الأربعاء، فبراير 25

الكتاب السري!


الكتاب السري!

قصة قصيرة
بقلم اياد نصار

كنت أمشي خلفه من غير أن يحس بي. اتباطأ في سيري. أدعه يبتعد قليلا. أتلهى بالتوقف. أنظر حولي. أتطلع خلفي. أمشي على الجانب الاخر من الزقاق. رأيت نار الفرن مشتعلة في التنور. ما تزال ألواح الخشب مصفوفة فوق بعضها بعضاً. ترددت قليلا خشية أن يراني. رأيت أبي يمسك العجين، يرقها بيديه، ثم يرفعها في الهواء، ويفردها على سطح البلاط أمامه. مشيت ملتصقاً بالجدار على رؤوس أصابعي كي لا يحس بوجودي. اذا رآني سأمضي المساء في الفرن. تباعدت المسافة بيني وبين خليل، خشيت أن يتوارى قبل أن ألحقه. هكذا هي عادته أن يتسلل خفية بعد العصر ليلتقي بأصدقائه. يرفض أن يصطحبني معه. كلمات حاولت الذهاب معه، يصرخ علي. يشكوني الى أبي فيمنعني من اللحاق به. أسمع محاضرة ، أقضي المساء أحمل الارغفة وأرتبها على اللوح الخشبي. صرت ألاحقه متخفيا متسللاً حتى أفاجأه بين أصحابه. يثور ويزبد، ثم لا يلبث أن يقبل بالامر الواقع! في أحيان لم يكن يقبل. تلاحقني الحجارة حتى أهرب بعيداً!


أسرعت الخطى قليلاً. دخل خليل في زقاق ضيق. ركضت خلفه. وقفت على الزاوية. لمحت ظهره قبل أن يتوارى في آخر لحظة. ذهب الي اليمين. مشيت حتى وصلت نهاية الزقاق. كانت الطريق منحدرة للاسفل وعلى جانبيها سيارات وأشجار مزروعة على الرصيف. لم أره. لقد اختفى. أسرعت نازلاً الطريق. في نهايتها درج إسمنتي. أين ذهب يا ترى؟ بيت صاحبه علوان في نهاية الدرج. نزلت الادراج مسرعاً. كانت البوابة الحديدية مغلقة. لا يمكن أن يكون دخل بهذه السرعة. وقفت محتاراً. عدت أدراجي. بقيت أبحث عنه. ولكني لم أجد له أثراً. شعرت بخيبة أمل.


في الليل عاد الى البيت. نظر الي نظرة فيها ابتسامة التشفي. وأخذ يقهقه. شعرت بالغيظ. عرفت أنه أحس بي أسير خلفه فتوّهني. قمت من مكاني وهجمت عليه. سمعت صوت الباب الحديدي يُفتح. لا بد أنه أبي. ركنت الى مكاني وكظمت غيظي وسكت، وأنا أتوعده في الغد! بقي يضحك، ويكيدني بحركات من يديه، كي يشعرني بفشل خطتي! إذا عرف أبي بالامر سيفرغ غضبه الليلة في. لا أريد أن أسمع تأنيباً، فسكت على مضض، وتوعدت داخل نفسي ألا أدعه يغيب عن عيني غداً!


خليل في السابعة عشر وأنا في الرابعة عشر. لكنه المدلل بيننا. لا أعرف لماذا يحظى بهذه المفاضلة بيننا. نحن سبعة. أربع أخوات وثلاثة صبيان. لكن أبي يفضله في المعاملة علينا، رغم أنه نادراً ما يساعده في الفرن. يستطيع خليل الخروج من الفرن في أي وقت يشاء. لا يرد له في الغالب طلباً، ويخضع لرغباته، وأمي تحنو عليه وتدلّله أكثر منا. أبي يقول إنه ولي العهد ورجل البيت في غيابه. ولكني لا أسكت. لا أطيع أوامره. يحاول أن يفرض زعامته علينا فأعارضه. صرنا كثيري المشاغبة والاقتتال! لا تعارض أخواتي وأمي تصرفاته، ويقبلن تدخله في شؤون البيت. ولكنه يخشى من أختي الكبيرة. عندما تضيق ذرعاً به لا تسكت له. تضربه وتشكوه لأبي فيأخذ نصيبه من التقريع مثلي!


في اليوم التالي عندما عدنا من المدرسة، تناولنا الغداء وأخذنا ندرس ونسوي الواجبات المدرسية. قلت لنفسي: "سأنهي قبله وأتفرغ لمراقبته بطرف عين كي لا يغافلني ويخرج من البيت". بيت متواضع في حي فقير، بالكاد إشتراه أبي بالدين قبل خمس سنوات بعد أن باع ذهب أمي. درس أبي حتى الثانوية، ولكن لم تسمح له ظروفه أن يكمل دراسته. والفرن بالكاد يسد مصروف البيت. يعطيني أبي كل يوم مصروفا للمدرسة لا يكفي لشراء شيء! ولكن قروش معدودة خير من التحديق في أيدي الاولاد! أنزل على درج طويل من الشارع الى بيتنا. أشعر أن نفسي سوف ينقطع. أبقى ألهث وألهث حتى استرد أنفاسي من جديد. في بيتنا ثلاثة غرف لكي نحيا وننام ونمارس كل رتابتنا اليومية المملة فيها. في أسفل البيت يوجد غرفة وملحقاتها تعيش فيها فتاتان من الجنس الاصفر! وأعلى السطح يوجد غرفة هي أشبه ما تكون بالخزين. غرفة ضيقة وفي سقفها سدة. ملأت أمي الغرفة بكل عدة الشتاء. صوبات الكاز وجرارها والسجاد العتيق. وملأ أبي السدة بالعدد وصناديق الخشب والكتب القديمة!


رأيت خليل يتهمم بالخروج. فعرفت أنه ينوي على شيء! كان يخرج للبوابة ثم يعود. لن يغيب هذه المرة عن ناظري.. اذا صعد الدرج سأراه! مئة درجة كفيلة أن أراه قبل أن يختفي. رن جرس الهاتف. تظاهرت بالانشغال فلم أرد. بقي يرن وأنا جالس جنبه. جاءت أمي مسرعة من المطبخ. رأتني. هبّت في بصوتها العالي: "لماذا لم ترد؟ ماذا تفعل؟ ألم تسمع؟" قلت لها متحججاً: "كنت أقرأ في كتابي ولم أسمع". نهرتني: "رد بسرعة قبل أن ينقطع". كانت جارتنا أم محمد العامرية في الشارع الخلفي. بدا على وجهي التبرم. كم أمقت حديثها. كثيرة الكلام والفضول. لديها فضول يقتل كل القطط في حيّنا! بقيت تسألني عني وعن دراستي وتدعو لي بالتوفيق والنجاح! تخلصت منها بصعوبة، وناولت السماعة لأمي. عدت أمسك كتاب التاريخ. تذكرت خليل. رميت كتابي جانباً وقفزت من مكاني. اللعنة. كيف نسيته؟ تبّاً للعامرية!


فتشت عنه داخل البيت فلم أره. بحثت في كل الغرف وفتحت كل الابواب المغلقة! إختفى مثل شبح. خرجت من الباب. وقفت في حوش الدار، نظرت الى الدرج الطويل الصاعد الى الشارع. لم أر له أثراً. لقد غافلني وخرج. صعدت الدرج قفزاً. ما أن وصلت حتى كنت ألهث مقطوع الانفاس. لم يكن أحد في الشارع سوى سيارات متهالكة تقف على جانبي الطريق. لم أر خليل. أين سأفتش عنه؟ لم أرد أن أجهد نفسي في بحث عن شبح بلا طائل. خليل له أساليبه في التخفي. لا تعرف متى يخرج من البيت ومتى يعود. وأبي يفلقني بصبره عليه. عدت أنزل الدرج خائباً. أمسكت كتاب التاريخ. ليس فيه سوى أخبار الحروب والمعارك. كنت مستغرقاً في الكتاب، عندما رأيت خليل يدخل الغرفة وبيده كاس ماء يشرب منه. رفعت حاجبي وفغرت فمي من الدهشة. كيف عاد وأين كان؟ لم أحب أن أسأله كي لا يعرف أنني خرجت في إثره! عدت أدرس وأتشاغل عنه في كتاب آخر. كان يدخل ويخرج بلا قرار. أحسست أنه سيخرج مرة أخرى. بقيت متيقظاً وأذني مرهفة لأي صوت قد يصدر من الباب.


بعد قليل سمعت صوت الباب ينفتح ويغلق. تركت كتبي وقمت خلفه. فتحت الباب بسرعة فسمعت صوت خطوات على الدرج فوق البيت. تسحبت بكل هدوء خلفه وصعدت الدرج. سمعته يدخل غرفة الخزين، فمشيت حتى وقفت عند بابها. سمعت صوت تسلقه على السلم الى السدة. دخلت غرفة الخزين من غير أن يحس بي. كان في الاعلى داخل السدة. لم أستطع رؤيته، لكنني سمعت صوت الصناديق الكرتونية. هدأ الصوت وساد صمت. كان يبدو أثر الضوء فيها من حافتها. استغربت ماذا يفعل هناك. السدة مليئة بالواح الخشب التي كان يستعملها أبي في الفرن والعلب والاكياس والعدد التي لم نعد نستعملها. لا يحب أبي وأمي أن يتخلصا من شيء. لديهما غريزة قوية في الاحتفاظ بالاشياء التي إنتهى زمانها. ما زال أبي يحتفظ بكتبه المدرسية والكتب المصفرة منذ كان طالباً. ولكن ماذا يفعل خليل هناك؟ عرفت الان أين كان يختبيء مني في أحيان كثيرة مثل البرق كشبح. وماذا يفعل هناك. المكان ضيق كالزنزانة بوجود كل هذه الكراكيب. بعد قليل أحسست بصوت أنفاسه يتململ ويتحرك كأنما يريد النزول، فأسرعت خارج الغرفة، ونزلت الدرج ودخلت البيت.


إنتابني الفضول. أريد أن أعرف ماذا كان يفعل خليل بالسدة. بعد قليل خرجت، وصعدت الى غرفة الخزين. تسلقت السلم وأنرت السدة. كانت رائحة الهواء الرطب والعفن تنبعث منها. منذ مدة لم أصعد الى هنا. صارت ملأى بالاغراض فلا تعرف أين تضع قدمك. ماذا كان يفعل خليل هنا؟ أخذت أنظر في زواياها. لم يكن هناك شيء غير عادي. فتحت بعض الصناديق كانت مليئة بكتب قديمة مصفرة. أحسست أنها أعادتني عصوراً للوراء! جلست أقرأ فيها.. شعرت أنني في أيام معارك عنترة وشيبوب! رأيت "ين القصرين" و"السكرية". رأيت "شجرة اللبلاب" بأغلفتها ولوحاتها القديمة. كانت أوراقها مصفرة مثنية الجوانب. وفجأة وقعت عيني على كتاب آخر. لم أصدق. من الذي أحضره الى هنا؟ أمسكت به. كان ضخماً مليئاً بالصور والرسوم. شيء جديد أراه لأول مرة. هل هو لأبي؟ ولماذا يحتفظ به؟ أم لخليل وخبأه هنا؟ ودارت في رأسي فكرة. عرفت لماذا يتسلل خليل الى غرفة السدة ويجلس فيها. تملكني الفضول. أخذت أقلب أوراقه وأنظر في رسوماته. إشتعل الفضول أكثر، وثارت الغريزة مما أشاهده وأقرأه! كانت الكلمات أكثر مما يستطيع ولد في مثل سني أن يحتملها! شعرت بالخجل والخوف. خفت أن يأتي أبي فجأة، ويراني هنا أمسك الكتاب. ستكون فضيحة!


أعدت كل شيء مكانه خشية أن يكتشف أحد أنني كنت هناك! نزلت، ولكن لم يزل في البال شوق وإثارة لقراءة المزيد! بقيت أفكر به المساء كله. عدت في اليوم التالي وجلست كطفل مقرور فوق الصناديق، وأنا ألتهم الكتاب. كان ضخماً جدا وحروفه صغيرة. ولكن كلامه ورسوماته كانت لا تقاوم! أحسست أنني في عالم آخر. تكشفت لي اشياء لم يكن لي أن أعرفها سوى منه! لم اعرف لمن كان الكتاب. ربما لأبي ووجده خليل، وصار يأتي ليقرأ فيه بين حين وآخر مثلما أفعل الان! وربما أحضره خليل من عند أصحابه، وهرّبه للسدة! لم أعد ألاحق أخي مثل السابق. صرت مشغولاً باختلاس القراءة في الكتاب السري!


إستمر خليل يتردد على السدة فصرت أكثر حذراً من ذي قبل. خف اهتمامي بالامر بعد فترة من صدمة الاكتشاف. فعدت أطارد أخي مرة أخرى. وذات يوم فاجأته بين أصدقائه. نظر الي بغضب وعصبية. وقف وراح يشد بي من قميصي ويدفعني بقوة، ويهددني. تناول حجراً وأراد أن يرميه علي فهربت. أخذ يلاحقني وأنا أجري.. أصابني حجر في رأسي.. كان مؤلماً. وقفت أتحسس رأسي، فرأيت على راحة يدي بعض بقع من الدم. أخذت أصيح عليه ليتوقف، ولكنه إستمر. أخذت أبكي وأتوعده. رجعت وأنا حانق عليه. قررت أن أرد له الصاع صاعين! في المساء عندما عاد أبي متعباً من الفرن. أخبرته بما يفعل خليل في السدة.. لم يعر أبي الامر إهتماماً. ولكن عندما ذكرت له اسم الكتاب. فقد إنتابته نوبة غضب وتغير لون وجهه، وأصبح متورداً أحمر وعيونه تقدح بالشرر. عندما رجع خليل في الليل لم يهدأ أبي من الصراخ عليه. لقد سمع كلاماً حتى تمنيت لو أن أبي سكت! حلف أبي أن يغلق السدة بمفتاح والويل لمن يفكر بفتحها! لم يحر لخليل جواباً فبقي في زاويته يسمع وعيناه نحو الارض!


في نهاية العام أنهى خليل دراسته الثانوية. كنا نجلس ذات مساء نشاهد التلفاز، فطلب من أبي أن يأخذ مفتاح السدة. إستغرب أبي من الطلب. قال إنه يريد أن يأخذ الدنانير التي كان يخبئها هناك. نظرنا اليه باستغراب. قال إنه كان يخبيء مصروفه وكل ما كان يتجمع معه دينار أو اكثر يضعه في إحدى الصناديق الكرتونية. قام أبي وأحضر المفتاح الذي كان يخبئه، وأعطاه اياه وقال لي سراً: إذهب وإنظر ماذا سيفعل. لا بد أن هذه حيلة يريد بها شيئاً. ذهبت مع خليل وصعدنا لغرفة الخزين. صعد سلم السدة وصعدت خلفه. كان المكان ضيقاً ورائحته غريبة. لم نستطع الوقوف فيه لان السقف منخفض. فتح خليل أحد الصناديق الكرتونية. مد يده.. لم يكن هناك سوى نشارة من الورق. فتح صندوقا آخر كانت هناك ما تزال بعض الكتب المصفرة وقد أُلتهمت أطرافها.. لم يكن الكتاب السري هناك! سمعنا صوت جلبة بين الصناديق. فتح خليل صندوقاً آخر كانت هناك أربعة فئران تختبيء فيه وحولها نشارة من الورق!

* التشكيل أعلاه من البرونز للفنان العراقي عماد الظاهر

هناك تعليق واحد:

  1. قصة رائعة قمت بطباعتها واحتفظ بها الان مع ملف اوراقي المفضلة و بصراحة اهنئك عليها اعجبتني جدا و شدني اسلوبك في طرح القصص , سأبقى متابعة لما تكتب , تحياتي الكبيرة لك .

    ردحذف