الجمعة، سبتمبر 17

نحن سبعة أنموذجاً



ويردزورث رائد الرومانتيكية الانجليزية.. بين الموت والخلود


"نحن سبعة" أنموذجاً

* نشرت في الملحق الثقافي لجريدة الدستور الاردنية بتاريخ 17/9/2010
اياد نصار

في واحدة من أجمل قصائده الغنائية المؤثرة، التي تحاكي أسلوب الاطفال، ولغتهم، وبراءتهم، كتب الشاعر الانجليزي الكبير، وليم ويردزورث William Wordsworth، قصيدة "نحن سبعة" في عام 1798. لكنه جعل منها، مثل كثيرٍ من قصائده، وخاصة في ديوانه "قصائد غنائية" 'Lyrical Ballads'مثالاً صارخاً على الشعر السهل الممتنع، الذي يقدم قطعة شعرية موسيقية سهلة، حتى لتبدو نشيداً للاطفال، في بساطتها، لكنها ـ في حقيقة الامر ـ تنطوي على فهم عميق للخلود والارتباط الانساني، مثلما تحمل أجواء الشعر الاروربي عامة، والانجليزي منه، بالتحديد، في تلك الحقبة.


يعدُّ ويردزورث رائد المدرسة الرومانتيكية في الشعر الانجليزي، ومنظّرها الاول، وقد عاش خلال الفترة من أواخر القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر (1770 - 1850). وأسس، مع رفيق دربه وحياته، الشاعر المشهور صامويل كولريدج، وبرفقة أخته دوروثي، أعظم إتجاه في الشعر الانجليزي في تلك الفترة التي كانت أوروبا تشهد فيها مولد الرومانتيكية في الادب والفنون. كان غوته وشوبيرت وهيردر وشيلر وموزارت وبيتهوفن في ألمانيا، ومدام دي ستال وشاتوبريان وجان جاك روسو وفكتور هوجو في فرنسا، والشاعر ألكسندر بوشكين في روسيا، وغيرهم كثيرون، يضعون معالم الرومانتيكية المنطلقة، في عاطفتها وتعبيرها وعنفوانها وخيالها، ويبثون روحها الثائرة، التي غيرت وجه الادب الكلاسيكي الى الابد.


كانت الرومانتيكية من أكثر التيارات الادبية والفكرية التي انتشرت على مساحات شاسعة من اوروبا ووصل تأثيرها لمناطق أخرى، كالولايات المتحدة. كما تعمقت الرومانتيكية في اوروبا فترة زمنية طويلة تغطي معظم القرنين: الثامن عشر، والتاسع عشر. وإمتد تأثيرها، لاحقاً، الى الوطن العربي، فانتشرت حركات التجديد ومدارسه، مثل حركة أبوللو الشعرية، التي بدأها الشاعر أحمد زكي أبو شادي، ومدرسة الديوان، والرابطة القلمية في المهجر، حيث تبنى مبادئها عدد من الادباء العرب الذين آمنوا بذاتية الشاعر وموقفه الرافض لقيم المجتمع، واهتموا بإضفاء صفة التأمل الفلسفي، أو الروحي على أعمالهم، من مثل أبي القاسم الشابي، وجبران، وإيليا أبي ماضي، وخليل مطران وغيرهم.


كانت الرومانتيكية ثورة على معايير الادب والفنون الكلاسيكية وقيمهما، التي كانت تمجد دور العقل، وتدعو الى مراعاة الفوارق الطبقية واحترامها ، وتعلي مكانة المجتمع فوق حرية الفرد، وتدافع عن القيم المحافظة والأرستقراطية. كان القلب ـ رائد الرومانتيكيين ـ رداً على عقلانية الكلاسيكية، وقد جعلوا الاساس، في أعمالهم، هو الاحاسيس والخيال والعاطفة واحترام دور الفرد وتمجيد الثورة على الأرستقراطية والطبقية. وكما ذكر النقاد ـ على سبيل المقارنة ـ أنه إذا كانت الكلاسيكية أعطت القياد للعقل والمجتمع، وقيم الطبقات المغلقة، التي لا ترحب بقادمين من طبقات أدنى، فإن الرومانتيكية مجّدت القلب والمشاعر والحب الذي يتخطى الفوارق والحواجز، وأذكت روح المغامرة والفردية والتغني بالتجربة الذاتية، ومعاينة ألم الذات وطموحها الذي يورث العذاب والقلق. كان الالهام وحب الطبيعة والعيش فيها بعيداً عن المجتمع، والنزعة للتمرد، والتساؤل من أهم سمات الشخصية الرومانتيكية. ولهذا عاش وليم وردزورث، أغلب حياته، في الريف يتأمل في معاني الطبيعة، ويستوحي منها الجمال والفكر، كما شدته مظاهر الحياة الريفية البسيطة ببراءتها وعفويتها.


وكان للمجموعة الشعرية المسماة "القصائد الغنائية"، التي كتبها بالاشتراك مع صديقه ومؤسس مذهبه وتأملاته في الشعر الانجليزي الشاعر صامويل كولريدج، دور بارز في تغيير مسار الشعر الانجليزي، والتنظير لعهد جديد من الادب الرومانتيكي، رغم أنهما نشراها مغفلة من إسميهما. وقد انضم لهذا التيار شعراء آخرون بارزون، من مثل جون كيتس، وبيرسي بايش شيلي، ولورد بايرون، وقدموا إسهامات شعرية رائعة ما تزال تستقطب الاهتمام والدراسة والتحليل.


أما القصيدة، فقد قيل أن الشاعر قابل فتاة ريفية صغيرة في احدى رحلاته في أنحاء مقاطعة ويلز، في عام 1793، وبالتحديد في قرية غودريش كاسل، بعد أن انقطعت علاقته بصديقه الحميم وليم كالفيرت. وقد أوحت له تجربة الرحلة، منفرداً، وفي النفس بقايا أسى من انفصام عرى صداقته، التأمل في معاني تجربة المرور من الطبيعة. واكتشف أن الاحساس بتجربة الاحتفاء بالطبيعة والحياة والسعادة في الطفولة قد غادره، وصار يثير في النفس الجانب المظلم من الفكرة، ألا وهو الموت، وقرب وصول الرحلة الى نهايتها، فلم يعد ينظر لهذا الجمال من حوله، كما كان ينظر له عندما كان طفلاً. وهكذا أوحى له حواره مع الفتاة بفكرة هذه القصيدة رغم أنه جرى، قبل خمس سنوات من كتابتها، عام 1798. وقد لقيت استقبالاً كبيراً منذ نشرها. كتب ويردزورث حول هذه المناسبة: "لقد عاودت في ربيع عام 1841، زيارة غودريش كاسل مرة ثانية، خاصة أنني لم أزر المنطقة كلها، عندما قابلت تلك الفتاة الصغيرة في تلك السنة 1793. وكنت سأشعر بالسرور لو أنني وجدت في القرية أي أثار تدل على تلك التي أثارت اهتمامي، لكن ذلك كان من المستحيل، فلسوء الحظ لم أعرف حتى اسمها".


وواضح فيها الفكرة التي كان ويردزورث يرددها، بأن البراءة من الصعب أن تعيش؛ لأن الجنس البشري يدمرها. كما يبرز فيها وعي الفتاة بالخلود وعمق الارتباط الانساني، عبر الزمن. فقد حاول الراوي اقناعها بأن أخويها المدفونين في باحة الكنيسة هما ميتان، ولا يجوز عدهما من ضمن الاحياء، الاّ أنها بقيت ترفض هذا المبدأ بشدة، بأسلوبها الطفولي الجميل، وحرصتْ، لا على الدفاع عن الفكرة فحسب، بل قدمت مشاهد من تواصلها المستمر مع أخويها؛ فهي تشاركهما في كل مظاهر حياتها، من النسج الى الاكل، الى الغناء، الى اللعب حول قبريهما.


واذا كان الموت هو نهاية الحياة والنشاط الانساني، كما بقي يصر الراوي، فإن الفتاة لا تعتبر الموت كذلك، فما تزال تمارس حياتها وتشعر بحضور إخوتها، سواء أكان حضوراً روحياً أم جسدياً. واذا كانت الفتاة تمثل الفكر البسيط الساذج، الا أن الراوي عجز عن تغيير أفكارها، مما يلقي بظلال الشك حول صحة أفكاره هو. تبرز، في القصيدة، نغمة الحزن والرثاء والحنين. وقد عبّر وليم ويردزورث عن أسفه، في قصيدة أخرى له، عما فعله الانسان بأخيه الانسان. ولكن يبرزُ، في هذه القصيدة، وقصائد أخرى من "القصائد الغنائية"، حنينه الى طفولته قبل أن يشوه الانسان براءتها.


ومن طريف ما حصل، أن ويردزورث بدأ القصيدة بكتابة المقطع الختامي لها، خلال سيره في أحد الايام، أولاً، ثم عندما رجع الى المنزل الريفي، حيث كان يعيش مع كولريدج وأخته دوروثي، فقد أخبرهما بما حصل، وطلب منهما أن يقترحا عليه بداية لها، فكان أن اقترح عليه كولريدج بدايتها بقوله "طفلة بسيطة يا أخي جيم"، في اشارة الى صديق لهما يدعى جيمس توبن. فأخذ الشاعر "طفلة بسيطة" وترك "يا أخي جيم". وعندما انتهى منها ضمها لديوان "القصائد الغنائية". ويروي الشاعر أن صديقه جيم، هذا، وقعت عينه ـ صدفة ـ على مخطوط ديوان "القصائد الغنائية"، فقرأه، وأتى ويردزورث، وقال: "لقد رأيت الديوان الذي توشك ـ أنت وكولريدج ـ على نشره. إن هناك قصيدة، أعتقد أنك تتفق معي على حذفها، لأنها، لو نشرت، فستجعلك تبدو سخيفاً". فشعر ويردزورث بالفضول، وسأله عما تكون. فقال صديقه: "إنها تدعى نحن سبعة"! فرفض الشاعر، وذهب صديقه حزيناً محبطاً. ويبدو أنه من حسن حظ الادب، أن الشاعر لم يأخذ بنصيحة صديقه، فقد صارت هذه القصيدة من أشهر قصائده!


تتألف القصيدة من 17 مقطعاً stanza، يتكون كل منها من أربعة أبيات أو أسطر، باستثناء المقطع الاخير الذي يتكون من خمسة. يلاحظ اشتراك البيت الاول والثالث في كل مقطع بحرف روي يتغير في كل مرة، بينما يشترك البيت الثاني والرابع بحرف روي آخر يتغير حسب المقطع. وأورد، تالياً، القصيدة بترجمتي، ويمكن تتبع الكثير من المفاهيم الرومانتيكية مجسدة فيها بوضوح، ولهذا اكتسبت القصيدة كل هذه الاهمية في الشعر الانجليزي:


نحن سبعة


طفلة بسيطة
تتنفس بكل صمت
وتحس بالحياة في كل طرف منها
ماذا عساها تعرف عن الموت؟


قابلت طفلة كوخ صغيرة
قالت إن عمرها ثماني سنوات.
كان شعرها كثيفا ملوّىً
يحيط بوجهها من كل الجهات.


كانت ذات ملامح ريفية
واكتست ملابسها روحا برية
كانت عيناها جميلتين، جد جميلتين
فسرّني جمال الصبية.


"أيتها الفتاة الصغيرة، كم لك
من الأخوات والاخوة أخبريني؟"
قالت: "كم واحد؟ نحن جميعاً سبعة".
ونظرت بتعجّب نحوي.


"وأين هم؟ أرجوك أن تخبريني"
"سبعة نحن" أجابت
"إثنان منا يسكنان في كونواي،
وإثنان قد ذهبا للبحر" قالت


"إثنان منا يرقدان في باحة الكنيسة،
أختي وأخي
وفي الكوخ في باحة الكنيسة
أعيش قريباً منهما مع أمي".


"تقولين بأن اثنين يسكنان في كونواي،
واثنين قد ذهبا للبحر،
إلا ّ أنكما سبعة. أرجوك أن تخبريني
أيتها البنت الحلوة، كيف يكون الامر؟"


فأجابت عندذاك الصغيرة:
" نحن سبعة أولاد وبنات
اثنان منا في باحة الكنيسة
تحت الشجرة يرقدان في بيات"


"أنتِ تمشي فوقهم يا فتاتي الصغيرة
أطرافك حية بلمسة
اذا كان إثنان يرقدان في فناء الكنيسة،
فأنتم فقط خمسة".


"قبراهما أخضران" أجابت الصغيرة
"ظاهران للعيان"
"على بعد إثنتي عشرة خطوة أو أكثر من باب أمي
جنبا الى جنب يرقدان.


لطالما حكت هناك جواربي
ونسجت حاشية منديلي هناك
وغنيت أغنية ً لهما
وأنا أجلس فوق الارض هناك.


ولطالما، بعد الغروب، يا سيدي،
حينما يكون لطيفا ورقيقاً مسائي
أخذت صحني
وتناولت هناك عشائي.


توفيت أولاً أختي جين.
كانت ترقد تئن في سريرها،
ثم رحلت عنا
حينما أراحها الله من الآمها.


فَوُسِّدت الثرى في باحة الكنيسة.
معاً حول قبرها لعبنا
عندما كان العشب جافاً
أخي جون وأنا.


وحينما كانت الارض بيضاء في الثلج
وكنت أتزحلق، أجري
فقد اُجبر أخي جون على الرحيل
وهو ـ الى جانبها ـ يستلقي".


فقلت: "كم واحدٍ إذن أنتم؟
اذا كان اثنان في السماء المرتفعة؟"
فكان جواب الفتاة سريعاً:
"أوه يا سيدي، نحن سبعة".


"ولكنهما ميتان، أولئك الاثنان ميتان
أرواحهما في السماء"
كنت كمن يرمي كلمات هباء
فما تزال الصغيرة تصر بلا رجعة
قائلة: "لا ، نحن سبعة"


* اللوحة أعلاه بريشة الفنانة التونسية رفيقة الظريف.

رابط المقالة بجريدة الدستور

رابط الصفحة الكاملة نسخة pdf 





هناك 4 تعليقات:

  1. غير معرف3:41 م

    اشكرك جداً ياأستاذ اياد على اختيارتك الرائعة التى تدل على ذوق واحساس جميل.
    باتوفيق الدائم لكى تعلمنا مما تعرف ولانعرف.
    (أمال)

    ردحذف
  2. يسعدني أن تجد القصيدة والمقالة حولها هذا الصدى الجميل لديك آمال. أقدم لك شكري الجزيل على عباراتك اللطيفة. وتحياتي لك ، ومرحبا بمرورك دائماً.

    ردحذف
  3. غير معرف1:19 ص

    من النادر ان نقع على ترجمات واعية ,تتركنا ندرك منذ البداية ,كم تورط المترجم في ذات القصيدة ,جاعلا ترجمته لحظة ولادة جديدة
    بل ومن النادر ان تمنحنا القصيدة المترجمة شعورا بأن صداقة جميلة يمكنها ان تنشأ بين الثقافات , وتجعل ذاتنا تنفتح بوعي على ازمنة وفضاءات الاخر , فتستيقظ مدننا المتقوقعة على ذاتها , وتضاء بقناديل من ابداعات الاخرين
    ان الاستاذ اياد في لحظة هول ابداعه, كان ممتلئا بحيوية الشعر, وايقظ كل حواسنا ليقنعنا ان النص المترجم يسمِعٌنا ,ما لم تفقهه آذاننا عند سماع القصيدة الاصل

    تحيةلابداعك
    فالكاتب الحر ..جناح طائر حر
    لا يعترف بالحدود
    ب - فاطمة الجزائر

    ردحذف
  4. ترجمة الشعر ليست مجرد نقل كلمات القصيدة ومعانيها الى القاريء. هي تجربة معايشةٍ وتذوقٍ واتحادٍ مع الشعر، وتفهمٍ لفلسفة الشاعر وادراك لرؤيته. يجب أن تنشأ علاقة وجدانية بين المترجم والقصيدة، لكي يرى فيها الكثير مما وضعه الشاعر، في الاصل فيها، من فن وابداع وأفكار وأحاسيس. إن طبيعة الشعر الرومانتيكي عامة، وشعر ويردزورث خاصة تمتلك قدرة هائلة على إقامة هذه العلاقة من التبادل الروحي الفكري مع المترجم المحب. على رغم بساطة الكلمات أحيانا، أو صعوبتها كما في قصائد أخرى، يبقى الاساس أن يحافظ الشاعر على جو اللغة المترجم اليها وانسيابيتها. كثيرا ما نتعثر في قراءة قصائد، ونحس من أول جملة أنها غريبة على أذننا. يجب أن تكون الترجمة أمينة واعية تقدر أن تبعث الروح في معانيها، وأن تجعل القاريء يحس أن القصيدة جزء من لغته وتراثه وموسيقاه الشعرية. أعبر عن سعادتي بقراءتك أيتها الجميلة ذات اللغة الانيقة والفكر النير، وأثني على كلماتك الراقية، وعلى حضورك الذي أضفى على المكان جمالاً

    ردحذف