الجمعة، ديسمبر 11

رجل كثير الشكوى



رجل كثير الشكوى


قصة قصيرة

بقلم اياد نصار

منذ سبعة عشر عاماً وهو ينتظره. يقترب منه ويبتعد عنه لكنه يؤمن أنه سيجده ذات يوم. يراه عند كل ناصية درب وفي صفحة الجريدة التي تنشر أرقامه. يراه في أيدي الباعة على الرصيف. يراه تارة قريبا كأنه في متناول يده وتارة بعيداً كالسراب.. يبقى طوال الشهر يفكر به ويمنّي النفس بالحلم، وفي اليوم الموعود يتبخّر كل شيء، فيترك في النفس غصة. كل شيء في الحياة يدعو للسخرية والرثاء. هكذا تقول ملامح وجهه ونظرات عينيه الحادة وأسنانه العريضة في مقدمة فمه. عندما التحق بقسمنا في ذلك الشتاء الكئيب من عام 1993 كان أصلع مقدمة الرأس كثيف الشعر حول عنقه. فكانت جبهته العريضة تسح عرقاً حتى في أيام البرد، وصوت لهاثه يُسمع عالياً. لا أذكر أني رأيته منذ أن عمل في المصنع بدون تلك الابتسامة الساخرة على شفتيه. أتعجب من قدرته على الثرثرة المتواصلة، فلا يمل من ندب حظه العاثر!


في ذلك اليوم الرمادي رمى أحجيته أمامي ووقف ينتظر ردة فعلي. فكرت فيها ولكني شعرت بالعجز ومخي توقف عن التفكير. أحسست أنني تورطت في خضم متاهة مسدودة. رأيت خبثاً في طرف عينيه. تبسم ومد يده. "ياسين" ذكي ولكن لم تشفع له كل مهاراته الرياضية. بقيتُ أفكر في الثأر لنفسي. باغته ذات يوم في مسألة توهمُ الناسَ بأرقامها الخادعة، لكنه أذهلني. خاب ظني في الثأر! لم أفهم لماذا يتذمر ما دام يمتلك كل هذا الذكاء. لا أمل له في الانصاف كما يقول، فكل يوم يزداد أصحاب التوصيات عدداً وهو يزداد تراجعاً في آخر القائمة. يسلبون الفرص من أمام ناظريه وهو منسي في قاع الدنيا كما يردد. كنت أحاول أن أتفادى الوقوع في مصيدة مزاجه المتعكر. عندما التحق بنا تلك السنة، شعرت أنه مقتول الطموح وخائر الهمة. كنت ألومه بيني وبين نفسي على صبره الدهري.


يرتسم على وجهه حزن ينتظر معجزة. يظن أن الحظ وحده سيقلب الاشياء في حياته. "أحمق من لا يشتري ورقة يانصيب، وأحمق من يشتري أكثر من ورقة"! هكذا يردد دائما. حفظت شعاره وصرت أردده بلا وعي! لم تخل محفظته يوماً من ورقة يانصيب. فكّرت في مقولته. قلت لنفسي إن في الامر منطقاً. كل هولاء الذين زارهم الحظ ألم يكونوا من قبل يشعرون باليأس وطول الخيبة؟ لم يكن لديهم سوى أمل ضئيل، بل ربما صار الامر عادة، وربما تمكّن "سيد الهامي" من التأثير فيهم لابتياع ورقة بأسلوبه الاسكندراني! أغبط سيد على بساطته عندما يدعو لي بالفوز، وأحس أنه ليس له في الحياة من فلسفة سوى بيع الاوراق. واكتشفت مصادفة ذات يوم أن ياسين صار يتحايل على شعاره. فقد صار يبتاع منه ورقة يانصيب باسم ابنه مرة وباسم ابنته مرة وباسمهما معاً مرات أخرى!


ياسين معروف بأسلوبه في الاقناع والتبرير. لا يعجز عن تبرير مواقفه المتناقضة! لقد أثّرت فيّ مقولاته. يعرف كيف يقنعك بالشيء وضده! صرت مثله أحرص على طقوس ورقة اليانصيب كل شهر. كنت في بعض الاحيان لا أجد "سيّداً" عند زاوية الشارع فأظل أياماً بلا قرار أبحث عنه. أظن الامر صار إدماناً. ألا يمكن أن يطرق الحظ بابي؟ هل الاخرون محظوظون وأنا كُتبت علي التعاسة؟ يحاول سيد معي دائما أن أشتري أكثر من ورقة. فأقول له تلك العبارة التي صرت أحفظها عن ظهر قلب بزهوٍ بادٍ على وجهي. استولت تلك العبارة على تفكيري. امتدّ اهتمامي إلى البحث عن قائلها. لا بد أن ياسين سمعها من شخص ما أو قرأها في صحيفة هنا أو هناك. لعلها لبرناردشو. هذا هو أسلوبه الساخر. ثم اكتشفت أنها ليست له. بحثت ولكني لم أعثر على قائلها. ولماذا أهتم بمن قالها؟ يكفي أنها ترتبط في ذهني بياسين وهذا كافٍ بحد ذاته.


