الجمعة، سبتمبر 30

ذات يوم شتائي


ذات يوم شتائي
قصة قصيرة

اياد نصار
* نشرت في ملحق شرفات ثقافية بجريدة الدستور الأردنية بتاريخ 30/9/2011

تهطل قطرات رذاذ من بقايا ليلة ماطرة. تتشكل دوائر في بقع المياة الراكدة، في وسط الشارع. تكبر، وتتسع، ثم تتلاشى. تقف تحت عمود الإنارة، وهي ترتجف من البرد. بجانبها عمود قصير، عليه لوحة خضراء صغيرة، تحمل اسم الشارع. تحمل حقيبة أنيقة سوداء في يدها، وتلبس معطفاً طويلا خمرياً من قماش فاخر. تلف رقبتها بوشاح الفرو، وتضع على رأسها قبعة سوداء يلفها شَبَرٌ حريري أبيضُ يعطي القبعة شكلاً أنيقاً. تلبس حذاءً أسود اللون، عالي الكعب، مدبب الرأس. تلف ساقيها جوارب طويلة شفافة رمادية. تمسك، بيدها الأخرى، القبعة خشية أن تطير. تهب ريح قوية، فينفتح معطفها، ويبدو فستانها الأزرق الكحلي تحته. تنظر إلى آخر الشارع ويداها ترتجفان من البرد.


السماء داكنة، ملبدة بغيوم ثقيلة، توحي بالكآبة والوحدة. من خلفها يمتد حقل واسع، منحدر من الأعشاب والحشائش الخضراء. تلمع قطرات المطر على أوراق الحشائش. تركض فتاة صغيرة وسط الحقل، بكنزتها الزهرية المونّسة بلون ذهبي وقبعتها الحمراء. تلبس بنطالاً رمادياً فضفاضاً. تحمل على كتفها حقيبة قماش سوداء ثقيلة منتفخة. يسير أمامها كلبٌ أسودُ صغير الحجم غير، عابئ بمياه المطر. تبدو البيوت العشوائية بعيدةً، صغيرة في نهاية الحقل الواسع، بألوانها الباهتة. تنظر يُسرى إلى آخر الشارع لعل سيارة تلوح بعد إنتظار طويل. يمر من أمامها رجال غير مبالين بالمطر، ونساء يحملن مظلات زاهية الألوان. أوراق الشجر على رصيف الشارع مثقلة بحبات المطر. تسقط القطرات، وتتألق الأوراق لمعاناً.


يقف رجل، يلبس معطفاً بنياً من الكتان، ويلف وجهه ورأسه بشماغٍ مخططٍ بالأبيض والأسود، على حافة السور المقابل. يمسك بيديه طفلين يحملان حقيبتين على الظهر. ستمر الحافلة بعد قليل. ينظر إلى سيل المياه الجارف الهادر عبر القناة خلف السور. مياه موحلة من الطين تضطرب وتندفع في القناة المكشوفة. ترتفع أمواجها ساحبةً في طريقها كلّ شيء. ينظر برهبة إلى المياه المندفعة، ويسمع صوتها العنيف. تستغل يُسرى لحظات إنشغاله. تنظر إلى الطفلين وتبتسم لهما. يبتسمان لها أيضاً. ينظر إليها وهي تقف مرتعشة. تنظر إليه. تتلاقى العيون. تشيح بوجهها بعيداً. تمر سيارة مسرعة. تمد مظلتها كي تتوقف، لكن السيارة تستمر في سيرها. مرت سيارة أخرى فارغة رفعت مظلتها لكنها لم تتوقف. تنظر إلى ساعتها بقلق وملل. تقف منذ حوالي نصف ساعة ولم تتوقف لها سيارة. كم تصبح المدينة كئيبة، باهتة، باردة القلب في الشتاء؟


