الثلاثاء، يناير 1

جمال ناجي

جمال ناجي.. صوت روائي متميز
أبطال مهزومون بين واقعية الروايات ودهشة النهايات

يعد جمال ناجي من أهم الاصوات الروائية على الساحة الاردنية بفضل مساهماته الروائية والقصصية المتميزة الي تمتد عبر اثنين وثلاثين عاما منذ عام 1977 أنجز خلالها ست روايات وثلاث مجموعات قصصية ونال عنها عدداً من جوائز التقدير، رسخت مكانته ليس فقط في الساحة الادبية الاردنية وإنما على الصعيد العربي أيضاً. ولعل التكريم والاحتفاء الذي حظيت به روايته الاخيرة (عندما تشيخ الذئاب) من قبل المثقفين والمبدعين في مصر ، وما كتبته الصحافة الثقافية العربية على إمتداد الوطن العربي وفي بلدان الاغتراب خير دليل على ذلك.

تجسد كثير من الاعمال الروائية والقصص القصيرة التي أبدعها قلم الروائي جمال ناجي أجواء المجتمعات والعوالم والمحطات التي عاش بها أو عرفها واختبرها عن قرب وتمثل معالم رئيسية في مسيرته الابداعية وتعكس جانبا من سيرته الذاتية. وإذا كان للجانب الذاتي وخاصة إن كان غنياً بخبرات متعددة تأثير على الكاتب يحدد فضاءات كتاباته وانشغالاته في أحيان كثيرة، فإن ذلك ينطبق بدرجة كبيرة على جمال ناجي.

ولد جمال ناجي محمد اسماعيل في بلدة عقبة جبر في أريحا بالضفة الغربية لعائلة فلسطينية تنتمي الى قرية العباسية المجاورة ليافا في فلسطين في 1/11/1954 . إنتقلت عائلته بعد هزيمة عام 1967 الى عمان التي يعيش فيها منذ ذلك الحين. حصل بعد إكمال دراسته الثانوية على دبلوم فنون تشكيلية من كلية تدريب عمان عام 1975 . عمل معلماً في بداية حياته العملية وهو ما يزال في بداية العشرينات في السعودية خلال السنوات 1975-1977، وقد كان لظروف الغربة والعمل في ظروف قاسية تأثير كبير على تفتح موهبته وولادة روايته الاولى "الطريق الى بلحارث" التي صدرت عام 1982 عن رابطة الكتاب الاردنيين.

وقد إكتسبت الرواية أهمية كبيرة بفضل نضوج أسلوبها الروائي الذي كشف عن موهبة مبكرة وبعدها عن قلق وتذبذب البدايات. وقد نالت جائزة رابطة الكتاب للرواية في العام التالي. كما أعيدت طباعتها عدة مرات ، حيث صدرت هذا العام 2009 الطبعة السادسة منها بثوب جديد. وقد كتب جمال ناجي مقدمة لهذه الطبعة الجديدة جاء فيها: "من الصعب أن يعود الكاتب الى الوراء ثلاثة عقود بكاملها ، والأصعب أن يستعيد الدهشة التي كانت تتملكه إزاء الأشياء التي يراها ، أو أن يحاول ازاحة السواتر والطبقات الزمنية التي تراكمت الى حد يثير التساؤل عما اذا كان الإحساس بالزمن ضروريا ، وما إذا كان هذا الزمن حقيقة تمنح الكاتب حق الإستدارة وشق كتل الأعوام، من أجل الرجوع إلى الماضي ، والقبض على تلك اللحظات التي اكتشف فيها متعة الكتابة وسرها وعظمتها في آن معا".

وتتناول هذه الرواية موضوع العلاقات الانسانية والحب والصراعات في أجواء الغربة وقسوة الحياة في مناطق نائية شاقة التي تحول الاحلام الكبيرة المفعمة بالبراءة وجمال الاكتشاف الى نهايات مأساوية أو دامية. تحكي الرواية عن تجربة عدد من المدرسين المغتربين بحثا عن فرص العيش، في ظروف قاسية في قرية بلحارث في منطقة القنفذة نواحي جبال عسير بالسعودية قرب الحدود اليمنية.

