الجمعة، فبراير 5

صورة الانثى في مجموعة "قارع الاجراس"



ومضة القصة القصيرة

صورة الأنثى في مجموعة "قارع الاجراس"

بقلم اياد ع. نصار

تحترف القاصة سامية العطعوط القصة القصيرة جدا منذ أن "إمتصت الجدران صوتها" وتصر على التوغل فيها حتى أمكنها الان أن تكتب ما يمكن أن أسميه ومضة قصصية قصيرة! وقد نشرت مؤخراً مجموعتها القصصية المسماة "قارع الاجراس - أنثى العنكبوت" التي نشرت بدعم من أمانة عمان الكبرى. وتأتي قارع الاجراس بعد مجموعاتها القصصية الاربع السابقة: "جدران تمتص الصوت" عام 1986، و"طقوس أنثى" عام 1990، و"طربوش موزارت" عام 1998، و"سروال الفتنة" عام 2002 . ولعل طبيعة النصوص ومقدار التجريب واستخدام الرموز والاسطورة واسلوب الفانتازيا الذي تمارسه الكاتبة ما يجعل الحديث عن تقسيم المجموعة الداخلي ليس سهلاً بهذه البساطة. إذ تضم المجموعة خمسة تكوينات أو فصول هي: ثلاثيات، طرائد، مدونات، طقوس أفعى، وتكوينات. وتضم هذه التكوينات الخمسة في المجموعة ستاً وعشرين قصة ونصاً رئيسياً أو متعدد الانشطار يقارب الشعر حيناً والنثر حيناً آخر. وما بينها هناك ثمانية وستين قصة وأقصوصة ونصاً وومضة.

يظهر في المجموعة الاحتفاء بتمرد الانثى الذي يتخذ شكل طقوس معاصرة تستوحي ما كانت الحضارات التي ظهرت في هذا الجزء من العالم تجسده في إعتبارها إلهة ترمز للحب والحياة والخصوبة ، وتتخذ كتاباتها عن الانثى أشكالا ومضامين مختلفة ذات ايحاءات اسطورية تسعى لتفكيك تراكمات شعبية وإجتماعية قيدت الانثى وحطمت من هالتها الاسطورية. لذلك تفتح مجموعتها بقولها ولسوف تُروى الاساطير عني وعن نار أيقظتها من رماد. وهناك أنثى العنكبوت وطقوسها ، التي تستوحي صورة المرأة الناعمة الفاتنة ولكنها في ذات الوقت تفتك بمن يقع في حبائلها femme fatale ، وهناك أنثى المرآة. يتكرر حضور الانثى في معظم النصوص التي تعتمد على إعادة استكشاف وتوظيف دور ورمز المرأة عبر مسيرة الحضارات الشرقية وهي بذلك تقدم ملامح صورة المرأة من مختلف جوانبها التاريخية والاجتماعية والفكرية.

تحتل الأنثى مساحة كبيرة من المجموعة إما كبطلة أو كصوت راوٍ أو كموضوع رئيس للعمل رغم أن سامية العطعوط لا تذكر ولا توحي كتاباتها بأنها ترغب في أن تصنف مجموعتها ضمن الادب النسائي الذي إحتل مساحة كبيرة من الادب العالمي بمضامينه النسوية التي تتبنى قضايا المرأة ومعاناتها وآلامها ونضالها والدفاع عن حريتها ، ولو أن المجموعة بالقضايا التي تطرحها هي فعلا تندرج في هذا الباب، فسامية صوت قصصي وابداعي نسائي فعال يساهم حضورها بفعالية في لقاءات وندوات الاصوات النسائية على الساحة الاردنية.

كاشفة الاسرار

يروي أغلب القصص في المجموعة صوت إمرأة او فتاة صغيرة، وفي معظم قصص المجموعة ونصوصها فإن البطلة هي الانثى المتمردة التي تكتشف بشاعة عالم الرجل أو المتمردة التي تكتشف الاسرار التي يحاول الكبار إخفاءها او الاسئلة التي يحاولون تفادي الاجابة عنها، أو الانثى الرافضة لقيود وقضبان الواقع المغلفة وهماً بإسم الحب. أو هي تلك الضحية الصامتة التي لا تنتحب كثيراً على معاناتها ومآسيها وإحساسها بالمرارة من تسلط وخيانة الرجل بل تقدم الحدث كما هو وتترك للقاريء أن يحس بمعاناتها. وفي النهاية وكما هو واضح في كل أعمالها السابقة ، فإن عالم سامية العطعوط هو فضاءات الحب والكراهية والحرية والعبودية والحقيقة والزيف في علاقات الرجل بالمرأة الذي تضفي عليه لمسات رشيقة بفضل أسلوبها الموجز الذي ورغم تقشف الوصف او غياب الاسهاب السردي أو إيجاز الحوار وغياب أوصاف الشخصيات وأسمائها يبقى موحيا مؤثراً فعالاً. ورغم أنها لا تستخدم الا القليل من الكلمات في أعمالها إلا أنها تنجح وبامتياز في أن تقول كل شيء عن أنثاها وعن قضاياها وتنجح في وضعك مباشرة في وسط الحالة الشعورية والنفسية لأبطالها!

والانثى في هذه المجموعة هي حواء التي اشعلت النار ولم يستطع آدم لغاية الان إطفاءها، وهي تظهر في القصص بكل مراحلها من الوليدة الى الطفلة الصغيرة الى المرأة العاشقة الى المرأة التي أحرقتها نيران التجربة الانسانية الى العجوز وبكل حالاتها النفسية ورضاها وغضبها وبساطتها وسذاجتها وقوتها وتمردها.

في "أثنى العنكبوت" فإن أنثى سامية العطعوط ليست أنثى عادية ، إنها أنثى رقيقة لها سحر وجاذبية، وأدواتها واهية مثل بيت عنكبوت ولكنها في ذات الوقت قادرة ان تكون المرأة النموذج الذي سوف يحرر الرجل كما تقول. أما في قصة "مشاهد من مسرحية فكاهية"، فقد إتّبعت الكاتبة تقنية توظيف المشهد المسرحي ، ولكننا نلمح جمالية تتمثل في بدء القصة من نهايتها والعودة بها زمانياً في ثلاثة مشاهد. تبدأ القصة من نهايتها فالأنثى في حالة مأساوية تخرج أحشاءها بين يديها وهي في منتصف الطريق بينما يلهو الابن في رسائل خلوية مع الاصدقاء. أسلوب تخييلي غرائبي لبيان معاناة الانثى وسط انهماك الاخرين بالضحك. وفي المشهد الثاني حافلة يفجرها ملتحيان فتتطاير الاشلاء ويتلون الحديد بالدماء وصورة سيدة تمسك أحشاءها وتسير في الشارع، أما في المشهد الثالث تشتعل كل الاشياء في الدنيا وتشتعل الاسعار وكأن هذه هي الارهاصات التي تسببت في حدوث المشهدين السابقين اللذين يعسكان نمطاً من ملامح قلق المجتمع المعاصر المتمثل في العنف والارهاب.

في قصة "علاقات شائكة" هناك نقد ساخر لعلاقة الانسان العربي بالسلطة التي تقوم على الخضوع من طرف والازدراء من طرف آخر وقمع الانظمة للمواطن العربي من خلال استلهام قصة الخليفة الذي يفد الناس على قصره لتقبيل يده ولكن يشعر بالقرف من ذلك فيأمر بالتوقف عنه ويترك لهم حرية تقبيل الحذاء إن أرادوا. تعيد هذه القصة صورة المرأة التاريخية النمطية كخادمة لا علاقة لها بما يجري من حولها.

في قصة "استكانة"، تبدو الأنثى بصورة الضحية التي قضت الحرب على طفولتها وعلى أمومتها من خلال نموذجي الطفلة الصغيرة وأمها. تقدم القصة شهادة متكررة ساخرة متناقضة من عدة زوايا لوجهات النظر الى القضية ذاتها: قضية معاناة الانسان العربي في العراق من ويلات الاحتلال وانفجارت القنابل وغارات الطائرات. تبكي الفتاة الصغيرة في حضن أمها وترتعد خوفاً حتى تنام ، وفي الصباح يُخرج الناس الجثث من تحت الانقاض. وتروي القصة هذه الحادثة ذاتها بعدة روايات: مرة حسب الرواية العراقية ومرة حسب الرواية الأمريكية ومرة كما في رواية قاص عراقي ومرة أخرى كما يسميها الصوت الراوي بأنها القصة الحقيقية ولكننا نكتشف أنها متأثرة بوجهة نظره وبخياله القصصي في حين أن الحقيقة تموت مع الضحايا!

حين سكتت شهرزاد

يقدم فصل "حين سكتت شهرزاد" عدة قصص تطرح معاناة المرأة في الحب واستغلال الرجل للمرأة والخيانة. ويبدو هنا واضحاً استخدام المعنى الرمزي لتاريخ أسطورة شهرزاد. ففي قصة ابتسامة ، تفتتح القصة بصوت الراوي وهي إمرأة تتحدث عن ابتسامة إمرأة أعلنت القطيعة مع من كانت تحبه لأنها اكتشتفت حقيقته: حقير ميت الاحاسيس يفكر بها كالافعوان. وتصبح الابتسامة هي اللغز المحير عبر التاريخ الانساني منذ عهد شهرزاد الذي يفضح سطوة الرجل وعجزه في آن معاً، ورمز إدراك الأنثى لجمالها أو فتنتها كما في استحضار لوحة الموناليزا او جوليا روبرتس أو إبتسامة خجل الام في التعبير عن ورطتها في كشف الحقيقة الكونية او الجنسية أمام براءة الطفولة. "كانت ابتسامتها تشبه أبتسامة ما لا أذكرها تحديداً، ولكنها مرسومة في مخيلتي...كانت ابتسامة تعني الكثير، ذلك الكثير الذي لا استطيع تحديده في كلمة واحدة."

هناك توظيف فني جميل جدا للرمز في المجموعة في طرح القضية الانسانية التي تجسد معاناة المرأة الابدية بسبب خيانة الرجل كما في قصة "رائحة". فالرائحة النفاذة التي تدخل البيت من كل المسامات والتي تحاول المرأة التي تروي القصة بكل الوسائل منعها ولم تستطع هي الخيانة. خيانة الزوج وإمرأة الجيران. تصبح الرائحة مزعجة لها تصيبها بالهستيريا تؤدي الى تحطم أجزائها وكيانها واحلامها. نهاية القصة جميلة إذ لم تستطع المرأة تحمل الرائحة سوى بإغلاق أنفها وفمها وأذنيها وهنا واضح توظيف فكرة موت الانثى نفسيا وروحيا إذ لم يكن من الممكن قبول الرائحة إلا اذا اصبحت بلا قلب أو لسان أو أذن أو عين. ولكن رائحة الموت الذي خرجت عند موتها لم تلفت انتباه أحد ولم تزعجه. "بعد أيام كانت رائحة الموت تنتشر من بيتنا، وتخرج للجيران، رائحة نفاّذة لكنها لم تزعج أحداً!"

أما قصة "ملل"، فتطرح مرة أخرى موضوع الخيانة الزوجية. فالانثى كما يراها الراوي هي المرأة التي تثير الضجر والملل لأنها تمنع الرجل من ممارسة عاداته في اللهو والتلاعب والخيانة وممارسة ألاعيبه الصغيرة مع النساء. ومن المفارقة أنه لا يرى جمالها إلا وهي غائبة عن الوعي أو ميتة. ولكن طيفها يلاحقه وينغص عليه حياته فلم يعد يطيق الحياة بدونها ويردد أنه يشعر بالملل. واضح في القصة اكتشاف الرجل للحقيقة التي حاول تفاديها وهي أن حياته تتسم بالخواء الروحي والعاطفي بدون المرأة ولهذا يتجرع كاس النهاية الذي قدمه لزوجته.

أقفاص

في الفصل المسمى "أقفاص" تطرح الكاتبة موضوع سلب حرية المرأة في الحب ، فالعاشق يغمد خنجره في صدر حبيبته، وفي قصة "قضبان وحجارة" هناك إشكالية العلاقة الزوجية. يصبح القفص الذهبي رمزاً ورديفاً للسجن. وليس السجن المادي الذي يسلب المرأة حريتها ولكنه سجن روحي ونفسي إذ لم تعد قادرة حتى على استنشاق الهواء فتعلن التمرد عليه وتهرب منه. وحينما تنظر للوراء تراه كومة من قضبان وحجارة.