تنظر إلى الفتاة الصغيرة تركض، والكلب أمامها وسط الحقل الأخضر. تتابعها بنظراتها. تبتعد وتصغر. تسرح بأفكارها. تنظر إلى جهتي الطريق. تمر سيارات مسرعة ولا أحد يتوقف. ترشقها القطرات من عجلات السيارات. تبتعد للخلف قليلاً. تشعر بالحنق، وتلعن، في داخلها، لعنات مكبوتة. ستتأخر عن الدوام. من سيصدقها في المكتب؟ من سيصدق أنها تقف هنا منذ أكثر من نصف ساعة. لقد تأخرت في الأيام الماضية رغماً عنها. لم يقل رياض لها شيئاً، ولكن نظرات التكذيب بائنة في عينيه. شعور ينغص عليها يومها، ويقتلها من الداخل. لا تريد أن يتجاسر عليها إذا استمرت تتأخر كلّ يوم. ربما يخرج عن صمته، ويوجه لها ملاحظة قاسية. ستكون بداية تنذر بمعاملة أخرى. يكفيها ما بها. لا تريد أن يزيد العمل من مراراتها المكبوتة. لقد استيقظت مبكرة، هذا الصباح الماطر، ولكن الحظ يعاندها.


يسمع الرجل صوت الحافلة تقترب. ينظر إلى ساعته. كل يوم ينتظرها في الصباح. صار سائق الحافلة يعرفه. تبدل السائقون منذ ثلاث سنوات، وهو يقف، كلّ يوم، مع الطفلين، في المكان ذاته. يصعد الطفلان إلى الحافلة البرتقالية. تراقب يُسرى الموقف بكل تفاصيله. تعود غصة من تجاويف الذاكرة، فتحس لها بطعم مرارة في الأعماق. تبلع ريقها. تنسى الإحساس بالبرد والوقت، وهي تتأمل منظر الطفلين يصعدان الحافلة. لم تعد تحس بشيء حولها. تراه يلوح لهما بيديه مودعاً. تتحرك الحافلة وهو ما يزال ينظر إليهما. تتابعه بنظراتها. يلاحق الحافلة بنظراته حتى تختفي عند آخر الشارع. يعود أدراجه، فتبتلعه البناية. تنظر إليه يُسرى وهو يختفي في رحم البناية المقابلة. تشرد بنظراتها إلى الحقل المنحدر الواسع. لقد اختفت البنت الصغيرة. هدوء يسود المكان. تنتظر ملولة قلقة. ترتجف يداها من البرد. لكنها بقيت متسمرة مكانها. ربما يشفق عليها القدر فتتوقف لها سيارة. في آخر الشارع ينتظر كثيرون. لن تكون فرصتها أحسن حالاً. أحست بالضيق. لقد فات الوقت وهي ما تزال هنا. ستؤرقها نظرات رياض، مثل كلّ يوم.


ما يزال رذاذ المطر يتساقط خفيفاً. تتسع الدوائر أمام ناظريها، ثم تتلاشى. قصفة ريح تعبر وجهها، فتحس بقشعريرة تسري في بدنها. توقفت حافلة برتقالية على الطرف الآخر. نزل منها طفلان يحملان حقيبتيهما على ظهريهما. نظرت إليهما. لم تصدق المفاجأة. لين بمعطفها الأحمر الغامق يلف جسدها، وطاقية من الصوف المشغول باليد تغطي خصلات شعرها الذهبية. وعلاء يتلفّع بمعطفة الكحلي الغامق من الجلد، وطاقية سوداء تغطي شعره الأشقر الناعم. وقفت مذهولة غير مصدقة. صرخت: لين.. علاء. التفت الطفلان إليها، تبسمت، بقي الطفلان صامتين. سارا ناحية مدخل البناية. نسيت نفسها وهي تنزل الرصيف. غاصت قدماها في بركة ماء في الشارع. أحست بلسعة الماء البارد داخل حذائها. نادت مرة أخرى: لين.. ماما.. علاء. قطعت الشارع من غير وعي. توقفت سيارة فجأة. كان صوت صرير عجلاتها مدوياً. ركضت إليهما. احتضنتهما وهي تبكي. أخذت تقبلهما وتضمهما إلى صدرها، وزفرات أنفاسها الحارة تخرج مع تنهداتها. أين كنتما؟ نظر الطفلان إليها بعيون مستغربة تملأهما الدهشة. بقيا صامتين. كانت تضمهما بكل حنان، وهما يشعران بحيرة.. لا يدريان شيئاً مما يجري.


