السبت، يوليو 26

سؤال الهوية


بمناسبة صدور كتابه الاخير:
هل أجاب سليم النجار عن سؤال الهوية ؟

بقلم: اياد نصار

صدر للناقد والكاتب الاستاذ سليم النجار خلال شهر تموز الحالي كتاب جديد حول أدب القاص والروائي الاردني الراحل غالب هلسا ، بعنوان سؤال الهوية في (زنوج وبدو وفلاحون لغالب هلسا). وقد استمتعت بقراءة الكتاب الذي يدل على وعي نقدي لكاتب يمتلك أدواته النقدية وقدرته اللغوية والفكرية على أن يقرأ ما بين وخلف السطور بعين فلسفية واعية. كما تستوقفك مقدرته التحليلية التي تدل على تعايش الكاتب مع أعمال غالب هلسا، واستلهام مراميها وأساليبها الفنية وفهم أبعاد شخصياتها ورموزها. والسؤال الذي يتبادر للذهن مباشرة في الحقيقة ينطوي على سؤالين: ما هي ملامح الهوية في أدب غالب هلسا والتي تجعله مشروعا روائيا وقصصيا متميزا ؟ ولماذا اختار الكاتب تحديدا مجموعته القصصية هذه بالتحليل والنقد؟ وأرجو أن أتمكن من الاجابة على هذين السؤالين كما تصورها وقدمها سليم النجار في كتابه.

يمكن القول بأن بنية الكتاب تقوم على تقسيمه الى ثلاثة فضاءات رئيسية: في أولها والذي غطى الفصول الثلاثة الاولى حاول المؤلف تقديم منحىً نقدي نظري بلغة أدبية ذات مضمون فكري عميق تحتاج الى القراءة المتأنية حول أهم ملامح هوية أدب غالب هلسا القصصي والروائي من أجل الاحاطة بفنه وفهمه في اطار مشروعه الثقافي الذي كان يدعو له. وهذا الشرح الفكري لا بد منه لكي يتعرف القاريء على الملامح الرئيسية لادب هلسا والتي تتمثل في مواضيع عريضة كالايدولوجيا وعلاقة الادب بالسياسة والمحرمات(التابوهات) وثقافة السؤال والالتزام واللاالتزام والبحث غير الموضوعي في العقيدة او الهوية الجغرافية الضيقة ودور التاريخ كقامع لحرية البحث في الهوية بدلا من أن يكون حافزا للتنوير.

وفي ثانيها ينتقل الكاتب للحديث بشكل محدد ضمن ملامح الهوية التي قدم لها عن مجموعة غالب هلسا القصصية (زنوج وبدو وفلاحون)بشكل محدد والاقتباس منها. ففي الفصول من الرابع وحتى التاسع يورد المؤلف عددا من المحاور التي تناولتها القصص ويدلل عليها بالاقتباسات المعبرة الدالة من عدة قصص كالورادون ، والمساء والليل، والزنوج ، ورحلة العودة ، واشتي وزيدي ، والخوف ، وخيانة زوجية. وفي ثالثها والذي خصص له الفصل العاشر والخاتمة ، فانه تناول الجانب الاسلوبي وزاوية النظرة للاحداث ومفهوم القصة عند غالب هلسا.

في القسم الاول من كتابه يلقي سليم النجار الضوء على أهم ملامح هوية أدب غالب هلسا، ويمكن الاشادة بجهده البارز الذي تمكن من التطرق الى أهم القضايا بطريقة مترابطة متسلسلة. وبرأيي إن هذا الجزء هو الاهم في الكتاب . يرى سليم النجار أن غالب هلسا يركز على الصدمة الاجتماعية التي لا تسير على رغبات القاريء او حسب الاسقاطات الفكرية. ويرى أنه يجب الفصل عند تناول غالب هلسا بين الايدولوجيا والادب. بعض النقاد اعتبروا أن أدب هلسا هو خير انعكاس لايدولوجيته، وقد اثنوا على ذلك ، ولا يخفون أن أدب غالب هلسا كان انعكاسا أمينا للماركسية في تقديم صورة مثالية للشخصيات من جانب الاعتزاز بالذات وطرح قيم الثورة على الظلم والحرية. والبعض الاخر اعتبروا أن سخر قلمه لخدمة الايدولوجيا وقد عابوا عليه ذلك. جازف كثيرا في حبكته لدرجة جعلت البعض يعتقد انه سخر قلمه لخدمة الايدولوجيا.

كما طرح فكرة أن اللحظة المأزومة متناثرة موزعة في التفاصيل اليومية التي تتوزع بين هم لقمة العيش وبين الحرية. وهنا أهمية التفاصيل حيث تناول هلسا المحرمات والتابوهات في المجتمع العربي من خلال الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة لحياة الانسان وكان متقنعا بامكانية تغييرها. ومن المحاور المهمة الاخرى التي تناولها النجار هو موضوع ثقافة الرغبة في أدبه: المرأة والذكورة واعتبرها أنها جوهر المشكلة. والرغبة تمثل أهم مظاهر التخلف الفكري في المجتمع العربي.