مرت سنوات ونحن نطارده، ولم نعثر عليه. كنت أفقد الامل في بعض الشهور وأشعر بأنني أنفق دنانيري بلا طائل. ولكن ياسين بقي عند ايمانه الذي لا يتزعزع به. صرت أتناسى ورقة اليانصيب في بعض الاحيان وأتظاهر أمامه أنني اشتريتها. لم يعد من حديث بيننا عندما نلتقي سواه. واكتشفت ذات يوم أن ياسين يلاحق أخباره في كل مكان. بل إنه صار يحفظ مقولات شتى حول المسألة. أعدت التفكير في الامر. أيقنت أن من الحماقة ألا أشتري ورقة. فصرت أتفنن في اختيارها. وتولدت عندي مهارات في الحكم على الرقم من النظرة الاولى.


منذ أسابيع لم أعد أرى سيد الهامي. شعرت بانزعاج. أخذت أدور في الشوارع بحثاً عنه. ولكنه اختفى. بحثت عن آخرين كنت أراهم دائماً لكنني لم أجد واحداً. أين اختفوا؟ كانوا دائما يذرعون شوارع الحي. لا استطيع أن أتخيل بعد الان أن يفوت شهر دون أن أشتري ورقة. صارت تجبرتني الرغبة على الذهاب الى قاع المدينة. إنه يقف عند الزواية ذاتها كل يوم. يلبس معطفاً سميكاً وقبعة ملونة عجيبة تميزه عن غيره. لاحظ ترددي الدائم عليه فصار يستوصي بي في اختيار الورقة. يعرف أنني لا أحب شراء نصف ورقة. لا يستحق الأمر ندم العمر كله لو ربحت! يقترح "جودة" علي أرقاماً ويقول إنها حلوة ويجب ألا تفوتني. ولكنني دائماً أعتذر وأردد تلك العبارة التي أراحتني من إحراجه والحاحه! أحسست بيد تربت على كتفي من الخلف.. سمعت صوته وضحكته الساخرة: "ليست المسألة مهارة بل مجرد حظ! إقطع أول ورقة وخذها".


أصر ياسين أن نذهب الى المقهى. كانت روائح الارجيلة تعبق في المكان، والايدي مشغولة في ترتيب الاوراق. الوجوه واجمة كأنها تمارس الحياة برتابة طقوسية بلا متعة أو معنى.


- ألا ترى أننا ما زلنا مكاننا. عشر سنوات وأنا وأنت ننتظر الفرج. ماذا يفيدني إن طرق بابي في آخر العمر؟!


- ما الذي حرّك فيك الامر الان؟ لست أنت من يقول ذلك.


- ألا تذكر طلبي القديم برغبة الانتقال للعمل في المصنع باليمن؟ لقد اتصلوا بي وعرضوا علي النقل.


- معقول؟ لقد مضت عليه خمس سنوات.


- ألم اقل لك بأن أصحاب التوصيات يصعدون القائمة سريعاً؟!


- وكيف صعدتها أنت؟ هل من أوصى بك؟


ضحك وهزّ رأسه ولم يقل شيئاً. سألته بقلق: وهل تفكر فعلا بالسفر؟


- المسألة حظ. أريد أن أجرب حظي.


- وكيف ستعيش هناك بدون يانصيب؟!


- لا عليك، أخي سيتكفل بالامر هنا. لقد أوصيته!


مضت عشر سنوات طويلة منذ ذاك اليوم. لم أعد اسمع أخبار ياسين خلالها، وفتر الاتصال بيننا حتى انقطع مع مرور الزمن. لا بد أن أموره تحسنت فلم يعد يتصل بي. انتقلت من المصنع الى المبيعات وازدادت مشاغلي ومسؤولياتي. وشيئاً فشيئاً بدأت أنسى التفكير في اليانصيب. عندما انتبهت بعد ثلاث سنين اكتشفت أنه قد مضت عليّ سنة بكاملها لم أشتر ورقة واحدة. لا أعرف كيف أقنعت نفسي أن المسألة برمتها لا تستحق. أنفقت مالاً كثيراً طوال سنوات بلا نتيجة. إزداد حجم العمل وصارت العمولة تنقذني في نهاية كل شهر. خامرني شك في جدوى تلك العبارة. أحسست أنني كنت أحمقاً! صرت أمرُّ عن جودة ولا يحرك نداؤه في ّ شيئاً. أظن أنني هجرته للابد.


كان يوماً في بداية صيف حار العام الماضي. كنت منهمكاً في العمل. فجأة سمعت صوته في الممر يقترب. شككت في نفسي أول وهلة. لكنه دخل من باب المكتب يصيح مبتسماً بصوته الأجش: أين رفيق الورقة؟! هل ما زال هنا؟ خيّل اليّ أنني عرفته. نهضت لاستقباله. لقد تغيرت ملامحه وصار مكتنزاً وبديناً وأصلع الرأس. ولكنه ما زال ياسيناً كما عرفته. ما زال سيد الشكوى والتذمر. قلت له: ألن تغير من طبعك؟! قال: "بل هذه هي الحقيقة. لقد كانت المغامرة قاسية ولم أجن منها سوى الغربة والحرمان". شعرتُ بالرثاء لظروفه البائسة. بعد كل هذه السنوات لم يستطع أن يشتري شقة متواضعة. ما زال يعيش بالأجرة، وأصيب بألم مزمن في ظهره. "عليكم أن تتحملوا ثرثرتي فأنا في إجازة لمدة أسبوعين"؟! قال، ثم سألني عن اليانصيب. خجلت من قول الحقيقة. قلت بصوت خفيض أنني ما زلت أجرب حظي. قال إنه سيسافر الى بيروت. استغربت وقلت: "منذ برهة وأنت تشكو الفقر والان ستسافر الى لبنان"؟! قال: "لا، سأذهب ليوم أو يومين لأشتري يانصيبا من هناك"! فغرتُ فمي من الدهشة وضحكت مقهقهاً. ولكنه أضاف: "لا تتعجب فقد اشتريت بطاقة يانصيب بالفيزا من ايطاليا أيضاً"! وقبل أن تبدر مني أية ردة فعل سألني: هل تتذكر سيد الهامي الذي كنا نشتري منه الأوراق؟


- نعم، ولكنه اختفى بعد أن سافرت لليمن.


- ربح الجائزة الاولى وعاد لبلده.

* اللوحة أعلاه بعنوان بائعة اليانصيب للفنان التشكيلي السوري الراحل لؤي كيالي (1934- 1978)

نشرت جريدة الدستور الاردنية القصة في ملحقها الثقافي الصادر يوم الجمعة بتاريخ 11/12/2009. يمكن الضغط على الرابط أدناه لقراءة القصة من موقع الجريدة:
الدستور - رجل كثير الشكوى

أو الضغط على العنوان أعلاه أو الصورة أدناه لتحميل الصفحة الكاملة والاطلاع عليها:









هناك تعليقان (2):

  1. العزيز المبدع إياد نصار

    أحسست بأني أعرفهم، حقاً صادفتهم قبل هذا اليوم بين الأصدقاء، وزملاء العمل...وغيره. هذه القصة بالتلميح والتصريح إلى حصاد الغربة تجعلنا كثيري الشكوى... لامست وتراً حساساً ونفخت في تماثيل لا تخلو منها حياتنا بكلماتك فنهضت نشخوصاً تحاورنا بما يجول في داخل كل منّا.

    جمعني بالشاعرة مريم الصيفي صالون ادبي في منطقة الدمام بالسعودية منذ أيام، وهي صاحبة صالون أدبي بعمان حدثتني عن الكثيرين ... أتت على ذكرك من بينهم... فأحسست بأن الدنيا رحبة على الرغم من ضآلتها كخرم إبرة.

    تحياتي

    ناصر الريماوي

    ردحذف
  2. صديقي الغالي صاحب القلم الانيق ناصر الريماوي

    أنا في غاية السعادة لعلمي أن القصة قد حركت فيك هذا الشعور بالتعايش مع شخصياتها التي استحضرت في الذاكرة صور كثيرين ممن عرفناهم في رحلة الحياة، فتركوا على سبورة الخاطر بعضاً من ملامح شخصياتهم ونفسياتهم على اختلافها، والدنيا فعلا تضيق وتتسع بنا حينما نلتقي بهم.

    أعبر عن تحيتي وتقديري لك ولمرورك الدائم على سطوري، وأعتز بك أخاً مبدعاً وقاصاً جميلاً، كما أقدم كل التحية والتقدير للشاعرة مريم الصيفي التي عرفتها مثالاً في الدماثة والاحترام. لكما كل المودة
    اياد

    ردحذف