تدور قصة الطريق الى بلحارث حول الوقائع الغريبة التي تجري لأبطالها "عماد" الذي يعيش قصة حب مع "نادية" شقيقة صديقه منصور المقيمة في عمان التي كان يلتقي بها قبل السفر، و"منصور" الذي يعيش قصة حب شهواني مع "ظفرة" وهي امرأة ذات أصول يمانية مطلقة في الثلاثينيات من قرية بلحارث تعمل راعية أغنام وراقصة في المناسبات. يظل منصور يترقب اليوم الذي يلتقي فيه بظفرة، ولكنه يصاب بالحمى الشوكية المنتشرة في المنطقة بسبب البعوض. ويموت في ذات الليلة التي يوشك حلم حياته أن يتحقق قبل لحظات من مجيء "ظفرة" إلى حيث يقيم. كما يتلاشى حلم صديقه عماد بالزواج من "نادية حين يعود إلى عمان ومعه جثة شقيقها.

كما عمل جمال ناجي بعد عودته من السعودية في العمل المصرفي لمدة طويلة من خلال عمله في أحد المصارف الكبيرة في عمان خلال السنوات ما بين 1978- 1995 حيث كان أيضاً من العناصر النقابية النشيطة. وقد لكان لتجربة العمل المصرفي واهتمامه بمتابعة الشأن الاقتصادي والمالي والأزمات الاقتصادية والسياسية التي مر بها الاردن في أواخر الثمانينات وإنعكاساتها المباشرة على حياة الناس وإرهاصات العولمة وتأثيراتها المتزايدة تأثيراً مباشراً على إنتاجاته في تلك الفترة وما بعدها وخاصة روايته "الحياة على ذمة الموت" عام 1993، وروايته "ليلة الريش" عام 2004.

تولى العمل مديراً لمركز انتلجنسيا للدراسات السياسية والاقتصادية خلال الفترة من عام 1995 وحتى عام 2004 حين تفرغ بعدها للكتابة. وهو عضو في لجان تقييم إبداعية وثقافية وخاصة في مجال القصة القصيرة والرواية. ويكتب زاوية ثقافية أسبوعية في الملحق الثقافي لجريدة الدستور. كما أنه ينشر بشكل متواصل مقالات ثقافية وقصصاً قصيرة في الصحافة الاردنية والعربية. ويشارك بفعالية في المؤتمرات الادبية والثقافية المحلية والعربية والاجنبية. كما كان عضوا في اللجنة العليا لعمان عاصمة للثقافة العربية عام 2002.

أنتخب جمال ناجي رئيساً لرابطة الكتاب الأردنيين خلال السنوات 2001- 2003. وكان عضواً في الهيئة الإدراية للرابطة لعدة دورات. وهو عضو في الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب. كم تم في شهر أيار /مايو 2009 إختياره أميناً عاماً للتجمع الثقافي الديموقراطي في رابطة الكتاب من قبل أعضاء المكتب التنفيذي للتجمع وقبيل الانتخابات الدورية للرابطة.

حاز على الجائزة التقديرية من رابطة الكتاب الأردنيين عام 1983، وعلى جائزة الدولة التشجيعية للرواية للعام 1989، وعلى جائزة تيسير سبول للرواية للعام 1994.

ترجمت روايته (الطريق إلى بلحارث) إلى اللغة الروسية ، كما ترجم عدد كبير من قصصه القصيرة إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية والتركية. وأعدت رسائل جامعية لنيل الماجستير والدكتوراة وأبحاث أدبية ومقالات عديدة حول تجربته الروائية. إختيرت بعض قصصه القصيرة ضمن المناهج المدرسية وتدرس بعض رواياته ضمن المواد المقررة في بعض الجامعات. كما حوّلت بعض أعماله الى مسلسلات تلفزيونية مثل مسلسل (وادي الغجر) المأخوذ عن روايته "مخلفات الزوابع الاخيرة".

إن المتتبع لإنتاج جمال ناجي يلاحظ قدرته على التفريق بين أسلوبه الروائي والقصصي بشكل واضح بما يناسب كل نوع. وإذا كان يمتاز أسلوبه الروائي بالسرد ذي النفس الطويل الذي يستخدم تقنية التنقل بين الازمنة المختلفة ويهتم بالتفاصيل المادية للمكان والغوص في الابعاد النفسية للشخصيات وتعدد الاصوات وتقديم إمتدادات الحدث الزمانية والمكانية المختلفة في إطار أدبي تاريخي يراعي وضع القاريء في خضم الجو العام الذي ساد إبان المرحلة التي يتناولها وطرح قضاياها الرئيسية بعين ناقدة، فإنه في القصة القصيرة يعتمد اسلوب شد القاريء والتشويق منذ الجملة الاولى حيث يضعه في قلب الحبكة وأحيانا في ذروتها مباشرة، كما يستخدم الايجاز والتكثيف والايحاء والتلميح ويركز كثيراً في كل قصصة تقريباً على إستخدام تقنية تفجير النهايات المفاجئة وتوظيف المفارقة التي تكشف المغزى في الجزء الأخير من القصة بما ينطوي عليه من الدهشة وإدراك أعمق لتجارب الحياة وتفاصيلها اليومية التي قد لا تستوقفنا كثيراً. وقد ذكر أكثر من مرة بأنه من محبي أسلوب الاديب الامريكي أو. هنري في القصة

حظيت روايته الاخيرة "عندما تشيخ الذئاب" التي صدرت ضمن سلسلة اصدارات التفرغ الابداعي لوزارة الثقافة عام 2008 باهتمام واسع من الاوساط الادبية والنقدية في الاردن. تفتتح الرواية بمشهد إذلال وتنتهي بمشهد كابوسي مريع وما بينهما تجري صراعات الحب والشهوة والاوهام والاحلام المكبوتة وفن الخداع تحت لباس التدين والفقر والمشكلات الاجتماعية والوصولية السياسية ما بين شخصياتها الرئيسية التسع. وتمثل الرواية في حقيقتها تداعي الذكريات على لسان بعض أبطالها الذين يروون تاريخهم لنكتشف أن هولاء الابطال هم الذئاب البشرية التي تدير معاركها بعناد وقسوة وخبث في سبيل تحقيق أهدافها غير أنها كلها تصبح في نهاية الرواية ضحايا بائسة مهزومة منكسرة.

تمتاز الرواية بالتجسيد العميق والمتحرك والمتعدد الجوانب للشخصيات من النواحي النفسية والعاطفية والروحية والاجتماعية والسياسية كأحد جمالياتها الفنية وبإتساع أفق القضايا التي تطرحها عبر امتداد زماني ومكاني كبيرين. وأعتقد أنها واحدة من أهم الروايات التي صدرت في الاردن في السنوات الاخيرة باقترابها الجريء من ثلاثية الجنس والدين والسياسة حيث يبدو واضحاً أن معارك هذه الذئاب البشرية الذين تصفهم الراوية بأنهم "شياطين في ثياب رجال ، لكنهم ظرفاء" تدور في هذه الفضاءات الثلاثة.

والبناء الفني للرواية في هذا الاطار مناسب لرسم شخصياتها وتفاعلاتها وأزماتها النفسية وطموحاتها وصراعاتها وتجاذباتها وتنافراتها. تستخدم الرواية أسلوب تعدد الاصوات التي تتعاقب وتتناوب مرة بعد أخرى على سرد تاريخها المتشابك من وجهة نظرها. وهذا الاسلوب مناسب أيضا ليتعرف القاريء على الاحداث من زاوية كل شخصية وبلغة تعكس المستوى الفكري والاجتماعي والبيئة الثقافية لكل شخصية في ظل التباين والتناقض بين هذه الشخصيات. وتمثل أحداث الرواية تفاصيل صراعاتها العنيفة ، الدموية أحيانا، التي تخوضها على مختلف الصعد عبر فترة زمانية تمتد منذ نهاية الستينيات وحتى مطلع القرن الواحد والعشرين حيث تختتم الرواية أحداثها في نهاية عام 2004.

تقوم فكرة بناء الرواية على سرد خمس من شخصياتها الرئيسية التي ترتبط فيما بينها بعلاقات متداخلة متوترة مأزومة لتاريخها في مناطق مختلفة من عمان. وهذه الاصوات هي سندس، والشيخ عبدالحميد الجنزير، ورباح الوجيه، وجبران، وبكر الطايل، بالاضافة الى جزء يتيم يرويه عقيد يسمى رشيد حميدات لم يكن لدوره اضافة مهمة تذكر كثيراً سوى ادخال عنصر الاثارة والتشويق في مطاردة البطل عزمي والمحاولات الفاشلة المتكررة للايقاع به.

تتبدى إحدى نقاط القوة في الرواية في قدرتها على التلوين اللغوي على لسان شخصياتها. إذ يمكن التمييز الواضح في تباين الاسلوب اللغوي لكل منها بما يعكس طريقة تفكير كل شخصية ومستواها الاجتماعي والثقافي. ولعل اللغة التي يستخدمها "رباح الوجيه" كاتب الاستدعاءات امام المحكمة تعيد الى الاذهان نمطاً من الشخصية التقليدية من الطراز الاول. فهو يتحدث عن المرأة باسم الحريم والنسوان وكثيرا من التشبيهات التي يبتكرها تقترن بأدوات الفلاحين! في حين يكتسي حديث الشيخ الجنزير صبغة دينية واضحة توظّف أساليب السحر والجن والعزف على وتر العاطفة الدينية. ولغة الجنزير مثقلة ظاهرياً بإشارت تفوح منها مشاعر العداء والتشفي بأصحاب التيارات الفكرية الاخرى. ويبدو جلياً موضوع نقد بعض أساليب الخطاب الديني المعاصر.

تلجأ الرواية الى توظيف أسلوب المفارقات لابراز تباين الشخصيات. ولعل المفارقة بين شخصية الشيخ الجنزير وبين تلميذه بكر الطايل تبقى حاضرة في الذهن. فالجنزير يمثل قمة استغلال الدين من خلال تعزيز صورته التي تكاد تصل مرتبة الاولياء في نظر الاخرين بفضل تصرفاته الظاهرية، الا أنه لا يتورع عن تحقيق رغباته في النساء وسرقة أموال التبرعات وتوظيف الاتباع السذج لخدمة غاياته، بينما يمثل بكر الطايل نموذجاً لشاب غر ليس له تجربة في الحياة يرى الاشياء إما باللون الاسود أو الابيض. وهو عاجز عن تحقيق أي إنجاز اجتماعي يبرر به سبب وجوده فيلجأ الى الحقد على الاخرين ومحاولة قتلهم كما فعل مع عزمي أو في قتل من يعتبرهم أشرارا كما فعل بقتل الراقصة. وتعكس اللغة رغبة بكر الطايل في تقسيم البشر الى مؤمنين وأشرار مع كثير من التزمت الساذج. كما يبدو توظيف أسلوب المفارقات واضحاً في تصوير شخصية جبران ذلك المناضل اليساري الذي يبرر التحول الحاد في مواقفه بالعقلانية أو الواقعية.

وأعتقد إن من أهم الجوانب الابداعية في رواية "عندما تشيخ الذئاب" هو قدرتها على متابعة نمو الشخصيات ونضوج تجربتها عبر مراحل سنها المختلفة ورسم معالم تطور وعيها وتأثرها وتأثيرها في الشخصيات الاخرى بشكل حيوي يلحظه القاريء تدريجياً ، وفي ذات الوقت قدرة الشخصيات فيها على تقديم أزماتها الفردية كنماذج للقضايا العامة التي شغلت الناس في عمان خلال هذه المدة كالتغيرات على طرأت على قيم وسلوك الافراد والسلطة والمعارضة وبروز الاتجاه الديني وتراجع الاتجاهات القومية واليسارية وسيطرة النزعة المادية الاستهلاكية على أحلام الفقراء والاغنياء على السواء.

وبهذا الصدد يمكن القول أن الرواية تشكّل عرضاً توثيقياً بانورامياً تاريخياً لمدينة عمان من خلال إبراز التغيرات التي طرأت على المدينة وسكانها خلال هذه الفترة. إذ تنطوي على مشاهد لاذعة وناقدة لمظاهر الحياة السياسية وفساد الاداء الحكومي وتأثير العلاقات الاجتماعية والنسائية على ذلك كما حصل مع جبران الذي صار وزيراً أو مظاهر الفساد الاقتصادي أو تحول مواقف المعارضين السياسيين وتماهيهم مع مواقف السلطة ومبرراتها. بل يمتد التناول الى ابراز تأثير العوامل والمتغيرات الدولية فهناك اشارات الى حرب لبنان وحصار بيروت، وسقوط الاتحاد السوفياتي.

تحفل الرواية بذكر اسماء مناطق عمان المختلفة والكثير من محلاتها ومعالمها، وكأن الرواية تقدم صورة توثيقية للحياة في أحياء المدينة وما اعتراها من تغيير. وهناك واقعية كبيرة في نقل الاحداث بين احياء المدينة المختلفة. فهناك جبل الجوفة الذي تنطلق منه كل الشخصيات في مغامرات حياتها المختلفة وهناك أحياء عمان الشرقية مثل جبل التاج والاشرفية والقويسمة وماركا وهناك وسط البلد والمحلات الراقية التي كانت في فترة من الزمن قبل توسع المدينة في الاتجاه الغربي، وهناك الجامع الحسيني وهناك المحكمة في شارع السلط. وهناك جبل اللويبدة وتلاع العلي وإسكان الصحفيين في طبربور، وغيرها من الاماكن والمعالم. وتقدم الرواية صورا عديدة متقابلة متضادة للحياة في جبل الجوفة الفقير المكتظ ، في حين أن جبل عمان يمتاز بالهدوء الى درجة الرتابة والملل. وتقدم الرواية بعضاً من صور الحياة الضائعة بين الترف والفراغ والتقليد والمظهرية!

مؤلفاته في مجال القصة والرواية:
1. الطريق إلى بلحارث (رواية)، رابطة الكتاب الاردنيين، عمان، 1982.
2. وقت (رواية) ، دار ابن رشد، عمان، 1985.
3. مخلفات الزوابع الأخيرة (رواية) المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1988.
4. رجل خالي الذهن (قصص)، دار الكرمل، عمان، 1989.
5. الحياة على ذمة الموت (رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1993.
6. رجل بلا تفاصيل (قصص) ، مؤسسة عبد الحميد شومان بالتعاون مع رابطة الكتاب الاردنيين، عمان، 1994.
7. الأعمال الروائية، وزارة الثقافة، عمان، 2003.
8. ليلة الريش، (رواية)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2004
9. ما جرى يوم الخميس، (قصص)، وزارة الثقافة، عمان، 2006
10.عندما تشيخ الذئاب، (رواية)، وزارة الثقافة، مشروع التفرغ الابداعي، عمان 2008.
نصوص مختارة
(ما جرى يوم الخميس)
قصة قصيرة من مجموعته التي تحمل نفس العنوان والتي صدرت عام 2006:

الاعلان الذي نشر في ثلاث صحف، تضمن تهاني يقدمها عدد من الناس لرجل إسمه "سمير الأزهري" بمناسبة ما حدث يوم الخميس الماضي، دون أي ذكر لتفاصيل أخرى يمكن ان تضيء للقاريء أو تعينه على فهم لغز الخميس الذي بدا لي مضببا مثيرا للحفيظة.
استوقفني الاعلان. اذ كيف لي أن أهدأ دون أن أعرف حقيقة ما تخلل ذلك اليوم من أحداث؟
سألت أصدقائي العاملين في الصحف، علهم يعرفون شيئا يهديء فضولي الذي تحول الى نوع من اللهفة والخفة التي لا تليق برجل مثلي على أعتاب الستين.

لم أجد لدى أي منهم معلومة أو تفسيرا لهذا الأمر، لكنهم شاركوني استغرابي، وزودوني بهواتف المعلنين بعد أن حصلوا عليها من قسم الإعلانات، الذي عادة ما يطلب هاتف المعلن تحسبا لوقوع خطأ ما قبل النشر.

اتصلت بالأرقام الثلاثة فتلقيت ردا آليا متكررا بصوت فتاة تقول: رقم الهاتف المطلوب مفصول. كلمة مفصول نطقتها عبر السماعة بنبرة متشفية، هذا ما احسسته. ومع أن المسألة برمتها لا تخصني، الا أنها استبدت بمخيلتي وأرقتني:
ما الذي حدث يوم الخميس؟ ولماذا لم يفصح الاعلان عن حقيقة ما جرى؟ خصوصا أن من عادة المعلنين الحرص على الاستعراض وشرح ما هو مقصود باعلاناتهم، فلماذا عمدوا هذه المرة الى اخفاء المعلومة الأساسية، بحيث بدا الامر اشبه بتواطؤ مكشوف بين كل المهنئين، وبين الشخص المهنأ.

أحسست بأن أولئك الناس يقبضون على سر لا يريدون اشراك أحد به، وفي الوقت ذاته يصرون على اشعار الجميع بوجود سر بينهم وحدهم، اضافة الى أن هذا السر يستحق تهنئة علنية دون الإشارة الى طبيعته! هل أرادوا إغاظة القراء؟

وضعت كثيرا من الاحتمالات التي بدت لي في نهاية الأمر ساذجة تستحق التأنيب!
من تلك الاحتمالات ان المهنأ عين في منصب مهم، أو نجح في امتحان، أو حصل على ترقية فاستحق التهنئة. لكنني سرعان ما استسخفت هذه الافكار، فمثل هذه الأمور لا تخضع للتكتم، كما أن الناس يجاهرون بها ويحتفون..

أنا على ثقة من أن مئات أو آلاف القراء اطلعوا على ذلك الإعلان، وربما تساءلوا في حينه عما جرى، لكنهم لم يماحكوا أنفسهم مثلما فعلت أنا، لم يحتدموا، ولم يشعروا بتلك الحاجة الملحة الطاغية لمعرفة ما جرى يوم الخميس.

طيب، لو افترضنا أن هذا الشخص تزوج، أو استعاد نقودا سرقت منه، أو نجا من محاولة اغتيال، أو شفي من مرض عضال، أو صدر عنه عفو بعد أن كان سجينا أو محكوما..
لكن هذه الأمور لا تعد اسرارا، ثم انها احتمالات تنقصها الفطنة!
عدت إلى الصحيفة علني أتعثر بكلمة أو جملة تساعدني على الخلاص من هذه الأزمة التي تورطت بها، كثيرا ما أجدني متورطا في أمور لا دخل لي بها، لكنها تسبب لي أرقا وحكاكا دون سبب بدني واضح! قرأت الإعلان من جديد، فلم أجد في تلك التهاني سوى الصد والإبعاد:
(فلان وزوجته واخوانه واخواته وأبناؤهم وبناتهم وأقرباؤهم وأنسباؤهم يهنئون.... على ما حدث يوم الخميس، متمنين له كل التوفيق والسؤدد)
سؤدد؟ ألا زال الناس يستخدمون هذه الكلمة؟

مزقت الصحيفة فعاد فضولي إلى مواقعه، ارتحت قليلا، تشاغلت ببعض الأعمال البيتية. عدلت وضع الصور واللوحات المعلقة على الجدار، عادة ما تميل الصور واللوحات نحو اليسار أو اليمين دون سبب معروف.
عالجت مسمارا لحميا في قدمي: عادة ما تظهر المسامير في قدمي دون أن أدري لماذا؟!
أعدت المزهرية إلى مكانها على منضدة الزاوية: عادة ما تنتقل هذه المزهرية من مكانها....
انتهيت من تلك الأعمال التي: عادة ما أقوم بها دون سبب واضح.
استرحت قليلا، فتمرد فضولي:
ما الذي يجري بين الناس يوم الخميس؟
يسهرون، يتزاورون، يهيئون أنفسهم لقضاء اجازة، يقومون ب "الهم الذي اسمه خميس" حسب ما يتندر الناس في بلادنا.
لكن لا شيء من هذا يستحق التهنئه!

فكرت بذلك السر الذي يخفيه الرجال عادة بالتواطؤ مع نسائهم، حين لا يفلحون في مضاجعتهن: أيمكن أن يكون المهنأ عروسا جديدا فشل في فض بكارة عروسه منذ أيام أو شهور، وأفلح في ذلك يوم الخميس؟
لكن هذا يحدث كثيرا. ثم، لو افترضنا أنه وعروسه تواطآ على كتم ذلك السر، فلماذا يبوحان به بعد نجاحهما في تلك المهمة الصعبة؟ خصوصا أن مثل هذه الأمور تعلق في ذاكرات الناس، وقد تتحول مع الايام الى عيب يعيرون العروسين به، هذا عدا عن أن التهنئة المعلنة تعني فضح الرجل، وكشف ضعفه، والتطرق المضمر إلى ما لا يجوز الاعلان عنه من الخفايا الزوجية، خلا الإيحاءات المخجلة أو التخيلات المحرجة التي قد تتجول في أذهان من يعرفونه وزوجته من المعلنين أو قراء الصحف.
هذا احتمال أكثر سذاجة مما ينبغي، لا بد أن الأمر مختلف.

ما أغاظني أكثر، أن المهنئين لم يحددوا ما اذا كان الحدث تم فجرا ام صباحا ام ظهرا أم مساء، ولو فعلوا لسهلوا علي مهمة التفكير في المسألة، فتحديد الوقت يمنحني فرصة حصر الاحتمالات ومعرفة ما يفعل الناس في تلك الأوقات من أيامهم.

صبيحة اليوم التالي، رأيت أربع صفحات في جريدة واحدة، ملأى بإعلانات التهاني للرجل ذاته على "ما جرى يوم الخميس الماضي" ... دون أي توضيح!
المسألة كبرت، ومعها تطاول فضولي واشتباكي مع ذاتي التي تريدني أن أدع الخلق للخالق، وتصفني بأنني أكثر الناس فضولا على سطح هذا الكوكب، لكنني أجيبها، عادة ما اجيبها باستخفاف: هذا امتياز لا يحظى به سواي، ثم ما العيب في أن أكون فضوليا؟ ألم يكن الفضول سببا في اكتشاف نيوتن لقانون الجاذبية؟
ثمة خلافات يومية بيني وبين ذاتي، فهي لا تكف عن نهيي بعدم حشر نفسي في ما لا يعنيني، وقد سبق أن طاوعتها على مضض اختصارا للشر، لكن في هذا الموضوع، توافقنا هي وأنا على ضرورة معرفة السر، ولا أدري كيف حدث ذلك!

لقد حقدت على المدعو سمير الأزهري، ذلك أنه أصبح اسما معروفا وعلما بقوة الإعلان المدفوع، كما رسخ اسمه في ذاكرتي أكثر من "هيلاسي لاسي، والأميرة ديانا ، وجاكلين كنيدي" وسواهم:
أيمكن أن تكون الغاية من هذه الإعلانات هي الترويج لإسم ذلك الرجل الذي أرقني؟
لكن التهاني لم ترتبط بمناسبة أو إنجاز معين يمكنه الإفادة منه ..
والعمل؟!

استوقفني واحد من الإعلانات المنشورة في الصفحات الأربع، فقد أثبت المهنيء رقم هاتفه أسفل إعلانه! تنفست الصعداء وأحسست بتخففي من عبء أقام في صدري منذ الأمس.
رفعت سماعة الهاتف، ضغطت الأزرار التي تضمنت رقم هاتف ذلك المعلن، فرد علي رجل بصوت متعب عريض يفيض لهفة. كان واضحا من طريقته في الرد أنه ظنني المهنأ سمير الأزهري! وقبل أن أوضح الأمر له أو أسأله عن سبب نشره ذلك الإعلان، عاجلني بلهفة وفضول:
أرجوك، لا تشكرني على تهنئتي لك فأنا لا أعرفك، لكنني لم أنم ليلة البارحة، أخبرني ما الذي حدث؟ لقد دفعت ثمن الإعلان كي أعرف منك:
ما الذي جرى يوم الخميس؟ ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق