الجمعة، يونيو 18

الاتجاهات الفكرية للحداثة في العمارة


لو كوربوزيه: العمارة أو الثورة!
الاتجاهات الفكرية للحداثة في العمارة
اياد ع. نصار

ظهرت منذ بداية القرن العشرين عدة مدارس للفكر لم تكن راضية عن الاوضاع السائدة، على ضوء الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الاولى، وانتشار القلق والخوف، وغياب اليقين، وسقوط مقولات الحقائق الثابتة، وتداعي منظومة الافكار والاخلاق التقليدية المحافظة، وتراجع القيم الفنية الكلاسيكية، وبروز روح التمرد الفردي، والانشغال في البحث عن حلول لأزمات الانسان والتعبير عنها في الثورة لا في وعود الميتافيزيقيا، وأخذت تدعو الى نشر أفكار جديدة في الفن والادب والفلسفة والعمارة وغيرها، فكانت هذه الاتجاهات الفكرية بمثابة نذر الدعوة الى عمارة جديدة تعبر عن روح الحداثة، ليس في أوروبا وحدها، ولكن في العالم أجمع.



ويرى بعض المؤرخين بأن تطور العمارة المعاصرة مرتبط بمشروع التحديث والتنوير، وقد تطور الطراز الحديث بحسب رأيهم نتيجة للثورات الاجتماعية والسياسية. بينما يرى البعض الاخر بأنها تطورت أساساً بسبب التطورات التقنية والهندسية، كما أن توفر مواد جديدة للبناء، مثل الفولاذ والحديد والزجاج، أسهم في اختراع تقنيات بناء جديدة. كما عدّ بعض المؤرخين الحداثة مسألة ردة فعل ضد الطراز المفرط في الاناقة والزخرفة للعهد الفيكتوري.


وسعى الرواد من المعماريين الحداثيين الى ايجاد طراز جديد يعبر عن النظام الاجتماعي والاقتصادي لمرحلة ما بعد الحرب العالمية الاولى، وذلك بالتركيز على احتياجات الطبقتين العاملة والوسطى. وقد رفضوا فكرة تطوير الطرز التاريخية والتي خدمت النظام الارستقراطي المتداعي.


كان المنهج الذي سار عليه الحداثيون يقوم على اعتبار المباني أشكالا أو كتلاً مجردة وازالة كل الاشارات التاريخية والزخرفية لصالح التفاصيل الوظيفية. وصارت المباني تظهر هيكلها الانشائي وجسور الحديد والاسطح الخرسانية بدلاً من تخبئتها خلف أشكال تقليدية. وقد صارت هذه العناصر ذاتها محل اعتبار جمالي. ومع حلول عشرينيات القرن العشرين كانت هناك أربعة أسماء معمارية قد حققت شهرة واسعة هي لو كوربوزيه في فرنسا، ولودفيغ ميس فان دي روهي وولتر غروبيس في ألمانيا، وفرانك لويد رايت في أمريكا. ترك رايت الذي نادى بأن تكون العمارة جزءا عضويا من البيئة تأثيراً كبيراً على دي روهي وغروبيوس. وصرح غروبيوس بأن رسومات رايت كانت الكتاب المقدس الذي استمد منه أفكاره.


في العام 1932 أقيم معرض مهم هو المعرض الدولي للعمارة الحديثة. وظهر فيه وجود اتجاهات معمارية متشابهة من حيث الطراز ولها هدف عام مشترك. قام المعماريان هنري هيتشكوك وفيليب جونسون بجمعها تحت طراز واحد أطلقا عليه اسم "الطراز الدولي" في كتاب مشترك حددا فيه خصائص وسمات الحداثة على مستوى العالم، والتي كان الطراز الدولي أحد أبرز صفاتها.


بدأ المعماريون يتجهون الى الخطوط الهندسية المستقيمة وينزعون الى بساطة الشكل، وأصبحت المخططات وظيفية ومنطقية وسهلة. وهكذا انتشرت عمارة الحداثة التي صارت تعبر عنها ناطحات السحاب. ومن أشهر الامثلة على ذلك مبنى الامم المتحدة في نيويورك الذي صممه لوكوربوزيه.


تعكس فلسفة لوكوربوزيه بعض أهم ملامح التوجهات الفكرية للحداثة المعمارية. يعد لو كوربوزيه Le Corbusier أشهر معماري في القرن العشرين على الاطلاق. وقد امتد تأثيره الطاغي الى فلسفة تخطيط المدن أيضا. بلغت شهرته حدا جعلت بلده الاصلي سويسرا تضع صورته على عملتها. كما أشاد به الرئيس ليندون جونسون الذي قال إنه كان له تأثير عالمي واضح في العمارة.


كما وصف الاتحاد السوفياتي موته في العام 1965 بأن "العمارة الحديثة فقدت بموته سيدها". صمم لوكوربوزيه الكثير من المعالم المعمارية الحديثة في كافة أنحاء العالم من الولايات المتحدة الى الهند الى روسيا الى أمريكا الجنوبية، ومنها مدينة الجمباز في بغداد. ومن أشهر أعماله فيلا سافوي في فرنسا، والمباني الحكومية الكبرى في شانديغراه في مقاطعة البنجاب في الهند. وقد عمل لوكوربوزيه جاهدا من خلال أفكاره المعمارية على توفير ظروف معيشية أفضل لسكان المدن المكتظة، وخاصة الاحياء الشعبية، فإهمال مسألة البناء برأيه يمكن أن يؤدي الى مشكلات اجتماعية وقلاقل، فكأن الامر "اختيار بين العمارة أو الثورة".


توصل لوكوربوزيه الى وضع مخططات لمدينة سماها مدينة الاشعاع. واهتم بالتناسق والانسجام كمكونات أساسية في فلسفة تصاميمه، ورفض أي شكل من اشكال الزخرفة، وخاصة المباني الضخمة ذات التماثيل المنحوتة التي تزينها.


كان لوكوربوزيه في نظر أتباعه نبياً لا ينازع، رغم أن نقاده قالوا إنه كان مغرماً بالصروح المعمارية والتماثيل الضخمة بلا روح. ولكن مع بزوغ الخمسينيات بدأت تظهر المقالات الناقدة لاعماله.


عمارة ما بعد الحداثة:
يشير المصطلح الى طراز العمارة الذي بدأ يظهر للوجود منذ بداية خمسينيات القرن العشرين والذي ما يزال تأثيره مستمراً حتى اليوم. وقد ظهرت عمارة ما بعد الحداثة في رد على الرسمية التي كان يتسم بها الطراز الدولي، الذي بدأ بالتراجع على إثر النقد الذي وجه له من أنه عالمي بلا هوية وموجه للنخبة. كتب المعماري السويسري سيجفريد غيديون في مقدمة كتابه "الفراغ والزمن والعمارة" في العام 1961: "في الوقت الراهن هناك ارتباك قائم في العمارة المعاصرة، مثلما هو الحال في الرسم، نوع من التوقف، أو نوع من الانهاك".


كما ناقش مؤتمر عقد في العام نفسه في متحف ميتروبوليتان للفن السؤال التالي: العمارة الحديثة: موت أم تحول؟ وقد تحول الانقلاب على هذا المذهب الى واقع من خلال الجدل الذي ثار حول مبنى (بان أم) الذي بني فوق المحطة المركزية الكبرى في نيويورك. وقد كان النقد يدور حول فكرة أن المبنى قد دمر نسق شارع بارك أفينيو. تطورت عمارة ما بعد الحداثة كرد فعل ضد تزمت الحداثة. لقد تم استبدال الاشكال والسطوح الوظيفية الرسمية لحركة الحداثة بالخطوط الدائرية والمنحنية والمائلة ذات الاضافات الجمالية الحركية والرمزية واللونية والتاريخية مع المحافظة على الوظيفية. وتعزز انتصار عمارة ما بعد الحداثة في الثمانينيات.


من الامثلة المعمارية المعروفة على عمارة ما بعد الحداثة بناية سيجرام في نيويورك التي أقيمت سنة 1958 وتعتبر أحد أجمل الامثلة على الوظيفية الجمالية، ومن الامثلة المشهورة بناية بورتلاند في ولاية أوريجون ذات الواجهة التي تتسم بالخطوط الرأسية والافقية والنوافذ العديدة المتناظرة.


تيارات الحداثة المعمارية وما بعدها:
العمارة المستقبلية:
بدأت العمارة المستقبلية مبكرا مع مطلع القرن العشرين كنموذج يتصف بمعاداة أية توظيفات او اشارت تاريخية في المباني واستخدام خطوط أفقية طويلة تدل على السرعة والحركة والفورية. ركز المستقبليون على توظيف التقنية في البناء. أسس الحركة الشاعر الايطالي فيليبو مارينيتي المولود في الاسكندرية الذي نشر بيانه الاول في العام 1909، وقد جذبت الحركة شعراء وموسيقيين وفنانين ومعماريين مثل أنطونيو سانتا ايليا الذي حول المستقبلية الى طراز يتصف بالجرأة في التجريب.


العمارة التعبيرية:
تطورت في شمال أوروبا خلال العقود الاولى من القرن العشرين بموازاة تطور الفنون البصرية والادائية التعبيرية. واتسم هذا الطراز بالتوظيف الحداثي للمواد الجديدة، والابتكار المتعلق بالشكل، والكتل الضخمة المستوحاة من ظواهر طبيعية. لقد قاتل عدد من معماريي التعبيرية في الحرب العالمية الاولى، فأدت تجاربهم الشخصية اضافة الى الاضطرابات السياسية والتغيرات الاجتماعية الى بروز نظرة مثالية وتوجهات رومانتيكية. حدّت الظروف الاقتصادية السيئة بسبب الحرب كثيرا من التوسع في بناء المباني العامة خلال الفترة 1914 و1920، مما أدى أن يبقى الكثير من المشاريع التعبيرية مجرد رسومات على الورق. ومع مجيء النازية في اوائل الثلاثينيات فقد تم حظرها، وبدأ أغلب روادها بالتحول عنها آنذاك بسبب الحدة العاطفية فيها.

مدرسة باهاوس:
كان لها تأثير واضح في عمارة الحداثة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وقد جمعت بين الحرف والفنون الجميلة واشتهرت بتعليم التصميم. استمرت المدرسة التي اسسها والتر غروبيوس في ألمانيا بين عامي 1919 و1933. كانت الهزيمة في الحرب العالمية الاولى، وسقوط الملكية الالمانية، والغاء الرقابة تحت التوجهات الحرة الجديدة، العوامل التي أعطت قوة للتجريب في الفنون المختلفة. وهكذا صار طراز باهاوس يتسم بغياب الزخرفة وبالانسجام بين وظيفة المبنى وبين تصميمه. تم في العام 1933 اغلاق المدرسة بضغط من النظام النازي وملاحقة رموزها.


غادر غروبيوس الى الولايات المتحدة، وأخذ يدرس التصميم في هارفارد. وقد بقيت أفكار المدرسة مستمرة هناك حتى العام 1968. كانت باهاوس تهدف الى قيام طراز عالمي يركز على التصميم والتقنية والمواد الصناعية والوظيفية والغاء مظاهر الزخرفة.


عمارة غوغي:
يشير الاسم الذي اشتقه الكاتب وليم جبسون في احدى قصصه الى نوع من العمارة التي تأثرت بدخول عصر الفضاء وثقافة السيارة والحركة، ويمزج بين السطوح الحادة والمستديرة. وقد ظهرت هذه المدرسة في كاليفورنيا في الاربعينيات واستمرت حتى منتصف الستينيات. ركزت عمارة غوغي على الاشكال المعلقة والحادة والاسطح المنحنية والاستخدام الجريء للزجاج والفولاذ وغاز النيون، وقد ظهر ذلك في بناء الفنادق والمطاعم والصالات في تلك الفترة وقد جسدت روح العصر من خلال الاشكال والتقنية والمواد المستخدمة.


عمارة الاقليم:
يمثل مبنى دار الاوبرا الشهير على حافة خليج سيدني الذي صممه المعماري الدنماركي يورن اوتزون أحد اشهر الامثلة على عمارة تستلهم روح المكان أو المنطقة وخصوصيتها وتعكسها في الشكل والسطوح الخارجية على نحو رمزي يعطي للمكان روحا معمارية تعبر عنه. تستلهم دار الاوبرا في عمارتها شكل الحلزونة الموجودة على الشاطىء. تمثل عمارة الاقليم ردا على غياب هوية المكان أو معنى شكل المبنى في عمارة الحداثة. وقد اشتق الاسم المعماري اليوناني تسونيس وزميله ليفيفر المتخصص في دراسة تاريخ العمارة ومكوناتها. ولكنه اكتسب شهرة على يد المعماري والناقد البريطاني كينيث فرامبتون.


العمارة البنائية:
ازدهرت في الاتحاد السوفياتي في العشرينيات وأوائل الثلاثينيات. وقد جمعت بين التقنية والغرض الشيوعي الاجتماعي وقد استمرت حتى العام 1932. شكلت المسابقة التي أقيمت لبناء قصر السوفييت، وهو مشروع ضخم أقيم لمنافسة مبنى الامبير ستيت في الولايات المتحدة، حدثاً مهما في تاريخ العمارة السوفيتية. وقد رافق ذلك نقد شديد للحداثة وخاصة في بلد زراعي مثل الاتحاد السوفياتي. وقد شكل المشروع الفائز للمعماري بوريس ايوفان بداية مرحلة جديدة تعكس الابعاد التاريخية لما عرف بالعمارة الستالينية، حيث اتهم المعماريون الحداثيون بالافراط في العمارة ذات الملامح العالمية و"البشاعة واللاانسانية". أخذ هذا الاتجاه بالتركيز على الاشارات والرموز التاريخية واقامة مباني الاسكانات الجماعية.


آرت ديكو:
حركة تصميم فنية عالمية ظهرت خلال الفترة ما بين منتصف العشرينيات والاربعينيات، وكانت تركز على الاشكال الهندسية الرياضية، واستخدام تماثيل ومنحوتات من الاثار والرموز التاريخية المكتشفة حديثاً من أماكن مختلفة مثل افريقيا. تمتاز المباني التي بنيت بتأثير منها بوجود زخارف ملونة أو مجسمات على أضلاعها الرأسية العالية، كأن تجد مجسمات فرعونية على الاعمدة الرأسية التي تشكل مدخل البناء، أو رموزاً بابلية أو آشورية، مع بقاء الاهتمام بالجانب الوظيفي للمبنى. امتد تأثير الحركة الى الهند والفلبين وأندونيسيا واسبانيا والارجنتين والبرازيل واستراليا. شهدت الحركة تراجعاً في أوائل الاربعينيات. وعاد الاهتمام بها يتجدد مرة أخرى مع نشوء تصميم الغرافيك في الثمانينيات.


مدرسة شيكاغو للعمارة:
انتشر طراز معماري على مستوى العالم في نهاية القرن التاسع عشر عرف باسم الطراز التجاري، والذي يشار اليه باسم مدرسة شيكاغو الاولى للعمارة. كانت من أوائل من دعا الى استخدام تقنية الانشاء باستخدام هياكل الفولاذ في المباني التجارية، وادخال المساحات الزجاجية العريضة. ومن هنا نشأت فكرة "نافذة شيكاغو" وهي نافذة من ثلاثة أجزاء: جزء مركزي زجاجي كبير محاط بشباكين أقل حجما.


مدرسة شيكاغو الثانية: ظهرت في ستينيات القرن العشرين ووظفت مبدأ البناء باستخدام الابعاد الثلاثية مختلفة الارتفاعات، التي أطلق عليها اسم عمارة الانبوب، حيث تتكون من ثلاث أو أربع كتل معمارية. ابتكر الاسم المعماري فضل الرحمن خان الذي كان يعمل في مكتب للتصميم في شيكاغو في العام 1963، ويشار الى الافكار التي وضعها خان باسم مدرسة شيكاغو الثانية، واشتهرت ببناء ناطحات السحاب مثل برج ويليس الذي اكتمل بناؤه في العام 1973 وكان أطول بناية في العالم حتى العام 1998.


الواقعية الاشتراكية:
طراز من الفن الواقعي والذي وجده غايته في نشر أهداف الاشتراكية. كانت الى حد ما ردة فعل ضد الطرز البرجوازية "البائدة". أصبحت الواقعية الاشتراكية الطراز المعتمد للاتحاد السوفياتي في عام 1932 وقد تمت معاقبة الفنانين والادباء الذين خرجوا عن الخط الرسمي أو غردوا خارج السرب.


رفض بعض أعضاء الحزب الشيوعي بعض الطرز الفنية والمذاهب الفكرية مثل الانطباعية والتكعيبية لكونها ظهرت قبل الثورة وبالتالي فقد ارتبطت بـ"الفن البرجوازي".


ركزت المنشآت التي أقيمت على التعبير عن أهمية العمال والفلاحين والجنود وبطولاتهم في اطار الثورة. ومن الاعمال المعروفة قصر الثقافة والعلوم في وارسو في بولندا، ومركز المعرض الفني لعموم السوفييت في موسكو.


على طريق عمارة عربية حداثية:
ظهر منذ أوائل القرن العشرين عدد قليل من المعماريين العرب المتميزين الذين اسهموا في التمهيد لظهور عمارة عربية حداثية جديدة. فقد ظهر حسن فتحي شيخ المعماريين العرب، الذي وُلد في الاسكندرية بمصر في العام 1900. وترجع أهميته إلى كونه أول من دعا الى استخدام مبادىء العمارة المحلية وبمواد رخيصة لاقامة قرى للفقراء ذات طابع مصري ريفي خلال الاربعينيات والخمسينيات وطبقها عملياً.


نفذ أول مشروع استخدم الطين في بنائه وبسببه اتجه إلى اكتشاف تقنيات البناء النوبية لإنشاء القبة والقبو. وفي العام 1948 نفذ أحد أبرز مشاريعه وهو تصميم وإقامة قرية القرنة على هذه المبادىء التي رواها في كتابه "عمارة الفقراء". فاز حسن فتحي بعدة جوائز معمارية عالمية مثل الميدالية الذهبية لاتحاد المعماريين الدولي وجائزة الآغا خان للعمارة الاسلامية. وما تزال نظرياته تُدرس في كليات العمارة في جامعات العالم المختلفة.


وفي العراق برز رفعت الجادرجي الذي كان يعد أشهر معماريي العراق وفنانيه في العصر الحديث. مزج بين العمارة الحديثة وتوظيف النحت والاشكال التجريدية ومواد البناء المحلية. صمم عدداً من الاعمال المعروفة مثل نصب الجندي المجهول في الستينيات في ساحة الفردوس.


استخدم الجادرجي عناصر عراقية محلية تقليدية واسلامية ضمن المباني التي تأثر فيها بخصائص عمارة الحداثة، فأدخل استخدام المشربيات والشناشيل والطابوق العراقي. حصل على جائزة الآغا خان في العام 1986.


ولكن الاسم الابرز عالمياً هو المعمارية العراقية زها حديد. وهي من أشهر المعماريين على مستوى العالم هذه الايام في تبني العمارة الحداثية الجريئة. ولدت في العام 1950 في بغداد ودرست في الجامعة الامريكية في بيروت وفي الجمعية البريطانية للمعماريين وتقيم بشكل دائم في بريطانيا. نالت زها قبل عدة سنوات جائزة بريتزكر التي تعد أرفع الأوسمة المعمارية العالمية التي تكافىء جائزة نوبل، وتحظى باحترام واسع بين معماريي العالم أمثال كنزو تانغي الياباني.


تمتاز عمارة زها بتوظيف التجريد والبعد عن الأشكال التراثية التقليدية، أو العناصر العربية الاسلامية كما هو الحال لدى أغلب المعماريين العرب. ومن أعمالها فوزها بمسابقة لتصميم ناد في كاولوون في هونغ كونغ في العام 1982، ومشروعها الجرىء المثير للجدل مرسى السفن في باليرمو في صقلية 1999، ومتحف الفنون الإسلامية في الدوحة.


ولا بد أن نتوقف عند جعفر طوقان، وهو من أشهر معماريي الحداثة في الاردن والعالم العربي. كانت انطلاقته من بيروت حين صمم مسجد عائشة بكار في العام 1970 بطريقة غير تقليدية في بناء المساجد.


له عدد من المشاريع المعروفة في الاردن والعالم العربي، وقد تعاون مع الياباني كنزو تانغي لتصميم جامعة العلوم والتكنولوجيا في الاردن. كما صمم قرى الاطفال SOS في العقبة، ومبنى بنك الاردن في الشميساني، وضريح الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات في رام الله. نال جائزة الآغا خان في العام 1999، وجائزة منظمة المدن العربية للمعماريين العرب عن مبنى قاعة المدينة التابع لأمانة عمان في العام 2002.


وختاماً، لا بد من الاشارة الى راسم بدران، أحد أبرز المعماريين الاردنيين والعرب حالياً حيث يمزج في عمارته التراث الذي يوفر إطاراً للهوية مع التجديد في توظيف المساحات والفراغ والاشكال ضمن المحافظة على روح العمارة العربية الإسلامية. نال جائزة الآغا خان على أحد أعماله المهمة وهو مشروع قصر الحكم بالرياض. ومن أعماله المشهورة المكتبة الحسينية في جامعة اليرموك في اربد، ومبنى أمانة عمان الكبرى بالاشتراك مع جعفر طوقان، وجامع الدولة الكبير في بغداد.

* الصورة أعلاه لمشروع مبنى الواجهة المائية في Regium في ايطاليا من تصميم المهندسة العراقية البريطانية زها حديد

* نشرت المقالة في الملحق الثقافي بجريدة الرأي الاردنية ليوم الجمعة بتاريخ 18/6/2010
رابط المقالة في صحيفة الرأي

رابط الصفحة الكاملة pdf




الخميس، يونيو 17

أدب الطفل: من حكايات يعسوب الى هاري بوتر

الكتاب الفائز بجائزة ترومان كابوت للنقد الادبي لعام 2010
تاريخ نقدي تجاهل الف ليلة وليلة وحكايات الاطفال العربية

اياد ع. نصار

فاز أستاذ الأدب وعميد الفنون والانسانيات في جامعة كاليفورنيا في سانت دييغو ، سيث ليرر ، بجائزة ترومان كابوت للنقد الأدبي لعام 2010 ، عن كتابه "أدب الطفل: تاريخ القارئ من حكايات يعسوب إلى هاري بوتر". وتعد جائزة ترومان كابوت أرفع جائزة للنقد الأدبي المكتوب بالانجليزية ، وقد منحت أول مرة في عام 1996 ، وتبلغ قيمتها ثلاثين ألف دولار. ارتبطت الجائزة في الأساس باثنين من الأدباء في الولايات المتحدة ، هما: الروائي والقاص والمسرحي الأميركي ترومان كابوت ، تقديراً لأعماله ، والناقد نيوتن آرفن ، الذي فقد مستقبله الوظيفي في الأربعينيات ، بعد أن اكتشف أنه كان مثلي الجنس. وقد حصلت عليها في عام 2008 الناقدة البريطانية وأستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة أكسفورد ، هيلين سمول ، عن كتابها "حياة طويلة" ، الذي يتناول موضوع كبر السن في الفلسفة والأدب الغربيين. وقد سبق أن نشرت الدستور مقالتي عنها وعن كتابها الفائز بالجائزة في حينها. وفي عام 2009 حصل عليها الشاعر والناقد البريطاني المعروف ، جيوفري هيل ، الذي يعمل أستاذاً للأدب الإنجليزي في جامعة بوسطن عن كتابه "كتابات نقدية مختارة".



أما المؤلف فهو متخصص في جانب من فقه اللغة المعني بالتحليل التاريخي للغة الانجليزية. وقد نال درجة الدكتوراة من جامعة شيكاغو في عام 1981 ، وبدأ حياته الأكاديمية بالتدريس في جامعة برنستون خلال الفترة من عام 1981 حتى عام 1990 ، حيث انتقل بعدها إلى جامعة ستانفورد وبقي فيها حتى عام 2008 ، وبعد ذلك انتقل إلى جامعة كاليفورنيا حيث يعمل الآن.


يهتم ليرر في دراسة أدب العصور الوسطى وعصر النهضة ، وقد ساعده تخصصه في موضوع دراسة التطور التاريخي المقارن للغات ، في تطبيق مناهج فقه اللغة في نقد تاريخ أدب الطف ، ودراسته. ويجيد ليرر القراءة بلهجات أدب القرون الوسطى ، كما ألف كتاباً عن مؤسس الأدب الإنجليزي الحديث جيفري تشوسر في القرن الرابع عشر. وفاز كتاب سيث ليرر ـ موضوع المقالة ـ في العام الماضي بجائزة حلقة نقاد الكتاب الوطني.


يعد الكتاب ، الذي نشر في عام 2008 ، إلى حد ما ، "سيرة ذاتية ثقافية" للمؤلف: إذ يتطرق إلى حياة المؤلف الخاصة حينما كان طفلاً ، وتجربته مع القراءة ، وولعه في الكتب بعد ذلك خلال فترة الشباب ، ومن ثم ، تجربته مع القراءة حينما صار أباً. "لقد فكرت في الأمر من وجهة نظر شخصية ، وأنا أراقب طفلي كيف كبر وأصبح قارئاً". يتناول الكتاب الأعمال التي تعد من كلاسيكيات أدب الطفل عبر التاريخ. وقيل عن الكتاب إنه ابتعد عن الطريقة التقليدية في عرض كتب الأطفال المعروفة وتقويمها ، وتقديم النصح للكبار في كيفية اختيار مقتطفات منها للأطفال: لأنه يقدم نقداً تاريخياً لهذا النوع الأدبي برمته.


يقسم الكتاب ، الذي يقع في 396 ، صفحة إلى خمسة عشر فصلاً. وطرح الكاتب ، في المقدمة ، أهمية تأسيس نظرة جديدة إلى تاريخ أدب الطفل. أما في الفصل الأول ، فتناول أدب الطفل في الأعمال الكلاسيكية القديمة اليونانية والرومانية ، وهو بعنوان "تكلم أيها الطفل". وتناول في الثاني حكايات يعسوب ، تلك الحكايات الرمزية عن الحيوانات وعلى ألسنتها ، بهدف تربية الأطفال الأخلاقية ، والتي وضعها الإغريقي يعسوب في القرن السادس قبل الميلاد. وتناول في الفصل الثالث أدب الطفولة في العصور الوسطى ، وفي الفصل الرابع تأثير حركة المتطهرين المتزمتين البيورتانز ، الذين ظهروا في أوروبا وأمريكا في القرنين: السادس عشر والسابع عشر. ويتطرق في الفصول التالية إلى تأثير جون لوك والقديس أغسطين في أدب الطفل ، وتأثير رواية روبنسون كروزو ، التي يفرد لها مساحة كبيرة. وبدءاً من الفصل الثامن ، ينتقل للحديث عن أدب الطفل منذ العصر الفيكتوري حتى العصر الحديث ، كما يتطرق إلى حكايات الجنيات والكائنات الخيالية بشكل مقارن بين اللغات. كما يخصص الفصل الحادي عشر للحديث عن أدب البنات الصغيرات ، وهو من أمتع الفصول في الكتاب. أما الفصل الثاني عشر فهو عن خصائص العهد الإدورادي في كتب أدب الطفل ، وفي الفصل الثالث عشر يتحدث عن مظاهر أدب الطفل في أمريكا وتمثيلاته ، من خلال الجوائز والمكتبات والمؤسسات المعنية بذلك. وفي الفصلين الأخيرين يتحدث عن الأسلوب والطفل ، وعن مستقبل أدب الطفل في عصر ساخر يقوم على توظيف الغريب والمضحك في سياق له معنى. أما خاتمة الكتاب ، فتتحدث عن العلاقة بين أدب الطفل وظهور الكتاب بمفهومه العام عبر مراحله التاريخية ، حيث يؤكد أن أدب الطفل زخم قوي مع ظهور أول ناشر لكتب الأطفال في الولايات المتحدة ، واسمه جون نيوبري ، في القرن الثامن عشر.


تنبع أهمية الكتاب من أنه من الكتب القليلة التي تعد عملاً موسوعياً في مجاله ، ومزيجاً ، في الوقت ذاته ، من البحث الجاد والأصالة التي تتمثل في إضافات الكاتب ، وليس مجرد السرد التاريخي ، والتي ـ كما ذكرت المراجعة النقدية للكتاب في صحيفة سان فرانسيسكو كرونيكل ـ تضم ، بلغة نقدية شيقة ، تاريخاً يمتد على ما يزيد 2600 عام هي عمر حكايات الأطفال وقصصهم. ولهذا يفتتح المؤلف الكتاب بعبارة تحمل الكثير من المعنى: "منذ أن تعلم الأطفال القراءة ، وجد أدب الطفل". يحاول الكتاب أن يقدم إجابة شافية لتفسير سبب تلك الرغبة الجامحة لدى الإنسان عبر القرون وفي مختلف القارات ، لاكتشاف لماذا ، وكيف ، نقع في حب الكلمة المكتوبة أول مرة في حياتنا.


كما يتطرق الكتاب إلى الأعمال الموجهة للفتيان ، والتي صدرت في السنوات الأخيرة ، وحققت شهرة ، حتى صارت جزءاً من ذاكرة أدب الطفل الحديث ، مثل رواية "ويتزي بات" للأميركية فرانشيسكا ليا بلوك ، الصادرة عام 1989 ، أو ثلاثية "تداخل الزمن" لجون شيزكا ، والتي تحولت إلى مسلسل تلفزيوني ، وتحكي عن جوانب من عالم الخيال العلمي والرحيل عبر الزمن ، حيث تجري أحداث بعض القصص في العام ,2095


ولا يقتصر الحديث في الكتاب على أدب الطفل في القصص والروايات ، بل يتعدى ذلك إلى المسرح ، مثل مسرحيات شكسبير ، وخاصة "حلم ليلة صيف" ، التي تنطوي على مشاهد مناسبة للطفل ، خاصة تلك المشاهد التى تقدم حكايات رمزية أو مخلوقات خيالية. إن مسرحيات شكسبير وشخوصها ، كما يؤكد المؤلف ، هي السبب في قيام مسرح الطفل الحديث.


ورغم أن الكتاب يتناول اشهر أعمال أدب الطفل عبر العصور ، منذ الحضارة اليونانية ، مروراً بالقرون الوسطى ، ثم عصر النهضة ، مع التركيز على الأدب الإنجليزي في القرن الثامن عشر ، وكذلك الأدب الأميركي ، حتى لا يترك قصة ولا رواية للأطفال فيه إلا ويذكرها ، إلا أنه يتجاهل كتب الأدب الشعبي التي أثرت كثيراً في وعي الطفل ، حول العالم ، من الثقافات الأخرى ، مثل حكايات ألف ليلة وليلة ، التي أصبحت من كتب التراث العالمي. وأستغرب أنه ليس هناك ذكر في الكتاب للحكايات العربية المشهورة التي صارت جزءاً من ثقافة الأطفال في أوروبا بعد أن ظهرت ترجماتها ، مثل: "البساط السحري" ، و"الحصان الطائر" ، و"ياسمينه والسندباد البحري" ، و"علي بابا" ، و"علاء الدين والمصباح السحري" ، وهي جميعاً حكايات اكتسبت شهرة واسعة ، وصارت رموزاً تركت تأثيراً كبيراً في أدب الطفل العالمي. ولا يقتصر الأمر على الثقافة العربية ، فهو يتجاهل الأدب الصيني والياباني والهندي ، وحتى بعض الأعمال المشهورة ، مثل: حكايات لافونتين على ألسنة الحيوانات ، أو قصص السويسرية جوهانا سبايري مثل "هايدي".


يؤكد الكتاب أن شخصية الطفل هي ما يقرأ ، وهكذا فنحن تصنعنا الكتب التي نقرؤها. يقول المؤلف: "لا ينفصل تاريخ أدب الطفل عن تاريخ الطفولة: لأن الطفل ليس إلا صنيعة الكتب والنصوص والحكايات التي قرأها أو سمعها أو رويت له". يرصد الكتاب التحولات الجذرية والدائمة التي تصيب الطفل خلال تجربته التي يتعلم فيها القراءة حينما تؤثر فيه بعض الكتب ، وتترك أثراً لا يمحى في شخصيته. كما يتحدث الكتاب عن التحولات في بيئة الأسرة ، والتطور الإنساني ، والتمدرس ، وصناعة الكتب والنشر ، التي تؤثر ـ بمجملها ـ في شخصية الطفل من خلال الأدب. ويلفت الكاتب النظر إلى نقطة مهمة حين يؤكد أن "صعود نجم أدب الطفل الأميركي كان مرتبطاً ، إلى حد كبير ، بانتشار فكرة إعارة الكتب في المكتبات العامة".


يشتمل الكتاب على تحليلات مختلفة لعدد من المؤلفين في مراحل سابقة ، رغم أن بينهم تفاوتاً كبيراً وتنوعاً في الأساليب السردية ، مثل حكاية "رحلة الحاج من هذا العالم إلى العالم الآخر" لجورج بنيان من القرن السابع عشر ، وهي عبارة عن حكاية رمزية دينية ، ومن أهم الأعمال في تاريخ الأدب الإنجليزي ، وجي تولكين ، الروائي الأميركي من القرن التاسع عشر ، الذي ألف رواية "سيد الخواتم" ، والذي يعد رائد أدب الفنتازيا الحديث ، ودكتور سويس جيزل الكاتب ورسام الكرتون للأطفال الذي توفي في بداية التسعينيات من القرن الفائت ، والكاتبة لورا إنجالز وايلدر ، التي كتبت سلسلة "البيت الصغير في البراري" ، وهيلين بياتركس بوتر الكاتبة الأميركية التي توفيت في الأربعينيات ، والتي اشتهرت بقصص الأطفال التي تجسد الظواهر الطبيعية والأجسام غير الحية على هيئة البشر. كما يتناول الكتاب الأعمال التي تحفظها ذاكرة الناس وأسهمت في صنع خيال الطفل ، مثل: "حكاية أمي الإوزة" ، و"أليس في بلاد العجائب" ، و"بيتر بان" ، وسلسلة "هاري بوتر". ويتطرق الكتاب إلى عدد من الأعمال الأدبية الموجهة للفتيات الصغيرات ، مثل رواية "آن من غرين غيبلز" للكاتبة الكندية لوسي مود مونتجمري ، والتي وضعتها في عام 1908 ، وأصبحت من أشهر الكتب الأطفال في العالم.


لقد تعرضت قصص هاري بوتر التي كتبتها جي. كي. رولينغز إلى نقد شديد بسبب نبرتها النمطية ، واستعاراتها البلاغية التقليدية ، غير أن ليرر وجد في هذه الجوانب الشائعة بغية دارسي فقه اللغة ، ليس على صعيد اللغة وحسب ، ولكن على صعيد شخوص القصص ، أيضاً.


يؤكد المؤلف أن أغلب كتب الأطفال المشهورة ، منذ عهد اليونان والرومان حتى زماننا المعاصر ، تجعل من غرفة الصف ومكتبة المدرسة وساحتها المسرح الذي تجري عليه أغلب أحداث القصص. ولهذا فإن أحد أسباب نجاح عمل مشهور ، مثل "روبنسون كروزو" ، بالنسبة للطفل ، هو مدى اللعب الذي يوفره من خلال الأدوات والأشياء: فالبطل في "روبنسون كروزو" يتقن التعامل مع مختلف الأدوات في حياته الخطرة ، وحيداً مع السكان الأصليين على تلك الجزيرة الكاريبية البعيدة. وقد تحول هذا الاهتمام ، في عصر الصناعة ، إلى معرفة البطل بطرق عمل الأسلحة والخرائط ، وميكانيكا المحركات البخارية والمتفجرات والسجائر والبضائع المعلبة وغيرها. وفي العصور اللاحقة ، ومع تحول سبب خروج البطل الأوروبي إلى العالم الجديد ، من الاستكشاف الجغرافي إلى الاستعمار الإمبراطوري ، فقد حصل تحول على صعيد القصص والروايات ، فلم يعد البطل هو المغامر حاذق الأشياء والأدوات الذي يتمكن من البقاء على قيد الحياة بفضل مهاراته ، بل صار هو صاحب الخبرة العسكرية والعارف بمتطلبات الحياة العامة ، الذي يستطيع السيطرة على قبائل الشعوب الأخرى. وباختصار: انتقل الاهتمام من الجزيرة إلى القارة.


أما نظرة كتب أدب الطفل إلى الطفل ذاته ، فقد كان التركيز ـ على الدوام ـ منذ أيام يعسوب ، مروراً بالأدب الكلاسيكي والقروسطي حتى بوادر العصر الحديث.. كان التركيز يقوم على تقديم النصح للفتى كيف يتصرف جيداً ، ويراعي نظافته ، ويتكلم بوضوح ، ويهتم بدراسته. بل إن الأدب في القرن الثامن عشر اهتم في أن يكون لكل طفل أسلوب في تفاعله الاجتماعي والأخلاقي. وقد عكست أعمال تلك الفترة المبدأ الذي يقول: "كيف تتكلم هو ، بحد ذاته ، معنى كيف تكون". وهكذا صار هدف أدب الطفل تعليم مبادئ التصرف الاجتماعي. وفي منتصف القرن التاسع عشر صار اهتمام الأدب يعكس واقع التغيرات الجديدة كالاتصال المتمثل في التلغراف ونقل أخبار الحروب. وهكذا تحول كتاب الطفل من مثل سفينة غارقة في "ربنسون كروزو" ، إلى عالم يمتد فوق القارات ويهتم في البناء وتفاصيل الحياة اليومية.


وإذا كان هدف أدب الطفل هو تعليم الطفل ، وإدخال البهجة إلى نفسه ، فإن الكتاب يحمل قيمة كبيرة للمهتمين في تعليم الأطفال على مختلف المستويات ، وواضعي السياسات ، وعلماء النفس ، والباحثين ، والآباء. إنه جهد موسوعي في دراسة أدب الطفل من منظور نقدي لغوي مقارن منذ أن وجد أدب الطفل وحتى اليوم.

* نشرت المقالة في جريدة الدستور - الملحق الثقافي ليوم الجمعة 18/6/2010

رابط صفحة المقالة في الدستور

رابط الصفحة الكاملة pdf

الأحد، يونيو 13

استطلاع حول أسباب العزوف عن النشاطات الثقافية

عدم القدرة على التفاعل مع المجتمع يعزز عزلة المؤسسات الثقافية

نص كلمات المشاركين في استطلاع الرأي الذي أجرته صحيفة الدستور مع عدد من الكتاب من ضمنهم اياد نصار:
عمان - الدستور - اعداد عمر أبو الهيجاء
غياب الجمهور ، عن كثير من فعاليات الحراك الثقافيّ والفنيّ الذي تشهده عمان ، يدعو إلى التساؤل عن مكمن هذا الخلل. وربما كان الأمر يتعلق بنوعية النشاطات التي تقام وأهميتها ، أو بعدم التنسيق ما بين الهيئات الثقافية المنظمة للأنشطة في أوقات تتضارب بعضها مع بعض. وما هو لافت في هذا السياق ، عزوف المثقفين ، بل عزوف منظمي الفعاليات أنفسهم عن حضور هذه الفعاليات. طرحنا هذه المسالة أمام عدد من المثقفين المهتمين ، وتالياً آراؤهم:

د. محمد عبيد الله:
في تصوري أن الجمهور المحلي ، من حيث العدد والنوع ، جيد ومتفاعل ومتابع ، ولكن المشكلة في إدارة الفعاليات الثقافية والتخطيط لها: فعندما يغيب الجمهور عن بعض الأنشطة فإن هذا الأمر يعبر عن رأي الجمهور في ذلك النشاط. ينبغي علنيا أن نتساءل عن نوعية النشاط ، وعن المحاضرين والمتحدثين ، وتوقيت الفعالية ومكانها. وأما بخصوص أنشطة الرابطة ، فالمتابعة الجماهيرية لها مناسبة من حيث العدد والنوع ، فبعض النشاطات تستقطب جمهوراً متنوعاً ومناسباً ، وبعضها الآخر ذو طبيعة تخصصية ، فتستقطب جمهوراً متخصصاً قليل العدد. ويمكن القول إنّ مسألة العدد ليست مهمة ، في هذا المجال: فليس بالضرورة أن تكون جميع الأنشطة شعبية جماهيرية ، كما أن شهرة المحاضر وأهميته عامل مهم يؤثر في نوعية الجمهور وعدده. لذلك يتفاوت المحاضرون والمتحدثون في لفت انتباه الجمهور واستقطابه ، ثم إن مكان الرابطة لا مشكلة في الوصول إليه ، فهو في موقع متوسط من المدينة.

د. خالد الجبر
ظاهر تماماً أنّ الإجابةَ تشتمل على شقّين: فهي أزمة مثقّف بالأصالة ، وأزمة جُمهور ثقافيّ في النّهاية ، لكنّ كليهما يؤدّي إلى الآخر بالضّرورة. المطلوب من الثقافي أن ينهض بالمجتمع ، ويحسّن أوضاعَه ، ويعينه على تحديدً توجّهاتًه في خضمّ الأزمات ، ويبيّن أصلح السُّبل لتخطّي الرّاهن وتجاوُز المُعيق: فهل تؤدّي الحركة الثقافيّة في بلدنا هذا الدّور؟ وهل تحقّق للشّارع والجُمهور شيئاً من تخفيف معاناتًه ، وتذليلً العقباتً التي تعترضُ طُرُقَه في التعليم والحياة السياسيّة والعَيش ، والتباساتً الحاضر بالماضي ، والأصيل بالوافد؟

إنّ ما نعيشُه تجسيدّ حقيقيّ لضياعً الثقافيّ والفكريّ والأدبيّ في مساربَ لا يريدُها إلاّ حفنَةّ من المنتفعين من تكريسً الأحوال الواهنة الرّاهنة ، ومجموعةّ أُخرى من المرتزقة التي تعيشُ حياةً طُفَيليَّةً (رُمًّيَّة) على هامش الفكر والثقافة والأدب ، وتلك الحفنةُ وهذه المجموعةُ خرَّبَتا الوسطَ ، وسدَّتا بأَغلاقْ مصطنَعةْ كلَّ الدّروب والمسارب التي يمكنُ أن تُعيدَ إلى الجسدً المتهالكً شيئاً من الحياة. تراهُما تُهاجًمانً كلّ شيء جيّد نافعْ حقيقيّ أصيل يمتلكُ آليّاتً التّأثير ، وتنفُخانً لتضخيمً كلًّ تافهْ عقيمْ منبتّْ ضارّْ لا يمتلكُ من آليّاتً التأثير شيئاً. ألا يضرُّ هذا بالوسطً الثقافي والفكري والأدبيّ؟ ألا يجعلُ الجُمهورَ يعتزلُ المحاضرات والنّدوات والأمسيات والمؤتمرات؟ ما الذي نفعلُه في غاية النّهاية؟ ألسنا إمّا مطبًّلين مزمًّرين للقبيحً الفارغً الغَسيلً من كلّ فائدة ، ومُهاجًمين حاقدينَ للجَميل الممتلئ النّافع؟ أليسَ المثقّفون والأدباء والمفكّرون الحقيقيّون قد اعتزلوا هذا الوسطَ وأسلموا الرّايةَ للغربانً والببّغاوات؟ حينَ نأى هؤلاء بأنفسهًم عن هذا الوسط ، وأسلمَ بعضُهم أمرَه لمن لا يمتلكُ القدرة أو الخبرة أو الموهبة ، خرَّبوا على أنفسهم وعلى غيرًهم ، وقد أسهمَت المؤسسةُ الرّسميّة في تحقيق هذا كلًّه ، لن أقولَ: رغبةً في التّخريب ، ولكن ـ على الأقلّ: إمّا جَهلاً أو غباءً ، وإمّا تسليمًا ورًضىً،


إذا لم يتنبّه السّياسيّ على ما أصابَ الثقافيّ من وَهَن نتيجة تلاعُبًه به ، ولم يتنبّه الثقافيّ على راهنًهً العقيم ، ولم يعُدْ أولئكَ الذين نأوْا بأنفسهم بعيدًا: فإنّ المجتمعَ سيظلُّ فاقداً البوصلة ، وقد يجدُ نفسه ، بعدَ حينْ ، يتهاوَى عن جُرُفْ هارْ.

اياد نصار:
هناك تراكمات تاريخية اصابت المؤسسات الثقافية في الاردن، حتى فقدت قدرتها على التفاعل مع المجتمع، فصارت تعاني من عزلة دائمة، لا تنفك تندب الحظ ولا تحاول تغيير الحال. وصارت نشاطات الادباء التي تعقدها تعاني من غياب الحضور، الذي يصل في بعض الاحيان الى حدٍّ مزر ومخجل، لا يزيد عن عدد اصابع اليد الواحدة. والأدهى هو غياب الادباء أنفسهم عن حضور نشاطات بعضهم، إلا أن تكون في الغالب تلبية واجب المعرفة، أو تبادل المنفعة، أو تجنب الحرج، أو بغرض المجاملة.


هناك تقصير من الادباء أنفسهم، وخاصة أولئك الذين حققوا شهرة، تتمثل في ابتعادهم عن حضور الفعاليات، أو في حضورهم الصامت! فللأسف، بمجرد أن يحقق الاديب الاردني نوعا من الشهرة على الصعيد العربي، حتى يصبح تفكيره منصباً على النشاطات الخارجية، وتصبح عينه على العواصم الاخرى. هناك أسماء معروفة في الوسط الادبي والتي بلغت شهرة، ومن حقها الانتشار عربيا وعالميا، ولكنها للاسف معتكفة، فلا تراها في أي مكان على مدى العام. هذا نوع من نكران الجميل. فهل أصبح الادب حرفة المعتكفين الذين يعيشون بعيداً عن نبض الشارع، ولا هم لهم سوى التأليف للنشر خارج الحدود؟

هناك مؤتمرات وندوات ولقاءات وحلقات نقاش وحفلات تواقيع كتب وأمسيات بشكل يومي. فليس الامر ندرة في الفعاليات، ولكن كثيرا منها يتسم بالتقليدية التي ملها الادباء أنفسهم، وبالخمول الفكري، الذي لا يثير قضايا للنقاش أو الحوار لأنها تبتعد عن المواضيع الاشكالية، بل وترسخ أعرافاً تقوم على تجنب النقد الصارم أو التنويري، وتعمد الى تكريس مبدأ الاستماع والسكوت، من باب أن المناسبة للاحتفاء الذي يتطلب لغة المديح، وللعرض الذي يستوجب التهنئة والتكريم.

هناك غياب للتخطيط المؤسسي الذي يضع برنامجاً مسبقاً بشكل دائم، ومن ثم يبادر للاعلان عنه بشكل مكثف ومستمر لتأمين حضور جماهيري. فأغلب النشاطات عشوائية ووليدة اللحظة، يتم ترتيبها قبل أيام قليلة، وبهذا فهي لا تمتلك رؤية للعمل بأسلوب منظم طويل المدى. وهناك تقصير واضح في استثمار القنوات الاعلامية، والاعلان عن النشاطات في كل ركن أو مكان بشكل بارز، بما يسهم بشكل مكثف في الدعوة الى حضور النشاطات. إن غياب الجمهور ينعكس على قلة اهتمام الادباء بالحضور، مثلما يزيد غياب الادباء، وخاصة الاسماء المرموقة، من عزوف الجمهور.

أعتقد أن الاردن صار بحاجة الى الاستثمار في محطة فضائية ثقافية عربية مهنية عالية المستوى، وتعمل ضمن معايير صارمة بعيدا عن المزاجية والشللية، وتطرح القضايا الخلافية، وتذكي المعارك الادبية بجرأة قادرة على جذب الادباء للمشاركة، ومن ثم تستقطب المشاهدين، مما يؤدي عندها الى أن تحظى نشاطاتها بالحضور الجماهيري.
رابط الاستطلاع في صحيفة الدستور

رابط الصفحة الكاملة pdf

* اللوحة بعنوان حائكة السجاد المراكشية، للرسامة الاسكتلندية الاصل ايفون أيوب.

الجمعة، يونيو 4

ترمي بشرر لعبده خال والتاريخ السري للمدينة


ترمي بشرر... لعبده خال والتاريخ السري للمدينة
أخطاء بالجملة وتساؤلات حول الرواية الفائزة بالبوكر
اياد نصار

حالما أذيعت نتائج الدورة الثالثة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) للعام 2010 ، والتي شكلت مفاجأة للكثيرين ، أسرعت إلى مكتبات وسط عمان لأشتري الرواية التي أعجبت لجنة التحكيم بصفحاتها الـ 416. أقبلت على الرواية في حماسة انطباعية ظاهرة لكونها الفائزة أولاً ، واستناداً لمعاينة أولية للنواحي الأسلوبية السردية وبنية الرواية ثانياً ، ولكني وبعد أن فرغت من قراءة الرواية ، وجدت نفسي محتاراً إلى الآن في معرفة الأسباب التي بنت اللجنة أحكامها عليها، وتسعى المقالة إلى الغوص في أعماق الرواية ، في بحث عن إجابة للسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: لماذا "ترمي بشر..." بالذات؟ وبقدر ما تسعى هذه المقالة أن تكون موضوعية ومتوازنة في عرض الرواية ، فانها في الوقت نفسه تعرض لجوانب فيها تنطوي برأيي على مشكلات سردية ولغوية ، لتطرح تساؤلاً حول المعايير التي اعتمدتها لجنة الجائزة في الاختيار.

تبدأ الرواية إيقاعها السردي منذ الغلاف، فالإهداء ليس ، كما جرت العادة ، من لدن المؤلف ، بل على لسان الراوي وأحد "أبطال" الرواية ، الذي يقدمه إلى "هنو" ، أو تهاني ، التي سلبها براءتها ، وأرسلها إلى الموت. يبدأ الراوي كلمات إهدائه الأولى بالحديث ضمناً عن الاعتراف والاعتذار إلى الضحايا الذين ارتكب بحقهم الآثام ، ولكننا نكتشف ، في ما بعد ، أن الاعتذار لم يكن بحجم هول الظلم ، وانتهاك كرامة الإنسان ، واستغلال المرأة واستباحة وجودها ، وكذلك الخيانة ، والشهوة ، وطغيان النفوذ وسطوة الثروة ، و"البوح القذر" ، كما يسميه ، وهذه محاور الرواية الأساسية.

بنية الرواية فريدة من نوعها: تتكون من جزء روائي طويل مألوف يقوم على توظيف تعدد الأصوات في إطار ضيق للغاية ، بالإضافة إلى عدة نصوص قصيرة مختلفة في طبيعتها ملحقة به، وتعد جزءاً لا يتجزأ من بنيتها. تبدأ الرواية من داخل أحد قصور مدينة جدة ، الذي يصبح تجسيداً لعالم غامض شرير قذر. وإذا كان من المفروض أن يمثل ما يجري في القصر عالم الحياة ، فاننا نكتشف أن هذا العالم الذي يشغل معظم صفحات الرواية ، هو في حقيقته عالم القهر والموت السفلي ، حيث تجري كل فظائع الانتقام والشهوة والتعذيب. ويلاحظ القارئ أن هذا الجزء الروائي ينتهى بالمقطع ذاته الذي ورد في متن بدايته ، وتحديداً في ما سمّاه المؤلف عتبة أولى. "قراري بقتل السيد نضج تماماً ، لقد مضى زمن طويل ، وأنا أحمل جثته في مخيلتي ، ولا أعرف كيف أواريها ، فحينما آوي إلى فراشي أستجلب النوم بخيالات مقتله ، وفي كل ليلة أقتله بطريقة مغايرة عن الليلة السابقة ، آه كم هي المسافة بعيدة بين الواقع والخيال". وتلي هذا الجزء الذي يشكل أغلب جسم الرواية عدة من إضافات تعد تكملة له وجزءاً أساسياً من الرواية ، حتى ولو كتب المؤلف في نهاية الصفحة 379 انتهت بتاريخ 1 ـ 1 ـ 2009 ، غير أن هذا من التقنيات الأسلوبية التي وظفها بما يخرج الرواية عن الشكل الكلاسيكي المألوف.

تتكون الرواية التي يجري أغلب أحداثها في القصر من عتبة أولى وثانية. وقد أضاف المؤلف إلى الرواية فصلاً قصيراً سمّاه البرزخ ويقع في ست صفحات ، وقد قسمه إلى مقطعين ، الأول بعنوان "هياكل لأحداث ميتة لم تستوعبها حياة السرد" ، والثاني بعنوان "مقطع من جلسة سبقت كتابة هذا السرد". ويلي ذلك مقتطفات من مانشيتات وعناوين صحفية سعودية عن أبطال الرواية أو أحداثها. وتبدو من الوهلة الأولى أنها مقتطفات صحفية حقيقية تستند إلى وقائع فعلية ، ولكننا نكتشف أن فيها نوعاً من ايهام القارئ ، وأنها جزء أصيل من النص الروائي.

وتنير هذه المقتطفات الصحفية عالم الرواية ، ففيها اسقاطات من زاوية أخرى ، كانما تقدم التفسير السري المغّيب لكثير من الأحداث التي تسوّق على أنها لصالح المجتمع ، بينما تكمن خلفها مؤامرات ، تكشف أنها ليست سوى لعبة لمصلحة فئة متنفذة. ومن ناحية فنية ، فانها جزء من توظيف وسائط الاتصال المختلفة في العمل الروائي ، وشبيه بما تم من إيراد نص رسالة بهيئتها كما كتبتها صاحبتها. تفصح الرسالة عن اسم الراوي لأول مرة في الصفحة 88، حيث نرى رسالة تهاني إلى حبيبها بشكل حروفها كما كتبتها وبرسوماتها العاطفية المراهقة.

وهناك فصل للتعريف بنساء القصر أو بالأحرى ، الحريم اللواتي وقعن ضحايا المجتمع ، ووهم محاولتهن البحث عن الخلاص من خلال الجسد ، فانتهى بهن المطاف خادمات لمتعة الرجل في القصر ، ويشتمل هذا الجزء على نبذة مختصرة عن كل واحدة منهن ، مع صورة بالنقاب الأسود للدلالة على فقدان الذات ، مجرد جسد أنثوي بلا هوية ، ليس أكثر من تجسيد للفتنة والجنس في قصر الحريم، يلي ذلك في خاتمة الرواية فصلان قصيران يعيدان إلى الأذهان أسلوب كتب التاريخ العربية القديمة ، بعنوانيهما: "ثم دخلت سنة 1428 هـ وحدثت فيها الأحداث العابرة والغائرة" ، و"ثم دخلت سنة 1429هـ". يرسم هذان الفصلان أفق النهاية في حياة أبرز الشخوص ، مما يكمل الصورة الكلية في ذهن القارئ.

وبالإضافة إلى دلالتها اللغوية ، فان تقسيم الرواية إلى الأجزاء المذكورة ، وخاصة "عتبة" الرواية الأولى ، توحي بأن القارئ يوشك أن يدخل قصراً أو سرداباً أو قبراً أو مرحلة فارقة من الزمن. وتصدمنا عبارة الراوي التي يستهل بها حديثه "خسئت روحي ، فأنزلقت للإجرام بخطى واثقة" بهذا الاعتراف المدوي الذي يدل على مدى العذاب الذي يرزح تحته حتى أفضى بهذا التصريح ، وفي الوقت ذاته يدل على مدى انحطاط الإنسان وسقوطه ، ولكنها بداية تنذر باعتراف خطير ينم عن ضعف يصدر عن بقايا إنسان. وحينما نشرع في الرواية نجد أننا ندخل من العتبة إلى مستويات مختلفة من الدلالات: ندخل إلى القصر الذي يرمز إلى مطلق السلطة والثراء والنفوذ والعزلة عن عامة الناس ، وإلى سرداب الظلم وممارسات التعذيب والجحيم السفلي التي تمتهن كرامة الإنسان ، وإلى قبر كبير تموت بداخله كل مظاهر الحياة الحقيقية ، وقد رأينا فيه نهاية العديد من الشخوص لأسباب مختلفة ، وندخل أيضا إلى مرحلة فارقة من تاريخ المدينة ما قبل القصر وما بعده.

تضع العتبة مسرح الأحداث وزمانه. قصر لسيد يمتلك عدة من قصور على شاطيء مدينة جدة يمارس السادية وامتهان الكرامة والتشفي بالآخرين من خلال شخص وضيع يدعى طارق فاضل ، أو الراوي ، كل قيمته أنه فحل يستطيع فعل اللواط بالرجال خصوم السيد الذين يأمره بتعذيبهم وتوثيق تعذيبهم بالصور كي يضمن سكوتهم. "في معظم الأوقات أكون داخل القصر آلة عديمة الجدوى حتى إذا جلب السيد ضحيته غدوت المفتاح الضائع الذي يخرج كل من بداخل القصر للبحث عنه". ص8.

تتسم لغة السرد التي تعكس ذهنية الراوي المضطربة والمشوشة تحت واقع العذاب النفسي والصراع الداخلي الذي يمر به بالإفراط في تقديم تحليلات نفسية فلسفية يغلب عليها جو الكآبة والتشاؤم وفلسفة الموت التي لا ترى في الإنسان سوى مستودع للقذارة والشر. ويفاجأنا الراوي بهذه القدرة المذهلة على النظر إلى كل حدث بمنظار تحليلي فلسفي كأنه فيلسوف وجودي، تعززها رغبته المفرطة في تقديم نظرات تأملية للحياة ومصير الإنسان ، رغم أنه لم يتوفر على قدر من التعلم أو الثقافة ، فهو كان مجرد طالب في زمرة أشقياء، نجح بالصدفة وهرب من بيته ودخل القصر وصار جلاد السيد في تعذيب ضحاياه ، ولم يذكر مرة واحدة أن له علاقة بالقراءة والكتب ، أو تفسير ولعه بتحليل الأحداث على هذا النحو التأملي. لم يكن الراوي مقنعا في هذا الجانب ، وخصوصاً أن كل هذا الكم الهائل من التعليقات والتحليلات الفلسفية التي تقحمها الرواية مع كل حدث مهما كان بسيطا على مدى الصفحات جميعها لم تقدم في نهاية المطاف رؤية متكاملة ، بل بقيت انطباعات وتحليلات مجزوءة ، كانها لازمة فنية أقحمها عبده خال لإعطاء الرواية بعداً فلسفياً ونفسياً.

هناك تكرار واضح في الوصف للشيء ذاته بشكل غير مبرر ، ويبدو لي أن الانقطاع في كتابة صفحات الرواية وعدم مراجعة ما كتب كان يؤدي إلى إعادة التعبير نفسه أكثر من مرة. يقول مثلاً في وصف مصابيح القصر: "يزداد بهاء القصر ليلاً حين تسرج مئات المصابيح الكهربائية ، فتثير تحدياً حامياً بين صبيان الحي ليخرجوا متراهنين أيهم أقدر على إحصاء تلك المصابيح ، وغالباً ما يفشل المتراهنون حيث تكون نتيجة العدد متفاوتة" ص 29، في حين نجده يعيد الشيء ذاته في ص 31 "وكما نخرج نهاراً لرؤية سيد القصر ، كنا نخرج ليلاً نتطلع لأنوار القصر المشعة في كل الاتجاهات ، ونتراهن على إحصاء المصابيح المختلفة الألوان والأحجام ، ومع عجزنا عن بلوغ إحصائها تراخى رهاننا".

هناك تداخل وتكرار في السرد بشكل ملفت للنظر ، ما يؤدي إلى الملل ، فالراوي يذكر الأحداث ثم يعود اليها مرة أخرى ويكررها أو يضيف اليها أشياء جديدة غير ذات قيمة ، ولكن القصة الأساس تبقى هي ذاتها. وقد حدث ذلك في عدة مواضع. فمثلاً ، قصة زواج وليد الخنبشي من مرام ذكرت عدة من مرات في أزمان مختلفة. أما التكرار الأكثر وضوحاً فكان قصة مرام منذ أن وجدت نفسها يتيمة في هذه الدنيا ، وما مر بها من أحداث ورجال غيروا مسار حياتها ، وفي المقابل غيرت مسار حياتهم بشكل دراماتيكي كعيسى الرديني.

في الصفحة 109 من الراوية نلحظ أن هناك أنقطاعاً قسريا مفاجئاً في السرد ، وتحويلا لمجراه دون مقدمات للحديث عن والد الراوي ومهنته. تسبر الصفحات التي تسبق ذلك التحول المفاجئ غور الكراهية بين خيرية عمة الراوي وأمه سنية ، وتعرج على اصل عائلة الأم وعائلة الأب ، في محاولة لتهيئة القارئ ليفهم أسباب العداء الراسخ بينهما ، والذي كان طيلة الفترة الماضية من السرد من دون سبب ظاهر يبرر حصوله قبل معرفة التفاصيل. وأعتقد أن السرد لم يكن موفقاً كثيراً عند هذه النقطة من تطور الأحداث حينما أقحم موضوع الأب فجأة.

لم يكن التنويع في لغة السرد من خلال تقنية تعدد الأصوات واضحاً ، بل استمرت اللغة السردية على وتيرة واحدة. كما لم يكن توظيف الأصوات الأخرى باعتقادي ناجحاً ، فتوظيفها تم بشكل ضيق جداً لإنقاذ السرد من أزمة تغطية الحدث من زاوية تاريخية ماضية ، حيث إن هذه الأصوات قليلة وقصيرة للغاية تظهر فجأة لملء الثقوب في السرد. يروي الرواية كلها طارق فاضل ، باستثناء فصلين قصيرين يرويهما أسامة البشري ومرام. يروي أسامة في الأول تفاصيل قتل تهاني ـ الفتاة التي سلبها الراوي عذريتها ـ على يد أبيها ودفنها سراً ، ووفاة أبيها بعد عشرين عاماً وبوحه بالسر وهو على فراش الموت.

تبدو الراوية المتعلقة بقتل تهاني كما يرويها ابن خالتها وكتم خبر مقتلها مفتعلة ، بل إن الصوت نفسه يبدو مقحماً ليسرد علينا القصة الحقيقية لغياب تهاني عن ساحة الأحداث. وتبدو الحكاية التي اخترعها أبوها صالح خيبري عندما أخبر أمها أنه وجد اللص الذي اعتدى عليها وزوّجها له كي لا تنتشر الفضيحة مفتعلة. فهل يعقل أن الأم نسيت ابنتها بكل بساطة مدة عشرين عاماً متزوجة من شخص غريب لا تعرفه ولم ترها خلالها؟ أما الرواية الحقيقية فتبدو غير مقنعة ومفتعلة أكثر. فقد رحل بها أبوها إلى قريته وقتلها في اليوم التالي لوصوله رغم أن في القرية أعمامها وأبناء أعمامها ، وكلهم صدقوا خبر موتها ، بل والأدهى أنهم كلهم سكتوا على خبر موتها عندما أخبرهم أنها تحشرجت بالاكل وماتت وطلب منهم ألا يخبروا أمها المريضة. ولكن هل يعقل أن الأقارب أخفوا خبر موتها عن أمها عشرين عاماً؟ وهل يعقل أنهم لم يتصلوا بصالح خيبري طيلة هذه المدة ، ولم يروا أهل بيته؟

مما يثير الاستغراب هذا الكم الكبير من الأخطاء المعرفية والطباعية والنحوية التي حفلت بها الرواية ، خاصة أنه مطبوع على زاوية غلافها بالأحمر "طبعة جديدة" ، ما يلقي ، باعتقادي ، بظلال الشك على مسألة جدارة الفوز ، كما يثير التساؤل حول طبيعة المعايير التي راعتها اللجنة في اختيار العمل الفائز. وإذا لم يكن لكل هذه الأخطاء الواردة في الرواية أي تأثير على قيمتها الإبداعية والفنية ، فهل يقبل من جائزة لها هذه المكانة ألا تراعي معايير سلامة اللغة وجودة العمل المقدم وخلوه من الأخطاء؟ أعتقد أن جمالية الشكل والأسلوب واللغة الفنية العالية لا تقل أهمية عن المضمون ، بل إن ما يميز الإبداع عن التقرير هو هذه الجماليات والأساليب اللغوية والفنية. وقد أوردت هذه الأخطاء وتغاضيت عن عدد آخر من الأخطاء الاخرى ، كي لا تتحول المقالة إلى مجرد سرد بالأخطاء. واذا كانت الطبعة الأولى الجديدة الصادرة عن دار الجمل فيها كل هذه الأخطاء ، فكيف كان حال الطبعة الأصلية؟

هناك أخطاء في أسماء الشخصيات ، ففي الصفحة رقم 11 يرد اسم عيسى الدريني الذي حمى الراوي من التعرض لتحرش جنسي وهو صغير ، ولكنه حين يذكره مرة أخرى ابتداءً من صفحة 31 عندما هرب من الحارة يصبح عيسى الرديني، ويذكر حارس بوابة القصر أول مرة في ص 33 بإسم حمدان غبيني ، وحينما يورد اسمه بعد ذلك يصبح حمدان الغبيني، وفي الصفحة قبل الأخيرة من الرواية 415 يصبح اسمه حمدان البغيني، أما محمد الركابي ، الذي كان يعذب ضحايا والد السيد وقد شاخ فطرده سيد القصر بطريقة مهينة ، فيرد اسمه عدة من مرات هكذا ، ولكنه في ص 43 يصبح محمد الركيبي.

وهناك أخطاء نحوية مثل "يعظ أصابع الندم" ص 34 ، و"لم يكن يدر (بدلاً من يدور) بخلد بعضهم.." ص ,34 وفي بداية الصفحة 61 يقول الراوي "غدت حكايات وأخبار الأعمال المنهمكين بتسوير الشاطيء..". بدلاً من العمال. وفي ص 116 كتب "يخبىء نجمة في نافذة ما ، ويوقد ضوأها بلوعة العمر الغض" ، بدلاً من ضوءها. كما لا تخلو الرواية من لغة أكلوني البراغيث: "وجلسوا رجالاته لتقديم العزاء لأسرتها" ص ,119 وفي الصفحتين 129 ، 137 نقرأ ما يلي على التوالي" يا أخي استحم وارتدي أفضل ما عندك" ، و"لم تواتيني الجرأة.." بدلاً من وارتدِ، وتواتني على التوالي. وسقطت كلمة حصان من العبارة "خطف لعبة خشبي كانت تلعب بها" ص 142 وفي 147 ص استخدم كلمة سوداوتان لوصف العينين بدلاً من سوداوان. وفي العبارة على لسان خيرية في ص :162 "ما دمتم أنت في الوجود". بدلاً من دمت. وفي ص 165 تجده يقول "يفوق من ارتشاف خمرته" بدلاً من كلمة يفيق.

وفي ص 238 يستخدم خبر إن منصوباً بدلاً من الرفع "فتيقن أن حكمك على الاشياء صائباً حتى اذا هويت". في صفحة 289 أورد خطأ كلمة طالباً في الجملة التالية ، والأصل أن تكون طالبة: "ورفعت سماعة الهاتف طالباً من نادل الفندق إحضار فطور يكفي لشخصين". وفي ص 315 نقرأ "لم يحضره الا القلة القلية" بدلاً من القلة القليلة. ونرى أن فعل الأمر المسبوق بلا الناهية (تخش) لم يجزم بحذف حرف العلة من آخره ، فبقي كما هو "اسمع ، لا تخشى من شيء"، ص 363 ، وفي الجملة نفسها صار الفاعل منصوباً بقدرة قادر "فما دمت تسلك الطرق الآمنة فلن يصلك شيئاً"، وفي ص 391 كُتب الفعل "انهار" في الجملة "فنهار انهياراً يوازي الخسائر" هكذا "فنهار" ص 391، وفي الجملة التي تتحدث عن خروج تسع من نساء القصر "وقد غادرن القصر لكبر سنهما ، وبقيت بعضهن". بدلاً من "لكبر سنهن" ص 409، وفي ص 413 تحولت كلمة متيقن إلى ميقن في الجملة: "أصيب - في آخر أيامه - بحالة قلق مرضية جعلته غير ميقن من أي شيء". وفي ص 414 هناك خطأ في كلمة صحيحة في الجملة: "اتهمت بأنها تدعو لعقيدة غير صحيحية". وفي الصفحة ذاتها نقرأ: "نهى ونهلة أختا تهاني تجاوزا الثلاثين" بدلاً من تجاوزتا، وفي ص 415 كتب انتقل إلى جوار بيت الله الحرام تائباً من مما اقترفته لسانه"، ونلاحظ الخطأ في قوله "من مما" ، وفي قوله أيضاً "اقترفته لسانه" بدلا من "اقترفه".

تقدم الرواية وبخط موازْ من خلال سرد الأحداث معاناة الراوي وقلقه النفسي وعذابه وصراعه الداخلي ، حيث لا يستطيع فكاكاً من هذه الوظيفة خشية انتقام السيد منه ، فيشعر أنه يشارك الضحية عذابها واحتراقها وسقوطها نحو الهاوية. وفي إحدى لحظات صحوة الضمير القليلة التي لم تكن تكتمل ، بل تقف عند مجرد الشكوى من الواقع وقذارته ، والحنين إلى الماضي قبل أن تتلوث أرواحهم بدناءة جو القصر ، يسأل أسامة البشري الراوي: "من يعيدنا للفطرة الأولى؟ ، فيجيبه الراوي: "نحن نتلوث كلما أوغلنا في الحياة ، في كل خطوة نقطعها تتمرغ أرواحنا بدناسة الأرض ، هذه الأرض المعجونة بوحل الرغبات لا تسلمنا لنهاية الطريق إلا كومة زبالة نتنة" ص 119

يظهر مدى الجهد الروائي القائم على توظيف تقنيات السرد الحديث من خلال التنقل بين العوالم الداخلية والخارجية للشخوص والأمكنة ، وتوظيف الرموز ، والمفارقة بين الظاهر والباطن للأشياء ، ودرجة التلامس بين الشخصيات القائم على الصراع والكراهية والاستعباد والاستغلال ، والخضوع المطلق للشر في داخل الإنسان ، والأفكار المثيرة للجدل دينياً واجتماعياً ، وتحدي التابوهات الدينية والسياسية والقفز عن أسوارها العالية ، وتلوينات الحالات النفسية ، ورصد التحولات الاجتماعية المغذية لحركية الرواية ، والتعبير عن الأوهام والخلجات النفسية والتأويلات الفلسفية بلغة تنقل هواجس العالم الجواني للشخصيات.

تعتمد الرواية كثيراً على توظيف تقنية المفارقة ، والتناقض بين الظاهر والباطن. سكان القصر يتمنون الهروب منه لأنه صار الجحيم بالنسبة لهم ، بينما يتمنى سكان الحي دخول القصر. ومن المفارقة أن الناس سموا الحي باسم حي القصر في حين أنه كان يعرف باسم حي الحفرة ، أو جهنم أو النار. وفي لحظة إدراك عالية أن حياته في القصر ليست سوى ضياع وعبث ، يشير الراوي إلى القصر على أنه الجنة التي دخلها من غير روية ، ويتوق الآن إلى النار، أطلق حمدان الغبيني حارس البوابة تسمية الجنة على الجهة الغربية من المدينة حيث القصر ، والنار على شرقها البائس ، ودعا أهلها إلى استخدام هذه التسميات علها تصل المسؤولين فتكون رسالة ذات مغزى. وفي نهاية الرواية يعود حمدان بعد أن صار كبيراً في السن إلى عكس التسميات، دعا إلى تغيير اسم حي الحفرة "جهنم" إلى حي الجنة ، لأن جهنم ترمي بشرر كالقصر - من هنا جاءت تسمية الرواية ، ولكن لم يحفل باقتراحه أحد.

وتظهر المفارقة واضحة في شخصية صاحب القصر أو السيد كما ينادونه. وتجسد ملامح شخصيته مزيجاً من المتناقضات ، فهو صاحب نزوات غريبة. ذو طبيعة انتقامية بوليسية لا تثق في أحد. ملأ القصر والسيارات وبيوت العاملين معه سراً بآلات مراقبة ، مهووس بالنساء والسلطة والتشفي بالآخرين وإيقاع العذاب بخصومه ، سادي غريب الأطوار. كرس حياته للمتعة وكلما نال واحدة بحث عن أخرى. ينظر إلى نفسه على أنه ملاك هبط ليمسح عذابات أهل الأرض ، في حين أنه جعل من القصر قفصاً لعشرات النساء البائسات ممن لم يجدن سوى طريق الجنس للبقاء.

يعد الجنس محوراً مهماً من محاور الرواية. وتنتقد الرواية بلغة غير مسبوقة في الرواية السعودية ممارسات استغلال النساء ، واعتبار الرجولة مسألة تتعلق بالجنس والفحولة. وكل قصص الحب التي تقدمها تنطوي على الجنس الذي يعصف بها ، ويحولها إلى مقابر للروح. ويعتقد الراوي أن الفحولة الجنسية هي سبب تمدد الحي ونموه بسرعة ، فقد صار الرجال يتباهون بها من خلال تعدد الزوجات ، في نقد لمجتمع يقوم على ثقافة الجنس ، والشهوة ، والرغبة التي يغلفها بمسميات مختلفة.

تنطوي الرواية على نقد اجتماعي مكثف للكثير من ممارسات الزواج عندما تصبح المسألة مساومة وابتزازاً وفوزاً لمن يدفع أكثر ، مثل قصة زواج رجل كبير في السن على حافة القبر "أبو مشرط" من فتاة صغيرة اسمها سميرة ، والذي أغرى أهلها بعرض مالي لم يقدروا على رده. وفي سخرية رمزية مريرة ، يفشل أبو مشرط في الوصول إلى اثبات فحولته ، ولكنه ينقل اليها جرثومة مرض الجذام، فتموت سميرة بعد أسبوعين. وهكذا يصبح الزواج المعادل الموضوعي لموتها ملوثة بقذارة الرجل والمجتمع.

تنتقد الرواية جرائم الشرف بجرأة حيث تعتبر أن كل أنواع الفض مقبولة بل وخير عميم إلا ذلك الشيء المقصود. "ولا يسقط الشرف بخرق وافتضاض الوعود ، والمواثيق ، أو بخيانة الامانة ، أو السرقة ، أو الرشوة ، هذا الافتضاض الهائل ، لا ينال حظوة إسقاط الشرف ، كما تفعل طفقة دم تنسل كخيط زهري من فرج فتاة"، ص 125.

وبرغم انغماس الراوي في جو قذر من استغلال المرأة والرجل على السواء ، فإنه يحلل طبيعة هذه العلاقة بشكل جميل ، ويتعاطف مع النساء الضحايا. ولكنها قليلة جدا هي النماذج التي حافظ على نظرة إنسانية تجاهها. تنم نظرته عن احتقار للمرأة من خلال نماذجها المختلفة التي سقطت في مخططات القصر. بل إن موقفه من غيرهن مثل عمته خيرية ، وحتى أمه لم يكن بأفضل من نساء القصر. "وهل فعلا اقتصيت لأمي ، أم اقتصيت من النساء مجتمعات في صورة عمتي بتقطيع أجزاء منها ، أو في تهاني بهتك عذريتها ، أو أمي بنسيانها ، أو بإتيان الرجال كاكتفاء وعدم الحاجة للمرأة؟" ص 237.

تحكي الرواية قصة نشوء مدينة جدة من أحياء صغيرة مكتظة فقيرة في الأربعينيات والخمسينيات إلى ما صارت عليه الآن ، والاستيلاء على الشاطىء من المتنفذين أمثال صاحب القصر ، وشعور قطاع كبير من الناس بالتهميش ، كالصيادين الذي فقدوا بحرهم الذي كانوا يصطادون فيه. يسأل الصياد حامد أبو جلمبو: "متى سيسرقون آخر موجة من البحر؟" ص 51، حاول حامد الاعتراض على الالات التي كانت تردم شاطيء البحر لتقيم عليها المباني الإسمنتية وخاصة حينما أرادت أن تردم مرسى قاربه الصغير ، فأصيب ووقع ميتاً ولم يثر موته انتباه أحد.

للقصر قيمة رمزية وعلامة فاصلة في تاريخ المدينة ، فيقولون عن أية حادثة حدثت قبل بناء القصر ، أو بعده. "في حارة الحفرة تاريخ سري تواطأ الجميع على كتابته" ص 139، توظف الرواية الرمز في حركات البحر والنسيم والهواء لتشير إلى تأثير القصر الطاغي على مستقبل المدينة ، فهو يمنع بواجهته الكبيرة وصول نسيم البحر إلى الأحياء ، فيشعر السكان بالضيق. فكأنما لا يستعبد القصر الناس في داخله وحسب ، بل يستعبد المدينة بكاملها ، في إشارة إلى عبودية الإنسان والمكان.

* نشرت في الملحق الثقافي في جريدة الدستور ليوم الجمعة الموافق 4/6/2010

رابط المقالة بموقع الجريدة

رابط الصفحة الكاملة pdf