وبرأيه أن أدب غالب هلسا لم يكن نقدا لمنهج سياسي معين قد يكون الكاتب تطرق له بالنقد او السخرية. وبالتالي يرى أن مشروع غالب هلسا الثقافي لم يكن لاجل خدمة مشروع سياسي معين، بل نابع من ايمانه بدور في طرح قضايا تهم الانسان والمجتمع. واذا كانت الايدولوجيا تطرحها فليس ذلك يعني أن جعل أدبه مسخرا كدعاية اعلامية للقضايا التي تطرحها الايدولوجيا. بل أخضع مشروعه لثقافة السؤال وابتعد عن اللغة المباشرة والخطاب الايدولوجي. بل بالعكس إنه اهتم ببنية قصصه وروايته كبناء أدبي فني، ولم يكن يؤمن بالمقولة التي ترى أن دور الادب هو تغيير الواقع والوعظ.

يلعب التاريخ في فكر غالب هلسا دورا كبيرا في الكشف عن مناطق مظلمة ومسكوت عليها في الوعي لا تعرفها الا القلة القليلة، وقد حاول هلسا كسر احتكار السلطة للتاريخ لتوظفه لصالحها. كما أن الفكر بقي ينظر للتاريخ انه تاريخ سلاطين وامراء ولكن غالب هلسا حاول بيان اهمية الانسان العادي في صناعة التاريخ من خلال رفض التهميش.

اذا كان الادب العربي قد طرح موضوع الالتزام والاديب الملتزم عبر صور شتى (كما في أعمال جبرا حيث الالتزام بالقضية الفلسطينية وأدونيس الالتزام باسطورة الابداع ومحفوظ الالتزام بالبيئة المصرية وهمومها) ، فان غالب هلسا طرح موضوع اللاالتزام باعتبار ان القضية انسانية قبل أن تكون جغرافيا او سياسية. وقد تجاوز هلسا مفهوم الوعي الزائف بمقولات الالتزام بالمكان الضيق وامجاد الماضي الخاص بفكرة القطر أو المكان التي اعتبرها تقزيم للبعد الانساني.

يتمثل سؤال الالتزام في أدب غالب هلسا برفض هيمنة الافكار السياسية السطحية على النصوص التي تحتشد بها بعض الاعمال التي لا تعدو اكثر من ثرثرة ووعي مزيف وثقافية هامشية كما يتمثل في رفض حشد الشخصيات والتفاصيل الاحتفالية التي يضعها الكاتب في خدمة السلطة والاقطاعية والعبودية.

ان التعلق بالتاريخ هو نوع من بحث الانسان المرتبط بالعقيدة او الهوية التي يتمسك بها عن شيء ما لمواجهة القلق الوجودي. ومن العبث الحديث في موضوعية هذا البحث اذا كان الهدف هو تدعيم اجابات مسبقة. وبالتالي فان الرواية او القصة لا يجب أن تعيد تكرار المقولات الجاهزة للتاريخ والتي تعتبر ان انتشار هذه الافكار يمثل دليلا على مصداقيتها. يرى المؤلف أن نظرة هلسا للتاريخ ترى أنه يجب أن يكون أداة للتنوير وليس أداة للقمع الفكري من خلال تقديم دليل ظاهري على مقولات واحكام مسبقة، ومن هنا لم يكن يعتبر غالب هلسا ان الرواية أو القصة هي المعبر عن الانتماء التاريخي لعقيدة ما، ومن هنا يجب هجرة زمن القبائل والعصبيات والحروب المقدسة فلا حرب مقدسة سوى حرب كرامة الانسان.

أما في الجزء الثاني والذي يبدأ بطرح السؤال الجوهري: لماذا (زنوج وبدو وفلاحون)؟ فالمؤلف يرى ان هذه المجموعة القصصية دعوة من دعوات التنوير المتحررة من القيود والملتزمة بقضايا الانسان، كما أن المجموعة تعاملت مع الانسان الشخصية ككينونة لغوية للانتقال الى حالة الرمز في استقراء زمن ماضوي قد انتهى في سبيل الكشف عن القمع بكل اشكاله وصوره المختلفة. ويركز هذا الجزء على تناول غالب هلسا وفضحه لكثير من مشاهد القمع الذكوري للمرأة في عدة قصص ، فمن اعتماده على صوت امرأة (وضحا) لرفض السلوك السلطوي في تحقيق رغبات الفرد والفرد يصبح رمز السلطة الذي يمثله شيخ القبيلة بحيث تصبح تصرفات الجماعة مكرسة لتحقيق الانصياع لرغبات السلطة وعبادتها.

كما يتناول الكتاب رؤية غالب هلسا لموضوع الرغبة والجنس والعلاقة التدميرية الانتهازية غير المتكافئة بين الرجل والمرأة التي تقوم على ثنائية دور الرجل المستبد القامع والمرأة الضحية ضمن بيئة اجتماعية معينة. ويقتبس النجار من عدة قصص نصوصا تبرز هذا المحور الهام. ففي قصة "المساء والليل" مقاطع لاذعة تصور امتهان كرامة المرأة من قبل الرجل المتسلط الذي يمثله الشيخ ، والذي يتحول نتيجة استغلاله للسلطة لاشباع رغباته بطريقة غرائزية حيوانية الى نموذج فج للتخلف يصيب المرأة بالاحباط والانكسار والشعور بالخزي. واضح النقد الشديد لهذا النمط من القيم الاجتماعية في المجتمعات القبلية الذي ركز عليه هلسا في قصصه.