لقد اشتاقت لهما كثيراً. لم ترهما منذ سبع سنوات. كلّ ليلة تحلم بهما. ما تزال صورتهما منطبعة في رأسها. استقيظت، في الليل، على رائحة الغاز. اضطربت خوفاً. أيقظت غنام. نهض من فراشه وجرى إلى المطبخ. قفزت عن سريرها. لين نائمة في سريرها بكل هدوء، وعلاء في سريره الخشبي المشبّـك الصغير إلى جانبها، ووجه للأسفل على المخدة. انتابها خوف مفاجئ. هزتهما بقوة. صرخت: ماما.. ماما. لم يستيقظا. تسلل خوف مريع إلى أعماقها. رأت بوادر حركة على جفونهما المغمضة. وأحست بأنفاسهما. اطمأن قلبها. جلست عند سريرهما تبكي. دخل غنام، ووضع يده على رأسها، وأخذ يهديء روعها.


ضمتهما إلى صدرها أكثر. قالت، والدموع في عينيها: أين كنتما. كنت أنتظركما كل يوم. هل نسيتما ماما؟ تحسستهما من معطفيهما أكثر. عادت الصور سريعاً كأنها تحدث الآن. حين عادت إلى لبيت في ذلك اليوم، لم تستطع فتح الباب.. كان هناك شيء ثقيل وراءه. بقيت تدفعه شيئاً فشيئا حتى انفتح. لم تعرف ماذا جرى بعدها. حين فتحت عينيها كانت ممددة على السرير، ومن حولها ستائر بيضاء. كانت أمها تمسك بيدها، والممرضة تسجل في الأوراق على سريرها. لقد حطمتها الفاجعة. لم تحتمل بشاعتها. تعيش على المسكنات والمهدئات. لم تنهر أعصابها وحدها. لقد انهار كلّ شئ في حياتها، في غمضة عين. لا تزال، إلى الآن، ترفض التصديق. كيف طاوعه قلبه أن يفعل ذلك؟ أي بشر يمكن أن يفعل هذا؟ كيف استطاعت أن تسلبه تلك الإجنبية الشقراء عقله؟ كيف حولته إلى وحش بلا قلب ليقتلهما بدم بارد؟ ما تزال صورة لين، وهي ترتمي على الباب، تحاول أن تفتحه قبل أن تلفظ أنفاسها، منطبعة في ذاكرتها. وعلاء يرقد على بعد خطوات منها مثل قطعة ثلج باردة.


أفاقت من شرودها على صوت ينادي عليها، ويربت على كتفها:
ـ شكرا على اهتمامك بهما. أقدر كثيراً ما قمت به لأجل سلامتهما. كيف يتركانهما في الشارع، هكذا؟ سأعرف كيف أتصرف معهم. ماذا لو لم أكن بالبيت؟ هذه المدرسة كلها فوضى.


رنّ جرس مزعج قطع عليها حُـلمها. رفعت رأسها، كان الظلام ما يزال يلف الغرفة، والستائر مسدلة. فركت عينيها، لم تتبين الوقت جيداً. حملت الساعة بين يديها. كانت الساعة الثامنة والنصف صباحاً! أحست بخيبة أمل. أسكتتها بقبضة من يدها، وعادت للنوم مرة أخرى. بقيت تتقلّب بقلق. وضعت رأسها تحت الغطاء، وراحت تبكي في نشيج مكتوم متواصل.