في قصة "قارع الاجراس" التي أعطت المجموعة عنوانها، توظف القصة أسلوب الحلم أو الكابوس لاعادة بعث الحنين الى الطفولة بكل آلامها وذكرياتها. "مات قبل أن يقرع الجرس .. في بيت من لحم.. هكذا حلمتُ بها ليلة الامس". ويمكن تناول القصة في بعدها الذاتي الذي يرتبط بشهادة الكاتبة الابداعية ، وفي بعدها العام الذي يطرح معاناة المرأة الفلسطينية تحت الاحتلال. قارع الاجراس ليس سوى كائن مات في بيت من لحم قبل أن يتمكن من قرع الجرس والخروج للدنيا. تسيطر على الصوت الذي يروي القصة وهي أنثى تعاني من هذا الحلم مشاعر متناقضة تجاه قارع الاجراس. فتارة تتخيله نحيلا وتاره أخرى سميناً ، ومرة تراه بثوب طفولته الناعم ومرة بثوب الراهب الاسود في إشارة للخوف والموت. وهكذا تحمل القصة خوف الانثى الذي رافقها طيلة حياتها من قارع الاجراس. هل كان يمكن أن يصبح سبب خوفها وقمعها المستقبلي أم كان سيصبح حلمها؟ أما في بعدها العام، فتطرح القصة معاناة الطفولة الفلسطينية أمام رصاص الاحتلال الذي يغتال الاحلام. وهناك إشارة الى راحيل اليهودية التي تضحك حينما قرأت في صحيفتهم عن موت قارع الاجراس بطلقة رصاص والتي تشعر بالسعادة حينما تقصف الطائرات سوق المدينة.

تقدم قصة "خارج المسرح"، الانثى بصورة ضحية جريمة الشرف. وتروي القصة بأسلوب واقعي موجز كيف يتم تداول الموضوع لدى الرجل! إذ يتبارى الاولاد في التطوع لقتلها، أمام الاب فلا يعنيه من الامر سوى غسل الشرف بسرعة! قرار القتل سريع وجاهز وموجز لا يعطي للانثى فرصة الدفاع عن نفسها. أما في الفصل الذي يحمل عنوان استنساخ، فيسيطر على القصص جو سوداوي كئيب يطرح جوانب من قضية الحرب ومعاناتها وخاصة الحرب على العراق. والانثى في هذا الجزء لا تبرز بشكل واضح كما في الفصول الاخرى، وهذا شيء طبيعي أن تختفي الفوارق الجندرية في ظل معاناة انسانية تطحن الكل برحاها.

تستوحي سامية العطعوط في بعض القصص مخزون الحكايا الشعبية وتوظفها في سياق قصصها كما في طقوس أفعى: "كانت لجدتي أخت جنية تدعى سليمة ... لم أكن تجاوزت السابعة من عمري بعد، حين كانت تظهر لجدتي في أحيان كثيرة على شكل أفعى". وكما في قصة سوق الحمّام: " رأتني صديقتي أندفع لأدخل الدكان تشبت بي ومنعتني. قالت إن المكان مسحور وإن ما نراه بأعيننا ليس حقيقياً فقد مات الكهلان منذ مئات السنين ومع ذلك ما زالا يظهران في المكان نفسه". أو كما في توظيف الارواح السائرة والودع والصندوق الخشبي المغلق كما في قصة" رائحة نائم".

مجموعة قارع الاجراس إضافة قيمة في مسيرة سامية العطعوط التي نجحت خلالها في بناء عالمها القصصي القصير جدا!


* اللوحة بعنوان أم ميتة للفنان النمساوي التعبيري إيغون شيل (1890-1918)

** نشرت المقالة في الملحق الثقافي الاسبوعي لجريدة الدستور الاردنية يوم الجمعة الموافق 5/1/2010. يرجى الضغط على الرابط التالي لقراءة المقالة في موقع الجريدة:

صورة الانثى في قارع الاجراس - جريدة الدستور

كما يمكنك رؤية الصفحة الكاملة بالضغط على الرابط التالي (يرجى انتظار تحميل الصفحة)

صورة الانثى في قارع الاجراس - الصفحة الكاملة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق