا عن فيلم "الشراكسة" لمحيي الدين قندور ، وقد كتب التقارير كل من: الكاتبة السورية غالية قباني والناقد المغربي محمد معتصم ، والناقد السينمائي ناجح حسن ، والكاتب الصحفي محمود منير.

وفي المقالات اشتملت" قاب قوسين" على كتابات للروائي والناقد المغربي شعيب حليفي ، القاص الفلسطيني محمود شقير ، الروائي والناقد العراقي عواد علي ، الشاعر السوري لقمان ديركي ، الناقد فخري صالح ، الروائية والكاتبة العراقية لطفية الدليمي ، الناقد والشاعر خالد الجبر، والقاص والمترجم إياد نصار.

كما تتضمن "قاب قوسين" غاليري للفنان التشكيلي عصام طنطاوي، يضم مختارات من آخر إبداعاته ، مع نص للفنان.

والى ذلك تتضمن الصحيفة عدداً من الأخبار والمتابعات.

ويأتي صدور" قاب قوسين" لتسد فراغاً وتضيف جديداً في مجال النشر الثقافي الإلكتروني ، وقد قام بتصميم الموقع شركة سينك جو ، ويتولى رئاسة تحرير الصحيفة الكاتب والقاص محمود الريماوي ، فيما يتولى أمانة التحرير الزميل محمود منير.

أما رابط الموقع فهو:
http://www.qabaqaosayn.com/

كتب اياد نصار:
نستقبل بفرح صدور "قاب قوسين"، التي كان وراء فكرتها، منذ أن لمعت في الذهن خاطرة، والى أن ولدت في فضاء العالم الالكتروني، القاص والصحفي الزميل محمود الريماوي. جاءت "قاب قوسين" في وقت نحن، في الاردن، خاصة، والعالم العربي، عامة، في أمس الحاجة الى صحيفة ثقافية الكترونية، تقدم الابداع والفكر والفنون برؤية واسعة منفتحة على المبدعين العرب، ومن مختلف الاطياف، في كل مكان في العالم، وبايمان كبير بأهمية ايلاء النصوص والمقالات والتقارير والاخبار الثقافية الجادة الرعاية في النشر بما يحقق التواصل بين القراء والكتاب بعيداً عن اشتراطات الصحف الورقية ومساحاتها القليلة واعتباراتها المحلية المختلفة، وبما يسهم في نشر ثقافة عربية حديثة ذات مضمون انساني منفتح على الثقافات العالمية.

لقد جاء العدد الاول من الصحيفة ثرياً متنوعاً في محتواه و جميلاً جذاباً في اخراجه، بفضل الجهود الكبيرة التي بذلها الزميل الريماوي والزميل محمود منير الذي يتولى أمانة التحرير، وأعبر عن تفاؤلي بنجاح الصحيفة وانتشارها بفضل الخبرة الواسعة التي يمتلكها الزميلان العزيزان، وأتطلع أن تصبح قريباً موقعاً مرموقاً للثقافة العربية، يقصده كل قاريء للعربية من مختلف أنحاء العالم، وأن تستقطب المزيد من أقلام المبدعين والكتاب والمفكرين، وأن تكون البيت الذي يحتضن الاصوات الجديدة والشابة نحو الانتشار الواسع.  


السبت، أكتوبر 9

نوبل وتغييب الشعر


نوبل وتغييب الشعر
اياد نصار

* نشرت في صفحة الثقافة بجريدة الدستور الاردنية بتاريخ 9/10/2010

إذا كان الروائي والقاص الامريكي ستيفن كينغ قد تساءل، في عام 2007، عما يمرض القصة القصيرة، في مقالته الشهيرة التي حمل عنوانها تساؤله ذاته، فإنني أتساءل عما يمرض الشعر هذه الايام. هل هناك عزوف عالمي مفتعل عن الشعر تقوده مصالح التجارة والنشر؟ أم أن الشعر لم يعد قادراً على مواكبة التعبير عن نبض العالم، وتطلعات الانسان، وأشواقه، بعد أن قطع أشواطاً بعيدة في الغموض، والتجريب، والترميز، والذاتية النرجسية المتمركزة حول نفسها؟ أم أن جو الالقاء الشعري الجماهيري، الذي يلائم طبيعة الشعر عادة، لم يعد يناسب أجواء القراءة والكتابة الذاتية مع انتشار الانترنت، والمدونات، والمواقع الالكترونية، التي تقيم اتصالاً فردياً، في أغلب الاحيان، مع المتلقي؟ أم هل صار الادب يتعرض لفترات من الرواج والموضة كما الازياء؟ أم أن ظروفاً موضوعية فرضت حضور الرواية على المشهد الادبي العالمي؟ وبالتالي، فالمسألة ليست مجرد فترة قصيرة وتنقضي، أو سحابة صيف وتمر، أم أن نوبل للادب نفسها أسهمت في تغييب الشعر، دون وجه حق، باختياراتها المنحازة الى نوع دون آخر؟


غابت شمس نوبل عن سماء الشعر منذ أربعة عشر عاماً، عندما منحت آخر مرة، في عام 1996، للشاعرة البولندية فيسلافا سيمبروسكا. ولكن من يتذكر سيمبروسكا الان؟ كانت شاعرة مغمورة لم يتعد تأثيرها وشهرتها حدود بلدها، وفاجأ اختيارها الكثيرين. كما أن اختيار ماريو فارغاس يوسا هذا العام يؤكد حضور الروائيين وسطوع نجم الرواية، فللمرة الخامسة على التوالي تمنح لروائي بعد الالمانية هيرتا مولر، والفرنسي لوكليزو، والبريطانية دوريس ليسنغ، والتركي اورهان باموك. وحتى عندما نالها المسرحي البريطاني هارولد بنتر في عام 2005، فقد قطع سلسلة من سنوات المنح للرواية قبله، فقد ذهبت الى سبعة روائيين، منهم البرتغالي خوزيه ساراماغو، والالماني غونتر غراس، والبريطاني في. اس. نايبول، والاسترالي الجنوب أفريقي الاصل جي. ام. كوتزي، ثم ما لبثت أن عادت السلسلة لتتصل مرة أخرى!


أعتقد أنه رغم وجود شعور عام بالرضا عن حسن اختيار الفائز بجائزة نوبل للأدب لهذا العام، التي أعلنت يوم الخميس الماضي، وخاصة أن الروائي البيروفي، الاسباني اللغة، ماريو فارغاس يوسا، يعد من أكثر الشخصيات الادبية تأثيراً الان في المشهد الثقافي العالمي، ليس فقط في الدول الناطقة بالاسبانية، ولكن لأن أعماله اجتاحت العالم، ومنه الوطن العربي، حتى بات يوسا يتردد كثيراً على لسان الادباء العرب، ما بين اعجاب بأسلوبه، أو لغته، أو عالمه الروائي، أو تأثيره الواسع، وبالذات في تطوير الرواية في دخول مرحلة ما بعد الحداثة، إلا أن الاختيار، على ما أعتقد، فاجأ الكثيرين في العالم وخيب آمالهم، بعد أن عقدوا الآمال على أن تلتفت نوبل الى الشعر هذا العام بعد غياب طويل.


لا عزاء لنا نحن العرب، الذين توقعنا فوز شاعرنا الكبير أدونيس، الذي كانت لديه حظوظ قوية في الفوز هذا العام، فهو لم يغب عن قائمة الترشيحات منذ سنوات، وكان ينافسه هذا العام الشاعر الكوري الجنوبي المعروف كو أون، والشاعر السويدي الذي يعد أشهر الادباء حالياً في الدول الاسنكندنافية، وتوقع كثيرون فوزه وهو توماس ترانسترومر. وباستثناء هولاء الشعراء الثلاثة ، فإن أغلب التوقعات كان تدور في الحقيقة حول روائيين، من مثل الجزائرية آسيا جبار، والامريكيين فيليب روث، وجويس كارول اوتيس، والكندية أليس مونرو، والكيني نغوجي وا ثيونغو، والايطالي كلوديو ماجريس. لا بل إن سكرتير اللجنة السويدية، بيتر انجلند، أقر بأن لجنة نوبل قد ارتكبت أخطاء عدة في الماضي، عندما غفلت عن منح الجائزة لشخصيات معروفة كانت جديرة بها، بيد أنه امتنع عن ذكرها، ولم يذكر من بينها سوى الكاتبة الدنماركية الراحلة، كارين بليكسن. ومن المعروف أن بليكسن كتبت سيرة حياتها في كينيا في افريقيا في الثلاثينيات في مذكرات تحت اسم مستعار هو اسحق دينسن، وتحولت الى فيلم سينمائي مشهور هو "خارج افريقيا".


واذا كنا نسمع منذ سنتين، في الاردن، عن السجال النقدي المتمثل في النقاش حول قرب الاعلان عن وفاة القصة القصيرة، رغم أنها نوع أدبي عالمي، وليس عربياً، لندعي امتلاكنا مصيرها! ومن ثم ارسالها الى مقبرة الادب الى جانب الملحمة والمقامة! فهل سنسمع غداً في ملتقياتنا الادبية عن شطحات نقدية تشير الى قرب وفاة الشعر؟ كنت أتمنى أن تنقذ نوبل الشعر، أو حتى القصة القصيرة، لعلها تعيد الى المراقبين المتشائمين بعض الامل المفقود!

* اللوحة أعلاه للفنانة العراقية رؤى رؤوف

رابط الصفحة بجريدة الدستور

رابط الصفحة الكاملة (يرجى الانتظار ريثما يتم تحميل الصفحة)



الجمعة، أكتوبر 8

القيسي ونصار وآخرون

القيسي ونصار وآخرون
بقلم سامية العطعوط

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الدستور الاردنية بتاريخ 8/10/2010

كتبت الزميلة القاصة سامية العطعوط الكلمة التالية في زاويتها الاسبوعية في جريدة الدستور والتي تطرقت فيها الى كتاباتي القصصية والنقدية:

تبدو الساحة الثقافية، لدينا، مخلخلة، تماماً، بمعنى أن المثقفين، وخاصة الكتاب والكاتبات، لا يشكلون جسماً واحداً، وصوتاً واحداً يحفل بما هو جديد وقيّم. قليلّ منا الذين يقرؤون الكتّاب الآخرين، ويشيرون إليهم، وإلى إنجازاتهم، ويحتفلون بهم. وليس بالضرورة أن تكون الإشارة بالحبّ والإعجاب، إن لم يتوفرا، ولكن ـ على الأقل ـ بالاهتمام في إنجازاتهم، وطموحاتهم وقدراتهم على التكيّف مع الظروف، وعلى إيجاد البدائل، وعلى التطور النوعي باستمرار.


لذلك نرى الساحة تحفل بالكتاب والكاتبات في مختلف مجالات الإبداع، سواء مَنْ هُم مًن الأجيال السابقة، الذين تم تكريسهم على مرّ السنين، أو من الأجيال التالية، ومع ذلك فإن الحراك الثقافي يظلّ قاصراً، لدينا، عن متابعة ما يجري في الساحة الثقافية، وما يزال محكوماً بالعلاقات الشخصية، والتوجهات السياسية، وتأثير مراكز القوى المختلفة على الإعلام والسياسات الثقافية، أكثر من كونه محكوماً بمستوى المنجز الثقافي، أو الإبداعي للآخر، وليس أدلّ على ذلك، مما حدث في منح التفرغ الإبداعي، لهذا العام، بحسب التحقيق المنشور في جريدة الدستور قبل أيام.

أيضاً، وعلى سبيل المثال، أتابع كثيراً مما يصدر في الساحة الثقافية، وأتابع ـ منذ زمن ـ كتابات الزميل يحيى القيسي، وإنجازاته التي تنوعت ما بين الكتابة الإبداعية، وإعداد البرامج والأفلام الثقافية، الوثائقية، ومجالات أخرى. وكذلك الزميل إياد نصّار، في كتاباته القصصية والنقدية، وآخرين غيرهما.

وفي الحقيقة، فإن هذين الزميلين، ولا علاقة خاصة تربطني بأي منهما، يقدمان نموذجين للمشتغلين في حقل الأدب من الأجيال الجديدة الشابة، لأنهما استطاعا أن يشقا طريقيهما من دون اتكاءات كبيرة، أو صغيرة، كما أن من يتابع مسيرة الكتابة لديهما، يستطيع أن يلمس التطور الذي حصل، ويحصل، في نتاجيهما. فإياد نصّار، الذي بدأ كتابته بنصوص قصصية خجولة، فضفاضة العبارات، أصبح يقدم نصوصاً قصصية متطورة وأكثر تماسكاً، وأكثر أهمية، على الصعيدين: الموضوعي، والسردي، كما في قصصه المنشورة في جريدة النهار اللبنانية، مؤخراً. كذلك يحيى القيسي الذي أصدر، حديثاً، روايته الثانية، "أبناء السماء"، وهي رواية تفارق معظم الموضوعات الروائية السائدة، على الأقل محلياً وعربياً، وتهتم بطرح رؤى وتصورات مختلفة عن العوالم اللامرئية، أو الماورائيات: فقد استطاع، من خلالها، أن يفارق كتاباته الأولى، التي بدأها بالسرد القصصي، في مجموعته "الولوج في الزمن الماء"، نحو فضاءات قد يراها أكثر رحابة للتعبير عما لديه. وهناك أمثلة أخرى كثيرة على الظواهر الثقافية، والإبداعية، لدينا، ومنها صدور عدد من الروايات لكاتبات أردنيات خلال العام الحالي.

وهذا المقال، بالطبع، ليس مقالاً نقدياً، أو حتى تقويمياً، بقدر ما يمثل دعوة لنا، جميعاً، للاهتمام في الأدب المحلي، وقراءته فيما بيننا، وتشكيل حلقات بحثية، أو دراسية، حول موضوعات أو ظواهر معينة فيه. وقد كانت لفتة ممتازة من رابطة الكتاب الأردنيين، بأن أنجزت ندوات نقدية لما صدر لمبدعين أردنيين، عن مشروع التفرغ الإبداعي، ولكن هذه الندوات والقراءات ليست كافية، لتغطية الأدب المحلي، وخاصة ما يُعنى بالجديد منه.

رابط الصفحة بجريدة الدستور

رابط الصفحة الكاملة (يرجى الانتظار قليلا ريثما يتم تحميل الصفحة)



شجرة الحياة

شجرة الحياة
اياد نصار

*نشرت في الملحق الثقافي بجريدة الرأي الاردنية بتاريخ 8/10/2010

تبقى صورتها وهي تلفظ أنفاسها تلح على خياله برغم السنوات التي مضت. مرّت أحداث كثيرة، لكنها تعلقت بذاكرته دون غيرها. امّحت تفاصيل تلك الايام وتغير المكان، وهي لم تتغير. تلاشت وخزة الالم في القلب، وظلت نكهة الحزن باقية في الذاكرة. نكهة غريبة تسكن في التلافيف من غير أن يجد لها تفسيراً.


في نهاية الممر الحجري المرصوف شجيرة لوز صغيرة. تقف وحيدة صامتة في حوض ترابي صغير بجانب السور الاسمنتي. وُضعت حولها بعض الاحجار، لتحفظ الماء حول ساقها. ليس هناك من شجيرة غيرها في كل الساحة الطويلة. ساحة ترابية تملؤها الحصى والحجارة وبعض قطع الصخور. نبتت الحشائش بين الصخور، وتمددت فوق أرضها الصلبة التي تأكل الاقدام بقسوتها.

كثيرة هي المرات التي تحول فيها لعبهم الى مشهد حزين. كانوا يتحلقون حول المصاب وقد سال الدم من يديه وركبتيه.. وانكشط الجلد وامتلأ الجرح بالتراب. منظر قاسٍ، لكنهم اعتادوا عليه. يتوقفون قليلاً لاسعافه بما تبقي في جيوبهم من محارم، ثم لا يلبثون أن يعودوا للعب وينسوا كل شيء. ولكن الندوب مثل الذكريات المرة تبقى للابد.

تلح صورة الشجيرة وهي تموت على خياله. تعلّق كريم بها في الاشهر الماضية كثيراً. يرى فيها شبهاً من أمه التي رحلت قبل أن يعرف معنى الموت.. يرن جرس الفسحة.. يخرج الى الساحة.. يركض اليها باشتياق.. يجلس بجانبها قبل أن يسبقه الاخرون. يأتي إسماعيل وأمجد ويجلسان الى جانبه. لا يطيلان المكوث.. دقائق معدودة ثم يذهبان. يبقى جالساً بجانبها وحده، يطيل النظر الى أوراقها.. لا يعرف لماذا تعلق بها.

الريح عاصفة خارج غرفته الصغيرة، والغيوم كثيفة رمادية، تملأ السماء كآبة وإحساساً بالوحدة. تتفتت الغيوم شاردة نحو الشرق. جاءت بوادر الخريف مبكرة هذه السنة. إصفرّت أوراق الدالية، وسقطت عند مدخل غرفته. يستعجل الغروبُ توديعَ النهار ليحل مكانه! يجلس كريم في غرفته الصغيرة في زاوية الشرفة المطلة على الوادي. ليست غرفة بمعنى الكلمة، بل زاوية أو قفص أو كشك مثل كشك الخفير، يسميها الخيمة! ولكنها مثل صومعة يعتكف فيها بعيداً عن هدير الدنيا وقصص الحياة المكرورة! نادراً ما تأتي قصة لا تندرج تحت عناوينها الرتيبة التي سئم منها: الولادة.. الموت.. الزواج.. الطلاق.. السفر.. العودة!

بيت قديم في حي شعبي مكتظ بصناديق الحياة الاسمنتية. وفي خيمته مكتبه الحديدي القديم وعليه كتبه في الكلية، وأمامه طاقة تطل على الشارع البعيد في الاسفل. علّق على الحائط بجانبه صورتها بالابيض والاسود. نبش الماضي كثيراً من غير جدوى. ماتت معها الحقيقة بهدوء منذ سنوات طويلة. ينقبض قلبه حزناً من التفكير بموتها. الى جانبه كومة عالية من الكراسي الحديدية الصغيرة. في النهار يضعونها جنباً الى جنب في خط واحد على طول الشرفة الطويلة، وفي الليل يرتبونها فوق بعضها في غرفته! حلّ المساء والسيارات كالسيل، تنوء بأجساد منهكة متعبة عائدة من غرب المدينة الى شرقها.

إزدادت كآبة الغروب، والغيوم ما تزال تشرد نحو الشرق. ينظر كريم من طاقة غرفته، ويسمع السيارات المكدودة وهي تطلق زوامير أبواقها المحمومة.. البيت هاديء لغاية الان. لم يعد أبوه بعد. يعود كل يوم من الورشة مع حلول العتمة. هاديء وفي عينيه حزن قديم، لكنه يثور من غير سبب. يخشى كريم ثورته المجنونة وصوته الفظ. يذكّره أبوه بالمعلم علوان. يشبهه كثيراً. لم تمحَ صورته من خياله برغم السنين. مضت ساعة وهو يقرأ الصفحة ذاتها في الكتاب أمامه ولا يفهم منها شيئاً.

يسرح في دفاتر الذكريات. تلح صورة شجيرة اللوز على أفكاره. قطع صوت غطاء الشباك الحديد بالاسفل ذكرياته، خرج من غرفته. رأى "حنين" تغلق غطاء الشباك. كانت تنظر الى الشارع من غير أن تراه. بقي واقفاً ينظر اليها. لمحته. ضحكت وأغلقت الشباك، فماتت بوادر إبتسامة على وجهه. التفت بنظره، رأى أخته على باب الشرفة تراقبه. شعر بخجلٍ، فدخل الى غرفته بسرعة وأغلق الباب خلفه!

عاد لشروده من جديد. يحس أن الرائحة ستخنقه. يجلس المعلم علوان على طرف مقعده وهو يختبرهم واحداً بعد الاخر على السبورة، وينفث السجائر كالمدخنة. صوته خشن وغليظ، ويلبس نظارت سميكة توحي بالبرود وغياب الرأفة من قلبه. يدخن نوعاً رخيصاً يسبب لهم صداعاً. لكنهم يتحمّلونه صامتين. يخشى الكل سطوته. بعد فترة نسي التلاميذ إسمه وصاروا يعرفونه باسم "ابو ريحة"! يعد كريم الدقائق في انتظار أن يرن الجرس. مر الوقت متثاقلاً كعادته! كانت أطول حصة في حياته! فكر في الشجرة الصغيرة. شعر بالاطمئنان وهو يجلس الى جانبها. عندما يعود للبيت في نهاية كل يوم، يحس أنه ترك جزءاً منه لديها.

لم يعد يسمع صوت الشباك. مرت أيام عديدة لم يرَ فيها "حنين". يخرج من غرفته وينظر الى شباكها، لكنه مغلق طيلة الوقت. جاء والدها الى بيتهم الاسبوع الماضي. حمل كريم الصينية وقدم الشاي. أخرج أبوها مغلفاً من جيب معطفه وناوله لأبيه: "يشرفني حضوركم حفلة إبنتي". إهتزت الصينية في يده وكادت أن تقع. أحس بطعم حامض في صدره. إضطرب قلبه من ألم ناعم سرى في جسده. خرج الى غرفته ودمعة خرساء تتكون في عينيه. إنتابته مشاعر مختلطة. فتح درج مكتبه وتناول مفكرته. أمسك القلم بأصابع مرتعشة. فرّغ حزنه في كلمات ذكرياته مرة أخرى.

في ذلك اليوم الذي استوطن ذاكرته جاء المعلم علوان ومعه بعض الادوات والدوارق وعصاه الغليظة الملساء التي لا تفارقه. شرح لهم عن تجربة عملية للكشف عن الاحماض والقواعد. شرح عن سائل شفاف ظنوه ماءً. أثار إستغراب كريم.. صافٍ كالماء ولكنه حارق يذيب الاشياء. كان كريم شارداً في خضم تساؤلاته.. كيف يمكن أن تبدو الاشياء صافية هادئة وفي داخلها نار حارقة؟ هكذا يبدو أبوه دائماً. إنتهى المعلم علوان من التجربة. نادى على عبدالجبار وناوله الدورق، كي يتخلص مما فيه بلهجة آمرة:

- إياك أن تحرق نفسك.

توقف كريم عن الكتابة. نظر الى الشارع. لمح الشباك المغلق. تحركت غصة خامدة في الحلق. بقي يفكر في الحمض ولم يستطع أن ينسى سيرته بسهولة! كان متلهفاً للخروج، منتظراً أن يدق الجرس. مرت الدقائق طويلة مملة، وهو يكاد يختنق من الجو الثقيل. رن الجرس أخيراً. خرج مسرعاً في الممر الطويل.. نزل الدرج قفزاً حتى وصل الساحة. ركض الى شجيرته الصغيرة. جلس بجانبها.. صدمه منظرها.. كانت المنطقة حول ساقها تغلي وتفور بالفقاعات. أخذ ينظر اليها وهي تموت. انفجر في أعماقه غضب ممزوج بالحزن والألم. تذكر أمه التي غابت عن عينيه قبل أن يكمل سنواته الثلاث. كان على وشك البكاء. أحس حنقاً يتفجر بداخله. بحث عن عبدالجبار طيلة الفسحة حتى وجده. أمسك به من عنقه. رأى الخوف على وجهه من الغضب الذي يقدح شرراً في عينيه كمن ينتظر لحظة الاعدام. وفي لحظة كانت يده الاخرى تطيح به الارض بكل قوة، وبقايا الطعام تتناثر من فمه، والدم يسيل من أنفه.

رابط الصفحة بجريدة الرأي

رابط الصفحة الكاملة (يرجى الانتظار ريثما يتم تحميل الصفحة)