رابط القصة بجريدة الدستور

رابط الصفحة الكاملة


الاثنين، سبتمبر 5

الجوائز الأدبية


في تقرير لجريدة الغد الأردنية حول الجوائز الأدبية

اياد نصار: صارت الجوائز ساحة للسجال النقدي واثبات الحضور

 أعد التقرير - القاص والروائي جمال القيسي
الجوائز التي تقدمها الجهات الرسمية والأهلية للأدباء، هي مؤشر -بصورة أو اخرى- إلى أن العمل موضوع الجائزة متميز ويستحق التكريم، بغض النظر عن الجهة التي قدمت هذه الجائزة ولو كانت من شخص بعينه كما في بعض الجوائز.


من الجميل والمثالي أن نعتبر أنه لا يمكن تصور أن يقوم مبدع بكتابة رواية او مجموعة قصصية او ديوان شعر، وعين ابداعه على جائزة هنا او هناك مهما رفعت؛ إذ ان الإبداع حالة من العطاء اللامحدود التي لا تنتظر جزاء سوى الأثر الجمالي والتوعوي الذي تحمله بين ثناياها.

لكن ثمة من ينظر إلى الأمر على انه استحقاق للمبدع حيث "الإبداع يستحق التقدير، ان كان على هيئة جوائز مادية ومعنوية، أو على شكل توفير حد من الراحة على المستوى النفسي والمادي للمبدع، حتى يستطيع أن يتعاطى مع المادة الإبداعية التي ينجزها، فيعطيها حقها من خلاصة عطائه وإبداعه، بدون أن يقع تحت مطرقة الحاجة والضائقة".

القاص والمسرحي الزميل مفلح العدوان يقول "تأتي الجوائز هنا كأنها شهادة على ما ننجزه كمبدعين من إبداع، تعطينا فترة للراحة، نأخذ نفسا بهذا الدعم المعنوي، لنقدم أكثر، ونعطي بشكل مختلف، وفيها تحميل للمسؤولية أكثر، في أنه بالضرورة ان يكون ما ينجز بعد الجائز يشكل اضافة نوعية ومختلفة على ما أنجز قبل الجائزة".

ويضيف وهو الحاصل على جوائز عالمية وعربية ومحلية "للجوائز محفز للعطاء في أكثر من مجال ومن سياق وهي بالإضافة إلى ذلك تجعل الفائز بالجائزة ذات البعد الإنساني متمسكا ومدافعا عن القيم التي تعزز الابداع والحرية والحوار والتسامح".

ويشير إلى أن هناك كتابا كبارا رفضوا بعض الجوائز لتعارضها مع مبادئهم، أو لأنها تحمل تسميات وعناوين مسيئة، أو لأن ظرف إعطائهم للجائزة غامض مختلف عليه" معتبرا أن فلسفة للجوائز لا بد من التوقف كثيرا عندها، بكل جوانبها، وليس فقط عند القيمة المادية، أو البعد التنافسي لها".

ويلفت إلى أنه في المحصلة فإن "الجوائز تأخذ قيمتها من المبدعين أنفسهم، فهم من يضفون عليها قيمتها، وإلا فإنها بدون حضورهم، وتفاعلهم معها، تكون فارغة المحتوى، استهلاكية، وإذا تكرر إعطاؤها إلى أشباه مبدعين، أو بالترضية، فإنها بعد فترة تفقد معناها، وتبدأ بالتلاشي شيئا فشيئا، حتى وإن كانت قيمتها المادية عالية، أو الجهة المانحة لها تملك قوة سياسية أو اقتصادية بشكل ما".

ويختم منوها الى أنه "في المقابل هناك جوائز لا تشكل قيمتها المادية رقما يذكر، والمؤسسات الراعية لها، لا تملك إلا الصفة الإبداعية الإنسانية، ولكنها تحقق حضورا، وتنافسا حقيقيا بين المبدعين الحقيقيين، والفوز بها يعد شهادة ونيشانا إبداعيا يحتفى به".