وفي قصة الزنوج يقدم غالب هلسا فكرة التمرد لاجل الحرية ، والثورة التي تلجأ الى تحطيم القوالب الاجتماعية نتيجة الاحساس بالظلم، مما يشكل صدمة اجتماعية كما ذكرت في مستهل هذه المقالة. " العبد ذبح الشيخ، والفلاح ذبح سحلول، عمرها ما انسمعت. ما ظل غير النسوان". أما قصة "سحلول يقوم بزيارة في منتصف الليل"، فتطرح اشكالية الوعي الحضاري مع الخارج والداخل واشكالية موضوع الشرف ، كما تطرح موضوع الصراع الطبقي. وتجسد الشخصيات كزيدان الفلاح وسحلول البدوي قيم الاقتناص والجبن والهروب من حل المشكلة الى الحلم والغيب. ولكن نهاية القصة عندما يقتل زيدان البدوي فهي تدعو الى رفض الميراث الشعبي الذي يصور الذل انه امر طبيعي والتسامح مع المجرم والسكوت على القهر عبر بوابة ثقافة الشرف والعيب. وفي قصة "هذيان" يرى المؤلف ان هلسا يحاول تحليل الاسباب النفسية لاضطهاد المرأة وعدم ايمان الرجل العربي بأهلية ومشروعية مساواتها القائم على التفرق بين صفات الذكورة والانوثة ويرفض هذا المنطق.

أما في الجزء الثالث من الكتاب والذي خصص له المؤلف الفصل العاشر والخاتمة، فقد تحدث فيه المؤلف باسهاب عن مفهوم القصة عند غالب هلسا ، حيث تناول فيه بعض الجوانب الاسلوبية والفنية والجمالية والايدولوجية للقصة كما لمسها في أعماله. يطرح سليم النجار فكرة رئيسية يعتقد أنها ناظمة لكل قصص المجموعة تقوم على البحث عن بداية جذرية تتمثل في اثبات الذات وتقديم نسيج اجتماعي بعين فضولية تهدف أن تبحث في ما لا تعرف بعيدا عن قيود الواقع واشتراطات القيم الاجتماعية السائدة. وباسلوب العين الفضولية حاول غالب هلسا أن يكشف عن المخبوء داخل الانسان من أجل الوصول لحريته. وهو يرفض الخوف والهواجس السائدة ولغة القص التي تلتزم بالمباح الاجتماعي وتتجنب المحظور. فهو يعتمد لغة بصرية لا تخضع للاوامر والنواهي. وهو يرى أن الفاعل الرئيسي لثقافة التخلف التي تسيطر علينا هو نحن أساساً والنسق الاجتماعي الذي شكلناه. والانسان في هذا النسق الاجتماعي عند هلسا كما يرى المؤلف ما هو الا قصة قصيرة ليست بالمعنى الزمني ولكن الاجتماعي. فالمفارقات والدهشة والشخصيات العابرة والحدث الطاريء كلها اليوم اصبحت تفاصيل حياة انسان هذا العصر. ولهذا يرى ان هلسا يقدم صورة الواقع كما هو بتركيزه على اليومي والعابر والسريع والمتحرك. وهو بهذا أمين مع قناعته أن الادب صورة الواقع كما هو وليس أداة لتجميله او تغييره.

والايدولوجيا حاضرة في أعماله ليس كحامية أو حارسة لافكاره أو مكرسة لأدبه في سبيل خدمتها، بل حاضرة كمعرفة انسانية تقرأ ما خلف السلوكيات والممارسات وصور الخداع والظلم وتحاول فهمها وتفسيرها. موجودة كحاجة تدفع للتروي وليس كضرورة تدفع للاندفاع وتنميط الشخصيات والاحداث. وبهذا يختلف عن رؤية كثير من المثقفين العرب لدور الايدولوجيا في الادب. وهو يرى ان هلسا قد قدم قصة تعتمد أربع زوايا هي الانسان ، والازمة، والفكر، والصورة الاجتماعية وتخلص فيها من اوهام الحقيقة واليقين، فكل شيء فيها متحرك. باختصار القصة القصيرة لا تستطيع أن تحيي أفكارا ولدت ميتة، وتصبح أشبه ببيان خطابي ما لم تركز على الجانب الفني الابداعي بعيدا عن النمطية. كما يرى أن القضية الاساسية التي يلمسها القاريء في كل أعمال غالب هلسا هي أن ثقافة القاص او الروائي مهما كانت يجب الا تنتقص من ثقافته الانسانية بعيدا عن اشتراطات ومفردات الفكر السياسي القطري وصيرورات الجغرافية السياسية.
* اللوحة أعلاه للفنان المقدسي ابراهيم شلبي بعنوان "فروسية"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق