السبت، يونيو 14

الندّان

الندّان

قصة: مارتن ارمسترونج
ترجمة وتقديم: اياد نصار

ولد كاتب القصة الانجليزي مارتن ارمسترونج في عام 1882 وتوفي عام 1974. كان شاعرا وقاصا وقد درس في جامعة كامبردج. وقد خدم خلال الحرب العالمية الاولى مع الجيش الانجليزي في فرنسا. وقد تزوج من الكاتبة الكندية جيسي مكدونالد. وقد أصدر عددا كبيرا من الدواوين الشعرية كان أولها "الخروج" عام 1912 كما أصدر ثماني مجموعات قصصية كان أولها مجموعته المعنونة "مسرح الدمى" في عام 1922. كما أصدر روايتين بعنوان " حضن المحب" و" الافاعي في العشب" . وبعد دراسته فقد مارس الصحافة اضافة الى الكتابة الابداعية.

تطرح القصة عدة محاور وأفكار رئيسية من خلال الحوار الذي يجري بين الندّين المتنافسين وهما معا في عربة قطار مسافر. ويبدو من الحوار أن الكاتب قد وظف لغة تشد انتباه القاريء من خلال توظيف بارع للغة في خلق حوار يمتاز بالمفاجآت. ويتضح من خلال براعته في تجسيد الشخصيات ان الصورة الذكية التي يعززها السيد كروثر عن نفسه في مقابل نزق السيد هارابي ليست كما هي فعلا. اذ يبدو في النهاية أن هارابي ليس كما حاول هو أن يقدم نفسه او كما نراه بعيون السيد كروثر، بل كان يتعمد تقديم نفسه على هذه الشاكلة. ولكنه في الحقيقة رجل في غاية الذكاء بشكل يفوق تصنع السيد كروثر. يبدو واضحا نقد الكاتب بشكل ساخر للاسلوب الانجليزي الاجتماعي الذي يتميز بالبرود والبعد عن الاهتمام بخلق تواصل اجتماعي مع الاخرين أو ابداء الاهتمام بمشاكلهم. فقد اوحى السيد هارابي ان رمى الحقيبة من نافذة القطار كان بهدف لفت انتباه رفيقه لكي يكون بالامكان بدء الحوار بينهما!! كما تطرح القصة موضوع العلاقات الزوجية في اسلوب ساخر حيث تصور موقف الصراع الدائم باسلوب مضحك بين الرجل والمرأة الذي يسعى كل طرف من خلاله أن يعزز دوره واستقلاليته. كما تطرح موضوع حاجة الانسان للتواصل مع الاخرين وابتكار الوسائل المختلفة حتى الغريب منها لتحقيق هذه الحاجة. وتؤكد على معاناة الانسان النفسية عند شعوره بأنه وحيد ومنعزل عن الاخرين.

القصة:
كان ما يزال امام القطار ثلاثة أرباع الساعة كي يصل الى محطته المقصودة، وكان يسير مسرعا بسرعة ستين ميلاً في الساعة عندما نهض السيد هارابي ربستون وهو رجل أعمال ثري من مقعده وسحب حقيبته عن الرف ورمى بها الى خارج النافذة. فرفع الراكب الاخر الوحيد في العربة وهو السيد كروثر عينيه من كتاب كان يقرأ فيه، وشاهد ما حدث. كان السيد كروثر رجلا صغيراً نحيلاً. تبادل الرجلان نظرة حادة ولكن سرعان ما استأنف السيد كروثر القراءة في حين أن السيد هارابي عاد الى مقعده وراح ينفث أنفاسه التي أمكن رؤيتها وهي تتصاعد لفترة من الوقت نتيجة المجهود الذي قام به. لقد ضايقته نظرة رفيقه في العربة التي رمقه بها الى أبعد الحدود.

خلت نظرة السيد كروثر من الانفعال مهما كان ضئيلا! ولم تفصح عن اي ذعر أو دهشة، ولا حتى نصيب تافه من الاهتمام. وكان ذلك بكل تأكيد في غاية الغرابة.. فثار فضول السيد هارابي حتى بلغ أشده.. وليس هذا فحسب، فقد كان بطبيعته رجلا اجتماعيا ثرثارا. كان في ظنه أن فعلته هذه سوف تفتح الباب امام تبادل الحديث دون أدنى شك، ولكن شيئا من هذا لم يحدث. وما دام الامر قد جرى كذلك فإنه لم تتح له الفرصة لتفسير تصرفه على هذه الشاكلة. وبدأ يشعر بأنه قد جعل من نفسه أحمقاً في عيون رفيقه أو لربما أسوا من ذلك. فلعل رفيقه ظن بأن الحقيبة كان بداخلها جثة، وفي هذه الحالة فلربما أخبر الشرطة بذلك عندما يصلان الى وجهتهما المقصودة. وستتوالى عليه آنئذ كل ضروب المشاكل والتحقيقات المذلة. هذه كانت التخمينات والظنون التي ألمت بالسيد هارابي وسلبته الطمأنينة والارتياح اللذين يستحقهما.

أما السيد كروثر فقد عانى من جانبه من تشتت الذهن. فبالرغم من أنه كان يتظاهر بالقراءة الا أنه في الواقع لم يكن قادرا على ذلك. وبرغم ما بدا عنه من اللامبالاة الا أن منظر سيد ثري يقذف بحقيبة من النافذة من قطار سائر قد أدهشه الى حد كبير لكنه لم يفصح عن دهشته. ومن الواضح أن رفيقه كان يخطط لردة فعل عنيفة من جانبه. وهكذا فقد آثر السيد كروثر التزام السكون. وسواءاً أكان الامر مزحة أم لا، فان السيد كروثر اعتبره انتهاكا لا مبرر له لعزلته. لقد بدا الامر كما لو أن الرجل قد فرقع كيساً من الورق على أمل أن يجعله يقفز من جفلة من مكانه. ولكن بكل الاحوال، فانه لم يكن ليقفز! وما كان سيكترث بشيء من هذا القبيل. وان تخيل الرجل أن قذف حقيبة من النافذة سوف يضفي على نفسه شيئا من الاهمية فإنه بلا ريب كان مخطئاً.

لكن السيد هارابي قد بلغ به الامر حداً فإما أن يتكلم أو أن ينفجر. ولكنه فضل الخيار الاول! فقال: " معذرة يا سيدي لكنني أجد نفسي مضطراً للقول بأنك تدهشني". رفع السيد كروثر عينيه عن الكتاب الذي كان معه ونظر نظرة فاترة وقال: "أدهشك؟ هل القراءة في القطار تدهشك؟" رد السيد هارابي: " كلا، كلا. لم أكن أقصد ذلك. الذي يدهشني هو أنك لم تدهش عندما رميت حقيبتي خارج النافذة".
- أحقاً؟ أهذا ما أدهشك؟ ما أسرع دهشتك.
- لست أدري بشأن ذلك، فبالتأكيد يا عزيزي أنه كان أقل ما يمكن القول عنه منظراً غريباً. واراهن بأنه لم يسبق لك من قبل أن شاهدت رجلا يرمي حقيبة من نافذة قطار متحرك. فأجاب السيد كروثر: " لا أذكر أنني شاهدت ذلك. لكن إن لم تخني الذاكرة في هذا السياق لم أر قط رجلا يأكل لفتا نيئاً في القطار أو يرقص أثناء تأدية أدعية المائدة. لكن ما الغرابة في ذلك؟ فاذا سمح المرء لنفسه أن يندهش من أي شيء مهما كان تافها فإن حياته كلها ستصبح سلسلة من المفاجآت التافهة.
- وأنت تعتقد أنه عمل تافه أن يرمي أحدهم حقيبته من نافذة عربة قطار؟ رد السيد كروثر: تماما! وارتدت عيناه مرة أخرى الى صفحات كتابه.
قال الرجل الاخر وقد بدا مغتاظاً بعض الشيء: اذن فما الذي، ان سمحت لي بالسؤال، تعتبره عملاً مهماً؟
هز السيد كروثر كتفيه استهجانا بضجر وقال: ربما كنت سأظنه مهما لو كانت الحقيبة حقيبتي.
- فهمت. انك تعتبر نفسك أكثر أهمية مني.
- لا أذكر أنني ذكرت نفسي. لكنني بكل تأكيد أعتبر حقيبتي أكثر أهمية من حقيبتك. وأنا لا أقصد بذلك نوعية الجلد. ولكن حقيقة أنها لي في حين أنك غريب تماما عني فحسب.
- وشؤون الغرباء لا تثير اهتمامك.
- فقط بمقدار ما تمس شؤوني.
-حسنا. قال السيد هارابي: لا بد أنني ظننت عندما رميت حقيبتي من النافذة ان ذلك كان بالكاد سيخفق في أن يمس...
رد السيد كروثر ببرود: أبداُ!
فعلق السيد هارابي: ان ذلك يظهر كيف يختلف الناس. فلو أنك رميت حقيبتك من النافذة لكنت في غاية الفضول كي أعرف لماذا فعلت ذلك. أجاب السيد كروثر بتجرد تام: استشف من ذلك أنك تواق لأن تخبرني لماذا فعلت ذلك.
- لست كذلك ان لم تكن تثير اهتمامك، على الرغم من أنه، وأنا مضطر لقول ذلك، يصعب علي التصديق أن أحدا يمكنه الا يجد ذلك مثيرا للاهتمام.

وتوقف عن الكلام للحظات لكن السيد كروثر لم ينبس ببنت شفة. بل على العكس من ذلك فقد أظهر كل أمارات الاستغراق في القراءة مرة أخرى. وللحيلولة دون ذلك فقد اتكأ السيد هارابي للخلف في مقعده وشرع في سرد قصته:

حقيقة الامر أنني قد هجرت للتو، منذ ساعة ونصف، بيتي وزوجتي، وهانذا أبدأ حياة جديدة. والسبب الذي رميت من أجله حقيبتي من النافذة منذ لحظات هو أنني أدركت فجأة أنني كنت أحمل فيها معي شيئا من حياتي الماضية. ملابس وفراشي شعر وسواها وكلها لها ذكريات. والذكريات هي بعينها ما أريد الخلاص منه، ومن هنا جاء تصرفي غير المألوف. أنني أعترف أنني لست شاباً. انني رجل في حوالي الخمسين، وقد مضى على زواجي واحد وعشرون عاماً ومع ذلك فهآنذا ابدأ حياة جديدة. حقا، قد يبدو لك ذلك عملا في غاية الغرابة.
- "على العكس" قال السيد كروثر وأضاف: ليس هنالك ما هو طبيعي أكثر من ذلك. ويبدو أن الجواب قد فاجأ السيد هارابي.
- طبيعي؟ أنت تعتقد أنه طبيعي؟ لا بد لي من القول أنك تدهشني. فقال السيد كروثر: تبدو لي رجلا ميالا للدهشة كثيراً.
فرد السيد هارابي بنزق على نحو لاذع: في حين أنك، كما أفترض، تفتخر بأنك لا تندهش من أي شيء.
- مطلقا. رد السيد كروثر. القصد هو، كما أعتقد، أننا نفاجأ بأمور كثيرة، فأنت تخبرني أنه قد مضى على زواجك واحد وعشرون عاما ثم تتوقع مني أن أندهش عندما أضفت انك تهجر الان زوجتك. لكنني يا عزيزي لا أجد ما يثير الدهشة في الموضوع. الذي يدهشني أنك استغرقت كل هذا الوقت كي تفعل ذلك.
ففكر السيد هارابي ربستون مليا في وجهة النظر هذه وقال: أستنتج من ذلك أنك رجل غير متزوج.
- لست الان. أجاب السيد كروثر
- ليس الان؟ أتعني أنك كنت متزوجا وأنك قد تركت زوجتك؟
- ليس تماما. فأن يترك المرء زوجته يعني أن يترك بيته. وهذا لم يكن واردا أبدا. فأنا مغرم ببيتي. انه منزل ساحر ذو حديقة ساحرة. وقد تضاعفت فتنتهما هذه الايام إذ املكهما لنفسي.
- تقصد أنك طردت زوجتك؟
- آوه.. كلا.. كلا. فهذا سينطوي على كل صنوف النكد.
- إذن ماذا؟ سأل السيد هارابي وقد ثار فضوله مرة أخرى: ماذا فعلت؟
لوح الرجل الاخر بيديه ابتهاجا وقال: هنالك اساليب أخرى.. اساليب اسهل. فقال السيد هارابي: أود أن أعرفها.
فقال السيد كروثر: لا أعتقد أن اسلوبي الخاص يناسبك.
- ولماذا لا يناسبني؟ رد السيد هارابي وهو يطفح بالفضول.
- لماذا لا يناسبك؟ حسنا. إن اسلوبي يتطلب .. ماذا عساي أقول؟ تكتم، براعة، والكثير من التخطيط الدقيق.
- وهل تظن أنني غير قادر على ذلك؟
فقال السيد كروثر: حسنا. كان يجب علي القول أن التكتم لم يكن من سماتك، ورغبتك الظاهرة في أن تبعث الدهشة في الاخرين قد، إن أردت اتباع أسلوبي، تضعك في موقف مزعج جداً.
- إنك تثير اهتمامي على نحو شديد. والآن أرجوك أخبرني ماذا فعلت.

بدا التردد على السيد كروثر، لكنه ما لبث أن عزم قراره وقال: اذا أخبرتك فأنا اثق في أنك لن تتهمني بوجود أية رغبة لدي في إثارة دهشتك. فلم يكن لدي على الدوام أدنى رغبة في أن أثير دهشة أحد. ولاحظ من فضلك أنني لم أجبرك على سماع المعلومات. فلو أنك لم تتكلم معي لكنا الان نسافر في صمت مطبق. فأنا معي كتاب يثير اهتمامي الى حد كبير. ولو أنك، اذا سمحت لي بقول ذلك، لم تجرني الى الحديث.
- تماما! تماما! قال السيد هارابي الذي بلغ به ألامر الان درجة عالية من الاثارة: أنا أقر بذلك. أقر بذلك كلياً. وأعدك بأن أبذل قصارى جهدي كيلا يبدو على أي مظهر للدهشة. فقال السيد كروثر: حسنا، ان ما فعلته كان ببساطة كالتالي، وسامحني اذا بدا لك الامر مثيرا بعض الشيء. وتذكر من فضلك أنني سوف أمقت بشدة أي مظهر للدهشة من جانبك. حسنا، وكما كنت أقول فانني وببساطة قتلت زوجتي.

لقد استقبل السيد هارابي ربستون السر المباح على نحو رائع. فصحيح أنه جفل وأصبح شاحبا قليلا، لكنه استرد أنفاسه خلال لحظات قليلة. وقال شكرا لك يا سيدي. ودعني أعبر لك عن عظيم تقديري لصراحتك. وفي الحقيقة فانك تغريني في أن ابادلك الصراحة. دعني أعترف لك ما دام الامر كذلك أنني في حقيقة الامر لم أهجر زوجتي لسبب بسيط وهو أنني أعزب. إنني أزرع الخضروات على نطاق واسع وأذهب الى لندن في سبيل أعمالي مرة كل اسبوع. أما بالنسبة للحقيبة فان لدي بعض الاصدقاء يسكنون في بيت تجاوزناه ببضعة أميال. وكل أسبوع أملأ حقيبة، (حقيبة قديمة جدا ان كنت قد لاحظت ذلك) بالخضروات وأحضرها معي وأرمي بها من نافذة العربة حينما يمر القطار ببيتهم، فتتدحرج على الجسر وتقف عند مدخل بيتهم. أعرف أنها طريقة بدائية لكنها توفر أجرة البريد، كما لا يمكنك أن تتخيل مدى الحديث الشيق الذي تثيره مع رفاقي المسافرين. وانت، ان سمحت لي بقول ذلك ، ليس استثناءاً!

هناك تعليقان (2):

  1. غير معرف12:01 ص

    اشكرك يا استاذ اياد على هذه القصة
    فهى من أجمل القصص المختارة التى قراءتها حتى الان. تمنياتى لك بالتوفيق الدائم.
    (امال)

    ردحذف
  2. شكرا جزيلا على كلماتك اللطيفة. تحياتي لك آمال على مرورك الدائم على أعمالي. أشكرك على تعليقاتك التي تنم عن تذوق ووعي بالمضامين التي تقدمها.

    ردحذف