الأحد، أكتوبر 3

أشباح في حياتي


أشباح في حياتي
اياد نصار

* نشرت في جريدة النهار اللبنانية بتاريخ 3/10/2010

أمشي على رؤوس أصابعي بكل حذر. أتلفت حولي، لكني لا أرى سوى الاشجار الكثيفة، تحيط بي من كل جانب. أحس أن هناك عيوناً تلاحقنا أينما ذهبنا كالاشباح، نحس بها ولا نراها. تتكسر أوراق الشجر الجافة فوق أرض الغابة تحت أقدامنا. أسمع صوت الرصاص ينطلق فجأة عالياً. عادت الأشباح مرة أخرى. يهدر الرصاص بكل قوة وعنف. أشعر بالوجل من شدة الصوت، والطلقات المتلاحقة تمزق الصمت القاتل بين الاشجار الاستوائية العالية. يدوّي صوت قنبلة تنفجر وراء ظهورنا على مقربةً منا. أحس بالأرض تميد كأنه زلزال. يرتفع التراب والدخان عالياً في السماء في كل الاتجاهات، ويملأ الفضاء خلفنا. أمشي وأنا خائف أن يثور لغم تحت قدمي. الاسبوع الماضي فقدنا هاني في لحظة غادرة. مزقه اللغم وصار أشلاءً. كان ينتظر نهاية الشهر ليعود الى أهله. لم يكن يطيق المكوث هنا في عالم أحس أنه غريب عنه. كان مكتئباً حزيناً، يتحرق للعودة كي يرى آمال مرة أخرى. في بعض الليالي كان يظل يحدثني عنها حتى ننام.



تزوج منذ أقل من عام. وجاء قبل خمسة أشهر الى هنا. كان يعيش مع أهله في بيت متواضع في قرية صغيرة تربض على قمة تلة على مشارف مدينة إربد.


أسير أنا وزياد في الليل في دورية على أطراف الغابة الموحشة. نشعر بالحذر والتوجس. الليل دامس وأصوات كائنات الليل تزيده رهبة. الجو حار ورطب لا يطاق. يمكن أن يندلع الرصاص في كل لحظة، أو تنفجر قنبلة فتنثر وراءها جبلاً من التراب والنار والدخان. أيدينا على الزناد خشية أن يخرج العدو وينقض فجأة كالأشباح. يتصبب العرق مني. حاولت الاحتفاظ بهدوئي، لكن المنطقة غادرة. تبقى هادئة فترة، ثم تثور فجأة. أحس أننا وسط محيط من العيون الخفية التي تراقبنا من بين الاشجار، وقناصة يتصيّدون الجنود. لقد فقدنا عريفاً في الشهر الماضي. أصابته رصاصة قاتلة في رقبته وهو يملأ خزان الماء. كان الامر مروّعاً. هزتنا خسارة حميد من الاعماق. لا يعرف أحد معنى الحزن، الذي يمكن أن يتكدس في صدرك عندما تخسر رفيقاً، أمضيت أنت وإياه شهوراً في خندق واحد. ترك حميد خلفه زوجة وإبنة صغيرة كالدمية، عمرها ستة أشهر.


أسير أنا وزياد، ونحن نلبس القبعات الزرق في هاييتي. مهمتنا أن نفصل بين الاطراف المتحاربين. يؤرقنا الخوف من الالغام. لقد زرعها المتمردون في كل مكان. عرفنا معنى تعاسة الحياة في دولة بلا أمن، تصبح قيمة الانسان أرخص من الرصاصة ذاتها التي يموت بها!


ثار صوت عنيف قوي، وإنطلق وابل من الرصاص مخترقاً سكون الليل، إلا من أصوات حشرات الغابة. رأيت خيالاتٍ سوداءَ، وعيوناً تبرق في الليل. شعرت أنني أطير عن سطح الارض. سمعت صوتاً تحت قدمي. ثم إنطلق صوتٌ عالٍ حادٌ يشق عنان السماء، فأصابني بالصمم. رأيت عموداً من النار والدخان الممتزج بالدم وقطع اللحم والملابس الخاكية. صرخت من هول المنظر. إنتفضت في فراشي، ورفعت رأسي. رأيت أمي فجأة فوق رأسي، وبيدها كأس من الماء. كنت كالمخبول الذي لا يعرف ماذا حصل. شعرت أن جسمي تمزّق قطعاً صغيرة، ملأت المكان المغطّى بورق الشجر. تتمتم أمي بعض كلمات فوق رأسي. تهاجمني الكوابيس كل ليلة. حوّلت نومي جحيماً.


تغيرت حياتي رأساً على عقب منذ أن رجعت قبل سنة. صرت عصبياً، أثور لأتفه الاسباب، وتهاجمني نوبات من القلق والتوتر. أرى كوابيسَ مرعبةً في الليل. يبدو أن سنوات البراءة والاحلام رحلت الى الابد. لم يبق سوى شريط الذكريات الجميلة والمريرة معاً. لكن الجميلة ليست الا فصلاً واحد في كتاب ضخم! لا أعرف إن كانت الحياة الصعبة، التي عشتها في الادغال، هي التي غيرت حياتي، أم أن سجى هي السبب.


فجأة سمعت باتسي كلاين تغني في المذياع "أتحطم قطعاً صغيرة"، بصوتها الريفي. تمطُّ الكلمات فتزيدني إيلاما يمزق القلب. صوتها قوي تشوبه نغمة حزن معتقة. كلما سمعت باتسي تغني تذكرت سجى. حاولت أن أنساها. مزقت صورها ورسائلها، وظننت أنني نسيتها الى الابد. لقد مرّت في القلب ليلى وهدى وسعاد .. كثيرات. لم يتركن في القلب ندبة كما تركت سجى. كانت تمضي أيام وشهور أنسى التفكير فيها، ثم لا تلبث أن تعاودني الذكرى.


سجى ذات شخصية مختلفة، تترك أثراً لا يزول. هادئة، وفي عينيها نظرات حزن قديم. تعيش في عالم وحدتها زاهدةً بقناعة واستسلام. يزداد حزنها كل يوم، وهي ترى أمها تذوي كأنها تستعد للغياب. سيدة كبيرة أقعدها المرض، وزاد في حنانها المتدفق. تقضي كل وقتها في كرسيها. سقت سجى أوراق نفسها الذابلة بحنان أمها لتبقى على قيد الحياة. لولاها لماتت روحها، وتيبّست، ولم يبق منها سوى هيكل جسد.


أنظر الى رسائلها، وأنا متمدد في الليل، على سريري في الثكنة. خطها صغير ناعم. في كل رسالة ترسل لي زهرة ياسمين بيضاء جافة بين طيات الاوراق. تذكرت رسائلها أيام الدراسة. وتذكرت رسائل مجدي ولقاءاته. كان يشاطرني الحلم في الدراسة في بلاد الضباب. ظل مجدي يرسل رسائل الى الجامعات والمعاهد هناك. لم يكن في مسرح حلم مجدي سوى جامعة مثل اكسفورد، وكتاب في قاعة مكتبة، وإمرأة انجليزية شقراء. كان مسرحي شبيهاً بمسرح مجدي، لكن المرأة الانجليزية الشقراء بدأت تختفي من الاطار، وتحلّ سجى محلها!


لم أستطع أن انسى التفكير فيها، ولم استطع أن أتخيل مسرحاً ليس لها مكان فيه. لم يعد أمامي فسحة طويلة من الوقت، وقررت أن آخذ المبادرة. عرفت أنني على مفترق درب ستتغير معه حياتي كلها.


أمضيت ستة أشهر صعبة مريرة في هايتي، بين صور الموت والرصاص، وأشباح الغابات، ودموع الضحايا. كانت رسائلها وزهرات الياسمين الجافة عزائي، الذي منحني القوة على التحمل والصمود. كنت أتصل بها بين حين وآخر. لم يكن من السهل الاتصال من هناك. في الاسبوعين الاخيرين قبل عودتي، حاولت الاتصال بها. كنت أريد أن أخبرها عن موعد عودتي، ومدى شوقي لرؤيتها مرة أخرى. لكن لم يكن هناك جواب. كنت طيلة الوقت، وأنا في الطائرة، شارد الذهن مع طيفها وذكرياتها ورسائلها.


السيارة تنهب الارض في يوم لطيف من آخر فصل الصيف، والشمس تلامس الجبال البعيدة، وهي تنزلق ببطء خلفهم مثل كرة برتقالية. الناس على جانبي الطريق، وفي الحقول البعيدة المترامية الاطراف يمرون عن زجاج السيارة الجانبي مسرعين! الطريق تسير أمامي مسرعة، وقلبي يخفق عالياً متوتراً كأنما يريد أن يقطع المسافات بلحظات. كنت متلهفاً لرؤيتها. خشيت من دموع الفرح في عيني وعينيها معاً عندما تتلاقى بعد الغياب.


عندما فتحت الباب، رأتني ألبس اللباس المرقّط، وأضع القبعة على رأسي. بقيتْ واقفةً كأنما تسمّرت في مكانها من وقع المفاجأة غير المتوقعة. لم يحرُ لها كلام. بعد لحظات دمعت عينيها. لم أعرف إن كانت دموع حزن أم فرح.


إستقبلتني ببرود على غير عادتها. أحسست أنها غاضبة من شيء ما. جلست في المكان ذاته الذي إعتدنا أن نجلس فيه. كانت أمها على كرسيها المتحرك طيلة الوقت. لمحتها تنظر اليّ بدهشة. دخلت سجى الى الداخل، ولم ترجع. تأخرتْ وأنا أتلهف لرؤيتها. طال انتظاري. قلت وأنا أنظر الى أمها: "لقد تأخرت سجى. هل هناك شيء ما"؟ قالت بصوت متردد خفيض: "لا أعرف ماذا أقول لك. ألم تخبرك سجى من قبل؟ خطبت قبل أسبوعين الى مجدي، وستتزوج في الصيف المقبل". لم أصدق ما سمعته. كنت كمن استيقظ من غفلة. لم أصدّق من وقع الصدمة. رأيت كل شيء مختلفاً من حولي. استعرت النار بسرعة في قلبي. نهضت من مكاني وخرجت من دون أن أقول كلمة.


كنت أقود سيارتي، والنار تغلي في داخلي، وقلبي يخفق باضطراب. لم أعرف كيف وصلت البيت، فقد كان ذهني شارداً والالم يعتصر ذاتي. أمسكت صورها ورسائلها، وأخذت أمزّقها بغضبٍ مكتوم. تناولت جفنة النحاس، التي أهدتني إياها ذات يوم، وعصرتها في يدي حتى غيرّت معالمها، وألقيت بها بعيداً من نافذة غرفتي. تناولت هدية كانت على مكتبي.. قطعة من الخشب المحفور وعليها حروف اسمها الاولى. أشعلت ناراً وألقيتها فيها. بقيت أنظر في ألسنة اللهب وهي تلتهمها حتى تلاشت.

* اللوحة أعلاه بعنوان شبح فيرمير للفنان الاسباني سلفادور دالي (1904-1989)

رابط القصة بجريدة النهار









هناك تعليق واحد:

  1. غير معرف10:02 م

    كلما قرأت لك اكتشف قدرتك على الامتداد اكثر وأكثر في حقل الواقعية المدعمةبالرؤية الفكرية والثقافية والمنهجية , لا يمكنك أن تكون نسخة طبق الاصل فابداعك الاصل ,وتجربتك في الكتابة توحي بامكانية ممارسة المغامرة عبر اخراج النصوص من الرتابة ,والولوج في قضايا وعوالم جديدة, بل والتأسيس لنظريات جديدة تنفي الانغلاق والتقيد بمفهوم موحد للتجربة الابداعية
    كما أن التركيز الذي تمارسه من خلال خلق الهاجس المركزي بالقصة يجعلها اكثر ترابطا ويعبر بناالنص دون ان يصيبنا التشتت او الارتباك في الفهم
    سعيدة لاني اقرا لقاص يبدع بكل نبل
    مودتي
    ب - فاطمة
    الجزائر

    ردحذف