فيما يعتبر القاص والناقد إياد نصار أنه "عندما تراعي الجائزة معايير شفافة وواضحة، وتستند إلى آراء نقاد معروفين بالصرامة والنزاهة، وليس على سمعة المبدع، أو علاقاتهم به، وتضع قواعد خالية من الأغراض المسبقة واعتبارات الترضيات ومكافآت نهاية الخدمة، عندئذ يقدم المبدع المستحق للجائزة الكثير من المصداقية والمكانة للجائزة".

ويلفت الى أنه غير "أنه ينبغي القبول بحقيقة ثابتة وهي أنه لا توجد جائزة في العالم ترضي كافة المتنافسين من المبدعين أو حتى من المتابعين والقراء" حيث اختلاف الآراء والأذواق وقلة الاطلاع على أعمال الآخرين والتعصب الجغرافي، والرغبة في تملق الكاتب تلعب دوما البواعث الأساس على الطعن بصحة قرارات جائزة إبداعية ما.

ويشير الى أن بعضا من الكتاب والنقاد يعشقون أن يجعلوا أية جائزة ساحة للسجال وإثبات الحضور وإظهار مدى تفوقهم على المكلفين بمنح الجوائز، موضحا "لذلك ترى بعضا منهم صامتين طيلة العام أمام كل الأحداث الثقافية، ولا تنفتح شهيتهم للكتابة إلا عند نقد الجوائز".

ويضيف أنه في المقابل، فإن "تقصير الجوائز وخاصة العربية منها التي تشوبها ارتجالية واعتبارات شخصية ومصلحية ومنافع تبادلية يعطي الفرصة للأقلام لإثارة القضايا حولها، وهذا وجه صحي وديمقراطي، وإلا لشهدت الجوائز فسادا أكثر بكثير مما هو ظاهر".

ويفرق نصار بأنه ينبغي الفصل بين "الرغبة في إثارة القضايا تجاه مظاهر فساد معينة، وبين الجرأة في الاعتراف بأحقية الفائزين" مبينا أنه "قلما نشاهد أو نسمع من يثني على قرارات منح الجوائز، بل صارت الرغبة في سلب الجدارة من الفائزين في معظم الأحايين أكثر بكثير من الرغبة في تكريم المستحقين".

ويعتقد بأن "إثارة القضايا حول الجوائز لا تضعف من مكانتها بل دليل صحي على أهميتها"، حيث أن "الجوائز العالمية تتعرض للهجوم والنقد والرفض حتى من الفائزين بها، وبعض الجوائز شهدت فضائح مشينة عبر تاريخها مثل غونكور الفرنسية وبوليتزر الأميركية.

ولا يرى في كثرة الجوائز ضيرا "بل يثير شهية الإعلام ويسهم في لفت انتباه الجمهور إلى الإبداع" رائيا بأن أية جائزة إبداعية لا تنجح عبر تاريخها وخاصة ذات التاريخ العريق أو الطويل في اكتشاف مواهب إبداعية جديدة، هي مثار ظن سيئ بها وبمعاييرها لأنها تبحث عن الأسماء المعروفة وليست المستحقة لإثبات قيمتها ومكانتها"

ويرى أن الجائزة "تكريم واعتراف بدور الإبداع في الحياة، وتكرس من مكانته ضمن المشهد الثقافي، وهي مؤشر في غاية الأهمية على مسايرة تطور اتجاهات الأدب وتعزيز التحولات؛ فالأعمال الفائزة من غير الأنماط التقليدية السائدة تعكس تحولات الإبداع واتجاهاته التي تحظى بتقدير النقاد والمحكمين".

ويستغرب أنه "لا يوجد لدينا في الأردن - رغم الحركة الإبداعية النشطة-جوائز بما يكفي لتكريم الأعمال الأولى للمبدعين كجائزة الرواية الأولى، وجائزة الديوان الشعري الأول، وجائزة المجموعة القصصية الأولى، وجائزة العمل الأول في مختلف المجالات، وغيرها من التصنيفات التي يمكن التفكير فيها كأساس لمنح الجائزة".

فيما يعتبر القاص والمسرحي الدكتور هشام البستاني أن الجوائز الأدبية "موضوع غارق في الإشكاليات. فمن جهة، تتدخّل في بعضها (وخصوصاً المحليّة منها) العوامل الشخصية والشللية التي تميّز المشهد الثقافي بشكل عام. وكثيراً ما تطغى حسابات الشخصنة والصداقة على معطيات التميّز الإبداعي.

ويتابع "من جهة ثانية، غالباً ما تبتعد الجوائز عن الأدب الإشكالي أو الطليعي؛ فلا أحد يعطي الجوائز لكتابة تقترب من أو تفكك أو تنتقد تابوهات الجنس والدين والسياسة، فمثل هذه المواضيع تُحرج مقدّمي الجوائز الذين غالباً ما يخضعون صراحة أو ضمناً لمعايير ما يسمى بـ"الأخلاق العامة" و"الذوق العام"

ويعتبر أنهم كذلك "يخضعون غالباً لتيّارات الأدب السائدة في حينه فتُهمل الكتابات التجريبية والطليعية لأنها أيضاً مثيرة للجدل ولكن على الصعيد الفنّي والتقني"

ويلفت الى أن عدداً كبيراً من الجوائز يقدّم من قبل هيئات أو شخصيّات محافظة في الخليج، وبعضها يضع ضمن معايير الجائزة نفسها بنوداً تشترط في المادة المقدّمة أن تلتزم بالآداب العامة، وفي هذا تطبيق عميق وخطير للرقابة لأنها تنقل الرقيب إلى عقل المبدع نفسه فيصير هو الرقيب على نفسه وكتابته بدافع انتهازيّ هو محاولته الحصول على جائزة.

ويشير الى أن العديد من الجوائز تتبع لوزارات الثقافة أو هيئات رسمية أخرى في البلدان العربية، "ومعروف أن السلطة السياسية في بلادنا العربية تمارس رقابة تختلف فداحتها من حالة إلى أخرى، لكنها موجودة في جميع الحالات، وغالباً ما يتم غض النظر عن أدباء معارضين، أو إهمالهم، أو حتى محاربتهم، مما يضع المزيد من التساؤلات أمام هذه الجوائز".

ويذكّر بأن كل جائزة تُعطى تثير الكثير من النقاشات والإشكالات حول أحقية الفائز بها، "وهذا يدلل على أن الجوائز لا بدّ تعبّر عن "اتجاهات" ما لدى مقدّمها، وقد لا تتحقق فيها الحيادية والموضوعية، وقد لا تتحقق فيها شرط الحريّة اللازمة لأي فعل إبداعي".

ويستثني جائزة "البوكر العربية" للرواية مما تقدّم عن الرقابة، "فبالنظر إلى القوائم القصيرة لهذه الجائزة، نجد العديد من الروايات "الجريئة" التي أُخذت بعين الاعتبار، لكن "البوكر" تؤشر إلى إشكالية أخرى في موضوع الجوائز وهي التركيز على نوع أدبي معيّن تفضّله صناعة النشر (هو هنا الرواية) على حساب الأنواع الأدبية الأخرى (القصة والشعر) التي لا تحبها تلك الصناعة".

ويعتقد أن الجوائز ستكون جيّدة لو تحققت فيها الحرية وانعدام الرقابة، والموضوعية وانعدام المحاباة الشخصية، والشمولية(بمعنى شمولها لكل الاجناس الأدبية بدون تمييز) وهو غير متحقق في الجوائز الأدبية العربية، ولهذا ستظل الجوائز (باستثناءات قليلة) حالة شللية كرنفالية تسويقية بعيدة إلى حد كبير عن التجديد الأدبي والتميّز الإبداعي".

رابط الموضوع بجريدة الغد الأردنية